logo
العين بالعين… والفيدرالية أساسًا

العين بالعين… والفيدرالية أساسًا

موقع كتاباتمنذ يوم واحد
حين أُقرّ الدستور العراقي عام 2005 بعد سنوات من الفوضى والاقتتال، عُدّ وثيقة تأسيسية لمستقبل يُفترض أن يقوم على العدالة والتوازن والتعددية. وجاء تصويت شعب كوردستان بـ'نعم' على هذه الوثيقة، ليس فقط تعبيرًا عن حسن النية، بل عن رغبة حقيقية في عقد اجتماعي جديد يضمن لهم مكانة محترمة ضمن عراق اتحادي. لكنّ ما أعقب ذلك لم يرقَ إلى مستوى التطلعات، إذ تحوّل الدستور من مظلة للحقوق إلى ساحة مفتوحة للتأويل والنزاع.
تنص المادة الأولى من الدستور بوضوح على أن 'جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي، وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق.' وهي صيغة تُقرّ بالفيدرالية أساسًا في هيكل الدولة، لا كخيار عابر أو استثناء مرحلي. فالفيدرالية هنا لا تعني التقسيم، بل تنظّم العلاقة بين المركز والمكونات بطريقة عادلة ومتوازنة، وعلى رأسها إقليم كوردستان الذي يعترف به الدستور في المادة (117) كـ'إقليم اتحادي'، ويمنحه في المادة (121) صلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية، باستثناء ما يدخل حصريًا ضمن صلاحيات الحكومة الاتحادية.
لكن، وعلى أرض الواقع، جرى تجاهل هذه النصوص أو تأويلها انتقائيًا وفق حسابات سياسية ضيقة. فبدلاً من أن تكون الفيدرالية إطارًا للتكامل، تحوّلت إلى عبء مشكوك فيه، وذريعة تُستخدم لفرض العقوبات الجماعية، من خلال حجب الرواتب، والتضييق على تسويق النفط، وتعطيل الاستحقاقات المالية والدستورية التي يُفترض أن تكون غير قابلة للتفاوض. وهذا ما يتناقض جوهريًا مع مبدأ العدالة، الذي يلخّصه القول المأثور: العين بالعين والسن بالسن.
وتتجلّى أزمة العدالة أيضًا في المادة (14) من الدستور، التي تنص على مبدأ المساواة بين العراقيين من دون تمييز. لكن هذا المبدأ يُنسف عندما تُصرف الرواتب في وسط وجنوب البلاد بانتظام، بينما تُحجب عن موظفي إقليم كوردستان لأكثر من شهرين ونصف. هذا الخلل لا يمثل مجرد فشل إداري، بل هو انتهاك صريح للدستور وتقويض لروح المواطنة المتساوية، ويجعل الالتزام بالقانون انتقائيًا، حسب الجغرافيا والانتماء السياسي.
هذا المبدأ الذي وجد صداه في الفقه القانوني العالمي، يقوم على العدالة في التعامل، لا الانتقائية. وإذا كانت بغداد تطالب كوردستان بالالتزام بالدستور، فعليها أن تلتزم به أولاً. فلا يمكن القبول بأن تُجبر أربيل على تسليم النفط والامتثال للقوانين الاتحادية، بينما يُقصى الإقليم من المشاريع التنموية ويُحرم موظفوه من أبسط حقوقهم، وكأنه ليس جزءًا من البلاد.
وتنص المادة (9) من الدستور، وهي مادة جوهرية في رسم ملامح الدولة، على أن 'القوات المسلحة لا تكون أداة لقمع الشعب العراقي، ولا تتدخل في الشؤون السياسية.' لكن الواقع يكشف أن العلاقة بين بغداد وأربيل كثيرًا ما طغت عليها لغة التهديد والفرض، لا لغة الشراكة، وأن الدولة الاتحادية – أو من يمسك بخيوطها – يتعامل مع الإقليم على أنه خصم، لا شريك.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، فبغداد لا تكتفي بحجب الحقوق بل تقطع قنوات الحوار السياسي، وتتراجع عن الاتفاقات الموقعة، وتُفشل كل وساطة. في المقابل، تُترك الساحة مفتوحة أمام الفصائل المسلحة التي تعيث فسادًا، وتستهدف البنية التحتية والاقتصادية لكوردستان، وتضرب آبار النفط، وتعمل على جرّ الإقليم إلى مواجهة مفتوحة، بينما تغض الحكومة المركزية الطرف، أو تصمت، عن هذا التصعيد الممنهج.
وفي سياق هذا التصعيد، تتعرض الحقول والمنشآت النفطية في إقليم كوردستان لهجمات متكررة باستخدام طائرات مسيّرة أو قذائف وصواريخ، دون محاسبة الجهات المنفذة. فقد استُهدفت حقول مثل 'طاوكي' القريب من زاخو، الذي تشغله شركة DNO النرويجية، ومنشآت في 'بيشخابور' القريبة من الحدود السورية، فضلاً عن آبار في منطقة 'عين سفني' و'خورمالة' و'سرسنك' و'شمشمال'، وجميعها تشغّلها شركات عالمية مثل HKN Energy وHunt Oil، ما أدى إلى تعطيل الإنتاج وتراجع معدلات التصدير. اللافت أن هذه الهجمات غالبًا ما تتزامن مع أزمات سياسية أو محادثات مالية مع بغداد، في ما يبدو أنه ضغط ممنهج لتقويض استقلال الإقليم الاقتصادي. فبدلاً من حماية ثروات البلاد، تَستهدفها أطراف تُفترض أن تكون جزءًا من المنظومة الوطنية، فيما يصعب فصل هذه الهجمات عن مناخ التخوين والعداء الذي ترعاه منصات إعلامية وأذرع مسلحة ولائية.
هذه الممارسات لا تعكس خلافًا إداريًا بين مؤسستين، بل تكشف عن خلل جوهري في فهم الفيدرالية والشراكة الوطنية. فالدستور ليس قائمة خيارات يُنتقى منها ما يناسب اللحظة السياسية. بل هو عقد غير قابل للتجزئة، والالتزام به يجب أن يكون شاملاً، لا انتقائيًا. أما الإصرار على التعامل مع كوردستان بلغة العقوبات والضغط، فلن يؤدي إلا إلى تعميق القطيعة والانفصال النفسي والسياسي.
لم يطلب شعب كوردستان أكثر من تطبيق نصوص الدستور التي ساهم في صياغتها والتصويت عليها. لم يعلن الانفصال، بل تمسّك بإمكانية إصلاح الدولة من الداخل وتحقيق العدالة ضمنها. لكن إنكار هذه الحقوق، أو التحايل عليها، أو التعامل مع الفيدرالية كمنّة تُمنح وتُسحب، هو في جوهره تمزيق للعقد الاجتماعي، وتنكر لأبسط مبادئ الدولة الاتحادية.
ليست الفيدرالية خطرًا على العراق، بل هي فرصته الحقيقية للاستمرار والبقاء. وإذا كان مبدأ 'العين بالعين' يُعبّر عن ميزان عدالة، فليُطبّق على الجميع، لا أن يُستعمل أداة ضد طرف واحد فقط. فالدستور الذي لا يُطبق بعدالة يفقد معناه، ويتحوّل إلى غطاء للظلم بدل أن يكون حارسًا للحقوق.
العراق اليوم أمام خيارين: إما احترام الدستور بوصفه حجر الأساس لشراكة متوازنة بين بغداد وأربيل، أو الاستمرار في نهج الإقصاء والانتقائية الذي لن يقود إلا إلى مزيد من الاحتقان. ففي الوقت الذي تُحرق فيه جسور الثقة، وتُستهدف فيه الثروات، لن يبقى من الدولة إلا رماد دستور لا يُحترم، ومواطنة لا تُساوي شيئًا.

هاشتاغز

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

خلال أشهر قليلة.. 80 إستونياً سيغادرون العراق للدفاع عن بلادهم
خلال أشهر قليلة.. 80 إستونياً سيغادرون العراق للدفاع عن بلادهم

شفق نيوز

timeمنذ 20 دقائق

  • شفق نيوز

خلال أشهر قليلة.. 80 إستونياً سيغادرون العراق للدفاع عن بلادهم

شفق نيوز- ترجمة خاصة تستعد إستونيا لإنهاء أكبر عملياتها العسكرية في الخارج، حيث سيعود جنودها من العراق إلى الوطن خلال شهر أيلول/ سبتمبر المقبل، وذلك بهدف التركيز على الدفاع عن بلادهم. ونقل موقع "نيوز أي آر آر" الإستوني في تقرير ترجمته وكالة شفق نيوز، عن وزير الدفاع هانو بيفكو، القول إن بلاده ستسحب قواتها من عملية "العزم الصلب" التي تقودها الولايات المتحدة. وأشار التقرير، إلى أن القوة الإستونية تشارك في "العزم الصلب" منذ العام 2023، وتضم أكثر من 80 شخصاً ويتمركزون في مدينة أربيل عاصمة إقليم كوردستان. بدوره، قال الرقيب أول، كارل مارتن ليمباخ في القوة الإستونية، إنهم "يعملون بنظام دورة مدتها 6 أيام، وهم على أهبة الاستعداد للرد داخل القاعدة وخارجها"، مضيفاً أنه "إذا حدث أي شيء لجنودنا أو لحلفائنا، فنحن على أهبة الاستعداد للرد، فضلاً عن وجود يومين لعمليات الأمن الشخصي، حيث نرافق المستشارين إلى اجتماعات خارج القاعدة، فيما يتبقى يومين في الاحتياط". ولفت إلى أن الإستونيين يقولون إن التدريب مع الحلفاء واكتساب الخبرة في مناطق الصراع يشكل أمراً مهماً. في حين، أوضح الرائد مارت فولايد "مهمتنا الرئيسية هي الدفاع عن إستونيا، وليس عن دولة أخرى، وعلينا التدريب في إستونيا". وبحسب التقرير، فإن القوات الإستونية بدأت في حزم أمتعتها تدريجياً في القاعدة. وأشار إلى أن الحضور الإستوني لن يختف تماماً، حيث أنه سيواصل ضابط عملهم في إطار بعثة حلف "الناتو" في بغداد. بينما تابع وزير الدفاع، قائلاً إن باب أستونيا سيظل مفتوحاً أمام عمليات عسكرية أخرى وأكبر، إلا أن كل شيء يعتمد الآن على رغبة الحكومة العراقية. وأوضح أيضاً أن بالنسبة لبلاده، فمن المهم أن تكون إلى جانب الحلفاء، ومن المهم أيضاً اكتساب الخبرة، مستطرداً بالقول "أكدنا أن الأمن الدولي جزء من أمن إستونيا، وعندما يكون الحلفاء في مكان ما، فنحن مستعدون للتواجد معهم مع شرط رغبة الدولة التي سنذهب إليها في وجودنا هناك، لا أحد يذهب إلى مكان بالقوة". وتابع التقرير، أن "العزم الصلب" تمثل أكبر عملية عسكرية خارجية لإستونيا، حيث ساهمت قوات الدفاع الإستونية في "العزم الصلب" منذ نيسان/ أبريل العام 2023 من خلال مستشارين عسكريين وسرية مشاة ووحدة دعم. وأوضح أن سرية المشاة مسؤولة عن الحماية المشددة والأمن الشخصي خلال الزيارات والتحركات خارج القاعدة والاجتماعات، إلى جانب تنفيذ مهام الاستجابة السريعة بالقرب من قاعدة أربيل الجوية، في إقليم كوردستان. وبحسب وزير الدفاع، فإن التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط تؤثر على الوضع الأمني الهش أصلاً في المنطقة، لكن العراق ما يزال مستقراً، مضيفاً أن "هذا يسمح لنا بإنهاء مشاركتنا في العملية وتحويل تركيزنا إلى تطوير الدفاع الوطني لإستونيا".

ليلة غضب في واسط إثر "فاجعة الحريق" (فيديو)
ليلة غضب في واسط إثر "فاجعة الحريق" (فيديو)

شفق نيوز

timeمنذ ساعة واحدة

  • شفق نيوز

ليلة غضب في واسط إثر "فاجعة الحريق" (فيديو)

شفق نيوز- واسط شهدت محافظة واسط، مساء اليوم الأحد، تظاهرة غاضبة من قبل مواطنين وذوي ضحايا حريق "هايبر ماركت" أمام مبنى المحافظة ومجلسها وسط مدينة الكوت مركز المحافظة. وقال مراسل وكالة شفق نيوز، إن المتظاهرين خرجوا احتجاجاً على فاجعة حريق "هايبر ماركت" في الكوت، ويشاركونهم بعض من أهالي الضحايا. وأظهرت مقاطع مصورة تنظيم المتظاهرين مسيرة في شوارع الكوت مرددين هتافات ورافعين أعلام عزاء. وكان الحريق الذي شبّ في "هايبر ماركت" في محافظة واسط، الأربعاء الماضي، قد أسفر عن وفاة العشرات وإصابة آخرين، في واحدة من أكثر الحوادث المأساوية خلال العام الحالي، وسط مطالبات بتحقيقات شفافة ومحاسبة المقصرين.

مسؤول: إيران على أعتاب كارثة مائية وسياسات الدولة ولا تُبشّر بالحل
مسؤول: إيران على أعتاب كارثة مائية وسياسات الدولة ولا تُبشّر بالحل

شفق نيوز

timeمنذ ساعة واحدة

  • شفق نيوز

مسؤول: إيران على أعتاب كارثة مائية وسياسات الدولة ولا تُبشّر بالحل

شفق نيوز- طهران/ ترجمة خاصة حذّر الرئيس الأسبق لمنظمة حماية البيئة في إيران، عيسى كلانتري، من أنّ ما تعيشه البلاد حالياً من أزمة مياه لا يُعدّ سوى بداية لمأزقٍ أعمق ستتفاقم حدّته عاماً بعد عام، محذراً من استمرار ما أسماها بالسياسات الحكومية المتناقضة في إدارة الموارد المائية والزراعية. وقال كلانتري في تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية، وترجمتها وكالة شفق نيوز، إنّ "الوضع الراهن هو مجرد بداية لأزمة المياه، والتي ستزداد سوءًا مع مرور الوقت". وأضاف بسخرية "من الطريف أن البرلمان يطالب بتوفير 15 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، بينما في الوقت نفسه يُلزم الحكومة بتحقيق الاكتفاء الذاتي في 90% من المحاصيل الأساسية. حتى تلميذ في الصف الثاني الابتدائي يمكنه إدراك أن هذه المعادلة غير منطقية". وأشار المسؤول البيئي إلى أن "إيران لا تعترف بأي حق للأجيال المقبلة في مياه البلاد، فكل ما نملكه نستهلكه الآن دون أدنى اعتبار للمستقبل"، مؤكداً أن "القرارات المتخذة كافة حتى الآن تتعارض مع مبادئ التنمية المستدامة". واختتم كلانتري حديثه بالتحذير من عواقب استمرار هذه السياسات قائلاً "إذا واصلنا هذا النهج، لا أحد يعلم ماذا سيحدث بعد خمس أو عشر سنوات. قد نواجه حينها انهيارات بيئية واجتماعية يصعب احتواؤها".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store