
حين ينسحب الظّلّ ولا تغيبُ الشمس (!)
لم يكن مشعل السديري مجرد كاتب زاوية. كان نبرةً خاصة، وموقفاً أنيقاً، وفكرةً تصل إلى القارئ من دون ضجيج ولا صراخ. ففي زمنٍ ازدحم فيه المنبر الصحفي بالتحزّب والتكلف والاستعراض، كان هو يختار طريقاً مختلفاً: سخرية رشيقة، وعقلانية مرحة، وخطاباً فيه من الذكاء بقدر ما فيه من العفويّة.
غيابه لم يكن مجرد غياب مقال، بل غياب أسلوب.
غيابه ترك مساحة شاغرة لا يُمكن ملؤها بسهولة.
ذلك أن الكُتَّاب من نوع (مشعل) لا يتكررون كثيراً، وإن تكرروا فإنهم لا يدومون كما دام هو.
لا أحد من محبيه يعرف يقيناً أسباب هذا الغياب: هل هو قرار بالعزلة؟ هل هو تعبٌ من الكتابة؟ أم تعبٌ من العالم؟
لكن المؤكد أن الغياب كان صامتاً كحزنه، عميقاً كأثره.
أكتبُ اليوم ليس لأستدعيه بالضرورة، بل لأقول له:
لقد كنتَ هنا، وما زلت. كتاباتك باقية في الذاكرة، وبصمتك محفوظة في الوجدان، والقلوب التي أحبّتك ما زالت تنتظر صباحاً يشبهك.
سلامٌ عليك أيها الغائب الحاضر، وإن عدت، فمرحباً بك، وإن آثرت البقاء في عزلتك، فالدعاء والامتنان لك من قرّائك الذين لم ينقطعوا عنك، حتى حين انقطعت عنهم. أقول ذلك لأن ثمة غيابات لا تُفسَّر، ولا تُعَوَّض، ولا يُستعجل نسيانها. غياباتٌ تختبر ذاكرتنا، وتربك عاداتنا، وتمتحن وفاءنا لمن اعتدنا حضورهم من غير أن نشعر بثقلهم.
كان السديري طوال عقودٍ أحد أكثر الأصوات تفرّداً في الصحافة السعودية والعربية. كاتبٌ لا يتشابه، ولا يتصنّع، ولا يستعرض. يكتب كمن يهمس لقارئ ذكيّ، ثم يترك له أن يبتسم، أو يتأمل، أو يتذكّر شيئاً كان قد نسيه.
لم تكن زواياه اليومية، وشبه اليومية، مجرّد نصوص ساخرة، بل كانت تمارين على الفهم، وترويضاً للوجدان على تقبّل الواقع بجرعة من العقل والمرونة.
لم يكن يُلقّنك موقفاً، ولا يجرّك إلى قناعة، بل يعرض لك المشهد كما يراه من فوق، محمولاً على طائر من خفة الظل، ثم يتركك حيث يشاء وعيك.
غيابُ (مشعل) اليوم يشبه انسحاب ظلٍّ طويلٍ عن جدارٍ اعتدت النظر إليه كل صباح. لا أحد قال إن النهار انتهى، لكنّ شيئاً (ما) اختلّ في الصورة.
ما يزال الناس يسألون عنه: أين هو؟ لماذا توقف؟ هل هي وعكة صحية؟ أم عزلةٌ يختارها الكبار حين يستشعرون امتلاء الكأس؟! لا أحد يعرف.
كلّ ما لدينا هو مساحة بيضاء كانت تُملأ بالحياة، ومقاعد فارغة في الصباحات التي كانت تبدأ بجملته الأولى. والمفارقة أن مشعل، رغم حضوره الساحر، كان زاهداً في الظهور. فلم يكن من أولئك الكتّاب الذين يتحدثون عن أنفسهم، أو يقدّمون كتاباتهم باعتبارها موقفاً مصيريّاً، بل كان يكتفي بأن يكون كما هو.
في غيابه، يتبيّن لنا كم كان مهمّاً.
لا لأنه كان يرفع صوته، بل لأنه كان يرفع الذائقة.
لا لأنه كان صاخباً، بل لأنه كان مختلفاً.
هو من القلائل الذين فهموا أنّ خفّة الظل موهبة، وأنّ الذكاء لا يحتاج إلى صراخ، وأن الموقف حين يُصاغ بلغة راقية، يصل أبعد من أيّ صدام.
وقد لا أبالغ إذا قلت إن مشعل السديري أسّس مدرسة كاملة في كتابة العمود الصحفيّ، مدرسة قائمة على احترام القارئ، وتطويع اللغة، ومصادقة الفكرة. مدرسة لا تنتمي إلى الإيديولوجيا بقدر ما تنتمي إلى «الذوق»، ولا تسعى إلى التأثير العابر، بل إلى البقاء الهادئ.
هل يعود؟ لا نعلم.
هل نطالبه بالعودة؟ ليس وفاءً أن نثقل على من أحببناهم، حين يختارون أن يبتعدوا.
لكنه لو قرأ هذه الكلمات، فليعلم أن الذين أحبّوا كتابته، لم يقرؤوها ليروا أنفسهم، بل ليروا العالم من زاوية أكثر اتساعاً، وأن الذين انتظروا عموده كل صباح لم يفعلوا ذلك عادةً، بل محبة، وأن الذين يسألون عنه اليوم لا يسألون عن «الكاتب»، بل عن «الصوت»، عن المذاق الذي افتقدوه، عن العقل الهادئ الذي كان يُرمّم لهم فوضى الأخبار والكلام والضجيج.
أخيراً..
إلى مشعل السديري:
سلامٌ عليك في غيابك.
سلامٌ على قلمك، وعلى نبرتك، وعلى أثرك.
سلامٌ على العابر الخفيف، الذي مضى من دون أن يُدير ظهره، ولا أن يغلق الباب.
نحن لا نطلب عودتك،
نحن فقط نذكّر أنفسنا أنك كنت هنا،
وأنّ مَن كان هنا بهذه الأناقة.. لا يمكنُ أنْ يُنسى!
أخبار ذات صلة
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرجل
منذ ساعة واحدة
- الرجل
السماعات والهواتف القديمة وكاميرات الفيلم: كيف تعيد الموضة صيحات التكنولوجيا؟
هل لاحظت، عزيزي الرجل، كيف انتشرت مؤخرًا السماعات السلكية من جديد؟ أو ربما كيف أصبحت كاميرا الفيلم أكثر أنواع الكاميرات شهرةً وطلبًا بين الشباب والمراهقين؟ وكيف أن الموضة القديمة تعيد باستمرار تكرار نفسها وإعادة صياغتها باختلاف الأوقات والأزمنة؟ نعم، كل شيء قديم يعود من جديد! كاميرات الفيلم القديمة تعود من جديد - المصدر: Unsplash مستقبل الإكسسوارات مستوحى من الماضي يشهد كلٌّ من عالمي الموضة والتكنولوجيا طفرة واسعة في عودة الصيحات القديمة، سواء في إكسسوارات التكنولوجيا أو الملابس والإكسسوارات عمومًا. فقد شهدت سماعات الأذن السلكية، أو كما يُطلق عليها بالإنجليزية Wired Headphones، انتعاشًا كبيرًا، ليس فقط كإكسسوار تكنولوجي، بل كصيحة موضة أيضًا. السمّاعات ذات الاسلاك تعود من جديد - المصدر: Unsplash الدوافع وراء وحي الماضي يشهد الانتشار الواسع لصيحات التكنولوجيا القديمة مزيجًا من الحنين إلى أوائل الألفية الثانية، ومظاهر جمالية تستوحي هذه الصيحات من الماضي وتعيد تقديمها في الحاضر. حيث يعكس هذا الاتجاه إقبالًا متزايدًا على الإكسسوارات التقنية القديمة، والرغبة في استخدامها ضمن أسلوب حياة بسيط يُحاكي زمن صدورها الأصلي، بعيدًا عن التركيز المفرط على الصيحات والتكنولوجيا المتسارعة. في تجارب أبسط، وأقل اعتمادًا على التقنيات الرقمية، يقود المشاهير وجيل Z هذا الانتعاش، الذي لم يُعِد فقط النور إلى الإكسسوارات والتكنولوجيا القديمة، بل أدّى أيضًا إلى تزايد ملحوظ في الطلب على هذه التقنيات كإكسسوارات تعبّر عن نوع من الاحتجاج على وتيرة التطور التكنولوجي السريع. حيث يعتمد الشباب اليوم ليس فقط على الإكسسوارات، بل أيضًا على الملابس المستوحاة من أوائل الألفية. من خلال هذا التقرير، جمعنا لك إكسسوارات كلاسيكية تتماشى مع تكنولوجيا اليوم، لتجعل من إطلالتك أكثر تميّزًا إذا كنت تشعر بالحنين إلى الماضي، دون الحاجة إلى التخلّي عن تكنولوجيا الحاضر! سمّاعات سلكية بنمط USB - C من Apple سمّاعات سلكية بنمط USB - C من Apple - المصدر: Apple توفر لك هذه السماعات الإطلالة الكلاسيكية التي تبحث عنها، بنمط USB-C لتمكينك من توصيلها بهاتفك الحديث. وعلى عكس جميع السماعات اللاسلكية الأخرى، لا تحتاج هذه السماعات إلى الشحن، ويمكن حملها بسهولة بفضل حجمها الصغير والعملي، من وإلى أي مكان. اقرأ أيضًا: سماعات بلوتوث 2025 فاخرة لأداء استثنائي في النادي الرياضي كاميرا بنمط Film متطوّرة من Leica كاميرا بنمط ىD-Lux 8 بإصدار محدود من لايكا Leica - المصدر : Leica هل تريد جودة الصور الخاصة بكاميرا الفيلم القديمة دون الدخول في متاعب شراء الافلام وتحميضها ومن خلال أداة سهلة الحمل والاستخدام ويمكن توصيلها بالحاسوب؟ هذه الكاميرا المميزة من علامة لايكا Leica توفّر لك ذلك وأكثر. هاتف ذكي قابل للطيّ من Samsung هاتف Galaxy Z-Flip 6 من سامسونج Samsung - المصدر : Samsung يُعد الهاتف القابل للطي أحد أكثر الإكسسوارات انتشارًا خلال الفترة الماضية، حيث يوفّر لك هذا الهاتف الذكي من سامسونج Samsung تجربة لا تُشعل في داخلك الحنين إلى الماضي فحسب، بل تمنحك أيضًا كل ما تحتاج إليه وأكثر في هاتف يلبي متطلبات الحاضر! وذلك من خلال شاشة قابلة للطي تجعل حجمه صغيرًا وأكثر عملية.


عكاظ
منذ 3 ساعات
- عكاظ
أفراح آل نجمي والظافري بزواج أمجد
بحضور عدد من الأهل والأقارب والأصدقاء والزملاء احتفلت أسرة آل نجمي بزواج الملازم أول أمجد بن موسى حسين نجمي على كريمة محمد بن علي يحيى ظافري، في إحدى قاعات الأفراح. وعبر العريس عن شكره لكل من حضر وشاركه الفرحة. أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 3 ساعات
- صحيفة سبق
بالصور.. "زواج المظافرة" يقلص 70% من التكاليف ويزف 28 شاباً وفتاة في نسخته الثامنة
حققت مبادرة "الزواج الجماعي" للمظافرة من قبيلة الجعدة من عتيبة، وفراً اقتصادياً تراوح بين 50 إلى 70% من تكلفة الزواج، مقارنة بالحفلات الفردية، وسجلت منذ انطلاقها عام 1437 هـ تكلفة إجمالية تجاوزت 2.5 مليون ريال. وشهد الحفل، الذي أقيم في قاعة نور الأمين بمحافظة الطائف، تكريم شيخ خامس المظافرة، مسيفر صويلح الجعيد، بمناسبة تقاعده من عمله مشرفاً في الإدارة المدرسية، وتقديراً لجهوده في دعم المبادرة منذ بدايتها. وقدّم أعيان الخامس هدية تذكارية للشيخ، كما أُهديت له قصيدة نظمها أبناء سعيد زمام الجعيد، وأداها المنشد خالد آل بريك، بمشاركة صفوف المظافرة. وأعرب الشيخ مسيفر الجعيد عن امتنانه للحضور، مؤكداً أن وجودهم هو أكبر تكريم له، مشيداً بتكاتف المظافرة ودعمهم المتواصل، ومشيراً إلى أن هذا النجاح لم يكن ليتحقق لولا تعاون الجميع. النسخة الثامنة من الحفل شهدت زفاف 28 شاباً وفتاة، ليصل إجمالي المستفيدين من المبادرة منذ انطلاقها إلى 266 مستفيداً. وأقيم الحفل بحضور شيخ شمل قبيلة الجعدة، الشيخ عائض بن ساير الجعيد، وعدد من المسؤولين، وشيوخ القبائل، والأعيان، وأبناء المظافرة. نظم الحفل أكثر من 30 عضواً ضمن ثمان لجان، بمشاركة نخبة من شعراء المحاورة في المملكة. وافتُتح الحفل الخطابي بآيات من القرآن الكريم، تلاها المهندس أيمن ضيف الله الجعيد، وتولى تقديمه عطا الله مسفر الجعيد، رئيس جمعية أدبي الطائف. وأكد شيخ المظافرة في كلمته أن المبادرة هي ثمرة تعاون وتخطيط وتنظيم، مشيراً إلى أنها مثال حيّ على التضامن الاجتماعي، ووسيلة لتخفيف الأعباء على الشباب المقبلين على الزواج. وأعلن خلال كلمته عن موافقة المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي على تسجيل "صندوق تكاتف وترابط" لخدمة أبناء المظافرة، على أن يكون مقره في محافظة الطائف، موضحاً أن العمل جارٍ حالياً على استكمال الإجراءات البنكية والإدارية لتدشينه قريباً. كما وجه شكره للمجلس الاستشاري، وفريق الزواج الجماعي، واللجان العاملة، على دعمهم المستمر، الذي كان له الأثر الأكبر في نجاح المبادرة. تخلل الحفل قصيدة ترحيبية من الشاعر حسن شامي الجعيد، ثم عُرض فيلم وثائقي استعرض مسيرة المبادرة. وتواصلت فقرات الحفل بأوبريت "المظافرة" من ثلاث لوحات ترحيبية واجتماعية ووطنية، شارك فيها شعراء ومنشدون من أبناء القبيلة. واختُتمت الفعالية بمحاورة شعرية أحياها نخبة من شعراء الوطن بمشاركة صفوف المظافرة، أعقبها تناول طعام العشاء احتفاءً بالمناسبة.