
إيران وترامب بين صفقة الإذعان وخدعة الردع
جاء إعلان طهران امتلاكها آلاف الوثائق "الإسرائيلية النووية الحساسة" في لحظة مشبعة بالإشارات والدلالات، وتوقيت لا يمكن قراءته خارج سياق التعثّر في المسار التفاوضي مع الولايات المتحدة، وتصاعد اللهجة الإسرائيلية التي تلوّح بإمكانية التحرك العسكري. في هذا النوع من اللحظات، تتحرّك السياسة الإيرانية وفق إيقاع محسوب، يستثمر أوراق القوة أدوات ضغط وتوجيه، لا وسائل للعرض أو التأكيد. ومن داخل هذه المعادلة المعقّدة، تتبدّى استراتيجية طهران محاولةً مدروسة لاستعادة المبادرة، وسط حقلٍ متشابكٍ تتقاطع فيه مصالح ومخاوف قوى نافذة تمتد من تل أبيب إلى واشنطن، مروراً بموسكو التي تُراقب بحذر، وتحاول أن تبقى في قلب المعادلة من دون الانجرار إلى واجهتها.
لا تتحرّك إيران بثقة استراتيجية مطلقة، وما يظهر على السطح من إصرار برلماني على رفض أي اتفاقٍ لا يشمل رفع العقوبات، ليس بالضرورة أن يكون موقفاً نهائياً، بقدر ما هو إحدى أدوات التفاوض التي تشتبك فيها الضرورات الداخلية مع متطلبات الخطاب الخارجي. النظام الإيراني، وهو يواجه إرثاً من العقوبات والرهانات المكلفة، لا يزال يبحث عن توازن هشّ يتمثل في إقناع الداخل بأن مقاومته كانت مُجدية، وأن يُخاطب الخارج بوجه يمكن الوثوق به، من دون أن يُظهِر هشاشته أو يتنازل علناً. وبين هذَين الحدَّين، تتقلّب اللغة السياسية الإيرانية، فتبدو أحياناً شديدة الصلابة، لكنها تُخفي غالباً قلقاً وجودياً من تآكل الفعالية التفاوضية، ومن اتساع الفجوة بين ما يُقال وما يمكن تحقيقه فعلياً.
ما يهمّ هنا ليس ما تقوله طهران فحسب، وإنما متى وكيف ولماذا تقوله، فالإعلان عن الحصول على وثائق إسرائيلية متعلّقة بالمرافق النووية يأتي في لحظةٍ تفاوضية دقيقة، تزامناً مع ارتفاع أصواتٍ في إسرائيل تهدّد بالخيار العسكري، ما يشي بأنّ الرسالة ليست بالضرورة موجّهة إلى إسرائيل فحسب، بقدر ما تشمل أيضاً الولايات المتحدة، فإذا كان الردع الإسرائيلي يقوم على الغموض، فإنّ طهران تسعى إلى كسره بالإفصاح، من دون أن يعني ذلك أن الإفصاح يحمل بالضرورة مضموناً عملياً متكاملاً؛ فقد يكون مجرّد ورقة تفاوضية أُطلقت بقصد رفع الكلفة النفسية على الطرف الآخر.
تتقاطع اللحظة الإيرانية مع منطق ميكافيلي في التلويح بالقوة لأجل تحصين الموقع
وإذا كان الإعلان عن الوثائق قد مثّل ذروة التصعيد الرمزي في الخطاب الإيراني، فإن ما يُحيط به من مواقف وتصريحات رسمية يُظهر مفارقة تستحق التأمل، فالنبرة الهجومية التي تُهيمن على السطح لا تعكس، بالضرورة، ثقة استراتيجية، بل تحجب خلفها اضطراباً تكتيكياً محسوساً. إذ تبدو طهران متردّدة بين استثمار ورقة التخصيب النووي أداة لتحسين موقعها التفاوضي، والخشية من الوصول إلى نقطة يصعب التراجع عنها دبلوماسياً من دون كلفة عالية. ولا يقفل الخطاب، بهذا المعنى، الباب على التسوية، بل يُبقيه موارباً، محاولاً التوفيق بين الإظهار الإعلامي للقوة وضرورات المناورة الهادئة خلف الكواليس.
ما يظهر في الخطاب الإيراني من جهوزية للتفتيش، كما في تصريحات الرئيس بزشكيان، لا يُناقض التصعيد الظاهري بقدر ما يُكمّله ضمن منطقٍ مألوفٍ في الأنظمة التي تتقن توظيف لغة التهديد من دون القفز إلى نهاياتها. هذه هي استراتيجية "الاستعراض القابل للتراجع"، حين يكون المقصود بالتصعيد إيجاد مساحة تفاوض أكثر اتساعاً، على نحوٍ يُذكّر بما يسميه توماس شيلينغ في نظريته عن "التهديد القابل للضبط"، إذ تكون فعالية التهديد نابعةً من قابليته للإدارة، لا من حتميته، فكلما كان التهديد قابلاً للتراجع ازداد وزنه التفاوضي، شريطة أن يبقى محكوماً بغموض مدروس. وفي هذا المعنى، تتقاطع اللحظة الإيرانية مع منطق ميكافيلي في التلويح بالقوة لأجل تحصين الموقع، ومع قلق توماس هوبز من الدولة التي لا ترى الاستقرار إلّا بوصفه تهديداً لكيانها. إنها دولة مأزومة، لكنّها تعرف كيف تُخفي هشاشتها خلف ضوضاء القوة.
إيران حذرة من تكرار تجربة العراق، وجريئة في محاكاة كوريا الشمالية، لكن ضمن حدودها الجغرافية والدينية والأمنية المختلفة
لقد باتت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تمثل عودةَ منطقٍ مختلف في إدارة الملفات الدولية، خصوصاً الملف النووي الإيراني، فخلافاً لنهج سلفه بايدن الذي حاول، خلال عامَين من رئاسته، إنعاش الاتفاق النووي عبر قنوات دبلوماسية غير مباشرة ومرنة، يتّبع ترامب حالياً سياسة "الصفقة الكبرى أو لا شيء"، وهي ذاتها التي أعلنها مراتٍ في ولايته الأولى، لكنها هذه المرّة مدعّمة بتجربة حكم سابقة وبديناميات أكثر جرأة. غير أن ما يستحق الانتباه في هذا التحوّل لم يكن عودة "الصفقة الكبرى" فحسب، وإنما التحوّل في شروطها وحدّتها، كما يظهر في طبيعة الخطاب الجديد. في الخطاب الترامبي المعاصر، تغيب تماماً فكرة "المرونة التبادلية" أو "التفاهم المرحلي"، إذ تُصوَّر أي تسوية لا تؤدّي إلى تفكيك مشروع امتلاك إيران أسلحة نووية، وكبح نفوذ طهران الإقليمي تنازلاً استراتيجياً غير مقبول، بل خيانة لمفهوم القوة الأميركية. وفي هذا السياق، لا يُفهم تصريح مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق ديفيد شينكر، أخيراً عن "تفضيل ترامب الحلّ الدبلوماسي" بوصفه انفتاحاً على تفاهم تقليدي، وإنما يحتاج قراءة أكثر دقة؛ فلا يُقصد بـ"الحلّ الدبلوماسي" في السياق الترامبي تفاوضاً ندّياً أو تسوية مرحلية، بل صفقة قائمة على فرض الشروط مسبقاً، وانتظار القبول بها من دون تعديل؛ أشبه بإعلان نيّات نهائية، لا بمحادثة تفاوضية فعلية.
يندرج هذا النمط ضمن ما تسمّيها أدبيات العلاقات الدولية "التفاوض غير المتكافئ" أو "التفاوض السلطوي"، إذ يُفرَض الشكل والمضمون مسبقاً من الطرف الأقوى، ويُختَزل التفاوض إلى قبول أو رفض، لا إلى نقاش تفاعلي حول المصالح. في هذا الإطار، يصبح الخطاب الترامبي أقرب إلى آلية إذعان مهيكلة، مِنهُ إلى سياسةٍ خارجية تفاوضية بالمعنى التقليدي. وإذا كان النظام الإيراني قد استطاع طوال عقود أن يُعيد تعريف نفسه في كل أزمة (من الحرب العراقية حتى الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي)، فإنه اليوم، بعد أن صار يمتلك أدوات الردع والخرق الاستخباراتي، يواجه اختباراً جديداً يتمثل في مدى استطاعته أن ينتج سردية عقلانية مقنعة للعالم تبتعد عن الإنكار والتهديد، وتُبنى على منطق استراتيجي يوفّق بين الحضور الإقليمي والشرعية الدولية.
لا يمكن قراءة الملف النووي الإيراني من دون استحضار تجربة كوريا الشمالية التي شكّلت في وعي المؤسّسة الأميركية نموذجاً للفشل الدبلوماسي والانتصار الاستراتيجي للخصم
ولا يمكن قراءة الملف النووي الإيراني من دون استحضار تجربة كوريا الشمالية التي شكّلت في وعي المؤسّسة الأميركية نموذجاً للفشل الدبلوماسي والانتصار الاستراتيجي للخصم. وقد انتهت بيونغ يانغ، التي انخرطت عقوداً في مفاوضات متعدّدة الأطوار مع واشنطن، إلى امتلاك سلاح نووي فعلي، وفرضت معادلة ردع أصبحت مقبولة دولياً بحكم الأمر الواقع. والقلق الأميركي الصامت، لكنّه حاضر بقوة، أن تتحوّل إيران إلى "كوريا شمالية بنكهة شرق أوسطية"؛ دولة محاصرة، لكنها مسلّحة نووياً. هذا السيناريو هو ما يدفع واشنطن إلى التمسك بمبدأ التجريد الكامل والنهائي من القدرة على امتلاك سلاح نووي، ولكن المفارقة أن ترامب نفسه، حين واجه الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في ولايته الأولى، اختار خطاب "الرجل القوي" ثم انتقل إلى لغة المديح من دون أن يحقق أي إنجاز استراتيجي ملموس. ورغم ذلك، ظلّ يعتبر تلك التجربة "انتصاراً تكتيكياً" لأنه حيّد الصدام من دون حرب. ويغري الدرس الكوري، بقدر ما يُخيف واشنطن، طهرانَ؛ فهي دولة تحدّت النظام الدولي، ونجحت في فرض معادلة جديدة من دون أن تُلغى، وهذا ما يجعل إيران حذرة من تكرار تجربة العراق، وجريئة في محاكاة كوريا الشمالية، لكن ضمن حدودها الجغرافية والدينية والأمنية المختلفة.
أي حديث عن تفاهم نووي محتمل لا بدّ أن يُقرأ ضمن سياق جديد؛ هل يمكن لطهران أن تبتكر لغة تفاوضية لا تُفهم بوصفها خضوعاً، ولا تُترجم بوصفها تهديداً مباشراً؟... هذا هو التحدّي الأكبر أمام الدبلوماسية الإيرانية اليوم، في شروط ملف التفاوض النووي، وفي هوية اللغة السياسية نفسها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 38 دقائق
- العربي الجديد
شهيدان وجريح باستهداف إسرائيلي لبلدة شبعا جنوبي لبنان
سقط شهيدان، اليوم الثلاثاء، باستهداف مسيّرة إسرائيلية منطقة جنعم في بلدة شبعا جنوبي لبنان، فيما نُقل جريح لتلقي العلاج في المستشفى. وقالت وزارة الصحة اللبنانية في بيان، إن الغارة التي شنتها مسيّرة للعدو الإسرائيلي على بلدة شبعا أدت إلى سقوط شهيدين، وإصابة شخص بجروح. وأشارت وسائل إعلام تابعة ل حزب الله ، إلى أن الاستهداف حصل بواسطة قنبلة ألقيت من محلقة إسرائيلية في أثناء رعي هؤلاء الأشخاص الماشية. الصليب الأحمر اللبناني ينقل جثماني شـ هيدي شبعا و الجريح الثالث من آل كنعان — مصدر مسؤول (@fouadkhreiss) June 10, 2025 ويواصل جيش الاحتلال خروقاته لاتفاق وقف إطلاق النار في لبنان منذ دخوله حيّز التنفيذ في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، رافعاً في الفترة الأخيرة من وتيرة اعتداءاته وتهديداته بشنّ مزيدٍ من العمليات، في إطار الضغط من أجل تفكيك السلطات اللبنانية الترسانة العسكرية لحزب الله، ونزع السلاح عن كامل الأراضي اللبنانية. ونفذ جيش الاحتلال، أمس الاثنين، عدداً من الاعتداءات، بينها ما طاول منطقة رأس الناقورة، وبلدتي رامية، وعيتا الشعب، فيما شنّت مسيّرة إسرائيلية غارة بصاروخين على سيارة على طريق وادي النميرية - زفتا جنوبي لبنان. وفي ساعات المساء، أفادت وسائل إعلام تابعة لحزب الله باجتياز 20 جندياً إسرائيلياً الخط الأزرق في منطقة كروم المراح في بلدة ميس الجبل الجنوبية، وإجرائهم مسحاً داخل الأراضي اللبنانية المحاذية للحدود، قبل أن ينسحبوا منها. وصعّدت إسرائيل من اعتداءاتها في الأيام الماضية، أشدّها طاول الضاحية الجنوبية لبيروت ليل الخميس الماضي، وأدى بحسب إحصاء أولي صادر عن لجنة إعادة الإعمار في منطقة بيروت، إلى تدمير 9 أبنية تدميراً كلياً، وتضرّر 71 مبنى، و50 سيارة و177 مؤسسة. تقارير عربية التحديثات الحية خاص | لبنان يسعى لتجديد مهمة قوات اليونيفيل بمساعدة فرنسية بالتزامن، يجول الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، اليوم الثلاثاء، على المسؤولين اللبنانيين، باستثناء الرئيس جوزاف عون، لوجوده في الأردن، بحيث سيُبحَث في العديد من الملفات، على رأسها اتفاق وقف إطلاق النار، إعادة الإعمار، والإصلاحات. وبحسب ما قالت مصادر رسمية لبنانية لـ"العربي الجديد"، فإنّ "لبنان سيدعو الفرنسيين إلى تكثيف الضغط الدولي الخارجي على إسرائيل للجم اعتداءاتها، والانسحاب من المواقع التي تحتلها، وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، بحيث إن استمرار خروقاتها من شأنه أن يبقي مصير الاتفاق مهدداً، ويعرقل عمل الجيش اللبناني". ولفتت المصادر إلى أن "فرنسا نقلت أكثر من مرّة إلى المسؤولين اللبنانيين حرصها على الاستقرار في لبنان، ودعمها العهد الجديد، ونوّهت بالدور الكبير الذي يقوم به الجيش اللبناني في إطار تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار والقرار 1701، وضرورة تكثيف الدعم للمؤسسة العسكرية لتواصل مهامها في هذا الظرف الصعب، كما بالمسار الذي بدأه العهد على الصعيد الإصلاحي، فهي مهتمة بإعادة الإعمار، لكن في المقابل تطالب بسير لبنان ببرنامج إصلاحي لأجل دعمه ودعم مؤسساته لبسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية".


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
في ذكرى ميلاد توماس مان.. تجديد الثقة بدور المثقف
في الذكرى الـ150 لولادة الكاتب الألماني توماس مان ، التي تصادف السادس من يونيو/ حزيران، تشهد ألمانيا سلسلة احتفالات ثقافية واسعة تمتد على مدار عام كامل، تتوزع بين معارض وندوات وعروض مسرحية وقراءات أدبية. ويتزامن هذا الحدث مع صعود لافت لليمين المتطرف محلياً وأوروبياً، ما يمنح الذكرى بعداً سياسياً يكرّس مان رمز مقاومة للانغلاق القومي والاستبداد. ولد مان عام 1875 في مدينة لوبيك لأسرة برجوازية ، وبدأ مسيرته الأدبية متأثراً بأفكار محافظة، عبّر عنها في كتابه "تأملات رجل غير سياسي" (1918). غير أن اغتيال وزير الخارجية فالتر راتيناو في عام 1922 شكّل نقطة تحول عميقة في مواقفه. ففي خطاب ألقاه بعنوان "عن الجمهورية الألمانية"، أعلن دعمه جمهورية فايمار، مؤكداً أن الديمقراطية أكثر التصاقاً بالتقاليد الثقافية الألمانية من الإمبريالية. ومع تصاعد نفوذ النازيين، اتخذ توماس مان موقفاً حاسماً، فحذّر في خطاب ألقاه ببرلين عام 1930 بعنوان "نداء إلى العقل" من الخطر المحدق بالبلاد، داعياً إلى تحالف سياسي واسع لمواجهة النازية. غير أن الخطاب قوبل بمقاطعة عنيفة من أنصار الحزب، ما اضطره إلى مغادرة القاعة سراً. بعد وصول هتلر إلى الحكم عام 1933، لجأ مان إلى سويسرا، ومنها إلى الولايات المتحدة، لتبدأ مرحلة جديدة من نضاله السياسي. أُسقطت عنه الجنسية الألمانية عام 1936، لكنه واصل بث خطاباته ضد الفاشية عبر إذاعة "بي بي سي"، كما أصدر كتابه "انتصار الديمقراطية القادم" (1938). في منفاه الأخير بلوس أنجليس، ظل يكتب ويدافع عن الديمقراطية والحرية، وهو ما أعادت دور النشر الألمانية تسليط الضوء عليه هذا العام، من خلال إعادة نشر عدد من مقالاته وخطاباته، ضمن جهود لإعادة تثقيف الأجيال الجديدة بتاريخ لا تزال تداعياته حاضرة. اشتهر توماس مان بأسلوبه الأدبي العميق الذي جمع بين السرد الكلاسيكي والبعد الفلسفي، وهو ما بدا جلياً في روايته الشهيرة "الجبل السحري" (1924)، التي شكّلت تأملاً رمزياً في صراع أوروبا بين الحداثة والانهيار. كما قدّم في "دكتور فاوستوس" (1947) صورة مجازية لانحدار ألمانيا في أحضان الفاشية، من خلال قصة موسيقي عبقري يبرم عقداً مع الشيطان. حافظ مان على "الموقف الأخلاقي للكاتب"، وهو ما ميّز أعماله التي وظّف فيها الموسيقى والفكر الفلسفي، متأثراً بعمالقة مثل فاغنر وبيتهوفن وشوبنهاور، لطرح أسئلة حول الهوية والسلطة والمصير. تتوزع الفعاليات بين معارض وعروض مسرحية وقراءات أدبية رغم حصوله على جائزة نوبل للأدب عام 1929 عن روايته "بودن بروكس"، عبّر مان لاحقاً عن خيبته لعدم تكريمه عن أعماله الكبرى مثل "الجبل السحري". إلا أن تأثيره الأدبي تجاوز حدود ألمانيا، حيث أصبح مرجعاً لأجيال من الكتّاب والمفكرين من أمثال ألبير كامو وميلان كونديرا. في إطار الاحتفالية، أطلقت الجهات الثقافية الألمانية موقعاً إلكترونياً بعنوان "مان 2025" يوثق جميع الفعاليات، بينما يحتضن متحف سانت آن في لوبيك معرضاً بعنوان "زمني: توماس مان والديمقراطية"، مستنداً إلى مذكراته التي نُشرت عام 1950، والتي توثّق رحلته الفكرية من المحافظة إلى الليبرالية. وفي بادرة رمزية، ألقى الرئيس الألماني خطاباً في منزل توماس مان في لوس أنجليس، مؤكداً أن "إرث مان الفكري لا يزال ملهماً في عالم تتعرض فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان لتهديدات متصاعدة". تحولت ذكرى ميلاد مان إلى أكثر من مجرد احتفال بكاتب كلاسيكي، بل إلى لحظة استعادة وطنية لروح التنوير الألماني، وتجديد الثقة بدور الكاتب المثقف، باعتباره صوت مقاومة لا ينفصل عن هموم شعبه وعصره. آداب وفنون التحديثات الحية "جائزة برلين للأدب": إلى عباس خضر


العربي الجديد
منذ 2 ساعات
- العربي الجديد
بول فالادييه.. حين يصبح السلام معركة روحية
لماذا أصبح السلام بعيد المنال؟ وما الذي يجعل حضوره هشّاً؟ وكيف يمكن التفكير في تحقيقه رغم كل الصعاب؟ وما هو الالتزام الذي يفرضه علينا للحفاظ عليه حيّاً في عالم يكاد تطويه النزاعات؟ عن هذه الأسئلة وغيرها يجيب كتاب "السلام محنةٌ" الصادر حديثاً عن منشورات سيرف عام 2025، للباحث والكاهن اليسوعي الفرنسي بول فالادييه، أستاذ الفلسفة في كليات لويولا ومعهد الدراسات السياسية في باريس. ينطلق فالادييه في كتابه من منظور فلسفي ولاهوتي متشعب يستعين فيه بثقافته الواسعة، ليُسلّط الضوء على أزمة السلام التي تواجه البشرية اليوم في ظل تزايد الصراعات والحروب التي تتنقل من قارة إلى أخرى، وتتكاثر بأشكال معقدة ومتداخلة، مهددة بذلك حلم الإنسان في السلام الدائم الذي كان فكر الفلاسفة مثل إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر يروّج له ويعتبره هدفًا إنسانياً سامياً. يرى أستاذ الفلسفة أن هذه الحروب والصراعات لم تعد مجرد مواجهات عسكرية، بل تحطم الروابط الاجتماعية والثقافية بين الشعوب، وتقسّم الصفوف داخل المجتمعات الواحدة، وتبني حواجز بين الأديان والثقافات، حتى في زمن العولمة الذي كان يفترض به أن يوطد وحدة الإنسان ويقرب بين مختلف الشعوب والثقافات، إلا أنه، على العكس، حمل معه بذور التشرذم والانقسام، وأصبح منبرًا جديدًا لنشر النزاعات والانقسامات. في هذا السياق، يستعرض الكتاب تاريخ مشروع الاتحاد الأوروبي الذي أطلقه روبرت شومان وألتيشيده دي غاسبري وكونراد أديناور بعد الحربين العالميتين من أجل إخماد نيران الحرب وإرساء رابطة متينة بين الدول الأوروبية، التي طالما عانت من الحروب والصراعات المستمرة. ويرى أن هؤلاء القادة السياسيين الخلّاقين كانوا يدركون أن القومية المتطرفة لا تُروَّض بالعنف والقمع، بل عبر بناء رؤية مشتركة تُشرك الشعوب وتفتح أمامها آفاق التعاون والتكامل. فقد كانت مبادئهم تنطلق من مبدأ التفاهم المشترك والتعايش بدلاً من اجترار الأحقاد القديمة. وبهذا المنطق، أرادوا تأسيس مستقبل يسوده السلام والاستقرار عبر تجاوز مآسي الماضي. انطلاق من مفهوم أن الحروب الحاصلة في العالم هي حروب كلمات رغم ذلك، لا يكتفي فالادييه بسرد هذا التاريخ، بل يتابع مسار السلام في ظل تحديات العصر الحديث، مستدلاً بصرخة البابا بولس السادس من منبر الأمم المتحدة عام 1965، حين طالب بوقف الحروب، معلناً رفضه لسفك الدماء. ورغم هذا النداء الإنساني، استمرت الحروب، ولا يزال الإنسان رغم تاريخه المأساوي متمسكاً بالحلم الذي يرفعه كهدف سامٍ، رغم براعة الإنسان في ارتكاب العنف والفظائع. يتناول فالادييه التحولات الكبرى التي عرفها العالم، مثل فترة السلام والازدهار التي شهدتها أوروبا بعد الحرب، لكنه لا يغفل عن المآسي التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، وما تبعها من موجات نزوح وتهجير، وانفجار صراعات دموية مثل تفكك يوغوسلافيا، وحربها الكارثية التي أذهلت العالم في وقت ظن فيه كثيرون أن أوروبا قد دخلت عهد الاستقرار الدائم. ويصل الكاتب إلى الحديث عن الحرب الروسية-الأوكرانية التي أعادت أوروبا إلى واقع مرير من القلق والخوف، ما دفعها لتعزيز قدراتها العسكرية رغم تعهّدها في السابق بتقليص الإنفاق الدفاعي، ظناً بأن تحالف ناتو يكفي لحمايتها. يُشير فالادييه كذلك إلى رفض فرنسا عام 1954 معاهدة إنشاء جيش أوروبي مشترك، وهو القرار الذي وافقت عليه دول مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا واللوكسمبورغ، مؤكداً أنّ هذا الرفض كان له انعكاسات على مسار الأمن الأوروبي. كما يذكر التهديدات المتكررة من جانب الرئيس الروسي بوتين باستخدام السلاح النووي، والتي تضيف طبقة من الرعب والهواجس إلى الأمن الأوروبي، فضلاً عن الحروب المتفجرة في الشرق الأوسط، كالصراع في غزة، والحرب في اليمن، والصراعات في السودان وبورما وأرمينيا، بالإضافة إلى عنف الإنترنت وحملات التضليل التي تهدد استقرار الديمقراطيات، مؤكداً قول البابا فرنسيس الذي وصف العالم اليوم بأنه يعيش "حرباً مجزأة" ومتناثرة. في رؤية فالادييه، لم تعد الحروب تقتصر على المواجهات العسكرية فقط، بل أصبحت "حروب كلمات"، حيث فقدت الكلمة مكانتها كصلة تواصل بين البشر، وأصبح العنف والسلاح هو المتحدث الأول. ومن هنا، يطرح مفهوم "السلام الهجين" الذي يصف وضعاً جيوسياسياً لا يصل إلى الحرب الكاملة، لكنه بعيد عن الاستقرار التام، ويعبر عن حالة من التوتر المستمر وعدم الاطمئنان، حيث تستخدم التكنولوجيا الحديثة لشن حروب جديدة من نوع آخر، تشمل التدخل في حياة الأفراد الخاصة، التأثير على قرارات القادة السياسيين والاقتصاديين، ونشر الخوف والشكوك التي تؤدي إلى انغلاق الأفراد والجماعات على أنفسهم. وهذا ما يفسر حسبه صعود اليمين المتطرف في أوروبا والعالم، الذي يتبنّى خطاب الكراهية والعنصرية ومعاداة الهجرة، ويرفض التعددية الثقافية، متبعاً أحياناً أساليب عنيفة لتحقيق أهدافه. ينتقل فالادييه إلى دور الأديان في السلام والحروب، موضحاً أن جوهر الأديان هو "دين" بمعناه اللاتيني (re-ligare)، أي الرابط الذي يوحد الناس، ويسعى إلى تحقيق سلام النفس وطمأنينة القلب، ويفتح الإنسان على مطلق يعطي معنى لوجوده. هذا السلام الداخلي هو أساس السلام الخارجي بين الناس. غير أنه يتساءل: هل لا تزال الأديان تلعب هذا الدور في عالمنا اليوم؟ يشرح فالادييه هذا التساؤل من منظوره المسيحي، لكنه يوسع النظر ليشمل جميع الأديان، ويعترف بواقع أن بعض التيارات الدينية المتطرفة تساهم في تأجيج العنف والصراعات، مثل الأصولية الإسلاموية التي تدعو إلى الجهاد كحرب مقدسة، والهندوسية القومية المتطرفة "الهندوتفا"، والصراعات البوذية في ميانمار ضد الروهينغيا، والصهيونية المتطرفة في إسرائيل، فضلاً عن الصراعات الطائفية في إيرلندا ويوغوسلافيا وروسيا. ويُبرز أن هذه التيارات الراديكالية تبرر العنف باسم الدين، مما يؤدي إلى تفاقم العداوات، ويهدد سلام المجتمعات نفسها. لكنه يؤكد أن هذه "الهمجيات" لا تمثل جوهر الأديان ولا أغلبية المؤمنين الذين يسعون إلى السلام والتعايش. سؤال عن دور الأديان في عملية السلام والمخاطر الناتجة عن الحروب ويلاحظ فالادييه أن العقائد الدينية أو الأيديولوجية في بعض الأحيان تبرر الأفعال المتطرفة، وتضع المؤمنين أنفسهم تحت التهديد، كما هو الحال مع المسلمين الذين يعانون من وصمة التطرّف بسبب أفعال الأقلية المتشددة، رغم أن الأغلبية ترغب في حياة سلمية. من هنا، يطرح فالادييه مفهوم "السلام الهش" الذي ينبثق من هذه التوترات الدينية والسياسية والاجتماعية. ولا يخفي نقده للكنيسة الكاثوليكية نفسها، التي في بعض الحالات ساعدت على قيام قوميات أدت إلى صراعات، أو تواطأت مع أنظمة ديكتاتورية قمعية. ويتناول الكتاب الدور الجيوسياسي الذي يشكل تهديدًا للسلام، ويتحدث عن محاولات المجتمع الدولي لاحتواء النزاعات، ودور الأديان في دعم السلام أو تعقيد الصراعات. وينهي الكتاب بالتأمل في تأثير التكنولوجيا الحديثة، وظهور الأجهزة الرقمية التي تسيطر على حياة الأفراد، وتتحكم في سلوكهم، وتنشر المعلومات المغلوطة، وتغرق الناس في حالة مستمرة من التوتر والخوف، مما يزيد من هشاشة السلام ويجعل تحقيقه أصعب من أي وقت مضى. * كاتبة وأكاديمية من لبنان كتب التحديثات الحية عيسى مخلوف.. دفاتر شاعر باريسي