
الطريق إلى الشرعية المؤجلة.. السلطة والاستثناء والديمقراطية في سوريا
ورغم قِدم الكتاب الذي كُتب قبل أكثر من 5 قرون، وضيق الغاية من تأليفه -إذ كان أشبه بهدية سياسية لحاكم فلورنسا لتقريب الكاتب من السلطة- فإن "الأمير" بات رمزًا في الفكر السياسي، لا يكاد يوجد مُهتم بالشأن العام في أي مكان إلا وسمع به، أو بكاتبه، أو بالفكرة المنسوبة إليه: "الغاية تبرر الوسيلة".
لا يُنظر إلى الميكافيلية اليوم بكثير من الرضا، ولا تُستحضر غالبًا في سياق مدح. فمن السهل انتقاد فكرة التخلي عن الأخلاق والقيم من أجل الحفاظ على الدولة واستقرارها، ومن الصعب تبرير استخدام وسائل غير أخلاقية تحت راية المصلحة العليا.
ومع ذلك، وبينما نقلب صفحات "الأمير" ونقرأ ما يقترحه ميكافيلي من تكتيكات سياسية وألاعيب سلطوية، ندرك أنه -بقصد أو بدونه- كان يحاول أن يكشف لنا كيف تفكر السلطة، لا كيف يجب أن تكون. أما السلطة، فلم تكن يومًا بحاجة إلى ميكافيلي لتعرف نفسها.
يقودنا هذا إلى فكرة مركزية في هذا المقال، وهي أن منطق السياسة وبناء الدولة لا يخضعان بالضرورة لمنظومة الأخلاق والقيم الإنسانية، بل تحكمهما قواعدهما الخاصة وضروراتهما السيادية.
وبالحديث عن المفكرين السياسيين المثيرين للجدل، يخطر في ذهني كمراقب للشأن السوري، مفكر آخر أقل شهرة من ميكافيلي، لكنه لا يقل عمقًا وتأثيرًا: كارل شميت. قبل نحو قرن من الزمان، كتب المفكر الألماني كتابه الأشهر "اللاهوت السياسي"، الذي عالج فيه بشكل فريدٍ مسألة السيادة، وعلاقتها بالقانون وأدوات التشريع والرقابة.
يقدّم شميت فكرة مركزية تقول: "السيّد هو من يقرّر في حالة الاستثناء". فالسلطة السياسية، ممثلة بالرئيس أو القيادة، لا تُقاس فقط بقدرتها على تطبيق القانون، بل أيضًا بقدرتها على تعليقه عند الضرورة القصوى.
ففي مواجهة تهديد وجودي، تبرز الحاجة إلى من يستطيع اتخاذ القرار خارج الإطار القانوني المعتاد، لحماية الدولة والنظام العام.
إعلان
وفقًا لشميت، لا تُعد حالة الاستثناء خروجًا عن النظام القانوني، بل تكشف حدوده، وتؤكد أن القرار السياسي يسبق القانون ويؤسسه، لا العكس.
صعود الشرع وبداية شكل جديد من الحكم في سوريا
شهدت سوريا تحولًا دراماتيكيًا في ديسمبر/كانون الأول الماضي مع سقوط نظام البعث والرئيس بشار الأسد، وتولي الرئيس أحمد الشرع، الزعيم السابق لهيئة تحرير الشام ، رئاسة سوريا الجديدة.
منذ ذلك الحين، استعان الشرع أولاً بحكومة الإنقاذ التي شُكلت في إدلب، ثم شكل حكومة أكثر شمولاً في مارس/آذار الماضي، وحصل على دعم واسع من دول الجوار الإقليمي (الأردن وتركيا ودول الخليج)، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ونجح في العديد من الملفات السياسية وعلى رأسها رفع العقوبات الغربية تمهيداً للبدء بمشاريع الاستقرار وإعادة الإعمار المدعومة دوليا.
تعيش سوريا اليوم مرحلة انتقالية دقيقة، تمتزج فيها مشاعر الأمل بمستقبل أكثر حرية وازدهارًا، مع مخاوف عميقة من إعادة إنتاج الاستبداد والاحتكار، ولو في صيغة أخف وطأة وأكثر براعة.
وفي خضم الجدل المتصاعد بين السوريين حول السلطة الجديدة، لا يختلف اثنان على أن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع يحتكر اليوم السلطة بجميع وجوهها. أما الخلاف، فهو حول مدى شرعية وضرورة هذا الاحتكار في هذه المرحلة.
إن كنتم من متابعي الشأن السوري يوميا على مواقع التواصل، فربما مرّ عليكم في الأيام الأخيرة إنفوغراف طويل يُظهر الصلاحيات المناطة برئيس الجمهورية السورية بحسب الإعلان الدستوري المؤقت.
يوضح الإعلان، أن الرئيس يرأس السلطة التنفيذية كرئيس للحكومة، يعيّن ويقيل وزراءها، ويوقّع العقود والمعاهدات مع الدول، وهو القائد العام للقوات المسلحة. وهو كذلك يقود السلطة التشريعية بتعيينه لثلث أعضاء البرلمان، وتشكيله للجنة تختار الثلثين الآخرين.
علاوة على ذلك، فإن الرئيس هو رئيس السلطة القضائية برئاسته لمجلس القضاء الأعلى وللجنة الدستورية العليا، كما أن من حقه تعديل بنود الإعلان الدستوري بموافقة ثلثي مجلس النواب.
هذه التركيبة من الصلاحيات المطلقة قد تكون كفيلة ببث الرعب في قلوب كل من يرفضون الدكتاتورية، وكل من يرون أن النظام العادل والصالح للسلطة ينبغي أن يُبنى على القانون ومبدأ فصل السلطات، وعلى آليات لمراقبة ومحاسبة السلطة كي لا تنحدر إلى هاوية الحكم الفردي. وهنا السؤال: هل من مبرر لهذه الصلاحيات المطلقة؟
بين نص الدستور وظرف الاستثناء.. كيف تبرر السلطة المطلقة؟
الجواب البسيط على السؤال السابق: سياسيًا وقانونيًا، ثمّة ما يبرر اللجوء إلى هذه الصيغة من السلطة الأحادية، على اعتبار أن المنطلق الأساسي هو أن سوريا تمر بحالة استثنائية.
خلال مقابلة له في بودكاست "دفين"، أشار الدكتور عبد الحميد عواك، عضو اللجنة التي صاغت الإعلان الدستوري، إلى أن الإعلان ينطلق من مبدأين أساسيين: أولهما، أن السلطة الشرعية الوحيدة المتاحة في المرحلة الانتقالية هي الشرعية الثورية التي أنتجت سلطة الرئيس الانتقالي بتعيينه في مؤتمر النصر المنعقد يوم 29 يناير/كانون الثاني 2025. وثانيهما، أن القوى الوطنية السورية تتفق في معظمها على استحالة إجراء انتخابات عادلة وشفافة ونزيهة خلال المرحلة الانتقالية الحالية.
وهنا، أصبحت الخيارات أمام اللجنة الدستورية منحصرة في أمرين: إما إبقاء المؤسسات الدستورية التابعة لنظام الأسد تمارس سلطاتها مؤقتا إلى جانب الرئيس الانتقالي، أو حلها بالكامل واستبدالها بأجسام مؤقتة، اعتمادا على صلاحيات الرئيس الانتقالي الذي يُعدّ السلطة الشرعية الوحيدة في الوقت الحالي. ولم تكن اللجنة بوارد أن تبقي برلمان البعث ولا مجلس قضائه ولا محكمته الدستورية العليا يديرون المرحلة الانتقالية.. هذا من الناحية الدستورية.
سياسيًا، يبدو أن اللجوء في المراحل الانتقالية إلى الممارسات الديمقراطية قد يشكل وصفة للتقسيم أو الفوضى، بحسب العديد من التجارب الدولية السابقة. فبعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي قُتل فيها أكثر من 800 ألف شخص خلال 100 يوم، واجهت البلاد حالة من الدمار المجتمعي والمؤسساتي الكامل. تولت الجبهة الوطنية الرواندية السلطة بقيادة بول كاغامي، وتبنى المجتمع الدولي نموذجًا لما يسمى "العدالة الانتقالية السريعة والديمقراطية التعددية".
سعى المجتمع الدولي إلى إعادة بناء رواندا بسرعة عبر انتخابات ومؤسسات ديمقراطية، دون معالجة عميقة للانقسام العرقي. ورغم الاستقرار الظاهري، أدت هذه المقاربة إلى ديمقراطية شكلية تحكمها الجبهة الوطنية بقوة، بينما قُمعت المعارضة وتهمشت المصالحة المجتمعية. فالإصلاحات الليبرالية السريعة عززت سلطة المنتصر، ولم تعالج جذور الصراع، مما أبقى التوترات قائمة تحت سطح نظام سياسي مستقر ظاهريًا.
بعد سقوط حكومة طالبان في أفغانستان عام 2001، سارعت القوى الدولية إلى إجراء انتخابات وكتابة دستور ليبرالي، في بيئة من الانهيار المؤسساتي وغياب الدولة. نُظمت انتخابات قبل بناء جهاز قضائي أو قوات أمن فعالة، ما أدى إلى سيطرة النخب الفاسدة وأمراء الحرب. فشلت الديمقراطية في تجذير نفسها، وانتهى المشروع بانهيار الحكومة وعودة حركة طالبان.
وفي أنغولا عام 1992، أُجريت انتخابات بسرعة بعد اتفاق السلام، لكن فوز أحد الأطراف فجّر الحرب الأهلية مجددًا، لأن الخاسرين لم يثقوا بالنظام ولا بعملية نقل السلطة. أما في البوسنة والهرسك ، فرغم توقيع اتفاق دايتون عام 1996، سارع المجتمع الدولي إلى إجراء انتخابات، فكرّست الانقسامات العرقية، وأدت إلى نظام طائفي معقّد يعيق الحكم الفعّال حتى اليوم.
في كتابه "عند نهاية الحرب.. كيف نُشيّد السلام بعد الصراعات الأهلية" (At War's End: Building Peace After Civil Conflict)، ينتقد الباحث الكندي رولاند باريس، ما يسميه "السلام الليبرالي المتسرّع". يُعرّف باريس، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أوتاوا وكبير مستشاري السياسات في مكتب رئيس الوزراء الكندي (2015 – 2016)، هذا النهج بأنه الدفع المبكر نحو الانتخابات واقتصاد السوق بعد الحروب، باعتبارهما طريقًا سريعًا إلى السلام. ويرى أن هذا التوجه، رغم نواياه الطيبة، يعرّض الدول الخارجة من النزاعات لخطر الانهيار أو تجدّد العنف.
في المجتمعات المنقسمة وذات المؤسسات الضعيفة، قد تؤدي الانتخابات المبكرة إلى تعميق الانقسامات، وتمكين النخب، وتأجيج التوترات الطائفية أو العرقية. فالمؤسسات الهشة لا تملك القدرة على إدارة التنافس السياسي السلمي، مما يجعل الانتقال الديمقراطي محفوفًا بالمخاطر، ويهدد بإعادة إنتاج النزاع بدل تجاوزه.
هذه المخاوف التي وثّقها رولاند باريس في تجارب متعددة؛ تنطبق بدرجة كبيرة على الحالة السورية. تُفسَّر ظروف سوريا الراهنة من خلال مفهوم "السيادة في حالة الاستثناء": دولة منهكة، ومؤسسات مدمرة، ومجتمع مشتت، وأطراف إقليمية ودولية متداخلة، تجعل من الانتقال السلس إلى دولة ديمقراطية أو مؤسسات مستقرة في الوقت الحالي مهمة شبه مستحيلة.
في هذا السياق، يمكن القول إن الشرع يمارس سلطته محاولا إعادةَ استقرار مركز القرار ومنع الفوضى وإدارة المرحلة الانتقالية بيد واحدة قوية، مؤقتًا على الأقل. تجربة دول مثل العراق بعد عام 2003، ولبنان بعد اتفاق الطائف ، تُظهر أن غياب مركز قرار قوي في مراحل الانتقال قد يؤدي إلى تفكك الدولة أو استمرار الصراعات.
لذلك، من منظور واقعي، فإن تمسّك الشرع بالسلطة وإدارة المرحلة بدون رقابة مؤسسية مكثفة قد يُعتبر خيارًا ضروريًا، وليس طموحًا استبداديًا فقط.
كما أن غياب الرقابة الرسمية في الحالة السورية لا يعني على الإطلاق غياب الرقابة الشعبية، فالنقد واسع الانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمقاهي والمجالس العامة والخاصة، حيث يتفاعل السوريون مباشرة مع قرارات السلطة ويراقبونها في واقع الحياة اليومية ويشكلون عامل ضغط أساسيا عليها. هذه الرقابة المجتمعية، وإن كانت غير رسمية، تشكل حدًا من التسلط الكامل، على الأقل في المرحلة الحالية.
نقد حالة الاستثناء
رغم كل ما سبق، فالمخاوف من إطلاق يد السلطة في الظروف الاستثنائية تبقى حقيقية وجدّية، ولا يمكن إغفالها. تتمثل هذه المخاوف في استخدام السلطة المطلقة لتكريس الحكم الفردي، وتهميش المؤسسات الرقابية والتشريعية، وتقويض استقلال القضاء. كما تظهر في إطالة أمد حالة الاستثناء، وفشل الانتقال إلى دولة القانون. التحدي، إذن، لا يكمن في وجود سلطة قوية خلال مرحلة استثنائية، بل في قدرة هذه السلطة على الخروج من الاستثناء والعودة إلى الشرعية.
على مستوى شخصيّ، كان مدخلي لفهم نظرية شميت عبر قراءة كتابه "اللاهوت السياسي" -الذي قد تدفع صعوبة ترجمته العربية إلى تعلم الألمانية- محاضرةً ألقتها الدكتورة هبة رؤوف عزت، حول كتاب "حالة الاستثناء" للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن (المنشور عام 2005).
فبينما يتفق أغامبن ضمنيًا مع شميت حول خطورة الاستثناء، يذهب إلى نقد حادٍ لكيفية استخدامه في العصر الحديث، محذرًا من تحوّل الطوارئ إلى نمط حكمٍ دائمٍ يقوّض أسس الشرعية القانونية والديمقراطية.
يرى أغامبن أن الاستثناء لم يعد ظرفًا استثنائيًا، بل أصبح القاعدة التي تُدار بها علاقة الدولة بالفرد، عبر أدوات مثل الرقابة وقوانين الطوارئ والاحتجاز الإداري، وهو ما يُخشى أن ينطبق على التجربة السورية.
كما يذهب ميشيل فوكو، إلى أن الأنظمة الحديثة تميل إلى توسيع مفهوم الطوارئ ليشمل المجال الحيوي اليومي، فتتحوّل الدولة إلى نظام تقني/إداري يتجاوز القانون نحو السيطرة والتحكم.
ويرى سلافوي جيجك، أن السلطة كثيرًا ما تتستر خلف "إيديولوجيا الضرورة" لتبرير تغوّلها. أما هانا أرندت، فحذرت من الرجل القوي الذي يقتل الفضاء العام، ويقوّض الحرية السياسية، بما يجعل الاستثناء مدخلًا للاستبداد وفقدان الشرعية.
مستقبل الديمقراطية في سوريا.. أسئلة مفتوحة
في الحقيقة، منذ اندلاع الثورة السورية وحتى يومنا هذا، لم تكن الديمقراطية مطلباً موحّدًا في الشارع السوري، بل كانت رؤية تتبناها النخبة السياسية المعارضة بمختلف مكوناتها. وحتى اليوم، لم يُطرح نقاش جدي بين مكونات الشعب حول شكل النظام السياسي وأدواته وآليات تشكّله.
فعلى سبيل المثال، لم تكن هيئة تحرير الشام، التي تُشكّل اليوم جزءاً كبيراً من السلطة السورية وعلى رأسها رئيس الجمهورية ذو الصلاحيات الانتقالية المطلقة؛ جزءا من أي حوار وطني سياسي قبل ديسمبر/كانون الأول 2024.
اليوم نحن أمام مرحلة تاريخية في سوريا، تؤسّس ليس فقط لمستقبل الدولة السورية في العقود القادمة، بل لمستقبل المنطقة أيضا، وربما لتغير تاريخي في دور الحركات الإسلامية والوطنية وغيرها في سوريا والعالم، ولظهور نموذج جديد لتحوّل حركات مسلحة ذاتِ طابع أيديولوجي إلى حركات سياسية تحمل رؤى حديثة ومشاريع وطنية عابرة للأيديولوجيا.
بين عامي 2012 و2013، شاركتُ مع فريق من الباحثين والخبراء السوريين في وضع خارطة للتحول السياسي داخل البلاد في حال سقوط النظام، مثّلت حينها رؤية المعارضة السياسية لمستقبل الدولة. أطلقنا عليها اسم "خطة التحول الديمقراطي في سوريا".
ناقشت هذه الخطة مختلف مسارات العملية الانتقالية: من تعليق الدستور والبرلمان إلى إصدار إعلان دستوري، مروراً بإصلاح قوانين الانتخابات والأحزاب، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وبناء جيش وطني، ووضع برنامج وطني للعدالة الانتقالية والسلم الأهلي، إلى جانب بناء نظام اقتصادي يحرّر السوق تدريجياً ويصلح القطاع العام الفاسد والمترهّل، وصولاً إلى تأسيس نظام سياسي برلماني يؤسّس لحياة سياسية تمثّل كافة أطياف المجتمع.
يبدو أن الإدارة السياسية الحالية تسير في الاتجاه ذاته الذي تصوّرناه قبل 12 عاماً، رغم أن عدد الضحايا واللاجئين، وحجم الدمار الذي طال المدن والبلدات ومؤسسات الدولة، قد تضاعف مرات عديدة. ولعل 12 عاماً من الحرب، استخدم فيها نظام الأسد الطيران الحربي والأسلحة الكيميائية المحرّمة دولياً، كافية لتبرير الفارق الأساسي بين خطة التحول الديمقراطي ومسار الرئيس الشرع، والذي يتمثل في غياب المشاركة السياسية لكافة الجماعات والأطياف.
بعد الحرب العالمية الثانية، اتفق المشرّعون الأميركيون على أن السلطة شبه المطلقة التي يمنحها الدستور للرئيس لا يمكن أن تبقى مفتوحة زمنيًا، بعدما تسببت الحرب -وهي بلا شك حالة استثنائية- في انتخاب الرئيس فرانكلين روزفلت لأربع فترات متتالية. وفي عام 1992، نشر فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" احتفالاً بانتصار الليبرالية الغربية على الشيوعية. وهي رؤية تراجع عنها لاحقاً، بعدما ثبت أن الغرب نفسه الذي انتصر في حربه الباردة؛ ما زال يعاني من التخبط بين رؤى سياسية واقتصادية متعدّدة ومتصارعة.
لعل "الإنسان الأخير" ليس أسير فكرة واحدة أو إطار جامد، وربما قُدّر له أن يكون مرناً، يميل تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار. وقد يكون الغرب قد توصّل، بتجربته الطويلة، إلى أن النظام الأفضل للسلطة هو ألا تكون مطلقة ولا محتكَرة، وأن يكون هناك دوماً مجال للتغيير، يتمثّل في انتخابات دورية، وبرلمان ممثّل، وقضاء نزيه مستقل يحمي حقوق المواطنين.
ولعل القرآن الكريم سبق الغرب إلى ذلك حين قال "ولولا دفعُ الله الناسَ بعضَهم ببعض لفسدتِ الأرض". فالتغيير والتدافع سنة إلهية تحفظ توازن الأرض، وتمنع استئثار طرف واحد بالقوة أو الهيمنة المطلقة.
أما ما لم يُذكر بعدُ في هذا المقال، فهو أن أكثر ما يثير الجدل والرفض لنظريات كارل شميت في السياسة، هو دعمه للحزب النازي بعد استئثاره بالسلطة في ثلاثينيات القرن الماضي. لكن ما يجب أن نعرفه، عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، أن الغرب يوافق فعليًا على نظرية شميت في حالة الاستثناء. ولا أدلّ على ذلك من تعامل الحكومات الغربية الصارم في مواجهة جائحة كورونا عام 2020، حين قُدّمت المصلحة العامة على القانون والأنظمة الرقابية التقليدية.
اليوم، يفتح العالم ذراعيه لسوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع، فالأوضاع الاستثنائية في البلاد تفرض حالة طوارئ حقيقية تبرّر -لفترة ما- تمسّك الشرع بالسلطة الواسعة، داخليا وخارجيا.
لكن السؤال المصيري يبقى: متى وكيف ستنتهي حالة الاستثناء؟ وهل ستكون هناك إرادة فعلية لتأسيس دولة القانون والمؤسسات، أم سنشهد استمرارية لنظام السلطة المطلق في ظل غياب الرقابة؟ وربما يكون السؤال الأهم: متى يحين الوقت المناسب لطرح الأسئلة السابقة على سلطة تسعى إلى الاستقرار والنهضة، بعد سنوات طويلة من الصراع والدمار الذي أصاب المجتمع والحواضر ومؤسسات الدولة؟
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
لا تسمحوا بأن يتم التلاعب بنا بالتخويف من الهجرة
من المؤسف أن نرى كيف تُستخدم قضية الهجرة في بولندا كأداة سياسية لتأجيج المشاعر السلبية والخوف، لا سيما من قبل الجماعات اليمينية المتطرفة والحركات القومية العنصرية، التي دعت إلى تنظيم مظاهرات في مختلف أنحاء البلاد يوم السبت. هذه الحركات لا تخفي أهدافها؛ فهي تحاول بناء رأسمال سياسي عبر زرع الكراهية والانقسام داخل المجتمع البولندي، وتقديم المهاجرين كعدو خارجي يشكل تهديدًا للثقافة والأمن. غير أن الواقع مختلف تمامًا، ويجب أن نكون صريحين في مواجهة هذه الدعاية المضللة التي لا تخدم إلا أهدافًا إقصائية وعنصرية. المهاجرون جزء من المجتمع، لا تهديد له ما يُسمّى بـ"خطر الهجرة" ليس إلا فقاعة إعلامية وسياسية تم تضخيمها عمدًا. يعيش في بولندا آلاف الأشخاص من جنسيات مختلفة، منهم من جاء من أوكرانيا، بيلاروسيا، جورجيا، الشيشان، سوريا، فلسطين، العراق، فيتنام، ودول أفريقية. هؤلاء ليسوا غرباء ولا دخلاء، بل أصبحوا جزءًا لا يتجزأ من النسيج المجتمعي: يعملون، يدرسون، يدفعون الضرائب، يربّون أبناءهم في المدارس البولندية، ويشاركون في الحياة العامة. الكثير منهم يحمل الجنسية البولندية، ويشعر بالانتماء الحقيقي لهذا البلد، ويؤمن بقيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. فكيف يمكن اعتبارهم تهديدًا؟ أليس ذلك تشويهًا متعمدًا للواقع؟ ملايين البولنديين هم أيضًا مهاجرون من الإنصاف أن نُذكّر بأن ملايين من أبناء وبنات بولندا هم أيضًا مهاجرون. يعيش البولنديون اليوم في ألمانيا، المملكة المتحدة، كندا، الولايات المتحدة، النرويج، وسويسرا، ويعملون هناك بشرف وكفاءة. بل إن الآلاف منهم يعيشون ويعملون في دول الخليج العربي مثل الإمارات العربية المتحدة، قطر، والسعودية، دون أن يواجهوا أي شكل من أشكال العنصرية أو التمييز. ولا ينبغي أن ننسى الماضي القريب، حين عمل الآلاف من البولنديين في العراق، ليبيا، سوريا، ومصر خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. لم يُنظر إليهم آنذاك كـ"خطر على المجتمع"، بل كانوا موضع ترحيب واحترام، وتقدير لكفاءاتهم ومهنيتهم. لا للكراهية تحت ستار الوطنية ورغم كل ذلك، نشهد اليوم في بولندا تنظيم احتجاجات ضد المهاجرين، حتى أولئك الذين يعيشون في البلاد منذ سنوات، ويحملون جنسيتها، ويشاركون في بنائها. يتم تصويرهم على أنهم خطر على الهوية البولندية، ويُستهدفون بسبب لون بشرتهم أو ديانتهم أو أصولهم العرقية. هذا ليس "خوفًا مشروعًا"، كما تدّعي هذه الحركات. بل هو كره صريح يرتدي عباءة "الوطنية" الزائفة. إنها قومية سامة وفاشية متسترة لا علاقة لها بحماية المجتمع، بل تهدف إلى تقسيمه. من واجبنا كمواطنين، وكأشخاص يؤمنون بالعدالة والكرامة الإنسانية، أن نرفض هذه الموجة الخطيرة من التحريض. لا يمكننا أن نظل صامتين أمام هذا التراجع المخيف في القيم الهجرة فرصة وليست أزمة المجتمعات الأوروبية، بما فيها بولندا، تتغير وتتطور. والهجرة ليست مشكلة يجب مكافحتها، بل ظاهرة اجتماعية واقتصادية يمكن أن تكون مصدرًا للقوة والتنوع والازدهار. وجود مهاجرين متعلمين ونشيطين يمكن أن يسدّ فجوات في سوق العمل، ويدعم الاقتصاد، ويُغني الثقافة الوطنية. لكن الحملات العنصرية والتحريض على الكراهية تهدد السلم الاجتماعي، وتقوّض أسس التعايش المشترك، وتعيدنا إلى عصور مظلمة من التعصب القومي التي خلّفت مآسي كثيرة في التاريخ الأوروبي. فلنقف جميعًا ضد العنصرية والفاشية من واجبنا كمواطنين، وكأشخاص يؤمنون بالعدالة والكرامة الإنسانية، أن نرفض هذه الموجة الخطيرة من التحريض. لا يمكننا أن نظل صامتين أمام هذا التراجع المخيف في القيم. علينا أن نرفع أصواتنا عالية، ونقول بوضوح: لا للعنصرية. لا للفاشية. لا لاستخدام الوطنية كغطاء للتمييز والكراهية. نعم للتضامن والتسامح. نعم للتعايش والاحترام المتبادل. مستقبل بولندا لا يُبنى على الإقصاء والخوف، بل على الاحترام والتعددية والعدالة. كل من يعيش في هذا البلد، ويحترم قوانينه، ويساهم في تطوره، يجب أن يُعامل بكرامة وإنصاف دعوة للمشاركة في المظاهرات السلمية ردًا على الدعوات العنصرية التي تطلقها جهات يمينية متطرفة، أعلنت منظمات المجتمع المدني، والحركات المناهضة للتمييز، وشخصيات عامة من مختلف الخلفيات، عن تنظيم مظاهرات سلمية مضادة في المدن البولندية يوم السبت. الهدف من هذه المظاهرات هو الدفاع عن القيم الإنسانية، ورفض خطاب الكراهية، والتأكيد أن بولندا يجب أن تبقى بلدًا مفتوحًا، ديمقراطيًا، يحترم حقوق الإنسان. بولندا لكل من يساهم في بنائها إن مستقبل بولندا لا يُبنى على الإقصاء والخوف، بل على الاحترام والتعددية والعدالة. كل من يعيش في هذا البلد، ويحترم قوانينه، ويساهم في تطوره، يجب أن يُعامل بكرامة وإنصاف، بغض النظر عن خلفيته أو أصله أو معتقده. فلنقف صفًا واحدًا ضد العنصرية، ولندافع عن قيم الحرية والمساواة التي تشكّل الأساس الحقيقي لأي مجتمع متقدم. بولندا للجميع. لا للفاشية، لا للكراهية.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
مظاهرة في لندن للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين
خرجت مظاهرات في بريطانيا للتنديد بالحرب وتداعياتها، إذ قال تحالف المنظمات البريطانية المناصرة لفلسطين إن أكثر من 80 ألف بريطاني شاركوا في مسيرة وطنية في لندن. وخرج المتظاهرون للتعبير عن غضبهم من استمرار الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة. وطالبوا بوقف توريد السلاح لإسرائيل وفرض عقوبات على قادتها المسؤولين الإسرائيليين المحرضين على التهجير القسري والتطهير العرقي للفلسطينيين. وفي هذه الأثناء، اعتقلت الشرطة البريطانية 50 ناشطا بموجب قانون مكافحة الإرهاب. تقرير: مينة حربلو


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
لغز الإمبراطورية البريطانية.. الإمبريالية مظهر للتأزم لا للقوة
شهد عام 2016 تصويت أغلب البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وانقطاع الأواصر بأوروبا، فيما سمى "بريكست" (Brexit)، أو "الخروج البريطاني" من أوروبا. وكانت لحظة تاريخية كاشفة للخريطة الإدراكية الجمعية والوجدان المشترك، خاصة لدى الأغلبية التي أقرّت "الخروج" وما نجم عنه من عواقب غير حميدة بالضرورة. فرغم عقود من نحول الإمبراطورية البريطانية، وتراجع مكانتها دوليا، وتآكل قوتها العسكرية، واستقلال مستعمراتها السابقة، وإفلاسها وعجز مواردها عن تغطية متطلبات مشروعها الإمبريالي، لا يزال الوجدان البريطاني مسكونا بـ"أمجاد" إمبراطورية لم تكن تغيب الشمس عن أملاكها، ومتعلقا بطقوس "الانتصارية" و"الاستعلائية" و"الاستثنائية" الإمبراطورية والفوقية الأنكلوسكسونية والحنين إلى رومانسية الماضي الاستعماري. وهي أعراض يعتقد المفكر وعالم النفس الأيرلندي، ديلان إيفانز، أن البحث التاريخي قد وضع حدا لها. والحقيقة أن تقاليد البحث الأكاديمي البريطانية لا تزال قادرة على سبر أغوار هذه التجربة الإمبراطورية ومشروعها الإمبريالي واجتراح رؤى ونظريات تفكك وتفسر المسارات التي اتخذها هذا المشروع خلال قرون صعوده وانحداره. بالنسبة لبريطانيا، كانت الإمبريالية -كما يُفهم المصطلح عموما- عَرَضا ونتيجة للانحدار وليس للقوة والحقيقة أن البحث التاريخي لم يتوانَ، وبشكل مبكر نسبيا، عن تبديد تلك الأوهام بلا هوادة وعلى نحو صارم لا يجامل. ففي كتابه "حصة الأسد" (1975)، قدّم المؤرخ والأكاديمي البريطاني برنارد بورتر طرحا لافتا: "بالنسبة لبريطانيا، كانت الإمبريالية -كما يُفهم المصطلح عموما- عَرَضا ونتيجة للانحدار وليس للقوة". كان هذا تحديا مباشرا للرأي السائد، القائل إن التوسع الإمبراطوري لبريطانيا في القرنين الـ19 والـ20 انعكاسا لقوة قومية هائلة، ودينامية، وثقة بالنفس. إعلان وبحسب إيفانز، تتجلى تلك النظرة الأقدم والأكثر رومانسية للإمبراطورية، مثلا، في "ثلاثية الإمبراطورية" للمؤرخة الويلزية جان موريس، رغم أن نهجها أكثر دقة من "الانتصارية" الصريحة أو الاعتذاريات الإمبراطورية لكُتّاب سابقين مثل جيه. ر. سيلي، وتشارلز ديليك، وروديارد كِبلنغ، وجورج كِرزُن. والمؤكد أن موريس تقف في تقليد الكتابة الإمبراطورية الذي احتفى بـ"المهمة الحضارية" لبريطانيا وقوتها العسكرية، وغالبا ما يكون سردها متعاطفا ونوستالجيا ومعجبا بالمشروع الإمبراطوري، لكنها ليست مجرد مدافع أو مشجع، فهي تحتل مكانة مهمة في تطور الكتابة الإمبراطورية البريطانية، خاصة لدى مؤرخين مثل بورتر. وتنتهي ثلاثيتها بملاحظة واضحة من الحزن والفقد، ويُنظر إليها أحيانا كمرثية لما بعد الإمبراطورية، بدلا من مجرد احتفال. دوافع المشروع الإمبريالي تحدى برنارد بورتر السردية الانتصارية بتناول مشروع الإمبراطورية كمشكلة وعبء وليست مغامرة مجيدة. وجادل بورتر أنه بحلول أواخر القرن الـ19، كان موقف بريطانيا العالمي تحت ضغط القوى الصاعدة: ألمانيا والولايات المتحدة واليابان، وتحديث صناعي لمنافسين أوروبيين، وتكلفة باهظة وتعقيد استمرار الالتزامات العالمية. كانت "الإمبريالية الجديدة" (1870-1914) -اندفاعا نحو أفريقيا والشرق الأوسط وبعض آسيا- ردود فعل، وكانت دفاعية أو استباقية غالبا، وأحيانا يائسة، وليس تأكيدا واثقا للقوة. وأصبحت الإمبراطورية، بالنسبة لبريطانيا، تعويضا عن تراجع القدرة التنافسية الصناعية، ومصدرا للمكانة والهوية الوطنية مع تراجع تفوقها الاقتصادي والعسكري. تزايد إنهاك بريطانيا وأعبائها، مع تمسكها بالمشروع الإمبريالي، ليس من منطلق قوة، بل خوفا من التراجع، لحماية الأسواق، وتأمين الموارد، والدفاع عن الطرق الإستراتيجية، خاصة إلى الهند. كانت "الإمبريالية الجديدة" (1870-1914) -اندفاعا نحو أفريقيا والشرق الأوسط وبعض آسيا- ردود فعل، وكانت دفاعية أو استباقية غالبا، وأحيانا يائسة، وليس تأكيدا واثقا للقوة. وأصبحت الإمبراطورية، بالنسبة لبريطانيا، تعويضا عن تراجع القدرة التنافسية الصناعية، ومصدرا للمكانة والهوية الوطنية مع تراجع تفوقها الاقتصادي والعسكري. ويلاحظ إيفانز تناقض أطروحة بورتر مع تفسيرات أسبق (رونالد روبنسون وجون غالاغر، وسرديات ماركسية) اعتبرت الإمبريالية البريطانية تمددا للقوة الرأسمالية أو السيطرة الجيوسياسية من موقع هيمنة. واشتهر روبنسون وغالاغر بمقالهما الرائد بعنوان "إمبريالية التجارة الحرة" (1953) (مجلة مراجعة التاريخ الاقتصادي) وكتابهما الصادر عام 1961 (بالاشتراك مع أليس ديني) بعنوان "أفريقيا والفيكتوريون: العقل الرسمي للإمبريالية"، وكلاهما ركز على السياسة العليا والتفكير الرسمي، وافترضا تماسك الهدف الإمبريالي ومركزيته بالمجتمع البريطاني. بخلاف ذلك، شكك بورتر بشدة في عقلانية وفائدة الإمبريالية اقتصاديًا لبريطانيا ككل؛ وشدّد على تناقضها وتكاليفها وأعبائها. وعندما أعدّ بورتر كتابه "حصة الأسد" لطبعته الثالثة (1995)، سجّل أن مناقشة الإمبريالية البريطانية "تطورت بشكل ملحوظ" منذ نشر الطبعة الأولى. الأهم، أنه أشاد بنظرية إيه جي هوبكنز عن الإمبريالية الرأسمالية "الجنتلمانية" بتقديمها "مفتاحا واعدا لتناقضات عديدة تسبب انهيار التحليلات الأكثر تبسيطا". الإمبريالية الرأسمالية "الجنتلمانية" طور هوبكنز نظرية الرأسمالية الجنتلمانية بالاشتراك مع بيتر كين في عدة أعمال، أبرزها كتاب "الإمبريالية البريطانية، 1688-2000" (1993). وأعادت نظريتهما تأطير التوسع الإمبراطوري البريطاني، أساسا، ليس كنتيجة لمصالح صناعية أو تصنيعية، ولا لضرورات جيوسياسية وعسكرية، ولا "لمهام تحضرية" قومية أو إنسانية، بل كان مدفوعا بمصالح اقتصادية واجتماعية لنخبة مالية وخدمية متمركزة بلندن، أطلقا عليها اسم "الرأسماليين الجنتلمان". ولم يكن الرأسماليون "الجنتلمان" صناعيين من مانشستر أو برمنغهام، بل مصرفيين وممولين وتجارا وشركات تأمين وملاك أراضٍ مقيمين بلندن. وكانوا متجذرين بعمق في الحياة الاجتماعية لمدينة لندن، مرتبطين بالطبقة الأرستقراطية بالزواج، ونمط المعيشة، والتعليم (المدارس الخاصة وجامعتي أكسفورد وكامبريدج)، والقيم الثقافية. وكان لهم نفوذ هائل في الدولة البريطانية، خاصة وزارة الخزانة ووزارة الخارجية وبنك إنجلترا (المركزي). وجادل هوبكنز وكين بأن التوسع الإمبراطوري البريطاني منذ أواخر القرن الـ17 فصاعدا، وقبل الثورة الصناعية بكثير، يُفهم جيدا كخادم لمصالح رأسمالية "الجنتلمان"، خاصة تأمين الأسواق الخارجية والاستثمارات والاستقرار المالي. وقد تحدى هذا الطرح توجهات سابقة اعتبرت الإمبريالية بأغلبها صناعية أو عسكرية أو أيديولوجية بحتة. ويعتقد إيفانز أنه عندما رأى بورتر في هذه الأطروحة "مفتاحا واعدا امتلكناه بعد عقود"، كان يُسلط الضوء على كيفية حل هوبكنز وكين عدة مشكلات قديمة في التأريخ الإمبراطوري. فقبل ذلك، شددت النظريات الماركسية والماركسية الجديدة (مثل لينين وجيه إيه هوبسون) على الدوافع الاقتصادية، لكنها ركزت بإفراط على رأس المال الصناعي أو فائض رأس المال الباحث عن أسواق التصدير. كذلك، غالبا ما ركز مؤرخون غير ماركسيين على الدوافع الثقافية أو السياسية أو الإستراتيجية- القومية، والأيديولوجيات العرقية، ومهام التحضر. وقد قدم هوبكنز وكين توليفا جوهره: محورية الدوافع الاقتصادية، لكن الفواعل الرئيسة لم تكن الصناعيين، بل نخبا خدمية ومالية، تشابكت مصالحها مع شبكات اجتماعية وسياسية نخبوية. في حين واجهت النظريات الصناعية صعوبة تفسير أن بناء الإمبراطورية البريطانية سبق التصنيع، فإن رأسمالية الجنتلمان، بجذورها في ملكية الأراضي والتمويل والتجارة الخارجية، قدمت تفسيرا طويل الأمد يمتد إلى القرنين الـ17 والـ18، مما أتاح تفسير حدوث التوسع الإمبراطوري ليس فقط أثناء الثورة الصناعية، بل قبلها وبعدها أيضا. وأظهر هوبكنز وكين أن الرأسماليين "الجنتلمان" كانوا بوضع جيد للتأثير على الدولة، وهو غالبا أمر قللت أهميته التحليلات الاقتصادية أو الطبقية السابقة. وساعد هذا في تفسير سبب سعي بريطانيا لمشروعات إمبريالية مكلفة أو هامشية لا معنى لها من منظور صناعي أو عسكري. كما أبرز نموذجهما هيمنة لندن على المقاطعات، مما أتاح تفسير سبب خدمة الإمبراطورية أحيانا كثيرة لمصالح المدن الكبرى (المتمركزة حول لندن) بدلا من مصالح المستعمِرين أو المستوطنين. لماذا مصطلح "الجنتلمان"؟ بالنسبة لإيفانز، يُبرز مصطلح "الجنتلمان" أن هذه الطبقة الرأسمالية لم تكن مدفوعة بالربح فحسب، بل كانت مكانتها الاجتماعية وهويتها الثقافية وارتباطها بقيم الأرستقراطية مهمة أيضا. فلم يكن دافعهم المال فحسب، بل الحفاظ على نمط حياة "الجنتلمان" (الإنجليزي) والنظام الاجتماعي المصاحب له، وقد خدمت الإمبراطورية هذه الاحتياجات. وتفسر فرضية رأسمالية الجنتلمان رؤية بورتر للإمبريالية البريطانية كأحد أعراض التراجع. وكانت نخب لندن المالية (رأسمالية الجنتلمان)، أواخر القرن الـ19، تتمتع بنفوذ هائل، لكن الاقتصاد العالمي كان يتغير. وواجهت المناطق الصناعية البريطانية (ميدلاندز والشمال) منافسة شديدة ألمانية وأميركية ولاحقا يابانية. أصبحت استدامة هيمنة لندن المالية عالميا أصعب، وتفاقمت مخاطر الاستثمارات الخارجية وتشابكها سياسيا. هناك اختلافات في التركيز. يُسلط هوبكنز وكين الضوء على الاستمرارية المديدة لهيمنة طبقة "الجنتلمان"، بين القرنين الـ17 والـ20. وبينما يركز بورتر بشدة على أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 كفترة تأزّم وتراجع، يُبرز هوبكنز وكين الديناميات الهيكلية والطبقية وراء الإمبريالية، ويُولي بورتر أهمية أكبر للانحدار القومي، والمنافسة الدولية، والاضطرابات الثقافية. لذا، بينما تتداخل حججهما، يُبرز بورتر اهتماما أكبر لمناخ الإمبريالية ومعناها بالفترة المتأخرة كنشاط تعويضي قَلِق، بينما يُقدم هوبكنز وكين تفسيرا أوسع لسعي النخب البريطانية المُستمر نحو الإمبراطورية بالمقام الأول. ومع ذلك، فإن النقطة الأوسع -وهي أن التوسع الإمبريالي يعكس غالبا محاولات لدعم المصالح المالية الهشة والحفاظ على النفوذ السياسي والاجتماعي لنخبة "الجنتلمان"- تظل رابطا مهما بين سرد بورتر وأطروحة هوبكنز وكين. العرق والجنس والطبقة والثقافة كان ما بعد أطروحة هوبكنز وكين عن رأسمالية "الجنتلمان"، كما طبقها وانتقدها ونقحها مؤرخون لاحقون، مثيرا للاهتمام بقدر النظرية نفسها. فقد استخدم مؤرخون في تسعينيات القرن الـ20 وأوائل القرن الـ21 هذا الإطار للنظر في الإمبريالية بمناطق وأزمان مُحددة. فطبّقوا هذا النموذج لفهم أسباب انخراط بريطانيا في مشاريع إمبريالية باهظة التكلفة بفترة الإمبريالية الجديدة، كما في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، مستنتجين غالبا أن الأمر لم يتعلق بالتوسع الصناعي بقدر ما كان يتعلق بالمصالح المالية (تأمين مصالح حاملي السندات والمستثمرين وطرق التجارة). كما سلّطوا الضوء على دور لندن كمركز مالي عالمي يُشكّل أولويات الإمبريالية، مُبيّنين أن الاستثمارات البريطانية بالخارج -في السكك الحديد والمناجم والمزارع والديون- غالبا ما كانت تُجبر الحكومة على الالتزام بالإمبريالية. وظهرت أيضا انتقادات مهمة. فقد جادل البعض بأن النظرية همّشت أهمية الجهات الاستعمارية الفاعلة (مستوطنين ومبشرين ومتعاونين محليين)، ونخب صناعية إقليمية في ليفربول ومانشستر وغلاسكو، وتأثير الأطراف على المدن الكبرى (وهو موضوع أبرزته نظرية "التاريخ الإمبراطوري الجديد"). وأكد مؤرخون مثل جون داروين وأندرو طومسون على وجود علاقات متبادلة بين المدن الكبرى والإمبراطورية، مشيرين إلى أن الديناميات المحلية والاستعمارية شكلت السياسة البريطانية بقدر ما شكلها الممولون بلندن. وجادل آخرون بأن نظرية رأسمالية الجنتلمان قللت أهمية الدوافع الإستراتيجية والجيوسياسية (الدفاع عن الهند، ومواجهة فرنسا أو روسيا)، والقوى الثقافية والعرقية والأيديولوجية، كدور الدين أو القومية أو الهرمية العرقية. فمثلا، أكد مؤرخو الاستعمار الاستيطاني، مثل جيمس بيليش، على توسع قاده المستوطنون بكندا وأستراليا ونيوزيلندا، حيث كان للممولين بلندن دور مباشر محدود. والأهم، أن باحثين مثل كاثرين هول، وأنطوانيت بيرتون، ومريناليني سينها تجاوزوا الأطر الاقتصادية لاستكشاف أدوار العرق والجنس والطبقة والثقافة في تشكيل الإمبراطورية، ورأوا أحيانا أن رأسمالية "الجنتلمان" مجرد "تاريخ إمبراطوري قديم جدا"، يركز على السياسة العليا والمالية. واليوم، يضع المؤرخون غالبا الإمبريالية البريطانية في سياق عالمي من الإمبراطوريات المتنافسة والرأسمالية العالمية، ودمجوا رؤى هوبكنز وكين مع مناهج التاريخ العالمي. فمثلا، في كتابه المؤثر "مشروع الإمبراطورية" (2009)، يستخدم داروين جوانب من رأسمالية الجنتلمان لكنه يجمعها بالعوامل الجيوسياسية والثقافية والعسكرية لتقديم صورة أكثر تركيبا. بلاد الإمبراطورية: "إمبايرلاند" وكبورتر، كتب ساثنام سانغيرا أيضا عن تأثير الإمبراطورية البريطانية على بريطانيا (بدل التركيز على عمليات ومظاهر القوة البريطانية ببقية العالم). ففي كتابه "إمبايرلاند: كيف شكّلت الإمبريالية بريطانيا الحديثة" (2021)، بحث سانغيرا في كيفية تجذّر كثير من سمات بريطانيا الحديثة، بما في ذلك سمات "استثنائية" ألهمت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وطريقة استجابتها لأزمة (كوفيد-19)، في ماضيها الإمبراطوري. ومع ذلك، ينتمي بورتر وسانغيرا لعصرين وجمهورين وميول فكرية مختلفة، ويتناولان الموضوع بطرق مختلفة تماما. بورتر مؤرخ محترف، ونهجه تحليلي، حيادي ونقدي، مُؤطّر ضمن تقاليد التأريخ الإمبراطوري البريطاني. ويهتمّ بنخب السياسة، والخطاب العام، والعقليات الرسمية، ويعتمد عمله أساسا على مصادر أرشيفية وسياسية. أما سانغيرا، فهو صحفي وكاتب مذكرات، وليس مؤرخا أكاديميا. كتابه موجه نحو جمهور عام وشعبي. يجمع التأملات التاريخية، بالتجربة الشخصية والعائلية (كونه ابنا بريطاني المولد لمهاجرين من سيخ البنجاب)، وتحليلات إعلامية، وتعليقات ثقافية. ويُركز سانغيرا على كيفية استمرار الإمبراطورية في بريطانيا اليوم، وتشكّل المواقف تجاه العرق والهجرة والطبقية والقومية و"البريكست". ويُولي اهتماما بالغا للذاكرة العامة، والنسيان الثقافي، وإرث الإمبراطورية المستمر في الحياة اليومية. ويلاحظ إيفانز أنه بينما يُبدي بورتر تهكما وتشككا وسخرية غالبا، يُقدم سانغيرا رؤيته الشخصية، والعاجلة، وأحيانا الجدلية. ويستهدف فرض محاسبة عامة على إرث الإمبراطورية والعنصرية، لا سيما بعد "البريكست"، وحركة "حياة السود مهمة"، وفضيحة ويندرَش (التي كشفت عام 2018 سوء معاملة وزارة الداخلية لمواطنين بريطانيين، وصلوا بريطانيا من دول الكومنولث بين 1948 و1973، فواجهوا صعوبات في إثبات حقهم في الإقامة بسبب تغيير قوانين الهجرة وتقصير وزارة الداخلية في الاحتفاظ بسجلات سليمة، فاحتُجزوا ظلما، وحُرموا حقوقهم، وهُددوا بالترحيل أو رُحِّلوا ظلما). فسانغيرا يكتب لجمهور بريطاني عام، لم يُفكّر أكثره في تأثير الإمبراطورية على حياته. وفي حين يُظهر بورتر كيف شكّلت الإمبراطورية مؤسسات بريطانيا ومكانتها الدولية، يُظهر سانغيرا رسوخ الإمبراطورية في النسيج الاجتماعي البريطاني والمواقف اليومية. ويُجادل كلاهما، بطرق مختلفة، أنه لا يُمكن فهم بريطانيا الحديثة دون محاسبة الإمبراطورية، لكنهما يُوجّهان القرّاء لمستويات مختلفة من المحاسبة! المفارقة أن هذا المجال البحثي المركب جدا كان موضوع المسلسل التلفزيوني الشهير "تابوه"، الذي تناول بجرأة "تابوهات" الإمبراطورية وأساطيرها ومشروعها الإمبريالي. وسنفرد له حلقة أخرى.