
من مجلس المشورة إلى شيوخ الأمة.. قرنان يصوغ فيهما المصريون تجربتهم النيابية
فمجلس الشيوخ، الذي تبدأ انتخاباته في الداخل غدًا الإثنين ولمدة يومين، لا يمثل مجرد غرفة برلمانية، بل يُجسد تطورًا متدرجًا للمشاركة الشعبية من عصر محمد علي إلى يومنا هذا، ليُعيد للأذهان سؤالًا قديمًا متجددًا: كيف تشكلت الإرادة النيابية في مصر، وكيف تغيرت عبر العصور؟
أقدم مؤسسة تشريعية عربية.. النشأة الأولى 1824
تُعد مصر صاحبة أقدم تجربة برلمانية في العالم العربي، حيث بدأت خطوات التأسيس الأولى مع المجلس العالي عام 1824، في عهد محمد علي، وكان يتكون من 24 عضوًا، ثم ارتفع العدد إلى 48 بعد إضافة علماء وشيوخ. وفي يناير 1825، صَدرت اللائحة الأساسية التي حددت اختصاصات المجلس في مناقشة مقترحات الوالي المتعلقة بالسياسة الداخلية، مع تنظيم انعقاده.
لاحقًا، أنشأ محمد علي مجلس المشورة عام 1829، كنواة لنظام الشورى المصري، بعضويّة بلغت 156 شخصًا، يمثلون كبار الموظفين ومأموري الأقاليم والأعيان، ويجتمع المجلس سنويًا.
أول برلمان نيابي حقيقي.. شورى النواب 1866
في عام 1866، أطلق الخديوي إسماعيل أول تجربة نيابية تمثيلية حقيقية باسم مجلس شورى النواب، بعضوية 75 عضوًا منتخبين لمدة ثلاث سنوات. مثّل هذا المجلس نقطة تحول؛ فقد بدأ محدود الاختصاصات، لكنه بمرور الوقت اكتسب صلاحيات أكبر، حتى اعتمد مبدأ مسؤولية الحكومة أمام المجلس عام 1879، في تأكيد على تطور الحياة النيابية آنذاك.
تطور تشريعي متسارع.. من شورى القوانين إلى الجمعية التشريعية
في عهد الخديوي توفيق، أُنشئ مجلس شورى القوانين عام 1883، بمزيج من التعيين والانتخاب، وبلغ عدد أعضائه 30، وكانت له صلاحية طلب مشروعات القوانين من الحكومة.
وفي عام 1913، ظهرت الجمعية التشريعية، التي تكونت من 82 عضوًا، وكانت مشاركتها شرطًا دستوريًا قبل إصدار أي قانون، وإن لم تكن ملزمة للدولة في الأخذ برأيها. ولكن الحرب العالمية الأولى أدت إلى حل الجمعية عام 1923.
نقلة دستورية.. دستور 1923 ونظام المجلسين
شهد عام 1923 صدور أول دستور بعد إعلان الاستقلال الشكلي عن بريطانيا، وقد تبنّى نظام المجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، حيث كان ثلثا الشيوخ منتخبين، والثلث معيّنين. ومنح الدستور صلاحيات متساوية لكلا المجلسين، باستثناء بعض الملفات الخاصة.
ثورة يوليو 1952.. توقف الحياة البرلمانية الثنائية
مع قيام ثورة 23 يوليو 1952، تم إلغاء المجلسين، وأُنشئ مجلس الأمة عام 1957، بعضوية 350 نائبًا، ليعمل في إطار نظام سياسي جديد يهيمن عليه التيار الثوري بقيادة جمال عبد الناصر.
عودة الحياة الثنائية.. مجلس الشورى 1980
في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، أُجري استفتاء شعبي عام 1980 أسفر عن إنشاء مجلس الشورى، وتعديل الدستور لإضافة باب كامل خاص به. وبدأ المجلس أولى جلساته في نوفمبر من نفس العام، ليمثل الغرفة الثانية للعمل التشريعي، ويُعنى بقضايا أوسع نطاقًا من الرقابة المباشرة، مثل الحوار الوطني والتوازنات السياسية.
حل المجلس وعودته
مع ثورة 25 يناير 2011، تم حل مجلسي الشعب والشورى، وجرى انتخاب برلمان جديد عام 2012. إلا أن المشهد لم يستقر، حيث جاءت ثورة 30 يونيو 2013 لتُنهي مرحلة جديدة، ويصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور قرارًا بحل مجلس الشورى، وإلغاء الغرفة الثانية نهائيًا أثناء صياغة دستور 2014.
لكن في يوليو 2020، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قانون تنظيم مجلس الشيوخ، لتعود الغرفة الثانية إلى الحياة النيابية مجددًا، استنادًا إلى تعديلات دستورية أقرتها البلاد عام 2019، لتبدأ دورة جديدة من العمل البرلماني الموازي.
واتخذ مجلس الشيوخ مقره التاريخي في شارع القصر العيني بوسط القاهرة، داخل أحد القصور التي شُيّدت عام 1866 في عهد الخديوي إسماعيل، والذي كان في السابق مقرًا لمجلس الشيوخ بموجب دستور 1923.
مجلس الشيوخ الحالي.. التكوين والصلاحيات
عدد الأعضاء: 300 عضو
مدة العضوية: 5 سنوات
تمثيل المرأة: لا يقل عن 10% من المقاعد
تركيبة القوائم: كل قائمة تضم 15 مقعدًا يجب أن تشمل 3 نساء على الأقل، والقائمة التي تضم 35 مقعدًا يجب أن تشمل 7 نساء على الأقل.
اختصاصات مجلس الشيوخ:
إبداء الرأي في التعديلات الدستورية.
مناقشة مشروع الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إبداء الرأي في معاهدات الصلح والسيادة والتحالف.
مراجعة مشروعات القوانين المحالة من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب.
مناقشة الموضوعات المحالة إليه من رئيس الجمهورية، خاصة ما يتعلق بالشؤون العامة والعلاقات الخارجية.
شروط الترشح لعضوية مجلس الشيوخ:
الجنسية المصرية الكاملة.
التمتع بالحقوق المدنية والسياسية.
القيد بقاعدة بيانات الناخبين.
ألا يقل السن عن 35 سنة.
الحصول على مؤهل جامعي أو ما يعادله.
أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها قانونًا.
ألا تكون قد أُسقطت عضويته سابقًا إلا إذا زال السبب قانونًا.
من مجلس المشورة إلى مجلس الشيوخ الحالي، تمتدّ المسيرة النيابية في مصر على مدى قرنين من الزمن، حملت خلالها السلطة التشريعية وجوهًا متعددة، من المجالس الاستشارية إلى البرلمانات التمثيلية، ومن نظام الغرفة الواحدة إلى النظام الثنائي.
واليوم، يعود مجلس الشيوخ ليسد فجوة في بنية الدولة المؤسسية، ويُعزز آليات الديمقراطية التشاركية، في مرحلة دقيقة من تاريخ مصر الحديث، حيث تتقاطع الرغبة في الاستقرار مع الطموح في التحديث.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة النبأ
منذ 2 أيام
- شبكة النبأ
فلسفة القوة وطبائع الاستبداد: العراق أولاً
ان يكون المفاوض العراقي قادرا على فهم سياسات الرئيس ترامب، والتعامل الجاد مع تهديداته وتقديم البدائل الأفضل لحماية أبناء العراق حتى وان كانوا ضد فكرة العراق أولا وهذا يتطلب حنكة ومثابرة ودراية متفوقة على نزعة الاستبداد والمصالح الانية لاسيما الانتخابية، وهذا يتوجب ان تبلور تسوية كبرى... فهم كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لمؤلفه عبد الرحمن الكواكبي المولود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، غايات الاستعمار في فترة عانت الأمة العربية والاسلامية فيها الكثير من الضعف والهوان، الذي نزل بجيوشه، يغتصب ثروات الامة، ويستنزف مواردها وقد شخص الكواكبي في كتابه سبب هذا الداء في الاستبداد السياسي، بأنواعه الكثيرة، ومنها استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل. في المقابل كان الفكر الغربي يتعامل مع مخرجات الاستعمار وتلك الثروات المطلوبة بأقل الاثمان لتدوير عجلة الاقتصاد في دولها، معضلة المقاربة في "فلسفة القوة" ما بين الفكر الغربي ونموذج الفكر التحرري عند الكواكبي، ان الاستعمار الذي أسس دولا مما كان يوصف بممتلكات الرجل العثماني المريض، وان طبقت نماذج الحكم بمجالس نيابية، لكنها لم تتفق على عقد اجتماعي دستوري الا بما يتفق مع المصالح الاستعمارية التي جاءت بها في المرحلة الأولى اتفاقية سايكس - بيكو لتقسيم هذه المنطقة كميراث للدول الفائزة في الحرب العالمية الأولى، وما لحقها من اتفاقيات لتنظيم هذا التقاسم وصولا الى ما بعد الحرب العالمية الثانية وظهور القوة الامريكية الامبريالية في نموذج الشركات متعددة الجنسيات ثم الحرب البادرة وما فيها وصولا الى استعادة ذات الميراث لاتفاق سايكس - بيكو بعنوان "الاتفاقات الابراهيمية" في مشروع صهيوني للشرق الأوسط الجديد. والسؤال ما نحن فاعلون؟؟ هكذا يجد العراق ذاته في عين العاصفة، ما بين طبائع الاستبداد التي خلقت نظام المكونات لعوائل الأحزاب من الإباء المؤسسين لعراق ما بعد 2003 وبين متطلبات الرفض او الانسجام مع متطلبات الشرق الأوسط الجديد بقيادة صهيونية!! الإجابة الواقعية، لم يتحرر العقل العربي والإسلامي من طوطمية العقائد الدنيوية والابتعاد عن الخالق عز وجل، فما زالت ذات العلاقة الثلاثية ما بين سلطان جائر وشريحة منتفعة من التجار والاقطاعيين ورجال دين يشرعنون السلطة، تمثل السمات الغالبة على الثقافة العربية والإسلامية، وان تعددت النماذج وتكاثرت الأنماط، الا ان تحرير العقل الذي يعد مناط التكليف في حرية الانسان امام خالقه وذاته والعمل على بلورة عقد اجتماعي جمعي، لم تظهر في أي دولة من تلك الدول التي تشتت من انهيار معطف الإمبراطورية العثمانية، ومنعت الدول الاستعمارية ثم الامبريالية الصهيونية أي تحالفات إقليمية حتى على مستوى الجامعة العربية بل واجهت هزائم منكرة في حزيران 1967، وما لحقها من تشتيت العزائم في حرب إقليمية وصولا لتفتيت القدرات العربية والإسلامية، وصولا الى النموذج الجديد للإدارة الامريكية في رئاسة ترامب الثانية وما تحمله من أنماط تطبيقية لمشروع الشرق الأوسط الجديد؟ واي مقارنة بين العراق والسعودية على سبيل المثال التي وظفت "الثورة العربية" لصالح الإنكليز وتأسيس دولتهم الثانية وهي اليوم تؤسس للدولة الثالثة في مشروع" نيونيم" ورؤية السعودية 2030 بما يجعلها على مصاف التطور المعرفي الأوربي، فإنها غادرت ثقافة الابل والرعاة الى حفلات الترفيه العصرية ما بعد عصر النفط بانتظار حداثة المشروع الصهيوني للشرق الأوسط. فيما يواجه العراق استحقاقات وقوعه في منعطفات طرق حضارية، تحده تركيا من الشمال وما تحمله من تحديات المياه وطرق تصدير النفط، ومن الشرق ايران بكل ما تحمله من تحديات مشروعها لنظام "ولاية الفقيه" التي تؤمن به الحاكمية الشيعية من الأحزاب العراقية، مقابل طموحات الجنوب العربي بان ينسجم العراق مع المشروع المستقبلي، وان لا يكرر - الأخطاء - طيلة قرن مضى وهو يكابر في الاعتراض ضد الاستعمار ثم الامبريالية الصهيونية التي عملت على تشتيت وتفتيت القدرات العراقية في حروب شتى، اذا ما كان فعلا يرفع شعار "العراق أولا "!! في هذا المنظور، يتعامل مبعوثي الرئيس الأمريكي، في قضايا لبنان وإيران وسورية وحرب غزة، كل منهم يريد ان يحقق لترامب تلك الاحلام الامبريالية بانضمام دول جديدة للاتفاقات الابراهيمية، وإعادة تكوين الجغرافية السياسية للمنطقة من دون مؤثرات خارج سيادة الدولة، وفق تعريف ميثاق الأمم المتحدة، مثل حزب الله في لبنان الذي ربما بات عليه ان يواجه الدولة ومن يتحالف معها بدلا من مواجهة إسرائيل!! هكذا تم الاتفاق مع حزب العمال التركي لإنهاء فكرة الاستقلال في دولة كردية. فيما ما زال اكراد العراق يحلمون بذلك، وأيضا انتهى مفهوم الإقليم السني، بعناوين تستعيد صدى ساحات الاعتصام ثم سيطرة عصابات داعش على ثلث الأراضي العراقية، وذات المثال ينطبق على العراق في موضوع الحشد الشعبي والفصائل الحزبية المسلحة، مما يثير تساؤلات صريحة، كون هذه الفصائل وتلك الأحزاب بأغلبية الطيف السياسي، لم تغادر "طبائع الاستبداد" والمنافع الشخصية او الولاء العقائدي، فأما تكون مجرد ارقام على طاولة مباحثات تسويات إقليمية ودولية، او تكون عراقية حرة تبحث عن سيادة العراق في منظور وطني لعراق واحد وطن الجميع، تلك مفارقة كبرى في أنماط التفكير وبلورة الوعي الشعبي. تلك حقائق قد تبدو مفهومة للقيادات السياسية لكن لا يستطيع أي منهم طرحها بشفافية امام جمهورهم الانتخابي ،كون الإجابة الأكثر صراحة. ان الأغلبية من تلك الأحزاب والفصائل، وان كانت تجاهر بالعداء لإسرائيل والسياسات الصهيونية، الا انها قد رهنت الاقتصاد بيد الفيدرالي الأمريكي في التعامل مع ريع النفط، المصدر الأوحد للاقتصاد العراقي الذي يمول 8 ملايين مستفيد من الرواتب والمعاشات التقاعدية والرعاية الاجتماعية، في مقابل ثراء فاحش أصاب تلك الفصائل الحزبية من المال السياسي العام الذي يتكرر الحديث يوميا عن أهمية مكافحته وسط خلافات قائمة على توزيع الثروة السيادية ولعل رواتب موظفي إقليم كردستان احد ابرز نماذجها. الجانب الاخر، ما يتكرر في "طبائع الاستبداد" عراقيا، يجعل التفكير الجمعي للرأي العام يتوجه نحو رفض قبول واقع عقوبات دولية تفرض من جديد بسبب عدم القدرة على نزع سلاح هذه الفصائل، واهمية ان تتوفر تلك القدرات على إيجاد المعادلات الانية والاواني المستطرقة ليكون "العراق أولا"، وهذا يتطلب عددا مهما من قضايا الحوار الوطني الحر المباشر من دون مواربة وشعارات غادرتها حتى ايران في نموذج حوارها مع واشنطن بعد احداث حرب ال12 يوما، بما يتطلب ان يكون للمرجعية الدينية العليا كلمتها الفصل بان فتوى الجهاد الكفائي كانت أصلا للتطوع في صنوف القوات المسلحة وليس لتشكيل أي نموذج مرادف للقوات المسلحة، يتم التعامل معه كخيمة تحتمي فيها الفصائل الحزبية المسلحة وتوظف الأموال الحكومية وفي تمويل عملياتها داخل وخارج العراق. الامر الاخر، ان يكون المفاوض العراقي قادرا على فهم سياسات الرئيس ترامب، والتعامل الجاد مع تهديداته وتقديم البدائل الأفضل لحماية أبناء العراق حتى وان كانوا ضد فكرة "العراق أولا" وهذا يتطلب حنكة ومثابرة ودراية متفوقة على نزعة الاستبداد والمصالح الانية لاسيما الانتخابية... وهذا يتوجب ان تبلور "تسوية كبرى" تحافظ على زخم الاستقلال في القرار العراقي وفق اعلان دستوري جديد، يحقق فيه الفرقاء تلك الحلول الدستورية المنشودة، بل وحتى حماية الفصائل المسلحة مقابل الغاء وجودها العسكري والاكتفاء بالعمل السياسي من دون أي تبعات قانونية، وتلك حالات متعارف عليها في تسوية الخلافات داخل الدول التي تمر بأزمات بنيوية، هل من مدرك، لعل وعسى يكون العراق دائما "أولا'.


التحري
منذ 2 أيام
- التحري
ثنائية سوريا والعراق … د . خالد جمال .
على الضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وصولًا إلى الخليج العربي، نشأت حضارات عظيمة لا تقل شأنًا عن حضارات الإغريق، والفرس، والفراعنة، والرومان. في هذه الأرض، عاشت شعوب متنوعة مثل الكنعانيين، الكلدانيين، الفينيقيين، الأموريين، الآراميين، العرب، الآشوريين، الأيزيديين، وغيرهم، وتمازجت فيما بينها لتنتج مزيجًا غنيًا من الثقافات والأديان. غير أن أبرز ما خرج من هذه المنطقة كان الرسالة الإبراهيمية التي شكلت منبع الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام. ومع ذلك، كانت هذه المنطقة على مرّ العصور ساحة عبور للقادمين من أوروبا وآسيا وأفريقيا، سواء لغزو أو تجارة أو نشر دعوة أو حتى لمجرد المغامرة، وهو ما جعلها منطقة متقلبة تعجّ بالحروب والصراعات. وإذا كان العراق يشكّل الحدود الشرقية مع آسيا عبر بلاد فارس، فإن سوريا تمثّل الحدود مع إفريقيا، والأهم أوروبا، من خلال اتصالها بالإمبراطورية البيزنطية. تميّز كلا البلدين على مرّ التاريخ بخصائص سياسية وثقافية متباينة، تبعًا للسلطات التي تعاقبت عليهما. فقد ظهر هذا بوضوح في فترة الغساسنة والمناذرة: حيث كان المناذرة يدينون بالولاء للفرس ويدافعون عن حدودهم الشرقية، في حين كان الغساسنة يعتنقون المسيحية البيزنطية ويدافعون عن مصالح الروم في الغرب. واستمر هذا الانقسام حتى جاء الفتح الإسلامي الذي أنهى حكم الطرفين. ثم، وفي زمن الفتنة الكبرى التي أعقبت مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، توجّه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى العراق، حيث ساندته غالبية قاعدته الشعبية، في حين استقرّ معاوية بن أبي سفيان في الشام، حيث كان والياً منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهكذا، عادت الثنائية لتطفو بين العراق وسوريا، ولكن هذه المرة في صراع على الخلافة بين المسلمين أنفسهم. لاحقًا، لم يستتب الأمر لبني أمية في العراق إلا بعد أن تولّى الحجاج بن يوسف الثقفي ولايته، فكان حاكمًا قاسيًا، لكنه استطاع كبح جماح العراقيين الذين اعتادوا الثورة والتمرد. ومع مجيء الدولة العباسية، أُبيد الأمويون في المشرق، وفرّت فلولهم إلى الأندلس، حيث أسسوا دولتهم هناك. استعان العباسيون بالفرس – وعلى رأسهم أبو مسلم الخراساني – في تمكين سلطتهم، قبل أن يتخلّصوا منه لاحقًا. وهكذا، ظهرت ثنائية جديدة، حيث بدأ الحكم الملكي العربي في الشام، وانتقل لاحقًا إلى العراق. توحد البلدان خلال الخلافات الإسلامية الثلاث الكبرى: الأموية، والعباسية، والعثمانية، وتعرضا معًا للغزو التتاري-المغولي. أما في العصر الحديث، وبعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الحكم العثماني، رسمت اتفاقية سايكس–بيكو حدود البلدين، واقتُطع منهما بعض الأجزاء. ولكن الأخطر أن هذه الاتفاقية مهدت الطريق لقيام دولة إسرائيل، ما أثار مشاعر القومية العربية وولادة الفكر القومي. وفي مرحلة لاحقة، تولّى حزب البعث السلطة في كل من العراق وسوريا، لكن بنسختين مختلفتين: ففي سوريا كان النظام بعثيًا علويًا يحكم أغلبية سنية، أما في العراق فكان بعثيًا سنيًا يحكم أغلبية شيعية. وبهذا نشأت ثنائية رابعة بين النظامين، قائمة على التوازن الطائفي والسياسي. أما اليوم، فما زالت الثنائية قائمة ولكن بصيغة جديدة. ففي العراق، تسود سلطة ذات غالبية شيعية، وُزعت مناصبها الطائفية بإشراف أميركي بعد 2003. أما في سوريافالحكم اصبح سنيا وما زال يتلمس طريقه، في بلد يغلب عليه الصراعات، وسط محاولة للتكيف مع المعطيات الجديدة. اللافت أن العراق ما يزال يخضع لنفوذ إيراني كثيف – كما كان الحال أيام المناذرة – في حين تواجه سوريا ضغوطًا من إسرائيل، وريثة النفوذ الغربي الرومي – كما كان الحال مع الغساسنة. وكأن التاريخ يعيد نفسه، مرة على شكل مهزلة، ومرة على شكل مأساة.


صدى البلد
منذ 3 أيام
- صدى البلد
من مجلس المشورة إلى شيوخ الأمة.. قرنان يصوغ فيهما المصريون تجربتهم النيابية
في منعطف جديد من المشهد النيابي المصري، تعود الانتخابات لاختيار أعضاء مجلس الشيوخ، في محطة انتخابية تعكس ليس فقط ملامح التحول السياسي في "الجمهورية الجديدة"، بل تفتح نافذة تاريخية على مسيرة برلمانية تمتد لنحو قرنين، تعاقبت فيها تسميات وهياكل، وتداخلت السلطة التشريعية بالتنفيذية، لتشكل في مجملها رحلة فريدة من البناء المؤسسي. فمجلس الشيوخ، الذي تبدأ انتخاباته في الداخل غدًا الإثنين ولمدة يومين، لا يمثل مجرد غرفة برلمانية، بل يُجسد تطورًا متدرجًا للمشاركة الشعبية من عصر محمد علي إلى يومنا هذا، ليُعيد للأذهان سؤالًا قديمًا متجددًا: كيف تشكلت الإرادة النيابية في مصر، وكيف تغيرت عبر العصور؟ أقدم مؤسسة تشريعية عربية.. النشأة الأولى 1824 تُعد مصر صاحبة أقدم تجربة برلمانية في العالم العربي، حيث بدأت خطوات التأسيس الأولى مع المجلس العالي عام 1824، في عهد محمد علي، وكان يتكون من 24 عضوًا، ثم ارتفع العدد إلى 48 بعد إضافة علماء وشيوخ. وفي يناير 1825، صَدرت اللائحة الأساسية التي حددت اختصاصات المجلس في مناقشة مقترحات الوالي المتعلقة بالسياسة الداخلية، مع تنظيم انعقاده. لاحقًا، أنشأ محمد علي مجلس المشورة عام 1829، كنواة لنظام الشورى المصري، بعضويّة بلغت 156 شخصًا، يمثلون كبار الموظفين ومأموري الأقاليم والأعيان، ويجتمع المجلس سنويًا. أول برلمان نيابي حقيقي.. شورى النواب 1866 في عام 1866، أطلق الخديوي إسماعيل أول تجربة نيابية تمثيلية حقيقية باسم مجلس شورى النواب، بعضوية 75 عضوًا منتخبين لمدة ثلاث سنوات. مثّل هذا المجلس نقطة تحول؛ فقد بدأ محدود الاختصاصات، لكنه بمرور الوقت اكتسب صلاحيات أكبر، حتى اعتمد مبدأ مسؤولية الحكومة أمام المجلس عام 1879، في تأكيد على تطور الحياة النيابية آنذاك. تطور تشريعي متسارع.. من شورى القوانين إلى الجمعية التشريعية في عهد الخديوي توفيق، أُنشئ مجلس شورى القوانين عام 1883، بمزيج من التعيين والانتخاب، وبلغ عدد أعضائه 30، وكانت له صلاحية طلب مشروعات القوانين من الحكومة. وفي عام 1913، ظهرت الجمعية التشريعية، التي تكونت من 82 عضوًا، وكانت مشاركتها شرطًا دستوريًا قبل إصدار أي قانون، وإن لم تكن ملزمة للدولة في الأخذ برأيها. ولكن الحرب العالمية الأولى أدت إلى حل الجمعية عام 1923. نقلة دستورية.. دستور 1923 ونظام المجلسين شهد عام 1923 صدور أول دستور بعد إعلان الاستقلال الشكلي عن بريطانيا، وقد تبنّى نظام المجلسين: مجلس النواب ومجلس الشيوخ، حيث كان ثلثا الشيوخ منتخبين، والثلث معيّنين. ومنح الدستور صلاحيات متساوية لكلا المجلسين، باستثناء بعض الملفات الخاصة. ثورة يوليو 1952.. توقف الحياة البرلمانية الثنائية مع قيام ثورة 23 يوليو 1952، تم إلغاء المجلسين، وأُنشئ مجلس الأمة عام 1957، بعضوية 350 نائبًا، ليعمل في إطار نظام سياسي جديد يهيمن عليه التيار الثوري بقيادة جمال عبد الناصر. عودة الحياة الثنائية.. مجلس الشورى 1980 في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، أُجري استفتاء شعبي عام 1980 أسفر عن إنشاء مجلس الشورى، وتعديل الدستور لإضافة باب كامل خاص به. وبدأ المجلس أولى جلساته في نوفمبر من نفس العام، ليمثل الغرفة الثانية للعمل التشريعي، ويُعنى بقضايا أوسع نطاقًا من الرقابة المباشرة، مثل الحوار الوطني والتوازنات السياسية. حل المجلس وعودته مع ثورة 25 يناير 2011، تم حل مجلسي الشعب والشورى، وجرى انتخاب برلمان جديد عام 2012. إلا أن المشهد لم يستقر، حيث جاءت ثورة 30 يونيو 2013 لتُنهي مرحلة جديدة، ويصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور قرارًا بحل مجلس الشورى، وإلغاء الغرفة الثانية نهائيًا أثناء صياغة دستور 2014. لكن في يوليو 2020، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قانون تنظيم مجلس الشيوخ، لتعود الغرفة الثانية إلى الحياة النيابية مجددًا، استنادًا إلى تعديلات دستورية أقرتها البلاد عام 2019، لتبدأ دورة جديدة من العمل البرلماني الموازي. واتخذ مجلس الشيوخ مقره التاريخي في شارع القصر العيني بوسط القاهرة، داخل أحد القصور التي شُيّدت عام 1866 في عهد الخديوي إسماعيل، والذي كان في السابق مقرًا لمجلس الشيوخ بموجب دستور 1923. مجلس الشيوخ الحالي.. التكوين والصلاحيات عدد الأعضاء: 300 عضو مدة العضوية: 5 سنوات تمثيل المرأة: لا يقل عن 10% من المقاعد تركيبة القوائم: كل قائمة تضم 15 مقعدًا يجب أن تشمل 3 نساء على الأقل، والقائمة التي تضم 35 مقعدًا يجب أن تشمل 7 نساء على الأقل. اختصاصات مجلس الشيوخ: إبداء الرأي في التعديلات الدستورية. مناقشة مشروع الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إبداء الرأي في معاهدات الصلح والسيادة والتحالف. مراجعة مشروعات القوانين المحالة من رئيس الجمهورية أو مجلس النواب. مناقشة الموضوعات المحالة إليه من رئيس الجمهورية، خاصة ما يتعلق بالشؤون العامة والعلاقات الخارجية. شروط الترشح لعضوية مجلس الشيوخ: الجنسية المصرية الكاملة. التمتع بالحقوق المدنية والسياسية. القيد بقاعدة بيانات الناخبين. ألا يقل السن عن 35 سنة. الحصول على مؤهل جامعي أو ما يعادله. أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها قانونًا. ألا تكون قد أُسقطت عضويته سابقًا إلا إذا زال السبب قانونًا. من مجلس المشورة إلى مجلس الشيوخ الحالي، تمتدّ المسيرة النيابية في مصر على مدى قرنين من الزمن، حملت خلالها السلطة التشريعية وجوهًا متعددة، من المجالس الاستشارية إلى البرلمانات التمثيلية، ومن نظام الغرفة الواحدة إلى النظام الثنائي. واليوم، يعود مجلس الشيوخ ليسد فجوة في بنية الدولة المؤسسية، ويُعزز آليات الديمقراطية التشاركية، في مرحلة دقيقة من تاريخ مصر الحديث، حيث تتقاطع الرغبة في الاستقرار مع الطموح في التحديث.