logo
هنتنجتون يسترد اعتباره

هنتنجتون يسترد اعتباره

بوابة الأهراممنذ 18 ساعات
ما كتب من انتقادات عنيفة لنظرية المفكر السياسى الأمريكى ذائع الصيت صامويل هنتنجتون عن صدام الحضارات يفوق بأضعاف ما جاء بالمخطوطة الأصلية التى نشرها أولا بمجلة فورين افييرز المرموقة 1993، ثم تضمنها كتاب ضخم صدر بعد ثلاث سنوات بنفس الاسم ومازال يثير الجدل والنقاش والاختلاف حتى اليوم. وكان هذا طبيعيا على ضوء الآراء المثيرة التى تضمنها المقال ثم الكتاب، والذى وصفه أيقونة السياسة الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر بأنه أهم كتاب صدر منذ الحرب العالمية الثانية.
لا نعتزم هنا استعراض ما جاء فى الكتاب أو الانتقادات القاسية له، وجانب كبير منها تركز حول نسف فكرته الأساسية، وهى أن صراعات المستقبل لن تكون بين الدول القومية، ولكن بين الحضارات المعروفة التى حددها بثمانى حضارات هى الغربية والصينية واليابانية والهندوسية والأرثوذكسية والإسلامية واللاتينية ثم الإفريقية. ورغم اعتراف الكاتب لاحقا بوقوعه فى بعض الأخطاء المنهجية إلا أن فكرته الأساسية فى جوهرها تظل قائمة وتفسر الكثير مما يجرى اليوم. ولا يعنى نشوب حروب بين بلدان تنتمى لنفس الحضارة أن نظريته مضللة فهو لم يستبعد حدوث صراعات لأسباب سياسية أو غيرها. كما أن الشواهد التاريخية منذ طرح فكرته وحتى قبلها تعزز وتؤيد ما جاء به. المذابح الوحشية التى ترتكبها إسرائيل بدعم وتواطؤ أمريكى أوروبى خير شاهد على رأى هنتنجتون. فهل يمكن مثلا أن نعزو الإبادة المنهجية الجارية إلى مجرد وجود خلافات سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟. وجود إسرائيل نفسها تأكيد حى على نظرية صراع الحضارات فقد أنشأها الاستعمار الغربى الأوروبى أولا قبل أن تصبح واشنطن امتدادا له وتتبناها. زرع إسرائيل بالمنطقة هو استمرار للوجود الاستعمارى الغربي، ولا نفرق هنا بين صورته المعاصرة وجذوره التاريخية ممثلة فى الحملات الصليبية التى شنتها أوروبا كحضارة غربية مسيحية على الحضارة العربية الإسلامية.
كل ما يجرى يحمل بصمات هذه الروح العنصرية البغيضة المتأصلة فى الثقافة الغربية. هنتنجتون نفسه أكد فى كتابه أن الصراع المقبل سيكون بين الغرب و«الآخرين» يقصد أى حضارة أخرى وإن كان قد خص الدول الإسلامية قائلا إن المستقبل القريب سيشهد صراعا بين الغرب والدول ذات الأغلبية الإسلامية، وعلى الغرب أن يعزز جبهته الداخلية بزيادة التحالف والتعاون بين أمريكا وأوروبا.
الاصطفاف الأمريكى الأوروبى الصلب ضد روسيا لمواجهة غزوها لأوكرانيا أو حتى قبل ذلك هو مثال آخر على صراع بين الحضارتين الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية البروتستانتية. بالمثل لا يمكن تجريد المواجهة الأمريكية المحتدمة مع الصين من جذورها الثقافية. الشواهد كثيرة على صحة ما جاء به العلامة الأمريكى المتوفى 2008 وكلها لا ترد له الاعتبار فحسب، بل تأخذ بثأره ممن انتقدوه. ليس هذا رأيا شخصيا بل حكم بات أصدره المؤرخ الأمريكى نيلسى جيلمان نائب الرئيس التنفيذى لمعهد بيرجروين فى لوس انجلوس والذى نشر بحثا تضمن حيثيات حكمه فى ذات المجلة التى نشرت مقالة العالم الراحل. استهل الكاتب بحثه باستعراض مطول لظروف تغيير، وإعادة تشكيل النظام العالمى فى فترات التحول الكبرى خلال القرن العشرين، وصولا للنظام الحالى الذى شكلته وتهيمن عليه أمريكا منذ انتهاء الحرب الباردة. وهو يرى أن هذا النظام وصل إلى مرحلته النهائية، وبدأ يتحلل تدريجيا تمهيدا لسقوطه المحتم.
عند هذه النقطة كان لابد أن يتطرق إلى ما ذكره المفكر الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما الذى يقف على الضفة الأخرى مما أتى به أستاذه هنتنجتون. لا يتسع المجال لسرد ما قاله عن تهافت نظرية فوكوياما التى نشرها أيضا فى نفس المجلة، ثم حولها إلى كتاب بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الجديد» وفيه اعتبر أن انهيار الاتحاد السوفيتى ونهاية الحرب الباردة وضعا حدا لصراع الشرق الشيوعى والغرب الرأسمالى بانتصار الأخير انتصارا مدويا ونهائيا حسم معركة التاريخ للأبد، وبالتالى ستنتشر قيمه ونظام حكمه الليبرالى بغالبية دول العالم. وكما هو معروف فقد ثبت خطأ فوكوياما، إذ لم تتسيد الحضارة الغربية ولم تعمم نظامها السياسى على العالم بل اتسع نطاق الصدام حول ما وصفه هنتنجتون بخطوط الصدع الثقافية. ازداد تمسك الدول بهويتها الحضارية، واستمر الصدام بين الغرب والإسلام، واتسع التمرد الأمريكى اللاتينى ضد الهيمنة الأمريكية ولم يعد قاصرا على فنزويلا بعد أن فتح دى سيلفا جبهة جديدة أوسع نطاقا هى البرازيل. وطرحت ماليزيا وسنغافورة فكرة القيم الأسيوية كبديل أكثر ملاءمة من القيم الغربية. بلدان افريقية بدورها بدأت تتمرد على الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية للغرب لاسيما فرنسا. وفى 2014 أعلن الرئيسان الروسى والصينى أن البلدين يعتنقان قيما مختلفة عن تلك السائدة فى الغرب.
ازدادت الصورة وضوحا بانتهاء أول عقدين من القرن الحادى والعشرين وهى ملاحظة مهمة يسجلها جيلمان، موضحا أن النظام الليبرالى الغربى يتهاوى بالفعل، وأن أمريكا نفسها بهيمنتها المستبدة وحروبها الخارجية وانتهاكاتها السافرة للقانون الدولي، وخيانتها لمبادئها عن الحرية وحقوق الإنسان أصبحت إحدى معاول الهدم والتفتيت للنظام وليست عامل استقرار له. كما أن التكتلات الاقتصادية الجديدة التى تستبعدها مثل بريكس وضعت مسمارا آخر فى نعش النظام الحالي.
ينهى جيلمان دراسته الطويلة المنصفة لزميله الراحل بالقول إن نظريته لم تكن خاطئة، لكنها ولدت قبل أوانها، أى جاءت سابقة لعصرها، فلم يستوعبها العالم ورفضها.. كان هنتنجتون ورغم التحفظ على الكثير مما قال خاصة موقفه من الإسلام، يرى المستقبل ويستقرئ أحداثه ببصيرة نافذة ورؤية ثاقبة. مرة أخرى يعود جيلمان ليؤكد أن النظام الليبرالى الغربى يحتضر. ولم ولن يحدث إجماع عالمى على قيمه، لكن المؤسف من وجهة نظره أن النظام الجديد سيكون أكثر قبحا وشراسة، ويترك العالم مرتعا للأقوياء فقط. سيكون نظاما فاسدا مخضبا بدماء الشعوب الفقيرة والمغلوب على أمرها. يضيف: «هذا العالم المخيف رسم هنتنجتون ملامحه مبكرا جدا، ولم يصدقه أحد، ولعله يضحك علينا من قبره الآن!».
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

إرث ترامب يزعزع أسس التعاون العالمي والتجارة الحرة وفقًا لـ 'بوليتيكو'
إرث ترامب يزعزع أسس التعاون العالمي والتجارة الحرة وفقًا لـ 'بوليتيكو'

خبر صح

timeمنذ 7 ساعات

  • خبر صح

إرث ترامب يزعزع أسس التعاون العالمي والتجارة الحرة وفقًا لـ 'بوليتيكو'

أفادت صحيفة 'بوليتيكو' بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أحدث تغييرات جذرية في مجالات التجارة والتعاون العسكري والسياسي، مما سيؤثر على هذه الملفات لعقود قادمة. إرث ترامب يزعزع أسس التعاون العالمي والتجارة الحرة وفقًا لـ 'بوليتيكو' مقال له علاقة: صفارات الإنذار تنطلق في مناطق إسرائيل بعد إطلاق صاروخ حوثي من اليمن إدارة ترامب وجهت ضربة قاسية للعديد من التفاهمات ونقلت الصحيفة عن خبراء شاركوا في منتدى أسبن الأمني، بما في ذلك مسؤولين أمريكيين وأجانب سابقين وحاليين، بالإضافة إلى قادة شركات ومحللين، إقرارهم سواء في العلن أو خلال جلسات خاصة بأن إدارة ترامب وجهت ضربة قوية للعديد من التفاهمات التي أُسست بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصًا فيما يتعلق بالتجارة الحرة والشراكات طويلة الأمد. وأشارت الصحيفة إلى أنه خلال الولاية الأولى لترامب، كانت النخب السياسية تعتقد أن بإمكانها التأثير على توجهاته، بل اعتقد البعض أنه يمكنهم التراجع بسهولة عن سياساته بمجرد مغادرته المنصب، إلا أن الواقع الحالي كشف عن جهود مضنية تبذلها المؤسسة الحاكمة لإعادة ضبط الاستراتيجيات ومحاولة التأثير، ولو جزئيًا، على قرارات الإدارة الحالية. ترامب يركز أساسًا على السعي لتقارب مع كل من الصين وروسيا وفي هذا السياق، دعت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس إلى ضرورة الإقرار بأن العالم 'لن يعود على الأرجح إلى النظام الدولي السابق'. من جانبها، كشفت مجلة 'فورين أفيرز' في تقارير سابقة أن ترامب يركز أساسًا على السعي لتقارب مع كل من الصين وروسيا، مشيرة إلى أنه لا يسعى لمواجهتهما، بل يسعى لإقناعهما بالتعاون المشترك من أجل صياغة نظام عالمي جديد. ترامب يتهم أوباما بتزوير الانتخابات الرئاسية 2016 وعلى جانب آخر، اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سلفه باراك أوباما بالضلوع في تزوير الانتخابات الرئاسية لعام 2016، مؤكدًا أن إدارة أوباما كانت قد تعمدت تلفيق اتهامات التدخل الروسي. وفي تصعيد جديد، أعلنت مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، تولسي جابارد، عن 'أدلة دامغة' تثبت أن المزاعم حول تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية تم فبركتها من قِبل إدارة أوباما التي كانت لا تزال في السلطة وقتها بعد فوز ترامب بالرئاسة. وعلق ترامب عبر منصة 'تروث سوشيال' على تصريحات غابارد ونائب السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، هاريسون فيلدز، خلال لقائهما على فوكس نيوز قائلاً: 'اللجنة قامت بعمل رائع في ملاحقة أوباما وبلطجيته الذين ثبت تورطهم في تزوير الانتخابات على أعلى المستويات' من نفس التصنيف: سياسي إسرائيلي يتحدث من موقع سقوط شظايا إيرانية على مسجد في حيفا | فيديو إدارة أوباما حجبت تقارير استخباراتية وفقًا للوثائق الصادرة عن مكتب جابارد، فإن إدارة أوباما حجبت تقارير استخباراتية أكدت أن روسيا 'لم تكن لديها النية أو القدرة' على اختراق أنظمة التصويت الإلكتروني في انتخابات 2016. كما دعم هذه الرواية تقرير المستشار الخاص جون دورهام الصادر في مايو 2023، الذي كشف أن وكالات إنفاذ القانون والاستخبارات الأمريكية لم تكن تملك أدلة حقيقية تثبت تواطؤ حملة ترامب مع روسيا، وأن مكتب التحقيقات الفيدرالي استند إلى معلومات غير مؤكدة لفتح تحقيق واسع في هذه المزاعم. يُذكر أن روسيا نفت مرارًا الاتهامات الأمريكية بشأن تدخلها في الانتخابات، مؤكدًا الكرملين أن هذه الادعاءات 'لا أساس لها من الصحة على الإطلاق'.

نظرا لاستياء الناخبين.. اختبار سياسي حاسم لرئيس وزراء اليابان في انتخابات الشيوخ
نظرا لاستياء الناخبين.. اختبار سياسي حاسم لرئيس وزراء اليابان في انتخابات الشيوخ

مصراوي

timeمنذ 13 ساعات

  • مصراوي

نظرا لاستياء الناخبين.. اختبار سياسي حاسم لرئيس وزراء اليابان في انتخابات الشيوخ

وكالات يواجه رئيس الوزراء الياباني، شيجيرو إيشيبا، اختبارا حاسما، اليوم الأحد، مع إجراء انتخابات مجلس الشيوخ التي قد تنهي نتائجها رئاسته للوزراء وتمهد الطريق أمام بروز حزب شعبوي يميني. ومع استياء الناخبين من ارتفاع الأسعار، وخصوصا الأرز، تفتح مراكز الاقتراع أبوابها الأحد لاختيار نصف أعضاء مجلس الشيوخ، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن ائتلاف إيشيبا الحاكم قد يخسر غالبيته. وربما يشكل هذا الضربة القاضية لإيشيبا بعد أن أجبر بشكل مهين على تشكيل حكومة أقلية عقب انتخابات مجلس النواب في أكتوبر. ورجح تورو يوشيدا، أستاذ العلوم السياسية في جامعة دوشيشا، في حديث مع وكالة فرانس برس أن يضطر إيشيبا إلى التنحي. وقال: قد تدخل اليابان في المجهول مع وجود حكومة تملك أقلية في كل من مجلسي النواب والشيوخ، وهو أمر لم تشهده اليابان منذ الحرب العالمية الثانية، وفقا للغد. وحكم الحزب الليبرالي الديمقراطي من يمين الوسط الذي ينتمي إليه إيشيبا، اليابان بشكل شبه مستمر منذ عام 1955، مع تعاقب قيادات متعددة عليه. وإيشيبا، البالغ 68 عاما وصل إلى قمة هرم الحزب في سبتمبر الماضي، لكنه دعا فورا إلى إجراء انتخابات. وجاء هذا القرار بنتائج عكسية، اذ تركت نتائج الانتخابات حزبه وشريكه الصغير في الائتلاف، حزب كوميتو، بحاجة إلى دعم أحزاب المعارضة، ما أعاق أجندتهما التشريعية. ومن أصل 248 مقعدا في مجلس الشيوخ، سيجري التنافس على 125، اليوم الأحد. ويحتاج الائتلاف الحاكم إلى 50 مقعدا منها للحفاظ على الغالبية، إلا أن انقسام أحزاب المعارضة يضعف فرصها في تشكيل حكومة بديلة. ويتوقع أن يحقق حزب سانسيتو الذي يرفع شعار اليابان أولا تقدما مفاجئا، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أنه قد يحصد أكثر من عشرة مقاعد في مجلس الشيوخ، مقابل شغله مقعدين حاليا. ويدعو الحزب إلى قواعد وحدودا أكثر صرامة على الهجرة، ويعارض العولمة وسياسات النوع الاجتماعي الراديكالية، ويريد إعادة التفكير في اللقاحات وخفض الانبعاثات الكربونية.

هنتنجتون يسترد اعتباره
هنتنجتون يسترد اعتباره

بوابة الأهرام

timeمنذ 18 ساعات

  • بوابة الأهرام

هنتنجتون يسترد اعتباره

ما كتب من انتقادات عنيفة لنظرية المفكر السياسى الأمريكى ذائع الصيت صامويل هنتنجتون عن صدام الحضارات يفوق بأضعاف ما جاء بالمخطوطة الأصلية التى نشرها أولا بمجلة فورين افييرز المرموقة 1993، ثم تضمنها كتاب ضخم صدر بعد ثلاث سنوات بنفس الاسم ومازال يثير الجدل والنقاش والاختلاف حتى اليوم. وكان هذا طبيعيا على ضوء الآراء المثيرة التى تضمنها المقال ثم الكتاب، والذى وصفه أيقونة السياسة الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر بأنه أهم كتاب صدر منذ الحرب العالمية الثانية. لا نعتزم هنا استعراض ما جاء فى الكتاب أو الانتقادات القاسية له، وجانب كبير منها تركز حول نسف فكرته الأساسية، وهى أن صراعات المستقبل لن تكون بين الدول القومية، ولكن بين الحضارات المعروفة التى حددها بثمانى حضارات هى الغربية والصينية واليابانية والهندوسية والأرثوذكسية والإسلامية واللاتينية ثم الإفريقية. ورغم اعتراف الكاتب لاحقا بوقوعه فى بعض الأخطاء المنهجية إلا أن فكرته الأساسية فى جوهرها تظل قائمة وتفسر الكثير مما يجرى اليوم. ولا يعنى نشوب حروب بين بلدان تنتمى لنفس الحضارة أن نظريته مضللة فهو لم يستبعد حدوث صراعات لأسباب سياسية أو غيرها. كما أن الشواهد التاريخية منذ طرح فكرته وحتى قبلها تعزز وتؤيد ما جاء به. المذابح الوحشية التى ترتكبها إسرائيل بدعم وتواطؤ أمريكى أوروبى خير شاهد على رأى هنتنجتون. فهل يمكن مثلا أن نعزو الإبادة المنهجية الجارية إلى مجرد وجود خلافات سياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟. وجود إسرائيل نفسها تأكيد حى على نظرية صراع الحضارات فقد أنشأها الاستعمار الغربى الأوروبى أولا قبل أن تصبح واشنطن امتدادا له وتتبناها. زرع إسرائيل بالمنطقة هو استمرار للوجود الاستعمارى الغربي، ولا نفرق هنا بين صورته المعاصرة وجذوره التاريخية ممثلة فى الحملات الصليبية التى شنتها أوروبا كحضارة غربية مسيحية على الحضارة العربية الإسلامية. كل ما يجرى يحمل بصمات هذه الروح العنصرية البغيضة المتأصلة فى الثقافة الغربية. هنتنجتون نفسه أكد فى كتابه أن الصراع المقبل سيكون بين الغرب و«الآخرين» يقصد أى حضارة أخرى وإن كان قد خص الدول الإسلامية قائلا إن المستقبل القريب سيشهد صراعا بين الغرب والدول ذات الأغلبية الإسلامية، وعلى الغرب أن يعزز جبهته الداخلية بزيادة التحالف والتعاون بين أمريكا وأوروبا. الاصطفاف الأمريكى الأوروبى الصلب ضد روسيا لمواجهة غزوها لأوكرانيا أو حتى قبل ذلك هو مثال آخر على صراع بين الحضارتين الأرثوذكسية والغربية الكاثوليكية البروتستانتية. بالمثل لا يمكن تجريد المواجهة الأمريكية المحتدمة مع الصين من جذورها الثقافية. الشواهد كثيرة على صحة ما جاء به العلامة الأمريكى المتوفى 2008 وكلها لا ترد له الاعتبار فحسب، بل تأخذ بثأره ممن انتقدوه. ليس هذا رأيا شخصيا بل حكم بات أصدره المؤرخ الأمريكى نيلسى جيلمان نائب الرئيس التنفيذى لمعهد بيرجروين فى لوس انجلوس والذى نشر بحثا تضمن حيثيات حكمه فى ذات المجلة التى نشرت مقالة العالم الراحل. استهل الكاتب بحثه باستعراض مطول لظروف تغيير، وإعادة تشكيل النظام العالمى فى فترات التحول الكبرى خلال القرن العشرين، وصولا للنظام الحالى الذى شكلته وتهيمن عليه أمريكا منذ انتهاء الحرب الباردة. وهو يرى أن هذا النظام وصل إلى مرحلته النهائية، وبدأ يتحلل تدريجيا تمهيدا لسقوطه المحتم. عند هذه النقطة كان لابد أن يتطرق إلى ما ذكره المفكر الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما الذى يقف على الضفة الأخرى مما أتى به أستاذه هنتنجتون. لا يتسع المجال لسرد ما قاله عن تهافت نظرية فوكوياما التى نشرها أيضا فى نفس المجلة، ثم حولها إلى كتاب بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الجديد» وفيه اعتبر أن انهيار الاتحاد السوفيتى ونهاية الحرب الباردة وضعا حدا لصراع الشرق الشيوعى والغرب الرأسمالى بانتصار الأخير انتصارا مدويا ونهائيا حسم معركة التاريخ للأبد، وبالتالى ستنتشر قيمه ونظام حكمه الليبرالى بغالبية دول العالم. وكما هو معروف فقد ثبت خطأ فوكوياما، إذ لم تتسيد الحضارة الغربية ولم تعمم نظامها السياسى على العالم بل اتسع نطاق الصدام حول ما وصفه هنتنجتون بخطوط الصدع الثقافية. ازداد تمسك الدول بهويتها الحضارية، واستمر الصدام بين الغرب والإسلام، واتسع التمرد الأمريكى اللاتينى ضد الهيمنة الأمريكية ولم يعد قاصرا على فنزويلا بعد أن فتح دى سيلفا جبهة جديدة أوسع نطاقا هى البرازيل. وطرحت ماليزيا وسنغافورة فكرة القيم الأسيوية كبديل أكثر ملاءمة من القيم الغربية. بلدان افريقية بدورها بدأت تتمرد على الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية للغرب لاسيما فرنسا. وفى 2014 أعلن الرئيسان الروسى والصينى أن البلدين يعتنقان قيما مختلفة عن تلك السائدة فى الغرب. ازدادت الصورة وضوحا بانتهاء أول عقدين من القرن الحادى والعشرين وهى ملاحظة مهمة يسجلها جيلمان، موضحا أن النظام الليبرالى الغربى يتهاوى بالفعل، وأن أمريكا نفسها بهيمنتها المستبدة وحروبها الخارجية وانتهاكاتها السافرة للقانون الدولي، وخيانتها لمبادئها عن الحرية وحقوق الإنسان أصبحت إحدى معاول الهدم والتفتيت للنظام وليست عامل استقرار له. كما أن التكتلات الاقتصادية الجديدة التى تستبعدها مثل بريكس وضعت مسمارا آخر فى نعش النظام الحالي. ينهى جيلمان دراسته الطويلة المنصفة لزميله الراحل بالقول إن نظريته لم تكن خاطئة، لكنها ولدت قبل أوانها، أى جاءت سابقة لعصرها، فلم يستوعبها العالم ورفضها.. كان هنتنجتون ورغم التحفظ على الكثير مما قال خاصة موقفه من الإسلام، يرى المستقبل ويستقرئ أحداثه ببصيرة نافذة ورؤية ثاقبة. مرة أخرى يعود جيلمان ليؤكد أن النظام الليبرالى الغربى يحتضر. ولم ولن يحدث إجماع عالمى على قيمه، لكن المؤسف من وجهة نظره أن النظام الجديد سيكون أكثر قبحا وشراسة، ويترك العالم مرتعا للأقوياء فقط. سيكون نظاما فاسدا مخضبا بدماء الشعوب الفقيرة والمغلوب على أمرها. يضيف: «هذا العالم المخيف رسم هنتنجتون ملامحه مبكرا جدا، ولم يصدقه أحد، ولعله يضحك علينا من قبره الآن!».

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store