
عبور الحدود أو كلّ هذه الخرائط المُخترعة!
ربما من حسن الطالع أنه لم يعش هذه اللحظة الجنونية التي مزّقت الخرائط إلى دويلات، واخترعت الحواجز داخل المدينة الواحدة. يروي الفلسطينيون مكابداتهم الجحيمية في العبور من حيّ إلى آخر، فيما تسعى "إسرائيل" إلى قضم ما تبقى من البلاد متفرّدة بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي لا تعترف بالحدود النهائية لدولتها المارقة!
عشية انهيار الإمبراطورية العثمانية، كانت الجاسوسة البريطانية، غيرترود بيل، بوصفها خبيرة في جغرافيا الأسطورة والرمل، منهمكة في ترتيب حدود دولة العراق لتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على بلاد الرافدين، بعد أن طرده الفرنسيون من سوريا.
هكذا وضعت خرائط متشابكة أمامها لرسم حدود الدولة الجديدة من دون أن تنتهي إلى خطة نهائية. سيسألها أحد الضباط الانجليز عمّا تفعل؟ أجابته بنزق: "أحاول اختراع البلد الذي من المستحيل أن يُخترع".
كان حدثا تاريخياً ومنعطفاً عالمياً، فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتفكك الإمبراطورية العثمانية، اشتغل الأوروبيون على إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد. قسّمت إنجلترا وفرنسا المنتصرتان وفقاً لاتفاقية سايكس - بيكو عام 1916 ممتلكات الإمبراطورية العثمانية المفلسة في ما بينهما وخلقتا من أقاليمها دولاً جديدة.
هكذا توحدت الولايات العثمانية، بغداد والبصرة والموصل، لتشكل هيكلاً متماسكاً، هيكل أصبح، اسمه ابتداء من عام 1921 المملكة العراقية، التي قامت بتأسيسها غيرترود بيل أو "خاتون بغداد" فحدّدت الجزء الأكبر من حدودها واختارت حاكمها!
بالعبثية نفسها سيخترع ونستون تشرشل، سكرتير المستعمرات البريطانية حينذاك، في ظهيرة يوم أحد بلداً آخر بحدود سوريالية يدعى "إمارة شرق الأردن"، وذلك بضربة قلم خاطئة واكبت عطسة باغتته أثناء رسمه للحدود فجاء هذا الخط العشوائي كقدر نهائي للإمارة الوليدة، وبصرف النظر عن حقيقة هذه الواقعة أو بطلانها، فإن ما حدث فعلاً هو اختراع خرائط مرتجلة تنسف وحدة البلدان التي كانت تخضع للإمبراطورية العثمانية أو تركة "الرجل المريض".
الخرائط الجديدة ألغت وحدة التضاريس، ولم يعد متاحاً للرحّالة والمغامرين الأجانب عبور الحدود الجديدة بلا قيود. ليست الجغرافيا وحدها إذاً، هي التي تتحكم بصنع الحدود بين البلدان، وإنما اللغة والقيم والأفكار والطبائع.
في سياق آخر، تحضر صورة الفيلسوف، ابن رشد، في مرآتين مختلفتين، الأولى تحمل اسم ابن رشد، والثانية اسم "أفيروس" وفقاً لاسمه اللاتيني! سنجد الصورتَين معاً، ولكن من موقعَين متضادَين.
ذلك أن الأول عاشَ مكابدات صعبة في محاولاته إعلاء شأن العقل وحده في مواجهة فقهاء الغيبيات؛ ما جعله يدفع ضريبة باهظة بنفيه إلى قرية جنوب قرطبة، وحرق كتبه بأمر من الخليفة العباسي المنصور، بينما سيتحوَّل "أفيروس" إلى أيقونة أوروبية بوصفه جسراً بين ثقافتَين.
هكذا فقدَ إسلام الأنوار مفكِّراً عظيماً، وأهداه مجاناً إلى الغرب. فالفيلسوف الذي دُفِن في مراكش، لم يسترح طويلاً في تراب أجداده. بعد 3 أشهر على دفنه، أُخرج جثمانه من القبر، وحُملَ إلى قرطبة ودُفن هناك مرةً ثانية، وقد حضر جنازته 3 أشخاص "فقيه، وناسخ، وابن عربي".
من جهته، يتناول إدريس كسيكس في روايته "في مضيق أفيروس"، شخصية ابن رشد بوصفها جرحاً أو فجوة معرفية بتبنيه الاسم اللاتيني للفيلسوف، وهو بذلك يعترف بأن ما أبقى ميراث ابن رشد هو احتضان أوروبا لفلسفته العقلانية، وإلا لبقي منبوذاً في المدوَّنة الإسلامية بتهمة الإلحاد.
عبور جثمان ابن رشد من مضيق جبل طارق إلى الأندلس لدفنه في قرطبة تعبير صريح عن "فضاء العبور والانفصال"، وتالياً، سيتخذ السرد حركة الأرجوحة في الذهاب والإياب، باستخدام الرسائل والاعترافات، والخطب، والوثائق، والتحقيق الصحفي، في الاشتغال على ترميم الصورة المهتزّة للسيرة الشقيّة، والعمل على تفكيك الفضاءات، وأشكال الكتابة، لإيقاظ الإرث الخامل.
كانت الصورة النهائية لمشهد ترحيل جثمان ابن رشد من مراكش إلى قرطبة وفقاً لرؤية عبد الفتاح كيليطو على النحو الآتي: "وُضع الجثمان على الدابة في جهةٍ، وفي الجهة الأخرى كُتب الفيلسوف ليستقيم الحمل، ثم عبر الحدود نحو هوية أخرى باسم أفيروس". وكأن رحلة نفي العقل من جغرافيا إلى أخرى، لم تتوقّف يوماً.
على المقلب الآخر، يلخّص الكاتب الأرجنتيني، أدريان برافي، في كتابه "غيرة اللغات" حدود وطنه تبعاً لإبحار اللغة من شاطئ إلى شاطئ آخر، وذلك بتشريح معنى الهجرة اللغوية والهجنة الثقافية والنزوح القسري، ومعنى أن تكون عالقاً بين لغتين وجغرافيتين. أن تفكّر بلغة، وتكتب بلغةٍ ثانية. كانت آخر ذكرياته في مدينة سان فرناندو، تتعلق بمنزل قديم متاخم للنهر الذي كان يفيض أحياناً فيغمر المنزل، وكانت أمه تضعه فوق طاولة أثناء انهماكها في صدّ المياه: "إذا كان عليّ اليوم، أن أقول ما هو وطني الحقيقي، فإنني أودُّ أن أقول إنّه تلك الطاولة هناك".
ليس بمقدور لغةٍ جديدة إذاً، أن تحرّر المرء من موروث ماضيه، لكنه سينظر إليه بعدسة أخرى، فالمشاعر تتغيّر وفقاً للكلمات التي نستخدمها "لا يمكننا أن نروي القصة نفسها بلغتين مختلفتين"، يقول.
هذا الصراع بين أمومة اللغة، وحيرة الابن ستقودنا إلى طبقات المعنى، من دون أن نتخلى عن الحليب الأول. ويوضح بأنه لم يعد ممكناً اليوم تصوّر الأدب داخل حدوده الوطنية، بعدما فرض "أدب الهجرة" حضوره، في تحرّكه على الحد الفاصل بين لغتين وثقافتين وتاريخين ومخيّلتين وموروثين.
أدب يتّسم بتهجين عميق ينعكس على الأشكال الأدبية والأصوات السردية، عبر التداخل اللغوي الذي أطاح عذرية هذه اللغة أو تلك، فكل لغة تعيش مغمورة بجوقة من اللغات الأخرى نتيجة التلاقح والاحتكاك وتأثير أصوات اللغة الدارجة.
هذه الانحرافات هي نتيجة لإرغام الكلمات وقواعد تركيب العبارات على قبول معانٍ أخرى، كأنها اكتشافات جديدة، على غرار نصوص صموئيل بيكيت مثلاً، الكتابة المرتحلة بين لغتين، ذهاباً وإياباً. وتالياً فإن نصوصه ليست تكراراً للأصل، بل هي افتراق عنه، نظراً لروحها الابتكارية وقدرتها على لفظ التناسخ خارجاً لمصلحة الثراء الإيقاعي.
يخلص هذا الكاتب مزدوج الهوية إلى أن هوية أي بلد هي هوية لغوية قبل أن تكون هوية سياسية، إذ لطالما كان الأدب ينتج الأمة وليس العكس. لكن ريجيس دوبريه في كتابه "في مديح الحدود"، ينظر إلى المسألة من حيّز آخر معتبراً أن فحش هذا العصر "لا ينشأ عن الفائض بل عن الخسارة في الحدود". ذلك أنه لم يعد من حدود لأنه لم يعد من حدود "بين الشؤون العامة والمصالح الخاصة، بين المواطن والفرد، بين النحن والأنا، بين المصرف والكازينو، بين الخبر والإعلان التجاري، بين الدولة وجماعات الضغط، بين غرفة نوم رئيس الجمهورية ومكتبه، وقس علة ذلك".
كما يعرّج على معنى الإقامة والترحال، وكيف تتفرع ثنائيات الفصل والوصل، القطيعة والاستمرارية، الجزئي والكلي، الخصوصي والعالمي… باعتبارها ثنائيات يخترقها المحلي من كل الجهات، "ثنائيات تجعلنا نضع لأنفسنا حدوداً نشعر إزاءها بالانتماء والسكينة".
على الأرجح فإن الشركات العابرة للحدود خلخلت طمأنينة الحدود الآمنة للفرد وإلا ما تفسير وصول مشروبات الكوكاكولا إلى طفل حافي القدمين يعيش في قرية بائسة في عمق أدغال أفريقيا، أو نزوح الآلاف من مدنهم المنكوبة والموت غرقاً في البحر أو إقامة غيتو محلي مهاجر بكامل تقاليده الأصلية في أكثر المدن الأوروبية حداثة.
لقد عملت العولمة على إلغاء الحدود لكن ما حصل فعلاً هو إيقاظ الهويات الصغرى وتفتيت المكان إلى حدود يحكمها العداء وتبادل الكراهية، وإذا بالعولمة تشطب الحدود بسطوة وإغراء السلع البرّاقة. كما ستعبر بندقية الكلاشينكوف معظم حدود العالم بوصفها رمزاً للثورات العالمية من أميركا اللاتينية إلى فلسطين، ثم استثمرتها الجماعات "الجهادية" في حروبها المتنقلة غير عابئة بالخرائط الصارمة لحدود لبلدان.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ 32 دقائق
- LBCI
بري بحث مع دياب وسفير مصر في التطورات ودعا هيئة مكتب المجلس للاجتماع غدا و"اللجان" الأربعاء
استقبل رئيس مجلس النواب نبيه بري في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، الرئيس حسان دياب، حيث تم البحث في تطورات الأوضاع والمستجدات السياسية. واستقبل بري سفير جمهورية مصر العربية لدى لبنان علاء موسى، وتم عرض لآخر تطورات الأوضاع العامة في لبنان والمنطقة والمستجدات السياسية والميدانية والعلاقات الثنائية بين لبنان ومصر. ومن الزوار: رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي الدكتورة لمياء المبيض بساط. دعوة مكتب المجلس و"اللجان" على صعيد آخر، دعا الرئيس بري هيئة مكتب المجلس إلى إجتماع في الأولى من بعد ظهر يوم غد الثلثاء في 29 تموز الحالي. كما دعا لجان المال والموازنة، الإدارة والعدل، الدفاع الوطني والداخلية والبلديات، الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه، الإقتصاد الوطني والتجارة والصناعة والتخطيط، الإعلام والإتصالات الى جلسة مشتركه في الحادية عشرة من قبل ظهر يوم الأربعاء الواقع فيه 30 تموز الحالي، وذلك لدرس جدول الأعمال التالي: - مشروع القانون المعجل الوارد المرسوم رقم 602 الرامي الى تعديل القانون رقم 48 تاريخ 7- 9 -2017 المتعلق بتنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص. - إقتراح القانون الرامي الى إخضاع المتعاقدين في وزارة الاعلام لشرعة التقاعد. - إقتراح قانون يجيز لبلدية بيروت الترخيص بإنتاج الطاقة.


LBCI
منذ 32 دقائق
- LBCI
كنعان أعلن إقرار قانون إصلاح المصارف
أعلن النائب ابراهيم كنعان إقرار قانون إصلاح المصارف جلسة لجنة المال والموازنة، التي دامت ست ساعات. وذكّر بتوصية اللجنة للحكومة في أيار الماضي بإحالة قانون الانتظام الماليّ واستعادة الودائع و"هو ما لم تقم به الحكومة حتى الآن". وقال كنعان بعد لجنة المال: "لن يُضحّى بأموال المودعين ولا المحاسبة فالكل يعلم كيف هدر المال وكيف توزّع ذلك بين الحكومة ومصرف لبنان والمصارف". وأضاف: "أكدنا استقلالية الهيئة المصرفية العليا عن السلطة السياسية وعن المصارف وسيتمثّل فيها المودعون".


LBCI
منذ 32 دقائق
- LBCI
وزير المالية: إعادة الإعمار تبقى من الأولويات فلا يجوز لنا كدولة ترك المتضررين لمصيرهم
اعتبر وزير المالية ياسين جابر أنه وبالقدر الذي يحظى به إقرار القروض التي يقدمها البنك الدولي للبنان من أهمية على صعيد الكهرباء والمياه والزراعة، فإن تسريع وتيرة تنفيذ أهداف تلك القروض يوازي بأهميته إقرارها والحصول عليها، لما تشّكل من دينامية بالغة على مستوى هيكلة بُناها التحتية الجاذبة للاستثمار والبرامج الإنمائية، وفي تعزيز عملية التنمية وتحريك العجلة الاقتصادية على شتى الصعد. ولفت الى أن "هذه الأنشطة الحيوية على رغم ما تمثل للدفع بالاقتصاد قدماً إلى الأمام، فإن إعادة الإعمار تبقى من الأولويات ليس ببعدها الاقتصادي فحسب، وإنما بأبعادها الاجتماعية والإنسانية، إذ لا يجوز لنا كدولة ترك المتضررين لمصيرهم في تدبير أمور الإعمار، إنما من الواجب توفير ما يلزم من دعم مادي، وذلك بالسعي المتواصل لتوفير التمويل سواء من قبل الدول الصديقة أو من خلال صندوق إعادة الإعمار الذي أطلقه البنك الدولي والذي أُقر لأجله 250 مليون دولار ونسعى لرفعه إلى 400 مليون دولار ليصل كما هو معلوم أصلاً إلى مليار دولار". وأشار جابر خلال استقباله مدير مكتب البنك الدولي في لبنان Enrique Bianco Armas مع وفد بحث معه في موضوع إحياء القطاعات التنموية، الى أن "العامل الأساسي في تحقيق النمو هو الاستقرار، وبالقدر الذي يتحقق فيه خصوصاً في مستواه الأمني وتالياً السياسي، بالقدر نفسه تتحقق التنمية ويتعزز الناتج المحلي والانتظام المالي والنقدي". وأكّد أنه ورغم ارتفاع وتيرة المناخات السلبية التي تتهدد بلدنا بشروط ذات أبعاد أمنية وسياسية، في ما يرتبط بوقف الإعتداءات الإسرائيلية وتنفيذ القرار 1701 ، فإن المجلس النيابي والحكومة ماضيان في إقرار القوانين الإصلاحية التي تُخرج لبنان من الأزمات التي يعاني منها اقتصادياً ومالياً، والتي تُعبّد الطريق أمام استعادة الثقة بالدولة وأمام آفاق جذب الاستثمارات.