
تحقيق.. 1.4 تريليون دولار في الهواء: عقدان من الموازنات المتفجرة في العراق
منذ عام 2003، حين أطاح الاجتياح الأمريكي بنظام صدام حسين، ودُشّن ما يعرف بالنظام الديمقراطي الجديد، دخل العراق مرحلة مختلفة كلياً وتأسس أول مجلس حكم وبعدها برلمان منتخب قبل أن تنطلق عملية كتابة الدستور، لكن خلف هذا الغلاف الرسمي، كانت آلية واحدة تحكم سير البلاد وهي الموازنة العامة، التي أثارت الجدل كثيراً.
كانت الغاية من الموازنة الاتحادية تمويل النفقات التشغيلية ومشاريع الإعمار العاجلة في بلد أنهكته الحروب والعقوبات. الكهرباء، المياه، التعليم، الصحة، الأمن، والخدمات؛ كلها كانت على الطاولة. لكن بعد قرابة 20 عاماً، لا تزال هذه الملفات أولوية لـ"لنظام الجديد"، ويبحث العراق عن حلول لإحتوائها.
في بلدٍ غنيّ مثل العراق، لم يكن من المفترض أن تعاني المدن من العطش، أو أن تغرق الشوارع مع أول زخّة مطر، أو أن يُطفأ النور كل ساعة لعدم وجود كهرباء. لكن كل هذه المشاهد ما زالت مألوفة في يوميات العراقيين.
وبينما كانت الشعارات الرسمية تَعد بالإعمار والنهوض، كانت الأموال تُسحب، والمشاريع تُعلّق، والفساد يُقنَّن. فهل يمكن أن تفشل دولة تمتلك هذا الحجم من الموارد بهذه الطريقة؟ الإجابة، كما تكشفها مراجعة خاصة لوكالة شفق نيوز.
1.396 ترليون دولار: هل بُنيت الدولة؟
قامت وكالة شفق نيوز بجردٍ دقيق لكل الموازنات العراقية من عام 2006 حتى 2024، وهي الفترة التي توفرت فيها بيانات حكومية علنية. النتيجة كانت: 1 تريليون و396.6 مليار دولار:
- 2006: بلغت الموازنة 34 مليار دولار، وكانت بسيطة، تفتقر للتفصيلات المعقدة.
-2007-2009: استقرت الموازنات بين 41 و43 مليار دولار، مع غياب أي تحولات نوعية.
-2010: قفزت الموازنة إلى 72.5 مليار دولار، وظهرت على الورق مشاريع إعمار لم تُنفذ حتى اليوم، مثل إعادة بناء مدينة الصدر في بغداد أو مشاريع إعمار البصرة ونينوى وميسان.
-2011–2013: تضخمت الموازنات إلى أن بلغت 115 مليار دولار في 2013.
-2014: غابت الموازنة بالكامل بسبب اجتياح تنظيم داعش ومحاولة تمرير النفقات وفق قاعدة 1/12.
-2015–2019: تراوحت بين 66 و112 مليار دولار، مع صعود وهبوط وفقاً لأسعار النفط والاضطرابات السياسية.
-2020: لا موازنة مجدداً، بسبب اضطرابات تشرين واستقالة حكومة عبد المهدي.
-2021: أُقرّت موازنة بـ89.6 مليار دولار.
-2022: غابت الموازنة للمرة الثالثة نتيجة الانسداد السياسي.
-2023: شهد العراق أعلى رقمين في تاريخه المالي، حيث بلغت الموازنة العامة لعام 2023 نحو 153 مليار دولار، وتبعها عام 2024 بموازنة بلغت 155 ملياراً، ضمن ما يُعرف بالموازنة الثلاثية التي أُقرت لتغطي الأعوام 2023–2025.
خبراء اقتصاد تحدثت معهم وكالة شفق نيوز قالوا إن هذه الأرقام كانت كافية لبناء شبكة سدود وطنية، وإعادة تأهيل شبكة الكهرباء، وإنشاء مجارٍ حديثة لجميع المدن، وتطوير قطاع النقل، بل وربما تأسيس صندوق سيادي للأجيال، "لكن الوضع ما زال يراوح مكانه".
جفاف ومياه آسنة
اليوم، يعاني العراق من أشد موجات الجفاف في تاريخه الحديث. مدن بأكملها مثل العمارة والناصرية والبصرة، تعاني من انقطاعات المياه وتصحّر الأراضي، مع انخفاض حاد في الإنتاج الزراعي وانهيار الثروات الحيوانية والسمكية.
لكن المفارقة تكمن في أن تكلفة بناء سدّي البصرة ومكحول لا تتجاوز 4 مليارات دولار، بحسب مسؤول في وزارة الموارد المائية، بينما أنفقت البلاد مئات أضعاف ذلك خلال 18 سنة.
- سد البصرة: تم الحديث عنه عشرات المرات، وتبلغ كلفته التقديرية 1.1 مليار دولار، ولم يُنجز.
- سد مكحول: أعلن عنه وزير الموارد المائية عام 2022، وكلفته التقديرية 3 مليارات دولار، ولا يزال عالقاً بين الدراسات والتخصيصات.
وقد حذرت دراسات بيئية محلية وأممية من أن العراق سيدخل خلال 5 سنوات "المرحلة الحرجة من الفقر المائي"، دون أن يقابل ذلك بخطط تنفيذية حقيقية.
بالمقابل، ومع أول موجة أمطار، تتحول بغداد العاصمة مثلاً، بالإضافة إلى مدن رئيسية أخرى إلى بحيرات آسنة، تكشف عن غياب شبكات صرف فعالة. مشاريع المجاري، التي تعتبر من أسهل البنى التحتية تنفيذاً، تحولت إلى مراكز للهدر والفساد:
-مشروع مجاري الحلة الكبير: توقف لعشر سنوات، ثم أُحيل مجدداً عام 2019، بكلفة 380 مليار دينار (نحو 290 مليون دولار).
-مشروع مجاري قضاء السنية (الديوانية): أحيل بكلفة 34 مليار دينار (نحو 26 مليون دولار).
يقول الخبراء الاقتصاديون إن "هذه المشاريع وحدها توضح أن المليارات لا تذهب إلى بناء حقيقي، بل إلى عقود تتوقف في منتصف الطريق، أو تتحول إلى واجهات فساد، دون رقابة فعالة".
في بلد يُعد من أكبر منتجي النفط عالمياً، لا تزال الكهرباء مقطوعة لعدة ساعات يومياً في معظم المناطق. بعد 2003، اشترى العراق محطات تعمل بالغاز دون امتلاكه البنى التحتية اللازمة لتوفير الغاز، ليضطر لاحقاً إلى استيراده من إيران، في صفقة منذ 2017 بلغت تكلفتها 17 مليار دولار.
ومن النماذج على الإنفاق:
- موازنة 2021: تضمنت قروضاً بقيمة 145 مليون دولار، و100 مليون أخرى لصيانة محطات كهربائية.
- محطة الدورة في بغداد: رُصد لها مبلغ 301 مليون دولار للصيانة فقط، دون تحسن في الإنتاج الفعلي.
يكشف تتبع المشاريع والعقود أن قسماً كبيراً من الموازنات لم يُنفق فعلياً على ما كُتب فيها. ومن أبرز فضائح الفساد:
- صفقة التسليح الروسية (2012): أُلغيَت لاحقاً وسط اتهامات بعمولات ورشى بقيمة 4.2 مليار دولار.
- سرقة القرن (2022): سُرقت 2.5 مليار دولار من أموال هيئة الضرائب، واتُهم فيها رجال أعمال وأجنحة سياسية نور زهير، الذي أُفرج عنه لاحقاً بكفالة واستعاد ممتلكاته.
تهريب العملة: قبل تدخل واشنطن عام 2022، كانت عمليات التحويل والتهريب المالي تتم عبر مصارف مرتبطة بسياسيين نافذين، ما اضطر الولايات المتحدة إلى فرض نظام رقابة دولي على النظام المصرفي العراقي.
دولة الموظفين
أحد أبرز تحديات الموازنات هو حجم النفقات التشغيلية، والتي تتضمن الرواتب والتقاعد والحمايات والمخصصات الخاصة. يبلغ عدد الموظفين أكثر من 4 ملايين موظف حكومي، مع نحو 2 مليون متقاعد، بحسب أرقام رسمية متضاربة.
وقد كشف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن الرواتب وحدها بلغت العام الماضي 64 تريليون دينار، أي ما يعادل 49 مليار دولار.
أما مجلس النواب، فكشف تحقيق سابق لشفق نيوز أن كلفته التراكمية منذ 2006 بلغت نحو 426 مليار دينار (أكثر من 325 مليون دولار)، بين رواتب وبدلات وحمايات.
على مدى 18 عاماً، أنفق العراق قرابة 1.4 تريليون دولار في موازناته العامة، وهو رقم ضخم بالمعايير الإقليمية، بل ويتجاوز مجموع موازنات بعض دول الجوار في الفترة نفسها.
بينما تمكنت دول مثل السعودية وتركيا وإيران من بناء قطاعات إنتاجية، وتوسيع شبكات البنية التحتية، وتحسين قطاعات التعليم والصحة، لا تزال مدن العراق غارقة في المياه الآسنة، والمزارع مشلولة، والكهرباء مقطوعة، والسدود على الورق.
عند مقارنة مجموع الموازنات التي أنفقتها دول المنطقة بين عامي 2006 و2024، يظهر أن العراق أنفق ما يفوق دولاً ذات تعداد سكاني أكبر واقتصادات أكثر تنوعًا. فقد بلغت موازنات العراق خلال هذه الفترة ما يقارب 1.396 تريليون دولار، في وقت لم يتجاوز فيه عدد سكانه 44 مليون نسمة. ومع ذلك، لا تزال البلاد تعاني من بنى تحتية متهالكة، وانقطاعات مزمنة في الكهرباء، وأزمة مائية خانقة، واقتصاد ريعي غير منتج.
في المقابل، أنفقت تركيا التي تعاني من مشكلات اقتصادية حوالي 1.2 تريليون دولار على مدى المدة نفسها، رغم أن عدد سكانها يفوق 85 مليون نسمة، أي ما يقارب ضعف العراق. إلا أن هذه الأموال تُرجمت إلى شبكة طرق وسكك حديدية متطورة، واكتفاء غذائي، وقاعدة صناعية واسعة.
أما إيران المكبلة بالعقوبات الدولية، فأنفقت ما يقارب 1.1 تريليون دولار وبنسمة تفوق ال90 مليوناً، ومع ذلك تمكنت من تحقيق اكتفاء دوائي وزراعي، وبناء صناعة دفاعية محلية، وزيادة إنتاجها من الغاز والنفط دون الاعتماد الخارجي الكامل.
وتأتي السعودية في مقدمة الدول إنفاقًا، بمجموع موازنات يصل إلى 2.2 تريليون دولار، لكنها أيضًا حققت نتائج ميدانية واضحة: بنية تحتية حديثة، إطلاق مشاريع عملاقة مثل مدينة نيوم، وتأسيس صندوق استثمارات سيادية تُقدَّر قيمته بنحو 800 مليار دولار.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


وكالة الصحافة المستقلة
منذ 22 دقائق
- وكالة الصحافة المستقلة
إسبانيا تتراجع عن خطط شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35
المستقلة/- صرح متحدث باسم وزارة الدفاع الإسبانية يوم الأربعاء بأن إسبانيا لم تعد تدرس خيار شراء طائرات مقاتلة أمريكية الصنع من طراز F-35، وأنها تختار بين طائرات يوروفايتر أوروبية الصنع وما يسمى بنظام القتال الجوي المستقبلي (FCAS). وأكد المتحدث تقريرًا سابقًا لصحيفة إل باييس يفيد بأن الحكومة أرجأت خطط شراء طائرة F-35، التي تصنعها شركة لوكهيد مارتن الأمريكية العملاقة في مجال الطيران والفضاء. وعندما طُلب من شركة لوكهيد مارتن التعليق على الأمر، قالت في بيان: 'المبيعات العسكرية الخارجية هي معاملات بين الحكومات، ومن الأفضل أن تتولى الحكومة الأمريكية أو الإسبانية معالجة هذه المسألة'. وأضافت إل باييس أن الحكومة خصصت 6.25 مليار يورو (7.24 مليار دولار) في ميزانيتها لعام 2023 لشراء طائرات مقاتلة جديدة. لكن خطة الحكومة الإسبانية لإنفاق معظم مبلغ 10.5 مليار يورو الإضافي المخصص للدفاع هذا العام في أوروبا جعلت من المستحيل الحصول على الطائرات المقاتلة الأمريكية الصنع، وفقًا للصحيفة. أعلن رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي بيدرو سانشيز في وقت سابق من هذا العام عن خطط لزيادة الإنفاق على الدفاع لتحقيق هدف الناتو الحالي المتمثل في 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025. ومع ذلك، فقد رفض رفع الإنفاق إلى 5% على المدى الطويل على الرغم من الضغوط الأمريكية على جميع حلفاء الناتو للقيام بذلك. انتقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موقف سانشيز بشدة، وهدد بفرض رسوم جمركية إضافية على سلع البلاد.


شفق نيوز
منذ ساعة واحدة
- شفق نيوز
استثمار غاز كركوك.. خطوة جديدة للعراق مع "بي بي" البريطانية
شفق نيوز– كركوك أكد نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الطاقة ووزير النفط، حيان عبد الغني، يوم الأربعاء، أن تطوير شركة غاز الشمال في محافظة كركوك من خلال التعاقد مع شركة برتش بتروليوم (BP) البريطانية، سيُسهم في تلبية احتياجات القطاعات الصناعية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية من الغاز المحلي، وسط إشادة مسؤولين وخبراء بهذه الخطوة. وأكد عبد الغني، في تصريح لعدد من وسائل الإعلام بينها وكالة شفق نيوز خلال اجتماع عقده في مقر شركة غاز الشمال في كركوك، على "ضرورة تطوير منشآت الغاز التابعة للشركة، التي تتولى مهمة استثمار الغاز المنتج من الحقول النفطية في كركوك"، مشيراً إلى أن الوزارة وقّعت عقداً مع شركة برتش بتروليوم (BP) البريطانية لتطوير أربعة من الحقول النفطية، وهو ما يتطلب تأهيل وتوسيع منشآت الغاز لاستيعاب الكميات الجديدة". وبيّن الوزير أن "تطوير هذه المنشآت سيُسهم في تلبية احتياجات القطاعات الصناعية ومحطات توليد الطاقة الكهربائية من الغاز المحلي، مما يعزز استمرارية الإنتاج ويُدعم الصناعة الوطنية، مؤكداً أهمية الجهد الوطني والتعاون مع الشركات العالمية لزيادة معدلات الإنتاج. وحضر الاجتماع كل من وكيل الوزارة لشؤون الاستخراج باسم محمد خضير، ووكيل الوزارة لشؤون الغاز عزت صابر إسماعيل، ومحافظ كركوك ريبوار طه، ورئيس مجلس المحافظة، إلى جانب عدد من المدراء العامين في الوزارة. من جانبه، قال مدير عام شركة غاز الشمال، أحمد عبد المجيد، لوكالة شفق نيوز، إن "الإنتاج الحالي للشركة يبلغ نحو 380 مليون قدم مكعب قياسي (مقمق) من الغاز الجاف يومياً، إلى جانب إنتاج يتراوح بين 1100 إلى 1200 طن من الغاز السائل (LPG) و750 متراً مكعباً من الكازولين يومياً، فضلاً عن إنتاج الكبريت الذي يتراوح بين 120 إلى 125 طناً يومياً". وأشار إلى أن الغاز الجاف وغاز النفط المسال (LPG) يُخصصان للاستخدام الداخلي، في حين يُوجه الكازولين للشركات الاستثمارية مثل شركة البرهم، بينما يتم تصدير الكبريت عبر شركة سومو بعد إكمال العقود التصديرية"، مبيناً أن "لدى الشركة حالياً خزيناً استراتيجياً يزيد عن 600 ألف طن من الكبريت". وفي السياق ذاته، أوضح الخبير والأكاديمي في مجال الطاقة، حسن عبد الجبار، لوكالة شفق نيوز، أن "العقد المبرم مع شركة BP لا يقتصر على تطوير الحقول النفطية فقط، بل يتضمن بنوداً فنية مهمة تخص تحديث وتوسعة منظومة الغاز المرتبطة بشركة غاز الشمال". وبيّن أن "هذا التطوير يشمل استخدام تقنيات حديثة في معالجة الغاز واستخلاص المشتقات، ما سيُعزز كفاءة التشغيل، ويُقلل نسب الفاقد، ويسهم في تحويل الشركة إلى أحد المحاور الرئيسة لدعم المنظومة الوطنية للطاقة والاقتصاد". ولفت عبد الجبار إلى أن "تحديث هذه المنشآت من شأنه أن يدعم خطة العراق لزيادة الاعتماد على الغاز المحلي وتقليل الاستيراد، بما يحقق الاكتفاء الذاتي في عدة قطاعات".


الرأي العام
منذ 4 ساعات
- الرأي العام
انخفاض بأسعار الدولار في بغداد وأربيل مع إغلاق البورصة
سجلت أسعار صرف الدولار الأمريكي، انخفاضاً في أسواق العاصمة العراقية بغداد وأربيل، وذلك مع إغلاق البورصات، مساء اليوم الأربعاء. وانخفضت أسعار الدولار مع إغلاق بورصتي الكفاح والحارثية في بغداد، حيث بلغت 139,750 ديناراً مقابل 100 دولار، بعد أن كانت قد سجلت صباح اليوم 139,850 ديناراً مقابل 100 دولار. اما أسعار البيع في مكاتب الصيرفة بالأسواق المحلية في بغداد استقرت عند 140,750 ديناراً مقابل 100 دولار، بينما بلغ سعر الشراء 138,750 ديناراً. وفي أربيل، سجل الدولار أيضاً انخفاضاً، إذ بلغ سعر البيع 139,675 ديناراً لكل 100 دولار، وسعر الشراء 139,650 ديناراً.