
ضد سايكس بيكو مع كينغ
لم يكن التكهن بأولوية الاختراق السوري الذي أنجزه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في غير مكانه، وجاء تصريح سفيره في تركيا ثم مبعوثه الخاص إلى سوريا توم باراك ليضفي على هذا الاختراق أبعاداً تتخطى اللحظة السياسية الراهنة إلى أبعاد تاريخية ورؤية استراتيجية مختلفة قد تتبناها الإدارة الأميركية الجديدة.
في التركيز على سوريا، دعماً لنظامها الجديد وتسهيلاً لمهامه، بل وحماية له من خصم إسرائيلي في الجنوب وحليف تركي طامح في الشمال، رهان أميركي على تجربة تخوضها قوى سورية وصلت إلى السلطة نتيجة إصرار دؤوب، ومعارك متدحرجة وخيارات متنوعة، لكنها تعبر في العمق عن خيارات سورية أساسية، وهي حققت في آن واحد تغييراً لنظام أتعب الإدارة الأميركية على مدى عقود، وابتز محيطه لسنوات طويلة، كما وجهت ضربة حاسمة لخصوم أميركا الرسميين، من إيران التي فقدت رأس جسرها إلى المشرق، إلى روسيا التي تنتظر مصير وجودها العسكري في بلاد الشام على رصيف التطورات السورية.
والرهان الأميركي لا يقتصر على سوريا، بل يمتد إلى محيطها، ومحيطها المقصود هو المنطقة الممتدة من العراق إلى لبنان وفلسطين، وهو ما يعنيه السفير الأميركي لدى تركيا توم باراك، مبعوث ترمب إلى سوريا، ولاحقاً، كما يبدو، إلى لبنان، عندما قال في تصريح نهاية مايو (أيار) الماضي بضرورة تغيير نظرة الغرب إلى منطقة الشرق العربي الذي يضم البلدان المذكورة.
انتقد باراك اتفاقية سايكس - بيكو (البريطانية - الفرنسية الموقعة عام 1916 بمشاركة روسيا قبل أن تنسحب منها)، وقال "لقد فرض الغرب قبل قرن من الزمان خرائط وانتدابات، وحدوداً مرسومة، لقد قسمت اتفاقية سايكس - بيكو سوريا ومنطقة أوسع، ليس من أجل السلام، بل من أجل المكاسب الإمبريالية، وقد كلف هذا الخطأ أجيالاً عديدة".
ويستنتج باراك، وهنا جوهر موقفه "لن نكرر هذا الخطأ مرة أخرى، لقد انتهى عصر التدخل الغربي، المستقبل هو للدبلوماسية التي تقوم على الحلول الإقليمية، والشراكات والاحترام، وكما قال الرئيس ترمب: لقد ولت الأيام التي كان فيها الغربيون يتدخلون في شؤون الشرق الأوسط ويذهبون إلى هناك ليعلموا الناس كيف يعيشون وكيف يديرون شؤونهم".
لم تكن الولايات المتحدة الأميركية شريكاً في مشروع تقسيم المشرق العربي خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العظمى بعيدة من هذه الحرب وانتظمت فيها متأخرة إلى ما بعد الاتفاقية الإنجليزية الروسية الفرنسية، بل إن مساهمتها في رسم مستقبل المنطقة لم يؤخذ بها، اقتصرت تلك المساهمة على إرسالها لجنة كينغ - كراين إلى بلاد الشام لتستطلع رغبات مواطنيها ونخبها.
وخلصت أبحاث تلك البعثة عام 1919 إلى مطالبة غالبية السوريين واللبنانيين والفلسطينيين بالاستقلال في دولة تحمي الحريات والأقليات، كانت اللجنة من نتاج أفكار الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عشية مؤتمر السلام في باريس، ولاقت جولتها ارتياح وترحيب السكان، لكن الأوروبيين المنتصرين فرضوا رؤيتهم في النهاية وقرروا تقاسماً ذهب بنتيجته لبنان وسوريا إلى الانتداب الفرنسي والعراق وفلسطين وشرق الأردن إلى الوصاية الإنجليزية.
كان ينقص تصريح باراك (أو منشوره) الإشارة إلى نتائج أعمال تلك اللجنة ليستخلص أن الرؤية الأميركية لوقائع المنطقة تختلف عن رؤية "الإمبرياليين" منذ ما يزيد على قرن، لكن قرناً مر تتحمل فيه أميركا والشركاء الأوروبيون والدوليون المسؤولية عما آلت إليه أحوال الدول والشعوب التي تقاسمها السيدان جورج بيكو ومارك سايكس.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الآن يبدي ترمب آراء جديدة، بعض تعبيراتها نجدها في كلمات مبعوثه الخاص باراك الذي يشمل في اهتماماته تركيا الواردة في نصه الذي أثار جدلاً وتقييمات، وآراء ترمب ليست في حاجة إلى إيضاحات إضافية، وهي قابلة للتغيير، عرضها في البيت الأبيض في شأن غزة، وكانت آراء صادمة وكارثية، ووجهت بانتقادات ورفض ما جعله يخفف من الإلحاح عليها.
في شأن سوريا كان في تصريحاته قدر من التخلي وعدم الاهتمام، لكنه ظهر في مظهر آخر لدى زيارته السعودية وإثر محادثاته مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ولقائه القادة الخليجيين، وعد ترمب عندها بالسعي إلى اتفاق في غزة وتقدم خطوته الكبرى في اللقاء مع رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع ثم قراره رفع العقوبات عن سوريا، فيما كان يعلن عن فرصة أمام لبنان عليه الاستفادة منها لإعادة بناء دولته وترميم اقتصاده.
بدا ترمب في خطواته هذه وكأنه يترجم ما قاله في السعودية أيضاً، من أن أيام تدخل الغرب في إدارة الشعوب لشؤونها قد "ولَّت"، وعليهم هم أن يمسكوا أقدارهم بأيديهم بدفع أميركي صريح، بين الإعلان الأميركي وتطبيق مساراته على أرض الواقع مسافات لا بد من قطعها وهو ما ينتظره من أميركا أبناء المشرق العربي من بغداد إلى غزة.
تحمل تصريحات السفير باراك وتوجهات رئيسه في الظروف الراهنة رغبة بالقول إن المنطقة لا تتحمل مزيداً من التقسيم والشرذمة، أي أن تكرار سايكس - بيكو في صيغ جديدة غير مطروح على بساط البحث، وهذا يعني الإبقاء على حدود الدول الوطنية كما رسمت قبل قرن، مما يعني عدم السماح بتقسيم سوريا أو لبنان أو العراق، وإنما الذهاب إلى ترتيبات تحمي وحدة هذه الدول وتزيد في تماسك مكوناتها ضمن أنظمة ديمقراطية تعددية، ويعني ذلك دعم الاتفاق بين الأكراد ودمشق، وإشراك الأقليات جدياً في حكم سوريا بما في ذلك الدروز والعلويين، كما يعني تدعيم قيام الدولة في لبنان والانتهاء من ازدواجية سلطة السلاح وعصر الميليشيات الوكيلة، وما يصح في سوريا يصح في لبنان والعراق واليمن.
لا تتفق هذه الرؤية التي يقول بها الأميركيون، لا الآن ولا في المدى الأبعد، مع المشروع الإسرائيلي في فلسطين وتجاه الدول العربية المحيطة، فإسرائيل تتمسك بالدولة اليهودية وترفض قيام دولة فلسطينية، إنها في حال تصادم تاريخية مع سايكس - بيكو وحتى مع وعد بلفور، وكلها الآن موضع انتقاد أميركي متجدد.
إسرائيل واصلت حتى أيام قليلة ماضية تحريضها على الفوضى في سوريا، وهي تعتبر في خلفية مواقف حكومتها أنه لولا "انتصاراتها العسكرية" في معارك الأشهر الماضية، ما كان للحركة الدبلوماسية الأميركية أن تنشط وتحقق مكاسب في الإقليم، خصوصاً في سوريا ولبنان بعد الضربات التي تلقتها إيران و"حزب الله" وسقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
ستكون إسرائيل عقدة أساسية ومركزية تواجه المسعى الأميركي إلى رسم خرائط جديدة يأمل فيها ترمب، وسيكون الاختبار الأصعب أمام الرئيس الأميركي هو في كيفية التعامل مع الموقف العربي والدولي الحازم في شأن قيام دولة فلسطينية، فمن دون خطوة حقيقية في اتجاه الحل القائم على تسوية الدولتين لن يمكن استعادة الهدوء في الإقليم، وستتحول التصريحات عن مساوى سايكس - بيكو إلى مجرد "خطاب قومي" آخر وبائد، من مسؤول أجنبي هذه المرة، يدغدغ مشاعر لا تزال قائمة، شكلت دائماً وصفة للشرذمة والخراب.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


حضرموت نت
منذ 31 دقائق
- حضرموت نت
ترامب يكشف عن دور ايران بشأن اطلاق رهائن غزة
4 مايو / متابعات كشف الرئيس الامريكي، الاثنين، عن دور ايران في مساعي اطلاق سراح الرهائن المختطفين لدى حركة حماس في قطاع غزة، مشيرا الى وجود مفاوضات امريكية ـ اسرائيلية ـ ايرانية بمشاركة حماس حول هذا الملف. وقال ترتمبة، إن إيران تشارك في مفاوضات تهدف إلى ترتيب اتفاق بين إسرائيل وحركة (حماس) لوقف إطلاق النار في قطاع غزة مقابل الإفراج عن الرهائن الذين تحتجزهم الحركة داخل القطاع. وأضاف ترمب للصحفيين في البيت الأبيض 'غزة الآن في خضم مفاوضات ضخمة بيننا وبين حماس وإسرائيل، وإيران مشاركة بالفعل، وسنرى ما سيحدث مع غزة. نحن نريد استعادة الرهائن'. ولم يخض ترمب في تفاصيل، ولم يرد البيت الأبيض بعد على طلب للحصول على تفاصيل حول مشاركة إيران. واكدت تصريحات ترامب حقيقة المؤتمرو الاسرائيلية ، الايرانية، الامريكية، التي بدات في 7 اكتوبر 2023، لاحداث توازن في المنطقة لصالح اسرائيل. ولم ترد بعثة إيران لدى الأمم المتحدة في نيويورك على الفور على طلب للتعليق. واقترحت الولايات المتحدة وقفا لإطلاق النار لمدة 60 يوما بين إسرائيل وحماس. وقالت إسرائيل إنها ستلتزم بالشروط لكن حماس ترفض الخطة حتى الآن. وبموجب الاقتراح، سيتم إطلاق سراح 28 رهينة إسرائيليا، منهم جثامين بعض القتلى، في الأسبوع الأول، مقابل إطلاق سراح 1236 أسيرا فلسطينيا ورفات 180 فلسطينيا. كما تحاول الولايات المتحدة وإيران بشكل منفصل التفاوض على إبرام اتفاق بشأن برنامج طهران النووي.


Independent عربية
منذ 42 دقائق
- Independent عربية
غريتا تونبرغ: إسرائيل خطفتنا في المياه الدولية
اتهمت الناشطة السويدية غريتا تونبرغ اليوم الثلاثاء إسرائيل باختطافها هي ومجموعة من زملائها الناشطين المؤيدين للفلسطينيين في المياه الدولية، مؤكدة أنها رفضت التوقيع على وثيقة تُفيد بدخولها البلاد بشكل غير قانوني قبل ترحيلها. وفي حديثها لدى وصولها إلى مطار شارل ديغول في باريس بعد ترحيلها من إسرائيل، قالت تونبرغ إنها وفريقها لم ينتهكوا أي قوانين، داعية إلى الإفراج الفوري عن النشطاء الذين ما زالوا في إسرائيل. وقالت، "كنت واضحة تماماً في شهادتي بأننا اختُطفنا في المياه الدولية ونُقلنا إلى إسرائيل رغماً عنا". وسخرت من انتقادات الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي وصفها بالشخصية الغاضبة، قائلة "أعتقد أن العالم بحاجة إلى المزيد من الشابات الغاضبات الصريحات، بخاصة مع كل ما يحدث في الوقت الراهن". ونفت تونبرغ أن تكون مهمتها لإيصال المساعدات إلى غزة من خلال كسر الحصار البحري المفروض على القطاع الساحلي منذ سنوات مجرد حيلة دعائية. وقالت إن محاولة سابقة بسفينة أكبر حجماً انتهت بعد قصف السفينة. وأضافت أنها الآن في حاجة ماسة للاستحمام والنوم. وشددت على أن الناشطين "لم يخالفوا أي قوانين" في مسعاهم إلى "كسر الحصار الإسرائيلي" على القطاع الفلسطيني. وصعدت قوات بحرية إسرائيلية أمس الإثنين على متن سفينة مساعدات إنسانية حاولت كسر حصار بحري مفروض منذ أعوام على قطاع غزة، واحتجزت طاقمها المكون من 12 شخصاً بمن فيهم تونبرغ. بدورها قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية، إنه جرى ترحيل الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ من إسرائيل، بعد يوم من منع البحرية الإسرائيلية لها ولمجموعة من زملائها الناشطين المؤيدين للفلسطينيين من الإبحار إلى غزة. كما وافق ثلاثة أشخاص آخرين كانوا على متن السفينة الخيرية على العودة الفورية إلى وطنهم واعترض ثمانية آخرون من أفراد الطاقم على أمر ترحيلهم، وفقاً لما قالته منظمة "عدالة"، المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل، التي قدمت لهم المشورة، في بيان. وسيجري وضعهم في مركز احتجاز قبل جلسة المحكمة. ولم يتضح على الفور متى سيحدث ذلك. وصعدت قوات بحرية إسرائيلية، في وقت مبكر من أمس الإثنين، على متن سفينة مساعدات إنسانية حاولت كسر حصار بحري مفروض منذ أعوام على قطاع غزة، واحتجزت طاقمها المكون من 12 شخصاً بمن فيهم غريتا تونبرغ . إسرائيل خطفتها وسعت السفينة "مادلين" التي يشغلها تحالف "أسطول الحرية" المؤيد للفلسطينيين وترفع علم بريطانيا، لتوصيل شحنة مساعدات رمزية إلى غزة، في وقت لاحق من أمس الإثنين، وزيادة الوعي العالمي في شأن الأزمة الإنسانية في القطاع. وجرى اقتياد السفينة إلى ميناء "أسدود" الإسرائيلي، فيما قالت وزارة الخارجية إنه جرى نقل النشطاء الليلة الماضية إلى مطار بن غوريون. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وكان النشطاء يحملون شحنة صغيرة من المساعدات الإنسانية تشمل الرز وحليب الأطفال. وقالوا إن نيتهم كانت رفع مستوى الوعي الدولي في شأن الأزمة الإنسانية في غزة التي دمرتها الحرب المستمرة منذ أشهر. ورفضت إسرائيل المهمة باعتبارها حملة دعائية لدعم حركة "حماس". وقالت وزارة الخارجية إن "الكمية الضئيلة من المساعدات التي كانت على متن السفينة ولم يستهلكها 'المشاهير' سيتم نقلها إلى غزة عبر قنوات إنسانية حقيقية". ونشرت إسرائيل صورة لغريتا ثونبرغ وهي تجلس على متن طائرة قبل مغادرتها إلى باريس. وعادة ما ترفض تونبرغ استخدام الطيران بسبب انبعاثات الكربون الناتجة من تلك الصناعة. ونشر المنظمون مقطعاً مصوراً لتونبرغ أمس الإثنين، تم تصويره على متن السفينة قبل الاستيلاء عليها، قالت فيه إنه إذا تم الاستيلاء عليها فهذا يعني أن إسرائيل خطفتها وبقية أفراد الطاقم في المياه الدولية. ترمب يسخر وسخر الرئيس الأميركي دونالد ترمب من ادعاء ثونبرغ أنها خطفت، قائلاً "أعتقد أن إسرائيل لديها من المشكلات ما يغنيها عن خطف غريتا ثونبرغ ". وأضاف "هي شابة غاضبة. أعتقد أنها في حاجة إلى دورة تدريبية للسيطرة على الغضب". وفرضت إسرائيل حصاراً بحرياً على قطاع غزة بعد سيطرة "حماس" على السلطة في القطاع عام 2007. وتقول الحكومة الإسرائيلية، إن الحصار أساس لمنع وصول الأسلحة إلى "حماس". واستمر الحصار خلال صراعات متعددة، منها الحرب الحالية التي بدأت بعد الهجوم الذي قادته "حماس" على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والذي تشير إحصاءات إسرائيلية إلى أنه أسفر عن مقتل أكثر من 1200 واحتجاز 251 رهينة. أما الهجوم الإسرائيلي على "حماس" فتقول السلطات الصحية في غزة، إنه تسبب في مقتل أكثر من 54 ألف شخص وتدمير معظم المنازل التي يقطنها نحو 2.3 مليون شخص في القطاع.


Independent عربية
منذ ساعة واحدة
- Independent عربية
مساعدات غزة... أن تصارع الموت وتعود خالي الوفاض
عندما كان الأستاذ الجامعي نظام سلامة في طريقه إلى نقطة مخصصة لتوزيع المساعدات في جنوب غزة الأسبوع الماضي تعرض لإطلاق النار مرتين، والسحق وسط حشد من الجائعين اليائسين، ومع ذلك غادر في نهاية المطاف خالي الوفاض من دون الحصول على أي طعام. بدأ إطلاق النار في المرة الأولى بعد وقت قصير من مغادرته خيمة أسرته في الثالثة من صباح الثالث من يونيو (حزيران) الجاري، لينضم إلى حشود على الطريق الساحلي المتجه نحو موقع لتوزيع المساعدات في مدينة رفح تديره "مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي منظمة جديدة مقرها الولايات المتحدة تعمل مع متعاقدين عسكريين من القطاع الخاص لإيصال المساعدات في غزة. أما المرة الثانية التي تعرض فيها سلامة لإطلاق النار، فكانت عند "دوار العلم" القريب من موقع تسليم المساعدات، إذ شاهد ست جثث. بمثابة مصيدة وقالت السلطات الصحية الفلسطينية إن 27 شخصاً قتلوا في ذلك اليوم الثلاثاء في إطلاق نار من قوات إسرائيلية على من توجهوا لتلقي المساعدات، وقالت إسرائيل إن قواتها أطلقت النار على مجموعة ممن اعتبرتهم يشكلون تهديداً، وإن الجيش يحقق في الواقعة. وأظهرت لقطات من كاميرات مراقبة نشرتها "مؤسسة غزة الإنسانية"، واطلعت عليها "رويترز"، اصطفاف طوابير في منحنيات داخل أسوار تشبه الأقفاص عند موقع تسليم المساعدات، المعروف باسم (إس. دي. إس 1)، قبل أن تفتح بوابات تسمح بالدخول إلى منطقة محاطة بحواجز رملية، إذ تركت عبوات الإمدادات على طاولات وفي صناديق على الأرض. وقال سلامة إن اندفاع آلاف الناس بمجرد فتح البوابات كان بمثابة "مصيدة للموت"، مضيفاً أن النجاة تكون للأقوى ممن يتمتعون بلياقة بدنية عالية ويستطيعون الوصول مبكراً والدفع بقوة أكبر للفوز بحزمة مساعدات. ووصف سلامة شعوره في تلك اللحظة قائلاً إن ضلوعه كانت وكأنها تلتحم ببعضها، ولم يستطع التنفس بينما كان الناس يصرخون. ولم يتسن لـ"رويترز" التحقق بصورة مستقلة من جميع تفاصيل رواية سلامة، لكنها تطابقت مع شهادتي اثنين آخرين من طالبي المساعدات التقت بهما وتحدثا عن الزحف والانحناء، بينما كان الرصاص يتطاير فوقهما أثناء التوجه إلى مواقع توزيع المساعدات أو خلال الخروج منها. وقال الشهود الثلاثة إنهم شاهدوا جثثاً على الطرق المؤدية إلى مواقع تسليم المساعدات في رفح. كم هو مهين وأكد بيان من مستشفى ميداني قريب تابع للصليب الأحمر عدد القتلى الذين سقطوا في الهجوم، الذي وقع بالقرب من موقع المساعدات في الثالث من يونيو الجاري. ورداً على سؤال عن ارتفاع عدد القتلى منذ بدء عملياتها في الـ26 من مايو (أيار)، قالت "مؤسسة غزة الإنسانية" إنه لم تقع إصابات أو خسائر في الأرواح داخل موقعها أو في محيطه. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ولم يرد الجيش الإسرائيلي على طلبات مفصلة للتعليق، وقال المتحدث باسمه البريجادير جنرال إيفي ديفرين للصحافيين يوم الأحد الماضي إن "حماس" تبذل قصارى جهدها لاستفزاز القوات التي "تطلق النار لوقف التهديد"، في ما يصفها بمنطقة حرب بمحيط مواقع المساعدات، مضيفاً أن التحقيقات العسكرية جارية "لتحديد موضع الخطأ منا". وقال سلامة (52 سنة) إن ما سمعه عن منظومة توزيع المساعدات الجديدة جعله يدرك أنه سيكون من الصعب الحصول على مساعدات، لكن أبناءه الخمسة، وهم اثنان بالغان وصبيان وطفل في التاسعة من عمره، كانوا بحاجة إلى الطعام. وأضاف أنهم يعيشون منذ أشهر على تناول العدس أو المعكرونة فقط، وغالباً ما يتناولون وجبة واحدة في اليوم. وقال أستاذ الإدارة التربوية إنه كان يرفض الذهاب إلى موقع المساعدات التابع لـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، لأنه عرف وسمع كم هو مهين الذهاب إليه، لكن لم يكن لديه خيار آخر بسبب الحاجة الماسة إلى إطعام أفراد أسرته. من أجل لا شيء وقالت سلطات الصحة في غزة أمس الإثنين إن 127 فلسطينياً قتلوا بينما كانوا يحاولون الحصول على المساعدات من مواقع التوزيع التابعة لـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، وسط إطلاق نار شبه يومي منذ بدء التوزيع بموجب المنظومة الجديدة قبل أسبوعين. وقال يان إيجلاند الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، وهو منظمة إنسانية كبرى، إن منظومة توزيع الغذاء تنتهك على ما يبدو بعض المبادئ الأساسية للمساعدات الإنسانية. وشبهها بما يعرف باسم "مباريات الجوع"، وهي روايات مأسوية عن أناس يركضون ويتقاتلون حتى الموت. وأضاف إيجلاند "يكافأ قليلون ويخاطر كثيرون بحياتهم، من أجل لا شيء". وقال "ينص القانون الدولي الإنساني على أن المساعدات في مناطق الحرب يجب أن تقدم من وسطاء محايدين يمكنهم التأكد من أن الفئات الأكثر احتياجاً ستحصل على الإغاثة وفقاً للاحتياجات فقط، وليس وفقاً لاستراتيجية سياسية أو عسكرية". ولم ترد "مؤسسة غزة الإنسانية" بصورة مباشرة على سؤال حول حيادها، إذ قالت إنها قدمت بصورة آمنة مساعدات تكفي لأكثر من 11 مليون وجبة خلال أسبوعين، ويبلغ عدد سكان غزة نحو 2.1 مليون نسمة. قطرة في محيط سمحت إسرائيل في الـ19 من مايو (أيار) باستئناف عمليات إغاثة محدودة تقودها الأمم المتحدة بعد حصار دام 11 أسبوعاً في القطاع، وكان خبراء حذروا قبل ذلك بأسبوع من مجاعة تلوح في الأفق. ووصفت الأمم المتحدة المساعدات المسموح بدخولها إلى غزة بأنها "قطرة في محيط". وبصورة منفصلة عن عمليات الأمم المتحدة، سمحت إسرائيل لـ"مؤسسة غزة الإنسانية" بفتح أربعة مواقع في قطاع غزة، في تجاوز لمنظمات الإغاثة التقليدية. وقال مصدران لـ"رويترز" إن مواقع المؤسسة الإنسانية تشرف عليها شركة خدمات لوجستية أميركية يديرها مسؤول سابق بالاستخبارات المركزية (سي. آي. إيه)، وتملكها جزئياً شركة استثمار خاصة مقرها شيكاغو، وإن مهمة تأمين المواقع يضطلع بها عسكريون أميركيون سابقون يعملون حالياً في شركة خاصة. وقال مسؤول دفاعي إسرائيلي معني بالشؤون الإنسانية لـ"رويترز"، إن مراكز التوزيع التابعة لـ"مؤسسة غزة الإنسانية" تكفي لنحو 1.2 مليون شخص. وحثت إسرائيل والولايات المتحدة الأمم المتحدة على العمل مع المؤسسة التي تشهد حركة تغييرات كبيرة في كبار الموظفين، على رغم أن الجانبين ينفيان تمويلها. ولم يتسن لـ"رويترز" تحديد الجهة التي تقدم التمويل للمؤسسة، لكنها ذكرت الأسبوع الماضي أن واشنطن تدرس طلباً إسرائيلياً بتقديم 500 مليون دولار. وقالت المؤسسة في ردها على أسئلة لـ"رويترز" إنها تنسق مع الجيش الإسرائيلي تدابير الوصول، مضيفة أنها تتطلع لفتح مزيد من نقاط التوزيع، وكانت المؤسسة أوقفت عمليات التسليم واستأنفتها مرات عدة بسبب حوادث إطلاق النار، بما في ذلك أمس الإثنين. وفي الأسبوع الماضي، حثت المؤسسة الجيش الإسرائيلي على تحسين الأوضاع الأمنية للمدنيين خارج محيط عملياتها، وقالت إن الأمم المتحدة لم تتمكن من إيصال المساعدات، مشيرة إلى سلسلة من عمليات النهب في الآونة الأخيرة. وتقول إسرائيل إن "حماس" سبق أن استولت على شحنات المساعدات التابعة للأمم المتحدة من أجل توفير الطعام لمسلحيها، ونفت الحركة سرقة المساعدات، كما تنفي الأمم المتحدة أن تكون عمليات الإغاثة التي تقوم بها تساعد "حماس". وتؤكد الأمم المتحدة، التي تولت تسليم المساعدات سابقاً في غزة، إن لديها أكثر من 400 نقطة توزيع للمساعدات في القطاع، وأشارت أمس الإثنين إلى أن هناك حالاً من الفوضى المتزايدة من عمليات النهب، ودعت إسرائيل إلى السماح لمزيد من شاحناتها بالتحرك بأمان. بدء إطلاق النار انطلق سلامة وأربعة من جيرانه من منطقة "المواصي" في خان يونس جنوب قطاع غزة إلى موقع توزيع المساعدات في الثالثة من صباح الثلاثاء، واستغرقوا ساعتين للوصول إلى رفح التي تبعد كيلومترات عدة وتقع بالقرب من الحدود المصرية. وبدأ إطلاق النار في وقت مبكر من رحلتهم، وقال سلامة إن بعض النيران كانت قادمة من ناحية البحر، وهو ما يتوافق مع شهادات أخرى عن الواقعة، ويسيطر الجيش الإسرائيلي على منطقة البحر حول غزة. وقررت المجموعة الصغيرة مواصلة رحلتها، وقال سلامة إنه سقط على الأرض مرات عدة بسبب السير في الظلام على طريق غير ممهد. وأضاف "رأيت أشخاصاً يحملون مصابين ويعودون بهم نحو خان يونس"، ولدى وصولهم إلى "دوار العلم" في رفح على بعد كيلومتر واحد تقريباً من الموقع، كان هناك حشد كبير، ومزيد من إطلاق النار، ورأى رصاصات تصيب مكاناً قريباً منه. وقال سلامة "يجب أن تنحني وتظل على الأرض"، مشيراً إلى إصابة أشخاص في الرأس والصدر والساقين. وأضاف أنه رأى جثثاً قريبة، منها جثة امرأة، إلى جانب كثير من المصابين. وأشار آخر من الساعين إلى الحصول على المساعدات تحدثت معه "رويترز"، الذي سار أيضاً إلى رفح في صباح الثالث من يونيو، إلى حدوث إطلاق نار متكرر خلال الرحلة. وفي إحدى المرات، اضطر هو وكل من حوله الزحف على الأرض لمئات الأمتار خوفاً من التعرض لإطلاق نار، وقال إنه رأى جثة بها إصابة في الرأس على بعد نحو 100 متر من موقع توزيع المساعدات. ليس سوى المغادرة وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بيان إن مستشفى ميدانياً تابعاً لها في رفح استقبل تدفقاً كبيراً من المصابين الذين بلغ عددهم 184 في الثالث من يونيو، غالبيتهم أصيبوا بأعيرة نارية، ووصفت ذلك بأنه أكبر عدد من المصابين بأسلحة نارية يستقبله المستشفى في واقعة واحدة، وبلغ عدد الوفيات 27. وأضاف البيان "قال جميع المصابين إنهم كانوا يحاولون الوصول إلى موقع توزيع المساعدات"، وعندما وصل سلامة أخيراً إلى نقطة توزيع المساعدات في الثالث من يونيو لم يجد شيئاً متبقياً. وقال إن الجميع كانوا يسحبون صناديق الكرتون الفارغة من الأرض، وللأسف لم يجد شيئاً يذكر، وعلى رغم نفاد المساعدات لم يتوقف توافد الناس الساعين إلى الحصول على أي غذاء. وأوضح أن تدفق الناس كان يدفعه إلى الأمام وهو يحاول العودة أدراجه، مضيفاً أنه بينما كان مدفوعاً نحو مكان وجود حراس المؤسسة، رآهم يستخدمون رذاذ الفلفل لمواجهة الحشد. وقالت المؤسسة إنها لا تعلم شيئاً عن واقعة استخدام رذاذ الفلفل، لكنها أوضحت أن موظفيها يستخدمون وسائل غير مميتة لحماية المدنيين. وتابع سلامة أنه بدأ يصرخ بأعلى صوته من أجل إفساح مجال له للمغادرة، مشيراً إلى أنه لا يريد سوى مغادرة المكان، مضيفاً أنه غادره خالي الوفاض مكتئباً وحزيناً وغاضباً وجائعاً.