logo
حينما يختلط الثأر والإنتقام بالطاغوت والمقدس

حينما يختلط الثأر والإنتقام بالطاغوت والمقدس

اليمن الآنمنذ 2 أيام
لاريب إن ظاهرة العنف كمؤسسة تاريخية تضرب بجذورها في الأعماق البعيدة لكينونة المجتمع البشري عامة ومجتمعنا العربي الإسلامية تحديداً، إذ لا يزال العنف يمتلك حضورا طاغيا وعنيفا في حياتنا الراهنة وهذا ما نلاحظه كل يوم من احداث فضيعة ، قتل واغتصاب واختطاف وسطو وسرقة ونهب وخصومات وضغائن وانتقام. الخ . وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف أخطرها على الاطلاق، ذلك لان (الثأر الحر) يشكّل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة ، من ديمومة العنف والعنف المضاد؛ ففي كل مرة ينبثق منها من نقطة ما في الجماعة مهما كانت صغيرة ، يميل الى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) الى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي برمته، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا هو ما نراه كل يوم في اليمن الذي عجزت نخبه السياسية عن تأسيس دولته العادلة – اقصد الدولة بوصفها مؤسسة المؤسسات الوطنية الجامعة هي البيت السياسي المشترك للموطنين القاطنين في مكان وزمان متعينيين بينما السياسية هي اللعبة التي يمارسها سكان البيت في الصراع على عناصر القوة؛ السطلة والثروة والوظيفة العامة والجاه والتمثيل . الخ. فاذا لم تأسس الدولة على أساس تعاقدي دستوري مدني يكفل حق متساوي لجميع المتعاقدين في العيش الكريم والوصول والحصول على الفرص فمن العبث الحديث عن السياسة ونتائجها.
وبسبب غياب الدولة الوطنية الجامعة بوصفها مؤسسة المؤسسات السياسية ظلت المؤسسة الثأر التقليدية القبلية العشائرية الجاهلية حية وفاعلة في مختلف الاقطار العربية فالسياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية (الاحوال المناخية التي منها: الرياح والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والإعصار والزلازل والبراكين والأوبئة حسب بول فاليري. وما حدث في سوريا وفلسطين واليمن والعراق وليبيا وفي غيرها من البلدان العربية يعد أسوأ بما لايقاس مما يمكن أن تفعله أشد الكوارث الطبيعية فتكا. فما أخطر السياسية وما أفدح شرورها إذ تركت تمشي على حل شعرها؟! ربما كان الفرق بين الكوارث الطبيعية والشرور الاجتماعية يكمن في أن الطبيعية لا تفرق بين الكائنات الحية وغير الحية التي تفتك بها بينما الشرور الاجتماعية والسياسية تستهدف ضحاياها بمبررات ايديولوجية عبثية لم ينزل الله بها من سلطان. الطبيعية تعيد الإنسان إلى حالته البيولوجية الأولى بوصفه كائنا أرضيا بين الكائنات الأخرى التي تقع على درجة متساوية من الظلم والضرر لأنها ببساطة بلا قلب ولا عيون! بينما السياسة والايديولوجيا تختار ضحاياها بقسوة لا مثيل لها بل إن السياسة تؤثر في حياة الناس تأثيرات بعيدة المدى وفادحة النتائج ويبلغ تأثيرها الغائر الطبقات العميقة للذاتية الاجتماعية والفردية. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بمدى ذلك الأثر الفاجع الذي أحدثته شرور السياسية في حياة مجتمعاتنا العربية الراهنة والحالة السورية هي أحد أبرز تجليات تلك الكارثة السياسية. إذ إن أقل عنف يمكن أن يدفع الى تصاعد كارثي لا سيما في مجتمعنا المساواتي وفِي ظل غياب الدولة والمؤسسات العامة، فنحن جميعا نعرف إن مشهد العنف له شيء من (العدوى) ويكاد يستحيل احيانا الهروب من هذه العدوى، فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد إناس ينساقون اليه بعفوية وحماسة لاشعورية، ويوجد أخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكن هولاء المعارضون السلبيون هم ذاتهم غالبا الذين يتيحون له الفرصة والشيوع والهيمنة. ويشبه رينيه جيرار في كتابه المهم (العنف المقدس) يشبه العنف في المجتمعات التقليدية الثأرية كمجتمعنا الراهن (باللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يُلقي عليه بهدف إطفائه).
'بدأت المواجهات في السويداء منذ عشرة أيام بعد سلب تاجر درزي سيارة خضار وهو عائد إلى السويداء على طريق دمشق العام، ثم تبادل بين الطرفين: اختطاف أبناء طائفة من الأحيمر وخطف عشرة أفراد من قبل فصائل درزية كردّ على ذلك إذ تصاعد العنف المتبادل بشكل سريع في بين الدروز والعشائر البدوية مع تدخل الجيش والأمن واسرائيل ذاتها التي مهدت السبيل لبلوغ سوريا هذا الحال والمآل: عمليات انتقامية وتقابلية على الهويات الطائفية والعشائرية والقبلية والعنصرية، حيث فتحت النار جماعات مسلحة من الطرفين، ما أدى إلى سقوط قتلى وإصابات عديدة، إضافة لتضرر المدنيين. الاستخدام المكثف للأسلحة المتوسطة والثقيلة ساهم في ارتفاع عدد الضحايا.. مشاهد العنف الذي يجري بين الأطراف المتناحرة في سوريا اليوم شديدة القسوة والفظاعة فليس هناك ما هو اخطر ولا افظع من العنف المقدس، العدوان متأصل في طبيعة الانسان ولا مهرب من ذلك، لكن يظل العنف معقول وممكن في حدود الطبيعة البشرية منذ أن قام قابيل بقتل اخوه هابيل ، وهذا هو معنى' من يفسد في الارض ويسفك الدماء' كما جاء في التنزيل الكريم.
والعنف في هذه الحالة يكتسب صيغة بشرية بوصفه عنفا بين الاخوة الاعداء, بين أشخاص متخاصمين , بين ذات وأخر , لكن الخطر يكمن حينما يتحول إلى عنف مقدس بين ملائكة وشياطين ! كما هو حال حروب الطوائف المشتعلة اليوم في العراق وسوريا واليمن وغيرها, هنا يخرج العنف عن حدود معقوليته ويتحول إلى حالة ما قبل متوحشة, حيث ينشب المحاربين مخالبهم بعضهم ببعض كاسراطين البحر حتى الموت ّّ!.
ومن هنا يمكن لنا فهم حجم القسوة المهول الذي يتميز به هذا النمط من انماط العنف المقدس, انه لا يكتفي فقط بهزيمة الخصوم , لأنه غير موجودين هنا , بل هو سعي محموم لتخليص العالم من (شر مستطير) هو الشيطان الرجيم عدو (الله سبحانه وتعالى برحمته عما يصفون) ومن يعتقد انه تمكن من الامساك بالشيطان , ماذا تريده أن يفعل به؟ مع الشياطين كل شيء مباح ولا حرمات يمكنها ايقاف الغل المخزون من الاندياح. لكن المسألة تكمن في عدوى العنف وانتشاره مثل النار بالهشيم. إذ إن العنف الثأري المتبادل بين طائفتين كل منها تعتقد انها ملاك والأخر شيطان , يشبه اللهب الذي يلتهم كل شيء يلقي عليها بغرض اطفاءه . انه غل مركب من الثأر الجاهلي والتعصب الطائفي.
وفي سبيل فهم ما يحدث في سوريا اليوم لابد من تسليط الضوء والبحث العميق في البنية الثقافية الكلية لمجتمعنا التقليدي والشروط التي تجعل من هذا السلوك المدمر قابلاً للوجود والحضور والازدهار والسؤال هنا: ليس ماذا يفعل الناس ويقولون ويفكرون؟ بل: لماذا يفعلون ما يفعلونه؟ ويعتقدون ما يعتقدونه؟ ويقولون ما يقولونه؟ وذلك في سياق ممارستهم اليومية الحي المباشرة الفورية؟! وذلك لان العنف والثأر يوجدان في صميم الطقوس والأساطير والقيم والمعتقدات التي تشكل حياة وسلوك الناس في بلادنا ذات البنية الاجتماعية القبلية ، فما هو الثأر ؟ وكيف يمكن لنا اجتثاث عروقه الشريرة ؟ يرى الباحث الأنثروبولوجي ((لويس مير)) إن للثار معاني متعددة أهمها:
1. العداء الناجم عن اعتداء.
2. شعور المعتدى عليه بوجوب الثأر لنفسه.
3. شعور أفراد جماعة المعتدى عليه أن الاعتداء قد وقع على كل فرد من أفرادها ،لذلك يتوجب على كل فرد فيها أن يثأر لنفسه.
4. إمكانية تكرار الاعتداء باعتداء مقابل هذا معناه إن الثأر مرتبط ارتباطا حميما بالبينة الواقعية لحياة الإنسان في المجتمعات القرابية فالفرد في مجتمعنا لا يتمتع بشخصية فردية متميزة أو كيان شخصي قانوني مستقل، بل يتصرف ويعمل وينظر أليه على إنه عضواً أو جزءاً من جماعة معينة سواء كانت هذه الجماعة قبيلة أو قرية أو منظمة سياسية الخ.
فالقاتل حين يقتل شخصا ما في مجتمعاتنا العربية التقليدية فإن عمله لا يعتبر جريمة في نظر المجتمع ككل ، بل جريمة موجهة إلى الوحدة الاجتماعية التي ينتمي أليها القتيل ، فلا ينصب الأهتمام أكثر ما يكون على المذنب وإنما على الضحايا الذين لم يثأر لهم.
وبالنتيجة فإنه للعمل على وقف الثأر كما للعمل على وقف الحرب لا يكفي إقناع الناس أن العنف كريه وخطير ومدمر ذلك لإنهم مقتنعون بأنهم يصنعون لانفسهم واجبا للثأر منه. إذ أن تضامن الجماعة هنا هو القانون الأعلى فما دام لا يوجد جهاز ذو سيادة ومستقل كي يحل محل المعتدى عليه وكي يوقف الثأر ، فإن خطر التصاعد اللامتناهي يستمر.
إن الجهود لمعالجة الثأر وتحديده وايقافه تبقى وقتية وعابرة، بدون نظام قضائي عادل يحتويه من جدوره وستمضي سنين طويلة قبل أن يكشف الناس إنه لا يوجد فارق بين مبدأ العدالة العامة والقضاء المستقل ومبدأ الثأر التقليدي الخاص. فالمبدأ هو نفسه النافذ في الحالتين؛ (مبدأ التبادل العنيف بين الجريمة والعقاب) كما يقول رينيه جيرار . وهذا المبدأ أما أن يكون عادلاً وتكون العدالة آنئذ مائلة في عقاب المجرم وأما أن لا توجد أي عدالة عامة وهنا يشبه الثأر العام الثأر الخاص ولكن يوجد فارق ضخم بين الثأرين على المستوى الاجتماعي : الثأر الذي لا ثأر له ، أي ثأر القضاء العادل وجهاز السلطة العام الذي يتكفل بآخذ القصاص العادل من المجرم فالعملية بذلك تنتهي ويسود الأمن والسلام ، وحينها يكون خطر التصعيد العنيف أسُتبعد الى الأبد . والثأر اللا متناهي هو الثأر التقليدي الخاص الذي يريد أن يكون انتقاما وكل انتقام يستدعي انتقامات جديدة ، ومضاعفة الانتقامات هي المغامرة المهلكة التي تهدد وجود وسلام واستقرار المجتمع كله، ولهذا فان الثأر يشكّل في أي مكان من دول العالم المتحضر موضوع تحريم صارم جدا.
هكذا إذا كان الثأر عملية لانهاية لها كما نعرف بالتجربة الحياتية فلا يمكن أن نطلب منه احتواء العنف، وفي الحقيقة هو ما يجب احتواءه، ولا توجد أي وسيلة ناجحة لذلك غير المؤسسة القضائية أي الدولة والقانون، المتعارف عليها جميع المواطنيين الذين يخضعون للسلطتها بقناعتهم.
أن النظام القضائي العادل، لا يلغي الثأر بل يعقلنه، فلا فرق بين نظام قضائي عادل ومبدأ الثأر فالإصرار على عقاب المجرم ليس له من معنى أخر غير الأخذ بالقصاص بحق الضحية من المجرم المذنب.
فالسلطة القضائية التي وكلت من الجميع بشكل كامل والتي ليست شيئا أخر سوى ذاتها ولاتعود إلى شخص ولا تنحاز إلى جماعة، هي وحدها التي يجب أن تحتكر الثأر احتكارا مطلقا، وهي وحدها القادرة على خنق الثأر ولجم شهوة العنف. فهل عرفنا ألان البؤرة التي تتطّلع منها رؤوس الأفاعي والشرور الاجتماعية و منها العنف الثأر والثأر المضاد؟ إنها العدالة الغائبة بسبب غياب الدولة والقانون. الم يحن الاوان لتفعيل عمل المؤسسات القضائية والأمنية وأعلى شأن القانون الذي يجب أن يكون سيد الجميع بلا استثناء وبلا قلب ولا عيون.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

من فهم منطلقات العدو إلى بناء الوعي السياسي.. مقاربة تحليلية من فكر الشهيد القائد رضوان الله عليه (2)
من فهم منطلقات العدو إلى بناء الوعي السياسي.. مقاربة تحليلية من فكر الشهيد القائد رضوان الله عليه (2)

26 سبتمبر نيت

timeمنذ 12 دقائق

  • 26 سبتمبر نيت

من فهم منطلقات العدو إلى بناء الوعي السياسي.. مقاربة تحليلية من فكر الشهيد القائد رضوان الله عليه (2)

حين يكون وعيُ العدو متقدماً على وعي الأمة، فإن المعركة تكون خاسرة منذ بدايتها، ويكون الإذعان والخضوع نتيجة طبيعية، مهما تظاهرت بعض الأنظمة أو الشعوب بالصمود اللفظي والشعاراتي. وحين يكون للعدو مشروع متكامل، يبدأ من استهداف الوعي وينتهي بإخضاع القرار السياسي والسيادي للأمة، فإن أي مقاومة لا تقوم على وعي بحقيقة هذا المشروع لن تكون أكثر من رد فعلٍ عاطفي محدود التأثير. وقد كان من أبرز ما قدّمه الشهيد القائد السيّد حسين بدر الدين الحوثي رضوان الله عليه، هو هذا الفهم العميق لمنطلقات العدو، والإدراك الاستباقي لطبيعة معركته مع الأمة. لم يكن حديثه عن "أمريكا وإسرائيل" حديثاً دعائياً ولا ترديداً لشعارات عامة، بل كان نتاج قراءة دقيقة لمصادر العدو وخطابه السياسي والفكري والإعلامي، ونتيجة لتأملٍ واسع في الآيات القرآنية التي تحدّثت عن طبيعة اليهود والنصارى ومواقفهم من الأمة. كان رضوان الله عليه يرى أن أعظم خدمة يمكن أن تُقدَّم للعدو هي أن نبقى في حالة غفلة عن مشروعه، وأن نعيش أوهام "السلام"، و"الحوار"، و"الشرعية الدولية"، بينما هو يبني خطواته على أساسٍ عدائي واضح. ولذلك كان يركّز على كشف طبيعة الصراع، وتسليط الضوء على المفاهيم التي يخدع بها العدو الشعوب، ويقدّمها بلبوس إنساني وحقوقي وأخلاقي. إن أول ما عمل عليه الشهيد القائد هو كشف الغطاء الديني والثقافي الزائف الذي يتستّر به العدو، وإسقاط الهالة الأخلاقية التي تُصوِّر أمريكا على أنها "راعٍ للسلام" أو "حامية للديمقراطية". وكان يدرك أن من لا يفقه منطلقات العدو، لا يمكنه أن يتخذ الموقف الصحيح، لأن موقفه سيكون مبنياً على تصورات خاطئة أو منقوصة. ومن هنا جاءت أهمية دروسه القرآنية التي لم تكن مجرد دروسٍ وعظية أو معرفية، بل كانت أدوات لبناء وعي سياسي استراتيجي، تستند إلى القرآن باعتباره المصدر الأول لفهم الواقع وتشخيص العدو وتحديد الاتجاه. ولذلك، فإن الشهيد القائد حين قال إن "القرآن يعطينا نظرة تفصيلية عن اليهود والنصارى"، كان يعني أن من لا ينطلق من هذه الرؤية سيظل في حالة تخبّط، وقد يقع في شراك العدو، مهما حسنت نواياه أو صدقت نزعته التحررية. لقد شكّل هذا الفهم أساساً للوعي المقاوم، وأعاد بناء الموقف السياسي من أمريكا وإسرائيل بشكلٍ صريح، وجعل من "البراءة من أعداء الله" مرتكزاً أساسياً لأي تحرك سياسي أو ثقافي أو شعبي. ومن هنا جاءت أهمية "الشعار" الذي لم يكن مجرد تعبير احتجاجي، بل تلخيص دقيق لموقف قرآني شامل، يربط بين عداوة أمريكا وإسرائيل من جهة، ووجوب مواجهتهما بالموقف والكلمة والفعل من جهة أخرى. اليوم، ونحن نعيش مرحلة انكشاف كامل لأوراق العدو، خصوصاً في عدوانه الوحشي على غزة، يتبيّن لنا كم كان هذا الوعي الذي أسسه الشهيد القائد سابقاً لزمانه، وكم أن الكثير من النخب التي كانت تتهمه "بالتسرع" أو "بإثارة العداوات" لم تكن تفقه طبيعة الصراع، ولم تكن ترى أبعد من حدود الخطاب الإعلامي الغربي أو مصالح الأنظمة الحاكمة. ومن اللافت أن كل الأطراف التي اختارت أن تُساير العدو، أو تراهن على الحماية الأمريكية، هي اليوم أكثر من يدفع ثمن هذا الرهان، سواءً من خلال الارتهان الكامل، أو من خلال الانكشاف السياسي والأخلاقي. في المقابل، فإن المحور الذي تأسس على هذا الوعي القرآني، وعلى فهمٍ دقيق لمنطلقات العدو، هو اليوم المحور الأكثر تأثيراً في الساحة، والأكثر صموداً، والأكثر قدرة على إرباك الحسابات الصهيونية والأمريكية. ومن هنا نفهم لماذا كان استهداف الشهيد القائد، ولماذا لا تزال الحرب مستعرة على كل من يحمل مشروعه ويواصل خطه. لقد كان من أبرز ما ركز عليه الشهيد القائد رضوان الله عليه، هو هذا البُعد القرآني في بناء الوعي السياسي والفكري، حيث كانت محاضراته ودروسه تنطلق من القرآن، وتغوص في أعماق مفاهيمه، لتصوغ منهجية واعية تضع الأمة في مواجهة مكشوفة مع العدو. لقد عمّق رضوان الله عليه الوعي بخطر المشروع الأمريكي والإسرائيلي من خلال تسليط الضوء على الآيات التي تفضح مكرهم وتوثق تاريخهم الأسود، ليصبح القرآن في مشروعه ليس مجرد مصدر للهداية الروحية، بل قاعدة صلبة لبناء موقف سياسي وفكري ناضج وصلب. ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب المقاوم اليوم لا يعبّر عن مجرد ردة فعل ظرفية، بل هو امتداد لمدرسة قرآنية متجذّرة. يتجلّى ذلك بشكل واضح في خطابات السيد القائد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي يحفظه الله، التي تُعد أنموذجاً راقياً للخطاب القرآني المعاصر، القادر على كشف العدو وتسمية الأشياء بمسمياتها، دون مداهنة أو التباس. إن حديثه عن إسرائيل وأمريكا والأنظمة المطبعة، واستحضاره المتواصل للآيات القرآنية التي تكشف طبيعة الصراع، يجسّد عملياً الرؤية التي أسس لها الشهيد القائد، ويعكس حالة الارتباط العميق بالمنهج الإلهي. كما يُمثل محور الجهاد والمقاومة اليوم التطبيق العملي لهذا الفهم القرآني العميق، حيث تمكن من أن يتحرك من منطلق الوعي لا العاطفة، ومن موقع الإدراك الواعي لمكائد العدو وأساليبه لا من ردود الأفعال المؤقتة. فقد استطاع هذا المحور، من طهران إلى بغداد، ومن الضاحية إلى صنعاء وغزة، أن يتجاوز الحسابات الضيقة والمواقف المائعة، ليصوغ جبهة متقدمة، تشكل اليوم أبرز تهديد حقيقي للعدو الصهيوني والمشروع الأمريكي في المنطقة، ليس فقط بما تملكه من قوة السلاح، بل بما تستند إليه من قوة الوعي المستمدة من كتاب الله. القرآن الكريم لم يكتفِ بتحديد هوية العدو، بل قدّم توصيفاً دقيقاً لنفسيته وسلوكه ومخططاته وأدواته، فقال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾، وكشف طموحه في السيطرة فقال: ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾، وبين وسائله التضليلية فقال: ﴿وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. وحين شخص الله سبحانه وتعالى نفسيات العدو الإسـرائـيـلـي بهذه الدقة، وقدّم لنا أهدافهم ووسائلهم وأساليبهم، فإنه في ذات الوقت أرشدنا إلى طريقة المواجهة، وأسس لنا منهجية قرآنية متكاملة تقوم على الفهم الواعي والعميق للقرآن، كأساسٍ للتحرك العملي في مواجهتهم والانتصار عليهم، وهو المنطلق الذي انطلق منه الشهيد القائد رضوان الله عليه. يقدم هذا المقال امتدادًا عمليًا وفكريًا لما أسسه الشهيد القائد رضوان الله عليه من فهم قرآني عميق لطبيعة العدو الإسرائيلي الأمريكي ومنطلقات سلوكه، حيث أرسى منهجية متكاملة لبناء الوعي السياسي المقاوم، مستندة إلى القرآن الكريم كمرجعية أساسية. ويأتي خطاب السيد القائد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي يحفظه الله نموذجًا حيًا يترجم هذا المنهج إلى واقع سياسي واستراتيجي واضح، يعزز دور محور الجهاد والمقاومة كخط دفاع متين وفاعل في مواجهة المشروع العدائي. إن مواجهة العدو ليست مجرد معركة ميدانية، بل هي معركة فكرية وثقافية تبدأ بفهم دقيق ومتجذر في كتاب الله، يتجاوز ردود الفعل السطحية، ويؤسس لمشروع مقاومة واعٍ يستند إلى الوعي والهوية والإرادة المستقلة.

فتى المتارس في طفِّ شمهان .. الشهيد الحسن الجنيد
فتى المتارس في طفِّ شمهان .. الشهيد الحسن الجنيد

26 سبتمبر نيت

timeمنذ 24 دقائق

  • 26 سبتمبر نيت

فتى المتارس في طفِّ شمهان .. الشهيد الحسن الجنيد

ما إن دوت صرخة الصارخين وتكبير المكبرين من أعالى جبال مران، حتى تردَّد صداها في جبال شمهان.. فاستنارت الصراري والحيار والأعدان وذي البرح وحصبان بثقافةَ القرآنِ، ومضى أشبالها ورجالُها ونساؤُها على مسيرة الحق والفرقان.. أولئك الذي ساروا على خطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله بيته الأئمة الكرام والقادة الأعلام. إنه منهجٌ ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده الصالحين أولي الألباب، أهل المودة والعرفان. غير أن أولياء الجبت والطاغوت وعبيد أمريكا وإسرائيل والشيطان وأدوات الطغيان هرعوا من فورهم ليصدوا عن سبيل الله بالزور والبهتان.. ذلك أنهم فزعوا مما رأوا، وكرهوا ما سمعوا، وانقلبوا على أدبارهم وأعلنوها حربًا لا هوادة فيها على منهج الله الواحد الديان، والمجاهرة بالعداء لعباد الرحمن. فبدؤوا مؤامراتهم، وكادوا كيدهم، ومكروا مكرهم، بخبث أحقادهم، فانساق معهم كثيرٌ من الجيران.. ثم ضربوا على الصراري والقُرى التابعة لها من مختلف الجهات، فأغلقوا المداخل والمخارج وطوقوها بالحصارِ الخانق، فجمعوا مرتزقتهم وأدواتهم وكلَّ منافقٍ وفاسقٍ، وشنُّوا عدوانهم الإجرامي الظالم، فأرادوها حرب إبادة جماعية، نصبوا لها المشانق وأشعلوا المحارق. بيد أن المؤمنين الثابتين الصابرين من أشبال وفتية الصراري وقُراها ما كانوا ليخافوهم أو يخشوهم، وقد أضحوا أشدَّ حبًّا لله وأشدَّ خشيةً منه. فقد بات عليهم التعامل مع الأمر الواقع، فأعدُّوا ما استطاعوا من قوةٍ، وأعلنوا الجهادَ في سبيل الله دفاعًا عن أنفسهم وأرضهم وعِرضهم ودينهم، فهبَّ أشبالُ القرية وفتيَّتُها وشبابُها إلى المتارس والمواقع. ولم يكن الفتى الصغير الحسنُ بن عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عبد الهادي الجنيد بمنأى عن مجريات الأحداث والوقائع.. ولو أنه لم يتجاوز سن الخامسةَ عشرةَ عامًا، إلا أنه بوعيه الكبير كان مدركًا لخطورة الوضع، فأعلن النفيرَ إلى جبهة الثعير.. وعجز أبوه عن أن يثنيه عن قراره الحاسم بحجة صغر سنِّه، وأنه لم تقوَ عودُه بعدُ ولا طاقة له على الجهاد في سبيل الله. وذلك أنه فاجأ أباه بوعيه وإصراره على الجهاد، فلم يهدأ له بال حتى لحق الركبَ بكلِّ إباءٍ وشموخٍ، وانضمَّ مع الأشبال الكرماء لرد كيد المعتدين، ذودًا عن الدين والأرض والعرض، وقتالهم قتال الأبطال. إنه الفتى الذي لطالما عشق النزال، فكان من أوائل المنطلقين إلى الخطوط الأمامية في جبهة الثعير، أهمِّ ثغور شمهان وخطِّ الدفاع الأول عن الصراري، فرابط في مترسه راسخًا رسوخ الجبال. وكلما تمكن مع إخوته المجاهدين الأشبال من صدِّ الزحوف، سارع لإيصال المدد والإحسان. يقول رفاقه في الميدان: إنَّ البطلَ "الشهيد" حسنَ بن عبد الرحمن قاتلَ قتالَ الفرسان، ودافعَ دفاعَ الشجعان، لا يعرف الكللَ والمللَ.. فإذا انتهى القتالُ سارعَ لجلب المدد والمؤونة، وتحوَّلَ لأعمال الإحسان.. ومع أنه كثيرُ الصمت والتأمل والذكر والتسبيح، لكنه إذا ما تحدث تسمعُ الوعيَ والهدى والحكمةَ والصدقَ والبيانَ. ويواصل رفاقه: لربما ظنناه فتى صغيرًا لن يقوى على المرابطة والمواجهة، وسينفد صبرُه وسرعان ما يغادر مترسَه، إلا أنه أثبت العكس فكان المقاتلَ الجسورَ وأنموذجَ الصبر والصمود والثبات والإقدام. فأنعم بإقدام وبأس وثبات ذلك الفتى الصغير، وحنكتِه وفطنتِه وذكائِه، وصبرِه المنقطع النظير، وتفانيه في إنجاز مهامه بكل إخلاصٍ وإتقانٍ. ما تقاعس أو تخلَّف عن أيِّ مواجهة، لا سيما في ملحمة طفّ شمهان، لما حمي الوطيسُ واشتدت الزحوفُ على ثعير شمهان، ظل صامدًا يتحدى السهر والجوع، يقاتل ويقاوم، يدافع ببسالة تفوق الخيال. حتى استهدفه العدوُّ الظالم بطلقة مدفع عيار (12.7) أصابته في الرأس، قُتِلَ على إثرها، فلحق بركب الشهداء الأطهار، ونال وسامَ الشهادة، أعلى وسام يمنحه الله لخاصة أوليائه. لقد فاز الحسن والذين معه بالشهادة وترقى إلى جوار الله في عليائه، مع الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين، أحياءً عند ربهم يُرزقون.. فأعظم بهم من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فربحوا البيعَ.. وباء أعداء الله من المرتزقة والعملاء والمنافقين، أدوات أمريكا وإسرائيل، بالخسران المبين. تلكم هي الصراري بمظلوميتها شاهدة على قبح جرائم أولياء الطاغوت، ولن ينساها التاريخ، وأولئك فتيتها الأبطال الذين سطروا أعظم الملاحم، أبلوا بلاءً حسناً، ما وهنوا وما استكانوا لما أصابهم، فطوبى للشهداء فوزهم بهذا الفضل العظيم والنعيم المقيم. وسيعلم الذين خانوا وتآمروا وتخاذلوا وظلموا طاعةً لقوى الهيمنة والطغيان أيَّ منقلبٍ ينقلبون.. والعاقبة للمتقين.

جوهر الجنيد من الصراري إلى كربلاء.. شهيدٌ على خَطِّ الإمام زيد
جوهر الجنيد من الصراري إلى كربلاء.. شهيدٌ على خَطِّ الإمام زيد

26 سبتمبر نيت

timeمنذ 25 دقائق

  • 26 سبتمبر نيت

جوهر الجنيد من الصراري إلى كربلاء.. شهيدٌ على خَطِّ الإمام زيد

تَهلُّ علينا اليوم ذكرى استشهاد المجاهد البطل جوهر عبد الحكيم عبدالقادر الجنيد، ابنِ الصراري، حاملاً في دمه ووصيّته بوصلةَ الحق، منذ كان طفلًا يتنفّس اليقين ويكبر على حبّ الشهادة. لم يكن جوهر مجرّد شابٍّ حمل سلاحه في وجه العدوان، بل كان صوتًا من عمق التاريخ، امتدادًا لثوّار كربلاء؛ من الإمام الحسين إلى الإمام زيد، ومن أحرار الصراري إلى رجال الله على جبهات البطولة. وفي تزامنٍ لافت، تحلُّ علينا ذكرى استشهاده مع قُرب ذكرى استشهاد الإمام زيد عليه السلام، لتتلاقى الأرواح والمواقف في طريقٍ واحد، هو طريق القضية والكرامة. كان جوهر أحد أبناء آل الجنيد، تلك العائلة التي دفعت ضريبة الهوية والولاء للحق منذ الأيام الأولى للعدوان. عائلة اختلط ترابها بدماء الشهداء، تمامًا كما امتزج دم الشهيد جوهر بنداء الثأر للإمام زيد،عليه السلام ولكل مظلومٍ عبر التاريخ. الصراري لم تُنجِب الشهيد جوهر وحده، بل أنجبت قصة مقاومةٍ لا تموت. في محطات حياته، كان شابًا مثقّفًا، واعيًا، محبًّا لأهله ووطنه، يتحدث بصوت الحق، ويكتب بالدم سيرة نضالٍ تنحني لها الكلمات. استُشهِد وهو يُقاتل من أجل قضيةٍ يؤمن بها، فكان شهيدًا بحجم وطن. اليوم، ونحن نستحضر ذكراه، فإننا لا نرثيه، بل نُحيي فينا ما أحياه الشهيد جوهر في ساحات المعركة، من عزيمةٍ وثباتٍ وإيمانٍ بالمشروع الذي سار عليه الإمام زيد ونهجه؛ وهو المشروع الذي لا ينكسر، مهما تكالبت عليه السيوف والدسائس. وفي ذكراك اليوم، لا نراك فردًا غاب عن الوجود، بل نراك مشروعًا يتجدّد في كل مقاتلٍ حرٍّ يحمل سلاحه ويصون عهده، كما صُنتَ عهد الإمام زيد عليه السلام. كنتَ ابنَ الصراري، لكنها لم تكن حدودك، فقد تجاوزتَ الجغرافيا لتصبح في وعي الأمة رمزًا لكل من يرفض الذل والهيمنة. استشهادك لم يكن خسارة، بل كان ولادةً جديدة لقيم الصبر والثبات والعزة، التي نحملها اليوم ونتنفّسها من وهج دمك، ومن صهيل بندقيّتك التي ما تزال حاضرةً في ميادين القتال. كلما زأرت صرخةٌ حرّةٌ ضد الظلم، تذكّرناك، وكلما اهتزّت الأرض تحت أقدام المعتدين، تأكّدنا أنك كنتَ على الطريق الصحيح. إنّ تزامن ذكراك مع اقتراب ذكرى الإمام زيد عليه السلام ليس صدفة، بل رسالةٌ من التاريخ تقول: إنّ دماءكم واحدة، وقضيتكم واحدة، ومشروعكم واحد؛ مقاومة الطغيان والانتصار للمظلومين. هي الراية التي حملتموها، وهي التي سنواصل رفعها، ما دام فينا نفسٌ وقلبٌ يؤمن بالحق. سلامٌ عليك يا جوهر، وعلى كلّ شهداء الصراري الذين شكّلوا جدارَ الصدِّ الأول في وجه العدوان. وسلامٌ على آل الجنيد الذين اختاروا درب التضحية، فكانوا طليعة المجد المتجدّد في زمن الخضوع والانكسار. ستبقى حكايتك منارةً لكلّ الباحثين عن الحرية، وسيظل اسمك محفورًا في ذاكرة اليمن المقاوم، كما نقشت كربلاء أسماء أبطالها بدمٍ لا يُمحى. رحمك الله يا جوهر، يا ابن الصراري، يا من عبرت التاريخ من بوابة كربلاء، لتصير أنت وكل شهدائنا جسدًا واحدًا في معركةٍ لا تزال مستمرّة، وبوصلةً لا تحيد عن طريق الحق والحرية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store