
لماذا يتسابق العالم لتطوير الصاروخ "الصامت"؟
وخلال الأيام الأولى للغزو الألماني النازي للاتحاد السوفياتي في يونيو/حزيران 1941، خسر السوفيات أكثر من 2000 طائرة في مواجهة سلاح الجو النازي (اللوفتفافه – Luftwaffe) الأكثر تطورا، معظمها دُمِّرت على الأرض.
خلال تلك المعارك ومثيلاتها، نشأ وتطور نمط المعارك الجوية التقليدي القائم على اشتباك طائرتين أو أكثر ضمن النطاق البصري المعروف باسم "دوغ فايت" (Dogfight)، حيث يقوم الطيارون بمناورات حادة وسريعة لمحاولة إسقاط طائرات الخصم باستخدام المدافع الرشاشة أو الصواريخ قصيرة المدى.
لكن نمط "دوغ فايت" أو حروب "القتال الجوي عن قرب" عموما بدأ يخفت فعليا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وتحديدا منذ حرب الخليج الثانية مع تواري الحروب الجوية بين الدول المتكافئة لصالح حملات القصف الجوي ضد الدول الأضعف والتنظيمات المسلحة وصعود الحروب غير النظامية.
إلا أن عجلة التاريخ تدور مجددا لتجلب صراعات الدول إلى الواجهة مرة أخرى، سواء بين الولايات المتحدة والصين أو بين روسيا وأوروبا أو توترات شبه القارة الهندية بين الهند وباكستان، وهو ما يُنذر بعودة المعارك الجوية المباشرة إلى الواجهة مجددا.
لكن معارك الجو المستقبلية لن تكون استنساخا لمواجهات "دوغ فايت" القديمة. فمع إدماج تقنيات الذكاء الصناعي في الطيران الحربي، وانتشار الطائرات بدون طيار، وتطوير الصواريخ الجوية بعيدة المدى، والتطور في شبكات الاتصال ونظم الرادارات، من المرجح أن تشهد أنماط القتال الجوي تطورا جذريا، ويُعد صعود "القتال خارج مدى الرؤية" هو الوجه الأبرز لهذا التطور.
القتال خارج مدى الرؤية
يُعرف القتال فيما وراء الرؤية، المعروف اختصارا في الأدبيات العسكرية باسم "بي في آر" (BVR)، بأنه ذلك القتال الجوي الذي يجري على مسافة تتجاوز قدرة العين البشرية أو المنظار البصري على رؤية الطائرة المعادية (عادة أكثر من 30 كم)، أي إن الطيارين المتحاربين لا يمكنهم رؤية بعضهم بعضا. وأصبح هذا النوع من القتال ممكنا بفضل التطور الهائل لصواريخ "جو-جو" بعيدة المدى التي تمنح الطائرات المقاتلة ميزة استهداف طائرات العدو دون أن تكون في المدى الناري التقليدي لها.
ويعود مفهوم القتال خارج مدى الرؤية إلى زمان الحرب الباردة ، لكنه تعرض لتشكيك كبير وقتها بسبب التكلفة الهائلة لتقنيات القتال بعيد المدى، وقد تحول في عالم اليوم إلى الثورة الأهم على صعيد القتال الجوي.
ولكي نفهم لماذا يُعد هذا النوع من الصواريخ ثوريا، دعونا نفترض سيناريو بسيطا: طائرتان مقاتلتان من الجيل الخامس تحلقان في سماء المعركة، متطابقتان تقريبا في كل شيء، ففي السرعة كلتاهما أسرع من الصوت، وفي قدرات التخفي تكاد كلٌّ منهما أن تكون غير مرئية للرادارات التقليدية، وحتى في أنظمة الرصد المتقدمة التي تسمح لهما بكشف بعضهما بعضا في الوقت نفسه وفي القدرة على المناورة لتفادي الصواريخ والاشتباك القريب. لكن هناك فارق واحد فقط، إحدى الطائرتين تحمل صاروخ جو-جو طويل المدى، بينما الأخرى تعتمد على صواريخ تقليدية ذات مدى أقصر.
كلتا الطائرتين تكشفان وجود بعضهما على شاشات الرادار، لكن الطائرة المزودة بالصاروخ طويل المدى تمتلك القدرة على إصابة خصمها على الفور، في حين لا تمتلك طائرة الخصم الميزة نفسها. ساعتها يتخذ قائد الطائرة قرار الإطلاق، وينطلق الصاروخ بسرعته الهائلة (أسرع من الصوت عدة مرات)، متجاوزا عشرات الكيلومترات في ثوانٍ قليلة. الطائرة الأخرى سرعان ما تدرك أنها مستهدفة، لكنها لم تدخل بعد في نطاق يسمح لها بالرد، ومن ثم فكل ما تستطيع فعله هو محاولة المناورة والدفاع، لكن الصاروخ الذكي مصمم أيضا لتفادي إجراءات التشويش والمراوغات.
النتيجة؟ قبل أن تتمكن الطائرة الثانية من الاقتراب بما يكفي لاستخدام أسلحتها، تنفجر قربها شظايا الصاروخ الذي يضرب خارج المدى البصري، وتدمرها أو تجعلها عاجزة عن القتال، ومن ثم يصبح النصر مضمونا لمَن يمتلك المدى الأطول للصواريخ، رغم تكافؤ كل العوامل الأخرى.
وإذا نظرنا إلى مثال عملي قريب، فقد شهدت المواجهة الأخيرة بين الهند وباكستان في مايو/أيار الماضي قيام إسلام أباد باستخدام صواريخ "جو-جو" بعيدة المدى، صينية الصنع، من طراز "بي إل-15" ضد المقاتلات الهندية، لتنجح في إسقاط خمس طائرات وفق الرواية الباكستانية، وطائرة واحدة على الأقل حسب الرواية الهندية.
يمكن لهذا النموذج أن يفسر سر تنافس الدول الكبرى على امتلاك هذه التقنية، حيث تتمثل الفكرة الرئيسية وراء القتال فيما وراء الرؤية في إمكانية إصابة الخصم من أبعد نقطة ممكنة قبل أن يتمكن هو أن يصيبك، وهو ما يخلق مضمارين للسباق بين الدول، الأول تطوير الصواريخ بحيث يمكنها إصابة أهدافها من مسافة أبعد، وتطوير تقنيات التخفي والمناورة التي تسمح للطائرات بالاقتراب إلى أقصى حدٍّ ممكن قبل أن تصبح هدفا لصواريخ الخصم.
الصواريخ بعيدة المدى
تُعد الصواريخ المُطلقة من الطائرات قديمة قدم الطيران الحربي نفسه، حيث استُخدمت صواريخ "جو-جو" منذ الحرب العالمية الأولى على الأقل.
ولكن الجديد أنه على مدى العقود الماضية، سعت الدول لتطوير مدى تلك الصواريخ وقدرتها على إصابة أهدافها، وقد فرض هذا التطوير واقعا جديدا في مجال الهيمنة الجوية، وتحديات تكنولوجية جديدة تبدأ من محركات الصواريخ ولا تنتهي عند مجال الرادارات وشبكات الاتصال.
هناك عاملان أساسيان لازمان لنجاح الصاروخ طويل المدى: محرك قوي يُمكّنه من حمل الصاروخ لأطول مسافة مع قدرة على التوجيه، ثم نظام توجيه إلكتروني يستند إلى شبكة اتصالات متقدمة. على صعيد المحركات، يمكن الصواريخ أن تُزوَّد بنوعين من المحركات، الأول هو محرك قذف صاروخي يعتمد على وقود صلب أو سائل، وهذا النوع من المحركات يحتوي في داخله على الوقود والعامل المؤكسِد (المادة الكيميائية التي توفر الأكسجين اللازم لاحتراق الوقود) معا، مما يجعله لا يحتاج إلى الهواء ويُعد مناسبا أكثر للطيران في الفضاء الخارجي. وغالبا ما يتمتع هذا النوع من المحركات بمدى أقصر نسبيا بسبب المساحة التي يشغلها خزان المادة المؤكسدة، لكنه يتمتع على الأرجح بتفوق واضح على صعيد السرعة.
أما النوع الثاني فهي المحركات النفاثة، وهذا النوع من المحركات يحتاج إلى الهواء للحصول على الأكسجين اللازم لاحتراق الوقود، مما يجعله مناسبا أكثر للصواريخ التي تطير داخل الغلاف الجوي للأرض. يتميز الصاروخ ذو المحرك النفاث بقدرته على الطيران لمدة طويلة، لأن محركه يعتمد على أكسجين الهواء الخارجي، وبالتالي يمكن تحميله بكمية أكبر من الوقود، وهو ما يجعل المحركات النفاثة أكثر مناسبة لزيادة مدى الصاروخ، رغم أن سرعته تكون أبطأ من الصواريخ المزودة بالوقود التقليدي.
في بعض الأحيان، تُصمَّم الصواريخ كي تكون متعددة المراحل، بمعنى أنها تحتوي على أكثر من محرك، وهي محركات مركَّبة بوصفها أجزاء ومنفصلة عن بعضها بعضا بحواجز. ومع إطلاق الصاروخ تعمل هذه المحركات على التوالي، حينما ينتهي وقود المحرك الأول ينفصل عن الصاروخ، ويبدأ المحرك الثاني معطيا دفعة جديدة للصاروخ من أجل زيادة مداه.
ومع المسافات الشاسعة التي تقطعها الصواريخ بعيدة المدى، فإنها تحتاج إلى نظام توجيه متقدم، يعتمد على شبكة اتصالات متقدمة توفر معلومات حية وفورية عن مواقع طائرات الخصم.
وفي بعض الأحيان، يُوجَّه الصاروخ من خلال رادار الطائرة التي تحمله وتتولى مهمة تحديد مكان الهدف قبل الإطلاق أصلا، أو من خلال رادار مستقل ونظام استشعار مثبت في الصاروخ نفسه يُمكّنه من التحليق دون حاجة إلى توجيه خارجي، وهو ما يُطلق عليه عادة ميزة "أطلِقْ وانسَ"، وفيها تقتصر مهمة الطائرة على إطلاق الصاروخ ليتولى مهمة توجيه نفسه وتعديل مساره. ومن الممكن أن يعتمد الصاروخ بعد إطلاقه على التتبع الحراري للهدف عند مدى معين، دون أن يمتلك رادارا بالمعنى المعروف.
بالإضافة إلى تلك السمات الأساسية (مثل المدى ونوع المحرك ونظام التوجيه) هناك عدة عوامل أخرى تسهم في تحديد كفاءة الصاروخ، منها خفة الوزن لكي يسهل تحميله على المقاتلة، وانسيابية التصميم التي تسهل حركته في الهواء، وأيضا التكلفة المالية التي تحدد إمكانية إنتاج أعداد كبيرة منه وتعويض المفقود في ساحات المعركة باستمرار.
تنافس عالمي محتدم
نظرا للدور الكبير الذي يُرجح أن تلعبه تلك الصواريخ في مجال الهيمنة الجوية، تتسابق الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وعدد من الدول الأوروبية في إنتاج وتطوير وتحسين صواريخ "جو-جو" بعيدة المدى، لا سيما وقد شهدت تكنولوجيا الصواريخ تطورا كبيرا في العقود الماضية.
في مطلع القائمة تأتي الولايات المتحدة الأميركية ، وتمتلك في الخدمة الآن أشهر صواريخ "جو-جو" بعيدة المدى، ويُعد بمنزلة النموذج الأوّلي الذي يُحاكَى حينما تنوي دولة ما تصنيع صاروخ من هذا النوع، وهو "أيم-120 أمرام) (AIM-120 AMRAAM)، الذي دخل الخدمة الفعلية في 1992 ومنذ تلك اللحظة ما زال يخضع لتحديثات مستمرة، أسفرت عن زيادة مدى الصاروخ إلى 160 كيلومترا، مع وزن يصل إلى 150 كيلوغراما، وطول 3.66 أمتار تقريبا.
ورغم الكفاءة العالية للصاروخ الأميركي فإن هذه الأرقام تضعه في مرتبة أقل -نظريا- من أحدث الصواريخ الصينية المناظرة، وهو صاروخ "بي إل-15" (PL-15)، حيث يُقدَّر أقصى مدى للصاروخ بنحو 200-300 كيلومتر.
ولذلك تسعى الولايات المتحدة من خلال مشروعين منفصلين لتطوير طرازين من الصواريخ المحمولة جوًّا، الأول تابع لسلاح الجو وهو الصاروخ "أيم-260" (AIM-260 JATM)، والثاني تابع للبحرية وهو الصاروخ "إيه آي إم-174 بي" (AIM-174B)، وهو نسخة معدلة للإطلاق الجوي من صاروخ البحرية التقليدي "إس إم-6" (SM-6).
وقد كشفت الولايات المتحدة عن أول نسخة من الصاروخ علنا في مايو/أيار الماضي خلال فعالية يوم الصداقة التي أُقيمت في قاعدة مشاة البحرية في إيواكوني باليابان. وتأمل واشنطن أن تؤدي النسخة البحرية الخاصة من الصاروخ دورا جيدا في جبهة المحيط الهادي، مع تنامي القوة الصينية وتوقعات أميركية بأن يصل مدى الصواريخ المضادة للطائرات التي يمتلكها خصومها إلى أكثر من ألف ميل بحلول عام 2050.
تسير أوروبا فيما يبدو على الخُطى نفسها، بفضل صاروخ "ميتيور" (Meteor)، وهو ثمرة تعاون مجموعة دول أوروبية (بريطانيا ـ فرنسا ـ ألمانيا ـ إسبانيا ـ إيطاليا – السويد)، ويعتمد على محرك نفاث، يصل مداه إلى نحو 200 كيلومتر، كما أنه مزود برادار يمكنه من تحديد مكان هدفه والمسافة بينه وبين الهدف الذي يمرق نحوه بسرعة تصل إلى نحو أربعة أضعاف سرعة الصوت (نحو 5000 كم/ساعة). وتم تجربة تحميله على أشهر المقاتلات الأوروبية، مثل المقاتلة السويدية "ساب-جاس 39″، ومقاتلة "يوروفايتر تايفون" ومقاتلات " رافال الفرنسية"، والمقاتلة الأميركية "إف-35″، وهناك خطة أوروبية لتحديث الصاروخ ليواكب التحديات المعاصرة.
أبعد من الغرب
بعيدا عن العالم الغربي، هناك منافسة محمومة من جانب كلٍّ من روسيا والصين في هذا المجال. روسيا تحديدا لديها طموح من نوع آخر، حيث تشير تقارير استخباراتية أميركية إلى أن موسكو تعمل على تزويد طائراتها المقاتلة بصواريخ ذات رؤوس نووية، وليس ذلك بمستغرب بالنسبة للروس الذين يُظهرون اهتماما خاصا بالأسلحة غير التقليدية.
على الأرجح فإن الصاروخ المقصود هو نسخة من الصاروخ جوّ-جو طويل المدى "آرـ37 إم" (R-37M)، وهو أحد الصواريخ بعيدة المدى الأساسية في الترسانة الروسية، ويصل مداه إلى 300 كيلومتر، وينطلق بسرعة فرط صوتية تصل إلى نحو 6 ماخ (أي 6 أضعاف سرعة الصوت – أكثر من 7300 كم/ساعة)، برادار مستقل ويمكن أن يستهدف أي طائرات بما يشمل المقاتلات والقاذفات وطائرات التحكم والاستطلاع.
هناك صاروخ روسي آخر هو الصاروخ "كي-172 نافاتور" (K-172 Novator) المُصمَّم أصلا للهجوم على الطائرات الداعمة، مثل طائرات الاستطلاع والتحكم، وطائرات التزود بالوقود، وطائرات الحرب الإلكترونية، لأجل حرمان الخصم من المعلومات وسائر أشكال الدعم في ساحة المعركة. يمتلك الصاروخ رادارا مستقلا عن رادار الطائرة يصل مداه إلى 300 كيلومتر، ومنحت روسيا من خلاله قُبلة الحياة لمقاتلاتها العتيقة "ميغ-31" بعدما نجحت في تسليحها به.
تُعد الصين هي الحصاد الأسود الحقيقي في هذا المجال. لفترة طويلة، كان هناك اعتقاد سائد وسط صفوف المحللين الغربيين بأن الصواريخ الصينية ما هي إلا نسخ رديئة مقلدة من مثيلاتها الغربية. ولكن بحسب منصة "ذا وور زون" المتخصصة في الشؤون العسكرية، فإن الآونة الأخيرة شهدت قبولا واسعا لإمكانية أن تكون النسخ الصينية أفضل من مثيلاتها الغربية.
خلال الصراع الهندي الباكستاني الأخير، برز اسم الصاروخ الصيني "بي-15″، وهو صاروخ يعمل بالوقود الصلب، ومزوّد برادار مستقل يعمل عبر مصفوفة مسح إلكتروني نشط تتكون من عشرات الحساسات الصغيرة، التي ترسل الموجات، ثم تستقبلها مرة أخرى، فتستطيع رصد الخصم ثم إطلاق الصاروخ تجاهه بسرعة تصل إلى نحو 4 ماخ (أربعة أضعاف سرعة الصوت).
يُزوَّد الصاروخ بمحرك ثنائي الأجزاء (حيث ينفصل الجزء بعد احتراق وقوده)، ويشار إليه أيضا بالمحرك ثنائي النبضات. ويصل مدى النسخة المُخصصة للتصدير منه إلى ما بين 145-150 كيلومترا، وهي غالبا النسخة التي تمتلكها القوات الجوية الباكستانية التي حصلت على الصاروخ لتسليح الطائرة "جي-10 سي" (J-10 C) الصينية، ونجحت عبرها في استهداف المقاتلات الهندية خلال النزاع الأخير.
هذا الصاروخ هو النسخة الأخيرة من الصواريخ جو-جو الصينية، وقد طورت الصين نسخة شبحية من هذا الصاروخ تحت اسم "بي إل – 15 إي" (PL – 15E). جدير بالذكر أن مسيرة الصين نحو تطوير صواريخ "جو-جو" بدأت منذ ثمانينيات القرن الفائت، وكانت الصواريخ الصينية المبكرة نسخا من الصواريخ السوفياتية، وكانت ذات مدى أقصر، ومنذ ذلك الحين خاضت الصين مسيرة بعيدة لأجل تطوير صواريخها المحمولة جوًّا حتى الوصول إلى الصاروخ "بي إل-15".
تحديات جديدة في القتال الجوي
تفرض الصواريخ بعيدة المدى تحديات كبيرة وغير مسبوقة على الطائرات المقاتلة، وهناك طيف واسع من التقنيات التي يلجأ إليها الطيارون لتفادي الإصابة بصاروخ طويل المدى. وغالبا ما تكون المشكلة الأولى والرئيسية هي تحديد الصديق من العدو، وهو ما تفشل الرادارات الحديثة في فعله بدقة حتى الآن.
بالنظر إلى بُعد المسافة وتطور تقنيات التخفي، أصبح من الصعب على الطيار أن يحدد إذا ما كان مَن يقترب منه صديقا أم عدوا يجب إطلاق النار عليه. وتزداد هذه المشكلة تعقيدا حين يحظر الاتصال المباشر بين الطيارين في ساحة المعركة خوفا من اختراق أنظمة الاتصالات وتعرض الطائرات للانكشاف.
هذه التعقيدات قد تزيد من زمن اتخاذ القرار لدى الطيارين الذين قد يصبحون في مرمى نيران الخصوم فجأة دون إنذار. في تلك اللحظة، يراهن الطيار على أنظمة الحماية المتوفرة في طائرته، مثل الأسلحة الليزرية والكهرومغناطسية بالإضافة إلى الطعوم التي تطلقها الطائرة، وهي عبارة عن شظايا أو دخان يدفع الصاروخ الموجَّه حراريا لتتبعه عوضا عن الطائرة.
وبعيدا عن التحديات العملياتية، فإن انتشار القتال خارج مدى الرؤية ربما يدفع لإعادة النظر في الخيارات التصميمية التي تستهدف زيادة قدرة الطائرات على المناورة وتغيير الاتجاه خلال معارك الاشتباك المباشر "دوغ فايت".
وعوضا عن ذلك سوف تسود تكتيكات جوية غير مألوفة مثل نصب الكمائن، حيث تكمن الطائرة على ارتفاع كبير، ومن ثم تنتهز الفرصة لمهاجمة العدو بغتة، وهكذا تلعب الطائرة المقاتلة دور القائد الذي يرسل المسيرات والصواريخ التي ستؤدي دور البيادق أو المشاة في معارك أولية قبل أن يتدخل عندما يشتد وطيس المعركة.
التأثير الأكبر أن ذلك النوع الجديد من المعارك الجوية سوف يضطر العديد من الدول إلى إعادة تعريف مجالها الجوي الحيوي، لأنها من الممكن أن تكون عُرضة للتهديد من طائرات خارج مجالها الجوي المعتاد، ومن ثم باتت مضطرة أن تهتم بخلو الأجواء المجاورة من التهديدات أيضا عن طريق تطوير منظومات دفاع جوي بعيدة المدى يمكنها أن تعترض طائرات تقع خارج حدودها.
يفتح ذلك التعريف الواسع للأمن الجوي مجالا واسعا لسوء الفهم والصراعات بين الدول، التي ستكون واحدة من التداعيات القليلة للقتال خارج المدى البصري الذي يُعد الثورة الأكبر والأكثر تأثيرا في الطيران الحربي منذ عقود.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
"الروبوتات الذئاب".. آلات صينية تحاكي سلوك القطيع في ساحات المعارك
"الروبوتات الذئاب"، أو "الذئاب الآلية"، هي منظومة روبوتات قتالية رباعية الأرجل، كشفت عنها الصين عام 2024، صُممت للعمل بأسلوب "قطيع الذئاب" وتحقيق تنسيق جماعي ذكي في ساحات المعارك. تتميز بقدرات متعددة تشمل الاستطلاع والهجوم ونقل الإمدادات، مع توزيع دقيق للمهام بين وحداتها. ويتألف الفريق من "ذئب قائد" للاستطلاع و"ذئب رام" للهجوم و"ذئب لوجستي" لنقل الذخائر، بما يضمن استمرارية العمليات بكفاءة في الميدان. كشفت "مجموعة جنوب الصين لصناعة الأسلحة والمعدات" أثناء معرض تشوهاي الجوي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 عن أحدث ابتكاراتها المتمثلة في "الذئب الآلي"، وأجرت عرضا حركيا له. ووفقا لوسائل إعلام صينية، صُمم هذا الجهاز القتالي البري وفقا لمفهوم القتال بأسلوب "قطيع الذئاب"، ويتميز بوظائف متعددة تشمل الاستطلاع والهجوم ونقل الإمدادات مع توزيع واضح للمهام بين المجموعة. وعبر الاستفادة من مفهوم "القتال السربي"، تستطيع الروبوتات الرباعية الأرجل التنسيق والعمل معا مثل قطيع ذئاب حقيقي. وفي ساحات القتال الخطرة، يمكن للذئاب الروبوتية أن تحل محل الجنود والكلاب العسكرية، مما يقلل من الخسائر ويضمن توزيعا واضحا للعمل. المواصفات والقدرات صُمم روبوت "الذئب الآلي" بـ4 أرجل، ويبلغ وزنه نحو 70 كيلوغراما، وله قدرة عالية على الحركة المرنة في المناطق الجبلية والأنقاض، ويصل زمن تشغيله من دون انقطاع إلى 3 ساعات. كما يمكن لأكثر من 30 وحدة منه أن تتشكل تلقائيا في شبكة اتصال مستقلة، مما يُبرز خصائص العمل التعاوني بأسلوب "قطيع الذئاب". وبالمقارنة مع "الكلب الآلي" المستخدم لدى بعض القوات العسكرية في العالم، شهد "الذئب الآلي" تطورات كبيرة في مجالات متعددة، تشمل: قدرات الاستطلاع: زود برادارات ليزر متعددة وكاميرات جانبية، تمكنه من تغطية محيطه بزاوية 360 درجة والتعامل مع تضاريس متنوعة. دقة الضربات: طور الروبوت ليكون قادرا على تنفيذ ضربات دقيقة لمسافات تصل إلى مئات الأمتار، مما يجعله أداة فعالة في ساحة المعركة. كفاءة الاتصال: بفضل نظام القتال الجماعي الذكي، يتمكن "الذئب الآلي" من العمل بكفاءة حتى في المدن والمناطق الجبلية والبيئات التي تضعف فيها شبكات الاتصال. أذرع آلية متعددة المهام: النسخ المزودة بأذرع روبوتية قادرة على تحديد الأهداف والتقاطها تلقائيا، مما يجعلها مناسبة ليس فقط للأغراض العسكرية، بل أيضا لمهام الإنقاذ والإطفاء. توزيع المهام يتكون فريق القتال في نظام "قطيع الذئاب الآلي" من وحدات تؤدي مهام متخصصة وفقا لتوزيع دقيق للوظائف، وتنقسم إلى: إعلان الذئب القائد: وهو روبوت الاستطلاع والكشف، ويُكلف بمهام الاستطلاع في الخطوط الأمامية، إذ يجمع معلومات الأهداف ويرسل صور الاستطلاع إلى مركز القيادة. الذئب الرامي: وهو روبوت يمكن تزويده ببندقية أو غيرها من الأسلحة، لتنفيذ ضربات دقيقة ضد الأهداف المحددة. ذئب الدعم اللوجستي: ويؤدي دور "المساعد" ويتميز بقدرة التتبع التلقائي، وهو قادر على نقل نحو 20 كيلوغراما من الإمدادات والذخيرة في كل مرة، مما يضمن توفير الموارد بسرعة للوحدات، والحفاظ على جاهزيتها القتالية المستمرة. ويُظهر القطيع قدرة عالية على العمل في التضاريس المعقدة جنبا إلى جنب مع القوات البشرية. وتعكس هذه القدرات مسعى الصين إلى تطوير آلات قتالية ذكية تُحاكي السلوك الحيواني الجماعي، وتوفر حلولا ميدانية فعالة في أصعب ظروف القتال.


الجزيرة
منذ 17 ساعات
- الجزيرة
كيف يعمل مدققو المعلومات وسط سيل لا يتوقف من الأخبار الكاذبة؟
إنهم يبحثون عن إبرة في كومة قش، هكذا وصف تقرير معهد "بوينتر" البيئة التي يعمل فيها مدققو الحقائق، خاصة في ظل وجود سيل من الأخبار الكاذبة، وما يقرب من ربع مليون معلومة يوميا بحاجة إلى التحقق من دقتها. وقد ناقش المعهد الأميركي، المختص بالدراسات الصحفية وممارسات وسائل الإعلام، التحديات أمام مدققي الحقائق في سبيل تحديد أولويات الأخبار الكاذبة والادعاءات التي يجب التحقق منها، بناء على مدى ضررها. وتناول المعهد في التقرير، الذي أعده الباحثان "بيتر كونليف جونز" و"أندرو دادفيلد"، نموذجا "صارما" يتضمن معايير تساعد مدققي المعلومات على تضييق الخيارات أمام سيل الأخبار الكاذبة المتدفق على الإنترنت. ولفت "جونز" و"دادفيلد" إلى تجربة مؤسسة "فل فاكت" (Full Fact)، وهي أكبر منظمة مستقلة للتحقق من الحقائق في المملكة المتحدة، حيث استخدمت الشهر الماضي أدوات الذكاء الاصطناعي لمسح النقاشات العامة في وسائل الإعلام وعلى الإنترنت، وحددت ما معدله 240 ألفا و437 محتوى يتم تداوله يوميا، يمكن أن تقوم "فل فاكت" أو إحدى المؤسسات العشر الأخرى التي تستخدم أدواتها بالتحقق من صحته. ولأن الأخبار الكاذبة ليست متساوية في الأهمية، تمكنت "فل فاكت" عبر أدوات الذكاء الاصطناعي مرة أخرى من استبعاد أكثر من 99% من الادعاءات، باعتبارها غير مهمة بالنسبة للمؤسسة للتحقق منها، لكونها آراء أو تنبؤات أو ادعاءات متكررة، أو تتعلق بموضوعات مجردة للغاية، بحيث لا يكاد يكون لها أي تأثير. معظم المؤسسات التي تكافح الحقائق الزائفة تتبع عملية مشابهة إلى حد كبير، عبر استخدام مزيج من البحث الرقمي والرؤية البشرية، لغربلة عدد لا يحصى من الادعاءات، والتركيز على تلك التي تجدها أكثر أهمية. بواسطة بوينتر وبيّن الباحثان أنه ورغم أن التكنولوجيا ضيقت نطاق الاختيار إلى عشرات الادعاءات المهمة فقط، كان لا يزال على مدققي الحقائق أن يقرروا أي الأخبار سيعملون على التحقق منها، مع الأخذ في الاعتبار أهمية الادعاء، وتأثيره المحتمل وعوامل أخرى. وتقوم "فل فاكت" بمتوسط 10 عمليات تحقق كاملة ومفصلة من الحقائق يوميا. ويوضح "بوينتر" أن معظم المؤسسات التي تكافح الحقائق الزائفة تتبع عملية مشابهة إلى حد كبير، عبر استخدام مزيج من البحث الرقمي والرؤية البشرية، لغربلة عدد لا يحصى من الادعاءات، والتركيز على تلك التي تجدها أكثر أهمية. عوامل اختيار الخبر للتحقق وأجرى الباحثان استبيانا في يونيو/حزيران الماضي، شاركت به 70 مؤسسة من أبرز مؤسسات مكافحة المعلومات الزائفة وتدقيق الحقائق في العالم، حول الاعتبارات التي تراعيها عند اختيار المواد التي ستتحقق منها كل يوم. وأظهرت الإجابات 3 عوامل رئيسية: الضرر، ومدى انتشار الادعاء، وقوة من أطلقه، في حين كان العامل الأكثر تكرارا هو أن الادعاء "قد يتسبب في ضرر محدد، الآن أو في المستقبل القريب"، وهو ما ذكره 93% من المشاركين. وذكر 83% من المؤسسات أن العامل الثاني هو ما إذا كان الادعاء يصل إلى جمهور كبير، وجاء بعد ذلك بفارق ضئيل، بنسبة 81%، ما إذا كان الادعاء صادرا عن شخص مؤثر. ويميل مدققو الحقائق إلى التحقق من صحة ادعاءات الحزب أو الأحزاب التي تمثل الأغلبية أكثر من تلك التي تمثل الأقلية أو المعارضة، وفق الباحثين. العواقب الحقيقية للمعلومات الكاذبة شديدة، وقد ثبتت هذه الآثار المحتملة مرارا وتكرارا، من الأضرار الواسعة النطاق التي تلحق بالصحة الفردية والعامة، والعنف الأهلي، والحروب والصراعات، وتشويه الديمقراطية، إلى الآثار السلبية على الاقتصاد ونظام العدالة والصحة العقلية للأفراد. بواسطة بوينتر ويلفت الباحثان إلى أن توقع تأثير المعلومات على السلوك يعد أمرا صعبا، كما أثبتت عقود من الأبحاث الأكاديمية، مشيرين إلى أنه وعندما طُلب من معظم الناس، بمن فيهم مدققو الحقائق، تحديد ادعاءات كاذبة محددة على أنها قد تكون ضارة أو غير ضارة، بالغوا في تقدير احتمال أن تتسبب العديد من الأخبار الكاذبة في عواقب كبرى. ومع ذلك، كما توضح الدراسات، غالبا ما تكون العواقب الحقيقية للمعلومات الكاذبة شديدة، وقد ثبتت هذه الآثار المحتملة مرارا وتكرارا، من الأضرار الواسعة النطاق التي تلحق بالصحة الفردية والعامة، والعنف الأهلي، والحروب والصراعات، وتشويه الديمقراطية، إلى الآثار السلبية على الاقتصاد ونظام العدالة والصحة العقلية للأفراد. ولكن ماذا عن الكم الهائل للمعلومات الزائفة؟ ومع ذلك، يقول الباحثان، لا يزال الكم الهائل من المعلومات المضللة المتاحة في العالم مروعا، وفيما يتعلق بتحديد ما هو صحيح أو خاطئ للجمهور، بيّن "جونز" و"دادفيلد" أن ثمة طريقين رئيسين لذلك في الوقت الحالي. ويتمثل الأول في أنظمة "ملاحظات المجتمع" التي تستخدمها منصات التواصل الاجتماعي، "إكس" في جميع أنحاء العالم، و"تيك توك" و"ميتا" في الولايات المتحدة. وتقول هذه الشركات إن النظام يمكنه معالجة صحة المحتوى الذي يتم تقييمه على نطاق يتجاوز ما يمكن أن يفعله مدققو الحقائق المحترفون، بناء على إجماع الجمهور، ويعلق الباحثان بالقول إنه وعلى الرغم من فائدة هذا النموذج، فإنه غير مصمم بناء على احتمالية أن تسبب الأخبار الكاذبة ضررا. لذلك، يتابع الباحثان، فإن الطريقة الأخرى هي استخدام الذكاء الاصطناعي لمطابقة نتائج التحقق من المعلومات مع المحتوى الجديد والقائم الذي ينشر ادعاءات مماثلة أو مشابهة جدا، لافتين إلى أن منصات التواصل الاجتماعي تستخدم هذه العملية منذ فترة طويلة، فوفق تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي ، استخدمت "ميتا" الذكاء الاصطناعي لمطابقة الادعاءات، لتصنيف 27 مليون منشور إضافي خلال فترة 6 أشهر في عام 2024.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
"إكس-59".. الطائرة الصامتة الأسرع من الصوت
"إكس-59" طائرة أميركية تجريبية أسرع من الصوت، تم الكشف عنها عام 2025، وتُعدّ نقلة نوعية في مجال تكنولوجيا الطيران، إذ تصل سرعتها القصوى إلى 1.5 ماخ (1590 كيلومترا في الساعة)، مما يسهم في تقليص زمن الرحلات الجوية إلى أي بقعة في العالم إلى ما يقارب النصف. وتتميز هذه الطائرة عن سابقاتها الأسرع من الصوت، بتغلبها على مشكلة الانفجارات الصوتية الهائلة التي تنتجها تلك الطائرات، والتي مثلت لها تحديا كبيرا، وتسببت في حظرها فوق المناطق المأهولة بالسكان. وكانت الولايات المتحدة الأميركية والعديد من الدول قد حظرت الطيران الأسرع من الصوت فوق اليابسة منذ عام 1973، بسبب الضوضاء الشديدة التي يحدثها، وهو ما حال دون توسع استخدامه للأغراض المدنية للحد من آثاره السلبية على البشر والبيئة، واقتصر استخدامه فوق المحيطات ضمن عدد قليل نسبيا من الطرق العابرة للقارات. وتم إنتاج "إكس- 59" على مدى سنوات بالتعاون بين وكالة ناسا وشركة "لوكهيد مارتن سكَنك" لصناعات الطيران. وفي عام 2023، صنفتها مجلة تايم ضمن أفضل الاختراعات في فئة النقل، وذلك في إصدارها الخاص "أفضل الاختراعات". الفكرة والتصنيع قادت شركة صناعات الطيران "لوكهيد مارتن سكَنك ووركس" تصميم وبناء واختبار الطائرة "إكس-59" الأسرع من الصوت بالتعاون مع مشروع كويست التابع لوكالة الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا). وتُعد طائرة "إكس-59" ثمرة جهود بحثية أجرتها وكالة ناسا واستمرت عقودا، بدءا من الطائرة "إكس-1″، التي كسرت حاجز الصوت أول مرة عام 1947، والتي مثلت بداية عصر الطيران الأسرع من الصوت. وقد طُرحت فكرة الحد من الضوضاء الناتجة عن الطيران الأسرع من الصوت نظريا أول مرة في ستينيات القرن الـ20، وفي غضون سنوات بدأت وكالة ناسا إجراء أبحاث على تقنيات تهدف إلى خفض الصوت في هذا النوع من الطيران. وفي العامين 2003 و2004، أثبتت أبحاث ناسا إمكانية تقليل هدير الطائرات الأسرع من الصوت، حين تم تعديل مقدمة طائرة مقاتلة من طراز "إف- 5 إي تايغر" إلى "أنف" فريد الشكل. وبدأ العمل فعليا على مشروع "طائرة إكس-59" عام 2016، حين قدمت شركة لوكهيد مارتن تصميما أوليا للطائرة، طورته بموجب عقد منحته إياها وكالة ناسا. وحصلت الوكالة على تمويل أولي للمشروع بداية عام 2018، وفي أبريل/نيسان من العام ذاته، منحت عقدا لشركة لوكهيد مارتن بقيمة 247.5 مليون دولار بهدف بناء الطائرة في مصانع الشركة في مدينة بالمديل بولاية كاليفورنيا. وخضعت طائرة "إكس-59" إلى مراحل طويلة من التطوير والاختبار، استمرت سنوات عديدة، وشاركت جميع مراكز أبحاث الطيران التابعة لناسا -مركز أبحاث أميس ومركز أرمسترونغ لأبحاث الطيران ومركز غلين ومركز لانغلي- في مراحل الإنتاج كافة. وأسهمت المراكز في إنجاح المشروع، عبر تعديل تصميم الطائرة وتطوير أنظمتها، إضافة إلى تقييم أنظمة الطيران والسلامة واختبار أداء الطائرة في البيئات الحقيقية وجمع البيانات وتحليلها. وكان من المفترض، وفقا للعقد، إتمام التصنيع وتسليم لوكهيد مارتن الطائرة إلى مركز أرمسترونغ بحلول نهاية عام 2021، لكن جائحة كورونا (كوفيد-19) أخرت مراحل الإنتاج وأعاقت تسليمها في الوقت المحدد. وفي 12 يناير/كانون الثاني 2024، كشفت كل من وكالة ناسا وشركة لوكهيد مارتن عن طائرة "إكس- 59" أثناء حفل إطلاق بكاليفورنيا، وتم عرض الطائرة أمام حشد بلغ نحو 150 فردا. وتُعتبر "إكس- 59" طائرة تجريبية، فهي تتمتع بحجم صغير لا يرقى إلى حجم طائرة ركاب، لكن الغرض من إنتاجها هو تصنيع نموذج تجريبي وجمع البيانات المتعلقة بالضجيج الصادر عنه. التصميم تُشبه "إكس- 59" طائرة مقاتلة مُعدّلة، وتحتوي على قمرة قيادة تستوعب طيارا واحدا ويبلغ طولها 99.7 قدما (30.4 مترا)، وعرض جناحيها 29.6 قدما (9 أمتار)، بينما يصل ارتفاعها إلى 14 قدما. وخُطط لها على ألا يتعدى وزنها الإجمالي 25 ألف رطل (نحو 11 ألفا و340 كيلوغراما)، ويُقدر وزنها فارغة بنحو 14 ألفا و990 رطلا، مع قدرة على استيعاب حمولة تصل إلى 600 رطل وخزان وقود بسعة حوالي 8700 رطل. وتعمل الطائرة بمحرك واحد من نوع "إف 414- جي إي- 100" مُعدل، يُستخدم على نطاق واسع في الطائرات العسكرية، مثل طائرة "إف-18 سوبر هورنت" التابعة للبحرية الأميركية. ويُنتج المحرك ما يصل إلى 22 ألف رطل من الدفع لتحقيق سرعة طيران تبلغ 1.42 ماخ (1510 كيلومترات في ساعة) وسرعة قصوى تصل إلى 1.5 ماخ (1590 كيلومترا في الساعة)، ويسمح لها الجناح بالتحليق على ارتفاع يصل إلى 55 ألف قدم (16 ألفا و800 متر). وزودت الطائرة بعجلات هبوط من نوعي "إف-16 بي آي كي 25 إن إل جي" و"إم إل جي". واستخدمت في تصنيع الطائرة مجموعة متنوعة من قطع غيار مستمدة من طائرات أخرى بهدف خفض التكلفة وتركيز موارد المشروع على حل المشكلة الأساسية المتمثلة في خفض دوي الانفجار الصوتي. ومن أبرز القطع المعاد استخدامها: معدات الهبوط التي تم الحصول عليها من مقاتلة " إف-16"، وقمرة القيادة ومظلتها والمقعد القاذف المأخوذة من طائرة التدريب العسكرية "تي- 38" التابعة لوكالة ناسا. كما أُخذ المحرك من مقاتلة من طراز "إف- 18" وجزء من نظام الدفع من طائرة التجسس "يو-2" وعصا التحكم من المقاتلة الشبح " إف-117". ميزات التصميم رغم اعتماد طائرة "إكس- 59" على العديد من القطع المستمدة من طائرات أخرى، فإنها تتمتع بمجموعة من المميزات التي تجعلها فريدة وقادرة على التغلب على أحد أكثر التحديات التي تواجه الطيران الخارق للصوت، وهو الضجيج الهائل الذي يُسببه هذا النوع من الطيران. فعندما تحلق الطائرات التقليدية بسرعات تفوق سرعة الصوت، تصطدم بالهواء مُشَكِّلة موجات تتداخل لتصدر انفجارا قد يصل مستوى ضجيجه إلى 110 ديسيبل (وحدة قياس شدة الصوت) وهو ما يُشبه صوت الرعد القوي. أما طائرة "إكس-59" فابتُكر لها هيكل جديد بالكامل، بغرض تقليل موجات الصدمة ومنع اندماجها عبر إعادة توزيعها وتمديدها، وهو الأمر الذي يجعل تلك الموجات تصل إلى الأرض منفصلة مسببة مستويات ضجيج مقبول، بما يشبه سلسلة من الضربات الخفيفة أو الارتطام البسيط. وتصدر عن الطائرة نبضة ضوضاء قصيرة بقوة أقل من 75 ديسيبل، مقارنة بأكثر من 100 ديسيبل التي تُصدرها طائرات " كونكورد" والطائرات العسكرية الأسرع من الصوت، وهو الأمر الذي قد يُسهم في رفع الحظر المفروض على طائرات المسافرين الأسرع من الصوت. وتتميز الطائرة بتصميم خارجي فريد طويل وضيق، ويتميز بمقدمة على شكل "أنف" ممدود ومدبب يشكل طوله حوالي ثلث إجمالي طول الطائرة وزودت بما لا يقل عن 3 أسطح رفع أفقية بهدف تمديد منطقة ضغط الهواء، مما يمنع تصادم موجات الصدمة. وتحتوي الطائرة على محرك نفاث واحد مُركّب على سطحها لتقليل الضوضاء، وتحتوي على فتحات هواء علوية مصممة بغرض تشتيت دوي الانفجار. أما جناحها الرئيسي، فقد صُمم على شكل "دلتا" للتفاعل مع "أنفها" الطويل ومحركها العلوي وجناحها الخلفي، مما يساعد في التحكم في موقع وقوة موجات الصدمة. كما جاء تصميم الطائرة دون نافذة أمامية، وهو تصميم يُساعد على تقليل دوي الصوت الناتج، واستبدل بالنافذة نظام تُطلق عليه ناسا "نظام الرؤية الخارجية"، ويتكون من كاميرا متصلة بشاشة مثبتة في قمرة القيادة، تتيح للطيارين الرؤية الأمامية بدقة عرض فائقة الوضوح (4K) عبر تقنية الواقع المعزز. اختبارات الأداء طورت وكالة ناسا في مركز "أرمسترونغ" لأبحاث الطيران التابع لها، وعلى مدى سنوات، أدوات قياس وتصوير لتقييم موجات الصدمة الخاصة بطائرة "إكس-59" عند تحليقها بسرعة 1.4 ماخ، وعلى ارتفاعات تزيد على 50 ألف قدم. واستخدم فريق التجارب طائرتي أبحاث من طراز "إف-15" لعمل تجارب تمهيدية قبل البدء بتجارب فعلية على الطائرة، وتم التحقق من صحة 3 أدوات أساسية: مسبار قياس موجة الصدمة: وهو جهاز دقيق مُثبت في مقدمة الطائرة، يُستخدم لقياس وتحليل موجات الصدمة الناتجة عن الطيران بسرعات تفوق سرعة الصوت. نظام الملاحة الجغرافية المتكامل لتحديد المواقع الجوية. نظام التصوير الفوتوغرافي المحمول جوا، والذي يسمح بالتقاط صور توضح التغيرات في كثافة الهواء التي تسببها طائرة "إكس-59". ومرت طائرة "إكس-59" بتجارب طويلة ودقيقة للتحقق من أدائها، وبدأت تلك الاختبارات بمراقبة أداء أنظمة التحكم الهيدروليكية والكهربائية والبيئية في الطائرة أثناء تشغيل المحرك، تبعها اختبار دواسة الوقود، إلى جانب اختبارات رفع طاقة الطائرة إلى حدها الأقصى. وفي أوائل عام 2022، أجرى فريق التجارب اختبارا بهدف ضمان قدرة الطائرة على امتصاص القوى التي تتعرض لها أثناء الطيران. وفي أغسطس/آب من العام نفسه خضع نموذج مصغر للطائرة لاختبار نفق الرياح في وكالة استكشاف الفضاء اليابانية، وقاس العلماء موجات الضغط أثناء مرور تدفق الهواء الأسرع من الصوت فوق النموذج. أما في 2023، فقد أجرى الفريق اختبارات تقييم تتعلق باستجابة الطائرة للاهتزازات، وبحلول عام 2024 خضعت لاختبارات هيكلية، وشهدت تحريك أسطح التحكم الخاصة بها بواسطة الحاسوب، بما في ذلك الأجنحة واللوحات والدفة، كما تم اختبار المقعد القاذف. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أُجري آخر فحص رئيسي لنظام الطائرة قبل انطلاق أول رحلة تجريبية على المدرج، إذ تم تشغيل محركها ونظامها الداخلي كاملا. وفي ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، نجحت ناسا في إتمام أول اختبار للمحرك بأقصى طاقة احتراق. إعلان وفي فبراير/شباط 2025، اجتازت الطائرة بنجاح اختبارات التوافق الكهرومغناطيسية، وتأكد فريق الاختبار من عدم تداخل الأنظمة، مثل: أجهزة الراديو ومعدات الملاحة وأجهزة الاستشعار مع بعضها البعض، أو تسببها في مشاكل غير متوقعة. وأجرى فريق ناسا اختبارا أرضيا في مارس/آذار 2025، بهدف ضمان قدرة الطائرة على الحفاظ على سرعة محددة أثناء التشغيل، وأثبت الاختبار أن مثبت السرعة يعمل بشكل صحيح، وأكد قدرة الطائرة على التحكم الدقيق بالسرعة، وأن جميع مكوناتها تعمل وفق التصميم. وفي مايو/أيار نجحت طائرة "إكس-59" في اجتياز سلسلة من اختبارات تحاكي ظروف الطيران في بيئة أرضية، إذ أجرت محاكاة للطيران على ارتفاعات عالية فوق صحراء كاليفورنيا دون مغادرة الأرض على الإطلاق. وأثناء عمليات المحاكاة، فعل الفريق معظم أنظمة الطائرة، مع إبقاء المحرك متوقفا، وفي الوقت نفسه، رُبطت الطائرة إلكترونيا بجهاز حاسوب أرضي يُرسل إشارات مُحاكاة لتغييرات تشمل الارتفاع والسرعة ودرجة الحرارة وحالة النظام. ووجه الطيارون في قمرة القيادة الطائرة لمراقبة استجابتها لجميع المؤثرات، بما في ذلك التعرض للأعطال. إلى جانب ذلك، ساهم هذا الاختبار في تطوير الطائرة، عبر تحديد مواضع القصور في الأنظمة وإجراء التعديلات المطلوبة لتحسين الأداء. وفي يوليو/تموز 2025، أجرى باحثون من وكالة ناسا ووكالة استكشاف الفضاء اليابانية اختبار نموذج مصغر لطائرة "إكس-59" في نفق رياح أسرع من الصوت يقع في مدينة تشوفو باليابان، بهدف تقييم الضوضاء المسموعة أسفل الطائرة. كما أجرى فريق مكون من موظفين من وكالة ناسا وشركة "لوكهيد مارتن" أول اختبار سير منخفض السرعة للطائرة باستخدام قوتها الذاتية في مصنع القوات الجوية الأميركية في مدينة بالمديل بكاليفورنيا. ويمثل السير على المدرج آخر سلسلة اختبارات أرضية تسبق الرحلة الأولى للطائرة، وأثناء هذه الاختبارات تزيد الطائرة سرعتها تدريجيا حتى تصل إلى سرعة عالية تمكنها من الوصول إلى نقطة الإقلاع. وفي أواخر يوليو/تموز 2025، أجرت وكالة ناسا تجربة كاملة في جزء من صحراء موهافي في كاليفورنيا، للتحضير لكيفية قياس الضوضاء التي تولدها الطائرة.