
مادلين: جدوى السفينة الصغيرة في مواجهة الاحتلال
اقتحمت قوات كوماندوز إسرائيلية فجر الاثنين (9 يونيو/ حزيران 2025) السفينة "مادلين" التابعة لأسطول الحرية (FFC) التي تحمل 12 ناشطًا دوليًا وشحنة رمزية من المساعدات بهدف كسر الحصار البحري على غزة، وذلك أثناء وجودها في المياه الدولية، بالقرب من شواطئ غزة.
وأفادت تقارير بأنّ السفينة تعرضت لتشويش في الاتصالات ورش بمادة بيضاء مهيجة من طائرات مسيرة قبل عملية الاقتحام. ووثّق النشطاء على متن السفينة اللحظات الأخيرة قبل انقطاع الاتصال، حيث ظهروا وهم يرتدون سترات النجاة ويستعدون للاعتقال، مع دعوات لإلقاء الهواتف المحمولة في البحر.
أكدت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن السفينة "مادلين" في طريقها إلى إسرائيل، ووصفت المبادرة بأنها "استعراض إعلامي"، مشيرة إلى أن المساعدات على متنها سيتم تحويلها إلى غزة عبر القنوات الإنسانية الرسمية، وأن الركاب سيُعادون إلى بلدانهم الأصلية.
وجاءت خطوة انطلاق هذه السفينة بعد حرب إبادة تشنها إسرائيل على سكان قطاع غزة، حيث شددت إغلاقها البري والبحري والجوي على القطاع بشكل غير مسبوق، مما أدّى إلى نقص حادّ في الغذاء والمواد الأساسية لأكثر من 90 يومًا.
ولهذا، مثلت رحلة السفينة مادلين محاولة جديدة وشجاعة لمقاومة الحصار، وإعادة طرح ملفه على الساحة الدولية، ما يطرح تساؤلات حول خلفيات هذه المحاولة، وسوابق محاولات كسر الحصار بحريًا، وما يقوله القانون الدولي وقانون البحار في شأن حصار غزة، واعتراض السفن المدنية، وأخيرًا حول فرص نجاح مثل هذه الجهود فعليًا في إنهاء الحصار.
لماذا سفينة "مادلين"؟
جاء إطلاق سفينة "مادلين" في ربيع 2025 كاستجابة مباشرة للتدهور الإنساني غير المسبوق في قطاع غزة بعد الحرب الأخيرة، وكثمرة لتنسيق دولي ضمن ائتلاف أسطول الحرية. اختير اسم "مادلين" تيمّنًا بأول سيدة تعمل بصيد الأسماك في غزة، في إشارة إلى الصمود الفلسطيني، وقدرة النساء على خوض غمار التحدي.
وشارك في الرحلة ناشطون بارزون، منهم السويدية غريتا تونبرغ، والممثل الأيرلندي ليام كاننغهام، بهدف جذب الأنظار عالميًا لمعاناة نحو مليونَي فلسطيني محاصرين. وأكد المنظمون على الطبيعة الإنسانية والاحتجاجية للمهمة: فالسفينة تحمل كميات محدودة لكن رمزية من الإمدادات الطبية والغذائية، وتهدف إلى التحدي المباشر للحصار الإسرائيلي المفروض بحرًا على غزة.
هذه المحاولة جاءت أيضًا بعد أحداث مقلقة تعرضت لها مؤخرًا سفينة أخرى تابعة لأسطول الحرية تحمل اسم "الضمير" في مطلع مايو/ أيار 2025 إذ تم مهاجمتها بواسطة طائرتي درون مجهولتين في عرض البحر الأبيض المتوسط قرب مالطا، مما أعاق إبحارها.
وقد وجّه الائتلاف أصابع الاتهام إلى إسرائيل بتنفيذ ذلك الهجوم غير المسبوق لمنع وصول أي سفينة إلى غزة. ورغم عدم اعتراف إسرائيل أو تعليقها على الحادثة، اعتُبر استهداف سفينة مدنية في المياه الدولية تصعيدًا خطيرًا، وانتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.
وأشارت تونبرغ، التي كان من المقرر أن تبحر على متن "الضمير" قبل الهجوم، إلى أنهم "مستمرون في المحاولة مهما كانت الصعاب"، مضيفة أن خطر هذه المهمة لا يُقارن بخطورة صمت العالم على ما يُرتكب من إبادة بحق حياة المدنيين في غزة.
وتعكس هذه التصريحات دافعًا أخلاقيًا قويًا لدى النشطاء، فهم يعتبرون أن التقاعس الدولي عن إنهاء الحصار يفقد المجتمع الدولي إنسانيته، لذا يجب التحرك ولو بسفينة مدنية صغيرة. وقد شدّد الناشطون قبل انطلاق رحلتهم على أنهم على تواصل مع هيئات قانونية وحقوقية دولية؛ لضمان سلامة المتطوعين، وحذروا من أن أي اعتراض بالقوة لسفينة مادلين سيُعدّ "انتهاكًا سافرًا للقانون الدولي الإنساني" (وهو ما حدث).
كما تجدر الإشارة إلى أن بريطانيا رفضت طلبًا إسرائيليًا لمنع انطلاق السفينة، رغم أنها ترفع العلم البريطاني، ما اعتُبر مؤشرًا سياسيًا على عدم شرعية منع الرحلة قانونيًا.
باختصار، تمثل "مادلين" جهدًا دوليًا منسقًا يجمع بين الرمزية الإنسانية: (إيصال مساعدات رمزية، وإحياء الأمل لدى سكان غزة)، وبين الاحتجاج المدني السلمي الذي يكشف طبيعة الحصار. إنها صرخة في وجه استمرار حصار عمره الآن قرابة 17 عامًا، تُطلقها مجموعة من نشطاء المجتمع المدني نتيحة تخلي الحكومات عن أداء واجباتها القانونية والأخلاقية.
وكما قال الممثل ليام كاننغهام أثناء توديع السفينة في ميناء قطانية: "عندما لا تقوم الحكومات بالوقوف عند التزاماتها القانونية بموجب القانون الدولي، يتعين على مجموعة متنوعة مثل هذه أن تحاول تحقيق ذلك".
تجارب تاريخية لكسر الحصار البحري
ليست سفينة "مادلين" سوى الفصل الأحدث في سلسلة من المحاولات البحرية لكسر الحصار المفروض على غزة. أول اختراق ناجح سُجّل في أغسطس/ آب 2008 عبر حركة "غزة الحرة"، حيث وصلت سفينتا "الحرية" و"غزة الحرة" إلى ميناء غزة، حاملتين متضامنين دوليين ومساعدات رمزية. تكررت الرحلات في خريف العام نفسه، أبرزها سفينة "الكرامة"، لكن إسرائيل سرعان ما شدّدت الحصار وبدأت باعتراض السفن.
بلغت المواجهة ذروتها في مايو/ أيار 2010 مع "أسطول الحرية" المؤلف من ستّ سفن، أبرزها "مافي مرمرة" التركية. اعترضت البحرية الإسرائيلية الأسطول في المياه الدولية، وأنزلت قوات كوماندوز إلى السفينة، ما أدى إلى مقتل تسعة متضامنين وإصابة العشرات (وتوفي عاشر لاحقًا).
وقد دان تقرير أممي الحادثة، مشيرًا إلى أن بعض القتلى أُعدموا من مسافة قريبة. أدّت المجزرة إلى أزمة بين تركيا وإسرائيل، وأرغمت الأخيرة على تخفيف جزئي للحصار البري في يونيو/ حزيران 2010، عبر السماح بدخول بعض السلع المدنية. أما الحصار البحري، فاستمر بأشكال مختلفة حتى اليوم.
وبعد مجزرة مرمرة عام 2010، واصل "أسطول الحرية" محاولاته لكسر الحصار على غزة بأساليب سلمية لتفادي إراقة الدماء. بين 2011 و2018، أبحرت عدة سفن وقوارب، منها "قارب النساء"، لكنها جميعًا اعترضت دون عنف من البحرية الإسرائيلية التي احتجزت النشطاء مؤقتًا ثم رحّلتهم. ورغم تنوّع المبادرات، بقي نمط التعامل الإسرائيلي ثابتًا: اعتراض السفن قبل وصولها، ومصادرتها أو تفتيشها، دون السماح بالوصول لغزة. بيدَ أن هذه الجهود، رغم منعها ميدانيًا، ساهمت في فضح الحصار، إحراج إسرائيل، وإبقاء القضية حيّة دوليًا، وصولًا إلى تنازلات جزئية، منها تخفيف بعض القيود، والاعتذار لتركيا عام 2016.
الحصار البحري على غزة: قرصنة مشرعنة
أثار اعتراض السفن المدنية المتجهة إلى غزة أسئلة حاسمة حول مشروعية الحصار الإسرائيلي وتصرفاته في عرض البحر. فالقانون الدولي الإنساني لا يجيز فرض الحصار إلا بشروط صارمة، وعلى رأسها ألا يُستخدم لمعاقبة السكان المدنيين أو حرمانهم من احتياجاتهم الأساسية.
المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة تحظره صراحة باعتباره عقابًا جماعيًا. وبحسب بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة عام 2010، فإن حصار غزة يشكل انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي، إذ فُرض لمعاقبة سكان القطاع سياسيًا، وكانت آثاره المدمرة دليلًا على طبيعته غير القانونية.
أما من منظور القانون البحري، فلا يحق لأي دولة – خارج تفويض من مجلس الأمن – فرض حصار على إقليم آخر، لا سيما إذا كان يستهدف مناطق مدنية. اعتراض إسرائيل للسفن في أعالي البحار، كما حدث في "أسطول الحرية" و"الضمير" ثم في "مادلين"، يتجاوز القواعد المعمول بها دوليًا. فوفق "دليل سان ريمو" و"دليل نيوبورت"، لا يجوز استخدام القوة ضد سفن مدنية إلا بعد إنذارها ورفضها الواضح التفتيشَ. الهجمات الإسرائيلية، التي غالبًا ما تتم دون سابق إنذار، تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون البحري الدولي.
وتذهب بعض الآراء الحقوقية إلى وصف هذه الممارسات بأنها قرصنة بحرية برعاية دولة، خصوصًا حين تُرتكب في المياه الدولية ضد سفن إغاثة. وقد خلص تقرير لجنة الأمم المتحدة عام 2011 إلى أن استخدام القوة ضد "مرمرة" كان مفرطًا وغير مبرر، فيما رفض مجلس حقوق الإنسان لاحقًا أي تبرير قانوني للحصار، معتبرًا أنه يُخضع مليونَي فلسطيني لعقوبة جماعية.
وعلى ضوء التزامات إسرائيل كقوة قائمة بالاحتلال، فإن القانون الدولي يلزمها بضمان وصول المساعدات وحماية المدنيين. وقد وصفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الحصار بأنه "خنق غير مشروع"، كما اعتبره الاتحاد الأوروبي "غير مقبول.
جدوى السفن الصغيرة
بعد استعراض السياق التاريخي والقانوني، يبرز السؤال المحوري: هل يمكن لمبادرات مدنية بحرية كهذه أن تُحدث تغييرًا ملموسًا وتنهي حصار غزة فعليًا؟ من الناحية العملية البحتة، تمتلك إسرائيل تفوقًا عسكريًا مطلقًا في البحر المتوسط جعل من المستحيل لسفينة صغيرة كسفينة "مادلين" اختراق الدفاعات البحرية والوصول إلى شاطئ غزة عنوةً.
لقد أثبتت التجارب منذ 2008 أن إسرائيل ستستخدم كل ما لديها – من وسائل دبلوماسية وضغوط على الدول وحتى القوة العسكرية المباشرة – للحيلولة دون رسوّ أي مركب دولي في غزة دون إذنها. وبالتالي، فإن احتمال نجاح مادي مباشر لمثل هذه الرحلات في تفريغ حمولتها بميناء غزة يظل ضئيلًا جدًا ما لم يحصل متغير غير عادي (كأن ترافقها مثلًا قطع بحرية لدول متعاطفة أو حماية أممية، وهو أمر غير متاح حاليًا).
بيد أن النظر إلى الجدوى فقط بمنظار مادي آنيّ قد لا يكون منصفًا لتقييم هذه التحركات. فنجاح هذه المحاولات يُقاس أيضًا بأثرها السياسي والإعلامي وبما تحدثه من حراك دبلوماسي وضغط شعبي على الحكومات.
لقد رأينا كيف أدى سقوط ضحايا في 2010 إلى تخفيف قبضة الحصار ولو جزئيًا، وكيف أن وجود شخصيات مرموقة اليوم مثل غريتا تونبرغ يعطي القضية زخمًا إعلاميًا عالميًا. كما أن الإصرار المتكرر عامًا بعد عام على تسيير القوارب، حتى لو كانت تُعاد على أعقابها، قد ساهم في إبقاء مأساة غزة حيّة في الضمير العالمي، وعدم تطبيع الحصار كأمر واقع.
لقد نجح النشطاء في فضح السياسات الإسرائيلية ووصفها بصوت عالٍ بأنها غير شرعية بل وإبادة بطيئة كما لمحت تونبرغ وآخرون، وساعدوا في تعبئة الرأي العام الدولي عبر حملات التضامن والإعلام البديل. وهذه العوامل تشكل بدورها ضغطًا على صنّاع القرار في العواصم الغربية وفي الأمم المتحدة للتحرك – ولو تدريجيًا- نحو معالجة الأزمة الإنسانية في غزة.
ومن المنظور القانوني، تُمثّل هذه المحاولات المدنية السلمية رسالة واضحة بأن الحصار الإسرائيلي يفتقر إلى أي غطاء دولي أو قبول قانوني، وأن هناك من يجرؤ على تحدّيه باسم القانون وحقوق الإنسان. فحين يواجه متطوّعون عزّل قوة بحرية كبرى، فإنهم يعرّون تقاعس المجتمع الدولي، ويجسدون واجبًا إنسانيًا أهملته الحكومات.
وكما قال ليام كاننغهام، فإن عجز الدول عن الوفاء بالتزاماتها القانونية دفع النشطاء المدنيين للتحرك. وبذلك، تُضاعف هذه الجهود من الكلفة السياسية والمعنوية لاستمرار الحصار، وتُبقي على مسؤولية الدول الكبرى في دائرة الضوء.
ومع ذلك، من الواضح أن رفع الحصار عن غزة لن يتحقق دفعة واحدة عبر قارب أو مبادرة رمزية، لأن المشكلة أعمق من الحصار نفسه؛ فهي متجذّرة في وجود منظومة احتلال لا تُساوَم، بل يجب أن تزول.
غير أن هذا الاحتلال لا يستمد استمراره من قوته الذاتية فحسب، بل من رعاية دولية منظّمة، تقدمها قوى كبرى توفر له الحماية السياسية والعسكرية على امتداد الساحة الدولية. وهذا ما يجعل مهمة تفكيكه أكثر تعقيدًا، ويجعل من كل محاولة مدنية – مهما بدت بسيطة – فعلًا مقاومًا يواجه هذه المنظومة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين اليوم
منذ 7 ساعات
- فلسطين اليوم
محكمة إسرائيلية تبقي على احتجاز 8 من نشطاء السفينة "مادلين" إلى حين ترحيلهم
صادقت محكمة الإسرائيلية صادقت على إبقاء احتجاز ثمانية نشطاء، كانوا على متن سفينة مادلين التي كانت في طريقها من إيطاليا إلى غزة، لكسر الحصار، إلى حين ترحيلهم، علماً أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي كانت قد قامت قبل ذلك بترحيل أربعة من بين النشطاء الـ12 الذين كانوا على متن السفينة. وقالت المحامية هديل أبو صالح من مركز عدالة الذي يمثّل سبعة من بين النشطاء إنه لا توجد فترة محددة للاعتقال في القرار، وأن ذلك منوط بأمور من بينها، استكمال دائرة الهجرة الإسرائيلية إجراءاتها وتوفير تذاكر طيران مباشر إلى بلدان كل واحد من النشطاء. وأشارت أبوصالح إلى موقف المعتقلين، بأنهم يعتبرون أنه جرى اختطافهم من قبل القوات الإسرائيلية، كما أن موقف من يمثلهم مركز عدالة، السماح لهم بالعودة إلى السفينة ومتابعة طريقهم إلى قطاع غزة، وإلا فإنهم يفضلون البقاء رهن الاعتقال على ترحيلهم. ولفتت إلى أنه بعد 96 ساعة من لحظة اقتيادهم لميناء أسدود واعتقالهم، والتي تنتهي مساء غد، سيكون بالإمكان ترحيل النشطاء حتى بدون موافقتهم. كما ذكرت أن من بين الناشطين من شرع في إضراب عن الطعام .


معا الاخبارية
منذ 11 ساعات
- معا الاخبارية
مسيرات كسر الحصار العالمية إلى غزة، من الفعل الرمزي إلى بناء التضامن الأممي .
وسط دوي القصف على غزة ، وفي زمن تتقاطع فيه المحرقة والإبادة بالصمت الدولي ، تشكلت مبادرة "المسيرة الدولية إلى غزة" و "أسطول الحرية" و "قافلة الصمود" وغيرها ومنها سفينة مادلين ، كفعل رمزي وإنساني وسياسي يحمل رسالة مفادها أن فلسطين وغزة منها ليست وحدها . مبادرة ولدت من رحم المجازر ، واستجابت لرفض تواطؤ النظام الدولي ، فتحركت من قاع الغضب الشعبي بشوارع العالم لتعلن أن الكرامة لا تقبل الحصار والتجويع ، وأن الشعوب يمكن أن تكون البديل حين تفشل الحكومات وتُصادر العدالة . -- فكرة المبادرة وأبعادها . انبثقت فكرة المسيرة من أوروبا ، من أصوات الشارع المتضامن مع فلسطين، ومن لجان وحركات شعبية تقدمية ترفض الإبادة الجماعية والتطوير العرقي التي تنفذها إسرائيل في غزة والضفة الغربية بما فيها القدس . كان الهدف المباشر هو كسر العزلة الخانقة المفروضة على قطاع غزة من خلال تحرّك جماهيري سلمي يصل الى نقطة رفح وينطلق منها الى غزة . لكن جوهر الفكرة كان أعمق وهو يتلخص في إعادة الاعتبار للبعد الإنساني والحقوقي لقضيتنا الوطنية الفلسطينية التحررية ، وفضح الصمت الدولي كشكل من أشكال التواطؤ . وسرعان ما تحولت الفكرة إلى مسيرة أممية مستمرة بكل ما تعنيه الكلمة ، سيشارك فيها آلاف المتطوعين من مختلف الجنسيات الأوروبية ، بحيث تكون المسيرة واحدة من أوسع حركات التضامن الشعبي العالمي مع غزة منذ عقود ، ليس فقط من حيث العدد ، بل من حيث المعنى السياسي والرمزي لما تحمله ، الى جانب مسيرة قافلة الصمود المنطلقة من المغرب وتونس والجزائر عبر مصر . -- رمزية الفعل في سياق العزلة والمجزرة . في لحظة يحاول فيها الأحتلال عزل غزة جغرافيا وسياسيا ونفسيا ، تأتي هذه المسيرة لتكسر الصمت وتعيد تموضع القضية الفلسطينية في الوعي العالمي . إن كسر الحصار لم يعد هدفا إنسانيا فحسب ، بل بات فعلا سياسيا مقاوما ، يتحدى أنظمة التواطؤ الإقليمي والدولي ، وينقل مركز الفعل من غرف الصفقات إلى شوارع الشعوب وضمائرها. بهذا المعنى ، فإن المسيرة ليست مجرد دعم إنساني ، بل تعبير عن إرادة أممية في مواجهة الإستعمار والعقاب الجماعي ومناهضة الانسانية ، ورفض للتطبيع الأخلاقي مع القتل والتهجير . إنها إحياء لفكرة التضامن الأممي الذي لطالما شكل سندا لحركات التحرر في جنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية ، واليوم من أجلنا نحن في فلسطين . -- من سفينة "مادلين" إلى تأسيس الفعل التضامني المستدام . لقد جسّدت سفينة "مادلين" الصغيرة في حجمها ، العظيمة برسالتها صورة حية لهذا التضامن الأممي . لم يكن متوقعا أن تسمح إسرائيل بوصول السفينة إلى شواطئ غزة ، لكنها وصلت معنويا إلى العالم بأسره ، ونجحت في إحراج "الواحة الديمقراطية" المزعومة ، التي لا تقوى على مواجهة مجموعة من النشطاء المتطوعين دون استخدام القوة البحرية والجوية والكوماندوز المتهم بجرائم حرب خاصة بالمياه الدولية . لقد اعتُقلت السفينة ومن عليها من المتضامنين ، لكنها أنجزت مهمتها . ومن على متنها ، خرج مئات السفراء الجدد لفلسطين من شعوب العالم ، ليكشفوا أمام الرأي العام الدولي حجم الوحشية والإنحطاط الأخلاقي لدولة الأحتلال . وهي لن تكون الأخيرة ، فقد بدأت موجات أخرى من الاستعداد لإرسال مزيد من السفن والمتضامنين من موانئ البحر الأبيض المتوسط إلى ميناء غزة المدمر والى معبر رفح لكسر الحصار وتوسيع دوائر الفضح والمساءلة . تصريح الخبيرة الأممية فرانشيسكا ألبانيزي بأن "كسر حصار غزة التزام قانوني على الدول ، وضابط أخلاقي على الشعوب" ، يضيف بُعدا حقوقيا حاسما ، ويؤكد مسؤولية العالم ، لا فقط في التضامن ، بل في التحرك القانوني والفعلي ضد الاحتلال الاستيطاني ، الذي يجب إنهاؤه لا فقط التخفيف من آثاره. -- الرأي الأستشاري لمحكمة العدل الدولية ، دعم قانوني لحراك الشعوب . في هذا السياق ، لا بد من التذكير بأن محكمة العدل الدولية أصدرت قبل نحو شهر رأيا استشارياً واضحا يطالب بإنهاء الأحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بجدول زمني واضح باعتباره انتهاكا صارخا للقانون الدولي ولحق الشعوب في تقرير مصيرها . ويمثل هذا الرأي إنجازا قانونيا وسياسيا وأخلاقيا للشعب الفلسطيني ، يجب البناء عليه فلسطينيا كمرتكز نضالي في مشروع التحرر الوطني ، واعتماده كمرجعية قانونية لمواصلة المواجهة مع الإستعمار الأستيطاني والفكر الصهيوني العنصري الأحلالي ، الذي يحاول نزع الطابع التحرري عن القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد أزمة إنسانية أو "نزاع طويل" بل وإلى سعيه إلى إنهاء الوجود الفلسطيني . لكن ، في المقابل لا يمكن التعويل على بعض المبادرات السياسية التي تطرحها دول أوروبية بعينها ، خاصة تلك التي تحاول عبرها إنقاذ نفسها من الإدانة الأخلاقية والشعبية المتصاعدة بسبب تواطئها أو صمتها حيال الإبادة في غزة والضفة . هذه المبادرات لا تنطلق من نية صادقة لتكريس الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني ، بل تسعى في كثير من الأحيان إلى الالتفاف على جوهر القضية الوطنية ، وإفراغها من بعدها التحرري ، وتحويلها إلى مسارات تفاوضية عقيمة تعيد إنتاج التبعية ، وتمنح الأحتلال شرعية مموهة . لذلك ، فإن مسؤوليتنا الوطنية تستدعي الوضوح التام ، لا بد من تثبيت الرأي الأستشاري كمرجعية ملزمة أخلاقيا وقانونيا ، والعمل على تحويله إلى أداة ضغط شعبي ورسمي على المستوى الدولي ، مع تعرية محاولات الألتفاف عليه ، ورفض أي مبادرة لا تنطلق من الاعتراف الكامل بحقوقنا الوطنية والتاريخية ، وخصوصا حل قضية اللاحئين وفق القرار الأممي ١٩٤ وحق تقرير المصير . كما إن هذا الرأي الأستشاري يشكل مرجعية قانونية وأخلاقية لحركات التضامن الدولية ، ويمنحها شرعية مضاعفة لتحويل الضغط الشعبي إلى مطلب قانوني أممي واضح ، إنهاء المجازر والمحارق والأحتلال فوراً وأولاً ، وليس فقط "إدارته" أو تحسين صورته . -- نحو فعل فلسطيني تضامني متجذر ومتبادل . ان فلسطين اليوم ليست فقط ضحية لأحتلال عسكري بل لمشروع أستعماري أستيطاني إحلالي ، ونموذج كاشف لكل منظومات الاضطهاد العالمي والعنصرية مختلفة الاشكال ، وما التضامن مع فلسطين إلا تعبير عن وحدة مصير الإنسانية في وجه الظلم وفكر الإستعمار الغربي الحديث ، تماما كما أن دفاعنا عن قضايا أمريكا اللاتينية وإفريقيا والجنوب العالمي واللاجئين هو جزء لا يتجزأ من نضالنا الوطني الفلسطيني . -- فلسطين في قلب حركة الشعوب . لن تنجح إسرائيل في خنق صوت فلسطين وغزة على وجه الخصوص ، لا بالقصف ولا بالحصار او القتل والتجويع والتهجير . فالصوت الذي خرج من موانئ المتوسط ، ومن شوارع مدريد وباريس ولندن وبرلين وحتى نيويورك ، ومن مرافئ إيطاليا واليونان ، هو بداية لحركة شعوب لن تتوقف . وهي ليست فقط من أجل غزة ، بل من أجل عالم أكثر عدلاً ، أكثر إنسانية وأكثر مساواة واكثر كرامة إنسانية . إن تحويل التضامن مع فلسطين إلى مشروع أممي تحرري طويل النفس هو مسؤولية وطنية وضرورة استراتيجية ، تضعنا جميعا فلسطينيين وأحرار العالم في خندقٍ واحد ، ضد الإستعمار والغطرسة والأحتلال والعنصرية وضد الصمت ، ومن أجل الحرية والكرامة الإنسانية .


معا الاخبارية
منذ 14 ساعات
- معا الاخبارية
سفينة مادلين: حين يخاطر الأحرار بحياتهم... ويكتفي العرب بالتفرج
لم تكن سفينة "مادلين" المتجهة إلى غزة مجرد قارب صغير يشق أمواج البحر، بل كانت صرخة في وجه الصمت العالمي، ورسالة بحجم المأساة الفلسطينية، وراية للحرية ترفرف من قلب البحر المتوسط إلى ضمير البشرية، تلك السفينة لم تحمل سلاحًا ولا جيوشًا، بل حملت عزيمة أحرارٍ من مختلف دول العالم، جاءوا بأجسادهم العزلاء ليقفوا في وجه أعتى منظومة احتلال، ويقولوا للعالم: غزة ليست وحدها . ركب هؤلاء المتطوعون، رجالاً ونساء، بحرًا تدرك كل موجة فيه معنى أن تعترضك البحرية الإسرائيلية، وأن يُسحب القارب بالقوة، وأن تُزج في السجون أو يُعتدى عليك. ومع ذلك أبحروا. لم يكونوا فلسطينيين، ولم يكونوا عربًا، بل أجانب لا يربطهم بغزة سوى شعور إنساني خالص بالعدالة والحرية والرفض القاطع للحصار والقتل الجماعي. خاطروا بحياتهم لا لأجل وطنهم، بل لأجل شرف البشرية الذي يُداس كل يوم على حدود القطاع . وفي المقابل، كان المشهد في الضفة الأخرى من البحر مُخزيًا. عربٌ يملكون الأساطيل والموانئ، والطائرات والمطارات، والفضائيات والمنابر، لكنهم اكتفوا بالتفرج. صمتوا، وربما تمنوا في قرارة أنفسهم أن لا تصل السفينة، كي لا تُحرج أنظمتهم وتكشف عجزهم. بعضهم برر، وبعضهم تجاهل، وبعضهم أغمض عينيه وكأن غزة بلد غريب لا يعنيه . هنا تكمن المفارقة المؤلمة: من يتكلم باسم العروبة يُصادر، ومن يتكلم باسم الإنسانية يُبحر. لقد أصبحت قضية فلسطين، في زمن الانحطاط العربي، عبئًا على بعض الأنظمة التي تلهث للتطبيع، بينما تحولت إلى بوصلة للكرامة عند الشعوب الحرة خارج هذه المنطقة، ولهذا أبحرت "مادلين" لا لكي تكسر الحصار فقط، بل لكي تكسر الجدار الصامت الذي بناه العرب حول غزة. لقد كانت مهمة السفينة ناجحة بكل المقاييس، ليس لأنها وصلت، بل لأنها أوصلت، أوصلت صوت غزة إلى كل بيت، وفضحت وحشية الاحتلال وجبنه في مواجهة ناشطين عزّل، وعرّت نفاق العالم، وأعادت إحياء المأساة في ضمير الإنسانية. لكن في قلب هذا الإنجاز، يظل السؤال الموجع حاضرًا: لماذا لم تبحر هذه السفينة من بلد عربي ؟ ربما لأن قلوبهم غرقت في بحر التطبيع، أو لأن أنظمتهم منعتهم من أن يبحروا، أو لأنهم اعتادوا على مشهد المذبحة حتى فقدوا الإحساس بالدماء . "مادلين" ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها. هي دعوة لكل أحرار هذا العالم كي يركبوا قواربهم ويكسروا الحصار، ودعوة لكل صامتٍ كي يسمع صوت غزة ولو من أعماق البحر.