
لماذا فشلت ثورة 1857 ضد البريطانيين في شبه القارة الهندية؟ 2/6
819
اللافت أنه في عزّ فترات الوجود البريطاني بالهند، لم يكن فيها سوى 70 ألف جندي أوروبي يحكمون 25 مليون هندي يومها، وهو ما علّق عليه ستالين أنه "من السخف أن يحكم بضعة مئات من الإنجليز الهند كلها". لكن ربما ما ساعدهم، تعزيز تقسيم الطبقية الهندية، والتي كانت حتى مجيئهم تُدار من قبل المغول المسلمين، لتأتي ثورة 1857 لتؤطر القومية الهندية وربما لأول مرة، حيث كانت الثورة مزيجاً من الهندوس والمسلمين، ويعتقد بعض المؤرخين أن حرص البريطانيين على استبعاد المسلمين من السرد القومي الأساسي، ساعد التفسير الاستعماري البريطاني للتاريخ الهندي في القرن التاسع عشر على ولادة نظرية الدولتين في تقسيم البلاد، ويرى باحثٌ هنديٌ معروفٌ، يدعى جيانيندرا باندي أن الطائفية الهندية كانت في جزء كبير منها بناء استعمارياً.
كان الصحفي البريطاني اليساري ريتشارد جوت قاسياً في إدانته لإمبريالية بلاده حين قال: (كانت الإمبراطورية البريطانية في الأساس مشروعاً هتلرياً على نطاق واسع، يتضمن الغزو العسكري والديكتاتورية والإبادة الجماعية والأحكام العرفية والمحاكم الخاصة والعبودية والعمل الجبري، وبالطبع معسكرات الاعتقال وتهجير الناس عبر المخحطات).
الظاهر أن هذ الجشع المالي الاستعماري، استحوذ على البريطانيين أكثر من غيرهم، فالمسيحية الصليبية لدى الإسبان أو الفرنسيين طغى عليه الحماس الثقافي والحضاري، أما البريطانيون في الهند فكان الباعث مالياً أكثر من غيره.
نتج عن حكم الراج البريطاني استنزافه لخيرات الهند، موت أكثر من 35 مليون هندي نتيجة المجاعات التي تسبب بها حكم الراج، أو لسوء إدارته لها، كما يقول المؤرخون، وهو ما يذكر بـ 25 مليونا ماتوا في حملة ستالين الجماعية والتطهير السياسي، وبـ 45 مليون ماتوا خلال ثورة ماو الثقافية..
السخرية الأشد هو منع نائب الملك لورد ليتون عبر قرارات مشهورة تماشياً مع سياسة بلاده أي تخفيض في أسعار الغذاء أثناء المجاعة المشهورة، وأضاف النائب حينها أنه لن يكون هناك أي تدخل من أي نوع من جانب الحكومة، بهدف خفض أسعار المواد الغذائية، وأصدر تعليماته إلى مسؤولي المنطقة بعدم تشجيع أعمال الإغاثة بأي طريقة ممكنة، فمجرد الضيق ليس سبباً كافياً لإنشاء أعمال الإغاثة، والأعجب من هذا كله هو اتهامه لمنتقديه البريطانيين بالانغماس في نوبات هيستيرية إنسانية.
الأعجب كذلك هو أنه حين استورد السير ريتشارد تمبل الأرز من بورما عام 1866 لمواجهة مجاعة أوريسا هاجمته مجلة مثل الإيكونوميست لأنه سمح للهنود بالتفكير أن " من واجب الحكومة إبقاؤهم على قيد الحياة". لكن لم تكن الإيكونوميست شاذة في ذلك، إذ كتبت الديلي ميل عام 1897: (يقع على عاتقنا الدفاع عن إمبراطوريتنا من جيوش الأشباح الجائعة، سلاحنا هو أموال بريطانية جيدة ونظيفة). ومع هذا لم تعدم البلاد من أصوات في البرية حين أسفت صحيفة التايمز البريطانية وبشدة لتدخل نائب الملك وقمع دوافع الأعمال الخيرية الخاصة، وندد كتابها بسياسته القائمة على الإغاثة من المجاعة بدوافع اقتصادية فحسب.
فبينما "كانت لندن تأكل خبز الهند، كانت الأخيرة تموت جوعاً" بحسب تعبير الأستاذ مايك ديفيس وهو كاتب ومؤرخ أمريكي وناشط سياسي عاش في منتصف القرن الماضي.
رضخ ليتون أخيراً للصندوق الذي جمعه الأفراد والمدارس والكنائس في العالم البريطاني، وسعى إلى تنظيم التوزيع من خلال إدارته، مرغماً نتيجة الضغوط الإعلامية والمجتمعية البريطانية، وهو الذي وصف الصندوق، بأنه مصدر إزعاج كامل.
اختصر رئيس تحرير مجلة كلكتا عام 1906 المشهد قبل وصول البريطانيين بقوله: (عندما جاء الإنجليز إلى الهند، كان هذا البلد زعيم الحضارة الآسيوية، ومركز الضوء بلا منازع في العالم الآسيوي. لم تكن لليابان أي مكانة. والآن بعد خمسين عاماً، أحدثت اليابان ثورة في تاريخها بمساعدة الفنون الحديثة المتقدمة، ولا تزال الهند، بعد 150 عاماً من الحكم الإنجليزي محكوماً عليها بالوصاية).
كانت الإيرادات السنوية للإمبراطور المغولي أورنجزيب (1707- 1618) قبل الحكم البريطاني هائلة، وذلك بعيداً عن عائدات الضرائب الضخمة. لقد بلغ إجمالي دخل مملكته 450 مليون دولار أي أكثر بعشرة أضعاف من دخل لويس الرابع عشر المعاصر له.
كانت أجواء الغضب الشعبي متلبدة، ليس وسط المسلمين، وإنما حتى وسط الهندوس، بعد أن تعرّض الطرفان لاستهداف دينهم من قبل البريطانيين، فدهن المحتل خراطيم الخرطوش والتسليح بدهن الخنزير والبقر، مما شكل لحظة فارقة في اجتماع السيبويين، الذين يشكلون أساس جيش الشركة البريطانية الشرقية، فأعلنوا تمردهم في الأول من مايو/ أيار، وشنوا هجوماً على دلهي مركز قيادة القوات البريطانية، ونائب الملكة، كان قوما 20 ألفاً من قوات السيبويين، ومعهم أربعة آلاف من قوات المجاهدين الذين عُرفوا بـ الوهابيين بزعامة المرشد الروحي سرفراز خان علي، ومعه القائد العسكري المعروف بخت خان.
أمضى العالم سرفراز خان المعروف بإمام المجاهدين في حينه، سنوات عدة في دلهي، وكان على اتصال جيد بالبلاط المغولي، فأعلن الجهاد ضد القوات البريطانية، وقد سبق تحريضه هذا ثورة 1857، وينقل عنه كل من عاصر خطبته الشهيرة في الأول من مايو/ بمنطقة شاه دهان بور والتي خاطب فيها جمهوره المحتشد أمامه: (لقد أصبح ديننا في خطر، بعد أن فقدنا سيادة الأرض، وانحنينا خاضعين للغرب الكافر النجس، لكن الآن، هل سنتنازل عن الامتيازات التي نلناها عن النبي عليه السلام).
تلقى سرفراز تعليمه في مدرسة المفتي صدر الدين أزوردا، والمسماة بـ "دار البقعة" وبفضل تعلمه الجبر والهندسة، أصبح من أبرز علماء دلهي، وقد أثنى عليه العلامة أحمد خان كواحد من ألمع جواهر التاج الفكري في دلهي، وتتحدث الروايات التاريخية بأن سرفراز هو من أقنع بخت بالانضمام للثورة، ليتحول الأخير لاحقاً إلى تابع له، ويدين له بالسمع والطاعة.
كانت القوة العسكرية والمعنوية لجيش المجاهدين ضخمة في العدد والعدة وعلى مستوى الجانب الأخلاقي المعنوي، يتحدث عنهم مراسل صحيفة التايمز البريطانية المعروف يومها ويليام هوارد راسل: (كان الغزاة في الغالب رجالاً حسني السلوك، وكبار السن، ذوي لحى خالطها الشيب، يرتدون العمائم الخضراء، وكان كل واحد منهم لديه ختم فضي منقوش عليه نص طويل من القرآن. جاؤوا ورؤوسهم تحت دروعهم، وسيوفهم تومض، وهم يلوحون بها فوق رؤوسهم ويصرخون الدين! الدين! ويرقصون مثل المجانين. ظهر من بينهم رجل شجاع، أخذ يقترب صارخاً فينا بصوت جهوري، وتقدم وسط وابل من الرصاص بشجاعة، ثم خرج جندي شاب من بين أفراد قواتنا، مطلقاً النيران من بندقية بين عيني الرجل، وتبعه بدفعه من خنجره في وجه الرجل المسكين، مما قضى عليه).

Try Our AI Features
Explore what Daily8 AI can do for you:
Comments
No comments yet...
Related Articles

Turess
31 minutes ago
- Turess
بطولة فرنسا المفتوحة للتنس: ميدفيديف ينهار ويخسر أمام نوري في الدور الأول
وفقد ميدفيديف رباطة جأشه عندما استسلم لخسارة ثمانية أشواط متتالية بعد أن كان متقدما 3-1 في المجموعة الأولى، وتفاقم إحباطه ليظهر سلسلة من الإيماءات بوجهه ويديه تجاه فريقه التدريبي الحائر. لكن الدعم القوي من الجمهور في ملعب سيمون ماتيو جعل بطل أمريكا المفتوحة لعام 2021 يستعيد تماسكه رغم الطقس العاصف ليفوز بالمجموعة الثلاثة ثم يحسم المجموعة الرابعة بسهولة بعدما حصد 16 نقطة متتالية بطريقة رائعة. ولم يكن لدى نوري، الذي وصل إلى نصف نهائي بطولة جنيف المفتوحة الأسبوع الماضي، أي فكرة عن كيفية التفوق على ميدفيديف الذي كسر إرسال البريطاني ليجعل النتيجة 2-1 في المجموعة الحاسمة بضربة سريعة. لكن نوري تمكن من استعادة تركيزه ليرد كسر الإرسال، قبل أن يحسم الفوز بالمباراة من أول نقطة ممكنة لتحقيق ذلك، ليتلقى ميدفيديف المصنف 11 خسارته السادسة في الدور الأول من رولان غاروس. وقال نوري الذي دخل المباراة بسجل من أربع هزائم أمام اللاعب الروسي، للصحفيين "كانت أجواء رائعة، شعرت بالكثير من الطاقة. كانت مباراة مجنونة، أستحق شهادة بعد الفوز عليه لأنه تغلب علي في آخر أربع أو خمس مرات". ويلعب نوري في الدور التالي أمام الأرجنتيني فيدريكو جوميز.

Masress
31 minutes ago
- Masress
أمجد الشوا: الوضع فى غزة كارثى والمستشفيات عاجزة عن الاستجابة للاحتياجات
أكد أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، أن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وصلت إلى مستوى كارثي غير مسبوق، في ظل استمرار الحصار الإسرائيلي وتوقف إدخال المساعدات الأساسية، مؤكدا أن الوضع يتدهور لحظة بلحظة، فيما تُستهدف كل مقومات الحياة، وعلى رأسها المدنيون من أطفال ونساء، والمرافق الصحية التي لم تعد قادرة على تقديم الخدمات. وأوضح خلال مداخلة عبر شاشة "القاهرة الإخبارية"، أن معظم مستشفيات القطاع خرجت عن الخدمة، خصوصًا في الشمال، حيث لم يتبقَ سوى مستشفى العودة الذي تعرّض هو الآخر للحصار والاعتداء، كما خرج المستشفى الأوروبي المتخصص في علاج السرطان والقلب عن الخدمة بالكامل، فيما طالت الاعتداءات أقسامًا من مجمع ناصر الطبي، مضيفا أن الطواقم الطبية تتعرض للاعتقال والقتل، فيما نفدت أكثر من 60% من الأدوية والمستلزمات الطبية، ما يجعل التعامل مع الإصابات والأمراض المزمنة أمرًا بالغ الصعوبة. وأشار إلى انتشار الأوبئة بين السكان نتيجة تدهور خدمات الصرف الصحي وسوء التغذية، خاصة بين الأطفال، الذين يفتقر عشرات الآلاف منهم إلى الغذاء الآمن والماء النظيف، كما بيّن أن المرافق الصحية القليلة المتبقية تعمل فوق طاقتها، في ظل تزايد أعداد الجرحى، وغياب أي دعم حقيقي من المجتمع الدولي. وشدد على أن المساعدات التي تدخل القطاع "لا تسمن ولا تغني من جوع"، موضحًا أنها تقتصر على كميات ضئيلة من الدقيق وبعض المكملات الغذائية للأطفال، دون أي قدرة على تلبية الحاجات الأساسية، كما حذر من أن استمرار الوضع بهذا الشكل ينذر بانهيار شامل، حيث يعاني السكان من سوء تغذية، وانهيار نفسي، وتفشي الأمراض، وسط نزوح أكثر من 600 ألف مواطن خلال الشهرين الأخيرين.


Mubasher
32 minutes ago
- Mubasher
المركزي "الإسرائيلي": استمرار الحرب على غزة يؤثر سلباً على النمو ويرفع الديون
مباشر: حذر محافظ البنك المركزي الإسرائيلي، أمير يارون، اليوم الثلاثاء، من أن استمرار حرب إسرائيل على قطاع غزة لمدة 6 أشهر إضافية سيؤدي إلى تقليص معدل النمو الاقتصادي بنصف نقطة مئوية خلال عام 2025، بالإضافة لزيادة نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. وأوضح يارون - في تصريحات نقلتها شبكة "يو إس نيوز" الأمريكية - أن السياسة النقدية يجب أن تظل "حذرة" في ظل الغموض الجيوسياسي القائم والضغوط التضخمية على المدى القريب، مؤكدا أن صناع السياسات مستعدون لتأجيل أي خفض في أسعار الفائدة حتى تتراجع معدلات التضخم، وفقا لوكالة أنباء الشرق الأوسط. ويهدد التصعيد الأخير في العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة توقعات البنك المركزي الإسرائيلي لنمو الاقتصاد، حيث تأتي تصريحات يارون بعد يوم واحد من قرار البنك المركزي بالإبقاء على أسعار الفائدة دون تغيير، عقب خفضها في يناير 2024. وقال يارون - على هامش المؤتمر الاقتصادي السنوي لمعهد الديمقراطية الإسرائيلي - : "الحرب تؤثر على الاقتصاد بشكل خاص من خلال سوق العمل حاليا"، موضحا أن عددا كبيرا من المواطنين تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية الاحتياطية، ما يعني غيابهم عن أعمالهم لفترات طويلة. وكانت توقعات البنك تشير إلى انخفاض تدريجي في أعداد جنود الاحتياط المستدعين خلال الربع الثاني من العام، إلا أن "ما نشهده حاليا هو العكس.. إذا استمرت الحرب في غزة وتفاقمت لستة أشهر أخرى، فإن ذلك سيؤدي إلى خفض النمو بمقدار نصف نقطة مئوية في 2025، كما سيرتفع معدل الدين إلى الناتج المحلي من 69% إلى 71%". وأكد يارون أن الوضع المتقلب يجعل من الصعب الاعتماد على توقعات قصيرة الأجل، لافتا إلى أنه "إذا لم نر بعض التصحيحات التضخمية، فقد يستغرق خفض الفائدة وقتًا أطول، وإذا حدث ذلك، فسنبقى على سياسة نقدية تقييدية لفترة أطول". حمل تطبيق معلومات مباشر الآن ليصلك كل جديد من خلال أبل ستور أو جوجل بلاي تابعوا آخر أخبار البورصة والاقتصاد عبر قناتنا على تليجرام