logo
الرسوم الجمركية تعيد رسم خريطة الاقتصاد النقدي العالمي

الرسوم الجمركية تعيد رسم خريطة الاقتصاد النقدي العالمي

الدستورمنذ 5 أيام
مع إعلان ارتفاع التضخم في الولايات المتحدة إلى 2.7 ٪ خلال شهر يونيو 2025، تدخل السياسة التجارية الأميركية مرحلة جديدة تتجاوز الأهداف المحلّية وتلامس أسس النظام النقدي العالمي ذاته. هذا الارتفاع، الذي يتزامن مع بدء تطبيق سلسلة من الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب على واردات رئيسية من الصين وأوروبا والمكسيك، لا يمكن قراءته كمجرد حدث عابر في دورة اقتصادية. بل هو نتاج تراكمي لمنظومة قرارات تجارية تستهدف من جهة تصحيح العجز في الميزان التجاري، لكنها من جهة أخرى، تطلق موجة تضخمية تعيد تشكيل سلوك الأسواق، وتؤثر في توجهات السياسة النقدية ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل في الدول المرتبطة عضوياً بالدولار الأميركي.فالرسوم الجمركية بطبيعتها تؤدي إلى رفع كلفة السلع المستوردة، وهو ما ينعكس مباشرة على أسعار السلع النهائية التي يتحملها المستهلك الأميركي. وفي ظل انكشاف سلاسل الإنتاج على المكونات الأجنبية، تتسرب هذه الكلفة إلى الصناعات المختلفة، فترتفع الأسعار، وتنخفض المنافسة، ويأخذ التضخم بالتصاعد. هذا ما حدث تحديدًا في يونيو، حين بدأت آثار الرسوم تظهر في مؤشر أسعار المستهلكين، لتعيد إلى السطح أسئلة قديمة جديدة حول حدود استخدام السياسة التجارية كأداة داخلية، وتأثيرها على الاستقرار النقدي.من جهته، يجد مجلس الاحتياطي الفيدرالي نفسه أمام معادلة دقيقة، إذ بات مطالبًا بموازنة بين دعم النمو الاقتصادي والسيطرة على موجات التضخم الناجمة عن عوامل غير نقدية بالأساس. وتبرز هنا مفارقة اقتصادية خطيرة: فبينما كان يُعتقد أن التضخم الأميركي قد استقر في طريقه نحو الاعتدال، دفعت الرسوم الجمركية بالمؤشر مجددًا إلى أعلى، مما يقلص من فرص تخفيض أسعار الفائدة كما كان متوقعًا. ذلك أن الفيدرالي، المستند إلى النظرية النقدية الجديدة التي ترى في أسعار الفائدة القصيرة الأجل أداة فعالة لضبط التوقعات التضخمية، لن يتردد في الإبقاء على سياسته النقدية المتشددة، بل وقد يضطر إلى التشدد أكثر، مما ينذر بمرحلة من التباطؤ الاقتصادي المقصود أو غير المقصود.لكن ما يحدث داخل الولايات المتحدة لا يبقى داخلها. فالدول التي ترتبط عملاتها بالدولار تجد نفسها محكومة بما يمليه الفيدرالي، حتى وإن كانت أولوياتها الاقتصادية والظروف المحلية مختلفة تمامًا. ففي هذه البلدان، تفرض سياسة الربط الثابت التزامًا ضمنيًا باستيراد السياسة النقدية الأميركية، وهو ما يُجبرها على رفع أسعار الفائدة حفاظًا على استقرار سعر الصرف، بصرف النظر عن طبيعة التضخم المحلي أو مستوى النشاط الاقتصادي. وهكذا تتحول الأزمة من تضخم في المركز إلى عبء مزدوج في الأطراف، يتمثل في تباطؤ اقتصادي وارتفاع تكلفة الاقتراض، بل ويتعدى ذلك إلى تهديدات للاستقرار المالي، خاصة في الدول ذات المديونية المرتفعة والاعتماد الكبير على تدفقات رؤوس الأموال.وفي إطار أوسع، يمكن النظر إلى هذه الديناميات كدليل إضافي على ما يعرف بمعضلة السياسة الثلاثية في الاقتصاد الدولي، حيث يصعب الجمع بين حرية تدفق رؤوس الأموال، واستقلال السياسة النقدية، وثبات سعر الصرف. ومع اختيار عدد كبير من الدول تثبيت عملتها مقابل الدولار، فإنها تكون قد تنازلت فعليًا عن سيادتها النقدية لصالح قرارات يتخذها بنك مركزي في دولة أخرى.تتعمق الأزمة أكثر عندما ندرك أن الرسوم الجمركية اليوم لم تعد مجرد أدوات مالية لحماية الأسواق، بل تحوّلت إلى أدوات جيوسياسية لتشكيل علاقات القوة في النظام الدولي. فسياسة ترامب التجارية لا تنفصل عن استراتيجيته في المواجهة مع الصين، أو عن محاولته فرض شروط جديدة على التجارة العالمية. وهكذا يصبح التضخم نتيجة مباشرة لقرار سياسي خارجي، تتحمله الدول الفقيرة والهشة قبل غيرها. وبعبارة أوضح، نحن أمام تضخم «مستورَد» من الجغرافيا السياسية، لا من الاقتصاد الكلي التقليدي.ومن زاوية تحليلية أكثر عمقًا، فإن السياسات التجارية الأميركية الجديدة تخلق ما يشبه الحلقة المفرغة: تبدأ برسوم جمركية تؤدي إلى تضخم، يقابله تشدد نقدي، ينعكس في شكل تباطؤ عالمي، فينهار الطلب على التجارة والاستثمار، فتتقلص فرص النمو، وتنهار هوامش الدول النامية. والنتيجة هي ما يمكن تسميته «بركود تضخمي محيطي»، أي تضخم محدود في المركز يقابله ركود حاد في الأطراف، وهي ظاهرة غير مألوفة في دورات الاقتصاد التقليدية، ولكنها باتت ممكنة في ظل الاختلال الهيكلي الحالي في بنية الاقتصاد العالمي.لقد أصبح التضخم الأميركي، نتيجة الرسوم الجمركية، مؤشراً غير مباشر على انتقال الصدمات من المركز إلى المحيط، وتحديداً من قرارات واشنطن إلى اقتصادات عمّان والرياض والقاهرة وبيونس آيرس وغيرها. وفي ظل هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحة لإعادة التفكير في طبيعة العلاقة بين الدول النامية والدولار الأميركي، وضرورة ابتكار حلول تخرج من ثنائية التبعية النقدية أو الانفصال الكامل.ولعل أبرز ما يمكن التفكير به في هذا السياق هو التوجّه نحو تنويع أدوات السياسة النقدية، وتخفيف الاعتماد المفرط على أسعار الفائدة كأداة وحيدة لتحقيق الاستقرار. كما أن إعادة هيكلة نظام ربط العملات ينبغي أن يُطرح بجرأة، عبر الانتقال التدريجي نحو سلال عملات أو أنظمة صرف هجينة، تتيح مزيدًا من المرونة. وعلى المدى القريب، يجب استخدام أدوات تحوط مالي فعالة، بما في ذلك المشتقات المالية والعقود المستقبلية، للحد من تقلبات الدولار وأثرها على الميزانية العامة والاستقرار النقدي.كما لا يمكن تجاهل أهمية مراجعة الاتفاقات التجارية التي تُعمق الاعتماد على السلع الأميركية أو على سلاسل توريد متمركزة في أميركا، بحيث تسهم الاستراتيجيات التجارية البديلة في بناء قدر أكبر من المناعة الاقتصادية. فالعالم يتجه بوضوح نحو تراجع العولمة التقليدية وصعود «الإقليمية الاستراتيجية»، وهذه فرصة للدول النامية كي تُعيد رسم تموضعها داخل هذا النظام المتغير، لا كمجرد متلقٍ للسياسات، بل كمصمم لإجابات نقدية خاصة بها.في المحصلة، لم يعد التضخم الأميركي مجرد مسألة داخلية بل غدا أداة لإعادة توزيع الألم الاقتصادي على خارطة العالم، ووسيلة لتثبيت الهيمنة عبر ما يسمى بتصدير الركود إلى الاقتصادات الضعيفة. وفي ظل هذه التحولات، فإن السياسات التجارية لم تعد تنفصل عن السياسات النقدية، ولا الاقتصاد عن الجغرافيا السياسية. ومع كل زيادة في الرسوم، وكل خطوة في رفع الفائدة، يتضح أن ما يحدث في واشنطن لا يبقى في واشنطن.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

صحيفة: بيسينت يحاول إقناع ترامب بعدم إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي
صحيفة: بيسينت يحاول إقناع ترامب بعدم إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي

أخبارنا

timeمنذ 3 ساعات

  • أخبارنا

صحيفة: بيسينت يحاول إقناع ترامب بعدم إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي

أخبارنا : أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" نقلا عن مصادرها بأن وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسينت يحاول إقناع الرئيس دونالد ترامب بعدم إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول. وحسب المصادر، فإن بيسينت يعتقد بأن إقالة باول قد تؤثر سلبا على حالة الاقتصاد الأمريكي والأسواق. كما لا يستبعد بيسينت أن الاحتياطي الفيدرالي قد يخفض سعر الفائدة الرئيسي في وقت لاحق من العام الجاري، الأمر الذي يصر عليه الرئيس ترامب. "أكسيوس": ترامب يضحي بجيروم باول كبش فداء في حربه التجارية وتشير المصادر إلى أن بيسينت حذر ترامب من العقبات القانونية والسياسية التي ستواجهه أثناء محاولته لإقالة باول، وهو لا يعتبر هذه الإقالة ضرورية لأن اقتصاد البلاد بحالة جيدة ولأن هناك رد فعل إيجابيا في الأسواق على سياسات إدارة ترامب. ورجحت الصحيفة ألايقيل ترامبجيروم باول الذي تنتهي صلاحياته في مايو 2026، لكنه سيختار مرشحا جديدا لهذا المنصب هذا الصيف وسيعلن اسمه. وكان ترامب قد انتقد رئيس الاحتياطي الفدرالي بشدة، وتحدث عن ضرورة إقالته رغم أن الاحتياطي الفيدرالي يعتبر هيئة مستقلة عن إدارة البيت الأبيض. ودعا ترامب باول مرارا لخفض سعر الفائدة، في الوقت الذي قرر فيه الاحتياطي الإبقاء عليه عند مستوى 4.25 – 4.5% خلال اجتماعه الأخير في يونيو الماضي. ورفض باول مطالب ترامب بشأن استقالته. وحذر من عواقب سياسات الإدارة، وخصوصا في مجال الرسوم الجمركية، التي توقع باول أنها ستنعكس سلبيا على الاقتصاد الأمريكي وستؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم والبطالة.

مديرة الاستخبارات الأميركية تكشف تفاصيل "انقلاب" إدارة أوباما ضد ترامب
مديرة الاستخبارات الأميركية تكشف تفاصيل "انقلاب" إدارة أوباما ضد ترامب

أخبارنا

timeمنذ 3 ساعات

  • أخبارنا

مديرة الاستخبارات الأميركية تكشف تفاصيل "انقلاب" إدارة أوباما ضد ترامب

أخبارنا : قالت مديرة الاستخبارات الأميركية تلسي غابارد، إن الشعب الأميركي سيكتشف قريبًا الحقيقة الكاملة حول "كيفية استغلال وتوظيف أقوى الشخصيات في إدارة أوباما للاستخبارات بشكل سياسي في عام 2016"، وذلك لتأسيس ما وصفته بـ "انقلاب طويل الأمد" ضد الرئيس دونالد ترامب. وأكدت غابارد أن هذا التحرك يهدد إرادة الشعب الأميركي ويزعزع استقرار الجمهورية الديمقراطية. وأوضحت غابارد على منصة إكس التسلسل الزمني للأحداث، مشيرةً إلى أنه قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية لعام 2016، "اتفق المجتمع الاستخباراتي على أن روسيا لم تكن تمتلك النية أو القدرة على اختراق الانتخابات الأميركية. ولكن بعد فوز ترامب في عام 2016، تغيرت الرواية بشكل مفاجئ. فقد تم إعداد تقييمات استخباراتية جديدة بتوجيه من البيت الأبيض، رغم وجود تقييمات سابقة أكدت عدم تأثير روسيا". وأضافت غابارد أنه في 8 ديسمبر 2016، أعدت الوكالات الاستخباراتية تقييمًا للتقرير اليومي للرئيس، أشار إلى أن روسيا "لم تؤثر على نتائج الانتخابات الأخيرة"، لكن هذا التقرير تم سحبه فجأة بناءً على "توجيهات جديدة" دون نشره. وفي 9 ديسمبر 2016، عقد مسؤولو الأمن القومي البارزون، بما في ذلك مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان، ومدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر، اجتماعًا سريًا في البيت الأبيض، حيث "وجه الرئيس أوباما بإعداد تقييم استخباراتي جديد يدعي تدخل روسيا، على الرغم من تناقضه مع التقييمات السابقة". وبعد ذلك، بدأ ما وصفته غابارد بـ"مسؤولي الدولة العميقة" في المجتمع الاستخباراتي بتسريب معلومات استخباراتية كاذبة إلى صحيفة واشنطن بوست ووسائل الإعلام الأخرى، مدعية أن روسيا "استخدمت وسائل سيبرانية للتأثير على نتيجة الانتخابات لصالح ترامب". وفي 6 يناير 2017، قبل أيام من تنصيب ترامب، كشف كلابر عن التقييم الاستخباراتي الذي وجهه أوباما، والذي "اعتمد جزئيًا على ملف ستيل المزيف والمهجور، ليضع الأساس لانقلاب طويل الأمد كان هدفه عرقلة رئاسة ترامب". وأكدت وثائق مسربة من موظفين أن كلابر وبرينان استخدما ملف ستيل "غير الموثوق به" كمصدر لدعم هذه الرواية "الكاذبة". واختتمت غابارد تصريحاتها بالتأكيد على أن هذه الوثائق تكشف عن "مؤامرة خائنة" نفذها مسؤولون في أعلى مستويات إدارة أوباما للإطاحة بإرادة الشعب الأميركي ومنع الرئيس من تنفيذ ولايته. وشددت على أن هذه "الخيانة" تهم كل أميركي، مطالبة بتحقيق شامل مع كل شخص متورط ومحاسبتهم قانونيًا لضمان عدم تكرار ذلك. وأعلنت أنها قد قامت بتسليم جميع الوثائق إلى وزارة العدل لضمان المساءلة التي يستحقها ترامب وعائلته والشعب الأميركي.

الرئيس الأميركي ترامب يعلن إطلاق سراح 10 محتجزين من غزة قريبًا
الرئيس الأميركي ترامب يعلن إطلاق سراح 10 محتجزين من غزة قريبًا

العرب اليوم

timeمنذ 3 ساعات

  • العرب اليوم

الرئيس الأميركي ترامب يعلن إطلاق سراح 10 محتجزين من غزة قريبًا

أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الجمعة، أنه سيتم إطلاق سراح 10 محتجزين من غزة قريبا، دون تقديم تفاصيل إضافية. وأدلى ترامب بهذا التعليق خلال عشاء مع أعضاء في مجلس النواب في البيت الأبيض، وفق شبكة الحدث. كما أشاد الرئيس بجهود مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف. وتابع ترامب: «استعدنا معظم الرهائن. سنستعيد عشرة رهائن آخرين قريبا جدا، ونأمل أن ننتهي من ذلك بسرعة». جاء ذلك بينما يشارك مفاوضون من إسرائيل وحركة حماس في أحدث جولة من محادثات وقف إطلاق النار في الدوحة منذ السادس من يوليو. وتُجرى مناقشات حاليًّا، حول مقترح تدعمه الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار لمدة 60 يوما. قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store