#أحدث الأخبار مع #جانكلوددوفالييه،العربي الجديدمنذ 7 أيامترفيهالعربي الجديد"العشاء الأخير" الهايتي: استحضار تاريخ سياسي مُغَيّب عن السينماتختار المخرجة الهايتية ماريز لوغانيور، في باكورة أفلامها الروائية، زاوية غير مألوفة، لمراجعة حقبة تاريخية سياسية سوداء، مرّ بها بلدها خلال حكم جان كلود دوفالييه، أوائل سبعينيات القرن الـ20. مرحلة اتّسمت بالعنف والتسلّط الديكتاتوري. وبدلاً من الاكتفاء بتجسيد الجانبين الدموي والقاسي منها، يقترح نصّ فيلمها "العشاء الأخير" (2024) أنْ يكون الطعام الهايتي، بوصفه موروثاً شعبياً وانتماءً حسّياً إلى ثقافة كاريبية، جزءاً رئيسياً من متنه الحكائي. حرمان السجين السياسي الهايتي منه، لتجويعه وإذلاله، يزيد من سوداوية المشهد السياسي المكتوب برصانة (سيناريو لويس موليني، اعتماداً على مقابلات أجرتها لوغانيور مع ناجين سياسيين من الحصن الرهيب "ديمانش")، والمُجسّد سينمائياً باشتغال جمالي مذهل. الانتقال السلس بين زمنين ومكانين مختلفين، وجمعه بين مزاجين متباعدين، يجعلان "العشاء الأخير" نموذجاً متفرّداً، يفرض نقاشاً عن إمكانية نقل التجارب التاريخية سينمائياً بأقلّ الميزانيات، وبأعلى درجات الإبداع. لا يقول مشهده الافتتاحي الكثير: عام 2011، رينولد (حضور طاغٍ للممثل غيلبرت لومور) رجلٌ مريض في مشفى كندي معزول، تحيطه الثلوج من كلّ جانب، يتألّم من كلّ طعام يدخل إلى معدته. من المذياع، يسمع خبر عودة الديكتاتور دوفالييه إلى هايتي، بعد غياب طويل خارجها. يرفع سمّاعة الهاتف ويتّصل بشخصٍ، يُسمع صوته الأنثوي. يقطع المكالمة، ثم يعاود المحاولة. في الطرف الثاني، هناك امرأة يسمّيها فافا، تصغيراً لاسم فانيسا (أداء رائع لماري إيفلين ليسارد). من المشهد الكئيب، تنتقل الكاميرا إلى العاصمة بورت أو برنس، وفي الزمن إلى عام 1975. يظهر في المشهد الانتقالي الشاب رينولد (فابريس ايفانوف سينات) مُتجوّلاً في سوق شعبية، يتلذّذ بطعم المانغا الحلو، وسط صخب المتسوّقين والمارّين في شوارع غارقة بضوء ساطع. التناقض الحاد بين عتمة غرفة المشفى والضوء المبهج في شوارع لؤلؤة جزر الأنتيل يزيد من الإحساس بالفرق بين المكانَين، ومن الأجواء المبهجة للمطبخ، التي تعمل فيها فانيسا مع خالتها (دادو ميريل ميتيلوس)، إلى أجواء السجن الرهيب، الذي يُزجّ فيه الشاب اليساري المعارض، تتجسّد قوّة التضاد بين عالمَين، عبرهما يأخذ السرد شكله الدرامي الملحمي المُوحّد لهما. تقارير دولية التحديثات الحية جولة في عالم عصابات هايتي بعد انقطاعٍ طويل، تقبل الشابّة مقابلة والدها، الذي لا تعرف عنه الكثير، ولا تريد تذكّر ما كان يُسبّبه عنفه الأسري من آلامٍ لها ولوالدتها. في زيارتها له، يجد مناسبة لتصحيح علاقة انقطعت، وأيضاً مصالحة للذات قبل اقتراب أجله بسبب مرض السرطان الذي أصاب معدته. يحكي لها تجربته في السجن، والجوع الذي كان يقاسيه كبقية رفاقه. كانت فكرة الحصول على وجبة أخرى، غير البطاطا المهروسة، حلماً يراود جميع سجناء الحصن، الذي يأخذ المساحة الكبيرة من السرد، ويفرض اشتغالاً مختلفاً عن مشاهد المشفى والمطعم في كندا. هذا التوافق السردي المحكم بين الأمكنة والأزمنة المختلفة يشترط، مبدئياً، ميزانية ضخمة، لكنّ الإنتاج المُقتصد والمدروس يتجاوزه، من دون إخلال بمستوى الأداء. التقارب بين الأب وابنته مُتدرّج، وإعداد الطعام وإحضاره له يُجسِّره بتروٍّ، كما يُجسّر الصلة بين المنفيين الهايتيين في المقاطعة الكندية كيبِك وبلدهم. كلّ وجبة تستجلب معها ذكريات المريض، وتُعيده إلى زمن كانت حياته فيه عادية: شابٌ حالم بمستقبل واعد، وبإيمان سياسي بعالم خالٍ من العسف والظلم. لم يخطر بباله أنّ أسطوانة موسيقية شعبية ، لا يحبّها الديكتاتور، ستُسبّب له كلّ العذابات التي يلقاها في السجن، ويخسر بسببها حبيبته (والدة فانيسا)، التي لم تفهم سبب انقطاعه عنها بعد اغتصاب رجال الأمن لها يوم اعتقاله. ذكريات السجن لا جديد فيها سردياً، إلّا باختلاف عوالمها الهايتية الداخلية ـ بكلّ محمولاتها الثقافية والتاريخية، قليلة النّقل إلى الشاشة ـ عن تجارب أخرى معروفة، كالتجربة التشيلية، وبقية تجارب أميركا اللاتينية. أجواء المطبخ الهايتي، وتشهّيات الرجل المريض، تُذَكّر بمناخات رواية "أفروديت" لإيزابيل ألليندي (ترجمة رفعت عطغة، الطبعة العربية الأولى، 2000، منشورات دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع). الاختلاف بين النصَّين، الروائي والسينمائي، أنّ الأول يجعل الطعام مدخلاً إيروتيكياً، بينما يجعله الثاني ممرّاً لسرد ذكريات حزينة ومؤلمة. حضوره في المنفى يُعوّض نفسياً عن حرمان وجوع طويلَين، عانى منهما المعارض السياسي في غياهب سجون الديكتاتور الهايتي. الاثنان ـ الروائي والسينمائي ـ يُحمِّلانه أبعاداً ثقافية، تُضيء مساحات من العوالم الروحية والحسّية لأميركا اللاتينية والكاريبي. جمعها في منجز سينمائي واحد فيه تحدٍّ لا يتجاوزه سوى الفهم العميق للمادة المُشتغل عليها. هذا يتّضح من الاستعداد الطويل للوغانيور لمعرفة الأوضاع السياسية السائدة في بلدها إبّان سبعينيات القرن الماضي، وما الذي فعلته ممارسات الطغمة الحاكمة بالوطنيين والمناضلين، الذين صار عندهم تذوّق وجبة "وطنية" أخيرة قبل الموت مُراداً، وممراً إلى تصليح بعض ما خرّبته وحشية زعيم غاب وعاد. أمّا ريلوند المعذّب، فتنتهي حياته منفياً، مُبعداً عن شمس المدينة التي أحبّها، وحلم يوماً أنْ يعيش أهلها بهناء.
العربي الجديدمنذ 7 أيامترفيهالعربي الجديد"العشاء الأخير" الهايتي: استحضار تاريخ سياسي مُغَيّب عن السينماتختار المخرجة الهايتية ماريز لوغانيور، في باكورة أفلامها الروائية، زاوية غير مألوفة، لمراجعة حقبة تاريخية سياسية سوداء، مرّ بها بلدها خلال حكم جان كلود دوفالييه، أوائل سبعينيات القرن الـ20. مرحلة اتّسمت بالعنف والتسلّط الديكتاتوري. وبدلاً من الاكتفاء بتجسيد الجانبين الدموي والقاسي منها، يقترح نصّ فيلمها "العشاء الأخير" (2024) أنْ يكون الطعام الهايتي، بوصفه موروثاً شعبياً وانتماءً حسّياً إلى ثقافة كاريبية، جزءاً رئيسياً من متنه الحكائي. حرمان السجين السياسي الهايتي منه، لتجويعه وإذلاله، يزيد من سوداوية المشهد السياسي المكتوب برصانة (سيناريو لويس موليني، اعتماداً على مقابلات أجرتها لوغانيور مع ناجين سياسيين من الحصن الرهيب "ديمانش")، والمُجسّد سينمائياً باشتغال جمالي مذهل. الانتقال السلس بين زمنين ومكانين مختلفين، وجمعه بين مزاجين متباعدين، يجعلان "العشاء الأخير" نموذجاً متفرّداً، يفرض نقاشاً عن إمكانية نقل التجارب التاريخية سينمائياً بأقلّ الميزانيات، وبأعلى درجات الإبداع. لا يقول مشهده الافتتاحي الكثير: عام 2011، رينولد (حضور طاغٍ للممثل غيلبرت لومور) رجلٌ مريض في مشفى كندي معزول، تحيطه الثلوج من كلّ جانب، يتألّم من كلّ طعام يدخل إلى معدته. من المذياع، يسمع خبر عودة الديكتاتور دوفالييه إلى هايتي، بعد غياب طويل خارجها. يرفع سمّاعة الهاتف ويتّصل بشخصٍ، يُسمع صوته الأنثوي. يقطع المكالمة، ثم يعاود المحاولة. في الطرف الثاني، هناك امرأة يسمّيها فافا، تصغيراً لاسم فانيسا (أداء رائع لماري إيفلين ليسارد). من المشهد الكئيب، تنتقل الكاميرا إلى العاصمة بورت أو برنس، وفي الزمن إلى عام 1975. يظهر في المشهد الانتقالي الشاب رينولد (فابريس ايفانوف سينات) مُتجوّلاً في سوق شعبية، يتلذّذ بطعم المانغا الحلو، وسط صخب المتسوّقين والمارّين في شوارع غارقة بضوء ساطع. التناقض الحاد بين عتمة غرفة المشفى والضوء المبهج في شوارع لؤلؤة جزر الأنتيل يزيد من الإحساس بالفرق بين المكانَين، ومن الأجواء المبهجة للمطبخ، التي تعمل فيها فانيسا مع خالتها (دادو ميريل ميتيلوس)، إلى أجواء السجن الرهيب، الذي يُزجّ فيه الشاب اليساري المعارض، تتجسّد قوّة التضاد بين عالمَين، عبرهما يأخذ السرد شكله الدرامي الملحمي المُوحّد لهما. تقارير دولية التحديثات الحية جولة في عالم عصابات هايتي بعد انقطاعٍ طويل، تقبل الشابّة مقابلة والدها، الذي لا تعرف عنه الكثير، ولا تريد تذكّر ما كان يُسبّبه عنفه الأسري من آلامٍ لها ولوالدتها. في زيارتها له، يجد مناسبة لتصحيح علاقة انقطعت، وأيضاً مصالحة للذات قبل اقتراب أجله بسبب مرض السرطان الذي أصاب معدته. يحكي لها تجربته في السجن، والجوع الذي كان يقاسيه كبقية رفاقه. كانت فكرة الحصول على وجبة أخرى، غير البطاطا المهروسة، حلماً يراود جميع سجناء الحصن، الذي يأخذ المساحة الكبيرة من السرد، ويفرض اشتغالاً مختلفاً عن مشاهد المشفى والمطعم في كندا. هذا التوافق السردي المحكم بين الأمكنة والأزمنة المختلفة يشترط، مبدئياً، ميزانية ضخمة، لكنّ الإنتاج المُقتصد والمدروس يتجاوزه، من دون إخلال بمستوى الأداء. التقارب بين الأب وابنته مُتدرّج، وإعداد الطعام وإحضاره له يُجسِّره بتروٍّ، كما يُجسّر الصلة بين المنفيين الهايتيين في المقاطعة الكندية كيبِك وبلدهم. كلّ وجبة تستجلب معها ذكريات المريض، وتُعيده إلى زمن كانت حياته فيه عادية: شابٌ حالم بمستقبل واعد، وبإيمان سياسي بعالم خالٍ من العسف والظلم. لم يخطر بباله أنّ أسطوانة موسيقية شعبية ، لا يحبّها الديكتاتور، ستُسبّب له كلّ العذابات التي يلقاها في السجن، ويخسر بسببها حبيبته (والدة فانيسا)، التي لم تفهم سبب انقطاعه عنها بعد اغتصاب رجال الأمن لها يوم اعتقاله. ذكريات السجن لا جديد فيها سردياً، إلّا باختلاف عوالمها الهايتية الداخلية ـ بكلّ محمولاتها الثقافية والتاريخية، قليلة النّقل إلى الشاشة ـ عن تجارب أخرى معروفة، كالتجربة التشيلية، وبقية تجارب أميركا اللاتينية. أجواء المطبخ الهايتي، وتشهّيات الرجل المريض، تُذَكّر بمناخات رواية "أفروديت" لإيزابيل ألليندي (ترجمة رفعت عطغة، الطبعة العربية الأولى، 2000، منشورات دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع). الاختلاف بين النصَّين، الروائي والسينمائي، أنّ الأول يجعل الطعام مدخلاً إيروتيكياً، بينما يجعله الثاني ممرّاً لسرد ذكريات حزينة ومؤلمة. حضوره في المنفى يُعوّض نفسياً عن حرمان وجوع طويلَين، عانى منهما المعارض السياسي في غياهب سجون الديكتاتور الهايتي. الاثنان ـ الروائي والسينمائي ـ يُحمِّلانه أبعاداً ثقافية، تُضيء مساحات من العوالم الروحية والحسّية لأميركا اللاتينية والكاريبي. جمعها في منجز سينمائي واحد فيه تحدٍّ لا يتجاوزه سوى الفهم العميق للمادة المُشتغل عليها. هذا يتّضح من الاستعداد الطويل للوغانيور لمعرفة الأوضاع السياسية السائدة في بلدها إبّان سبعينيات القرن الماضي، وما الذي فعلته ممارسات الطغمة الحاكمة بالوطنيين والمناضلين، الذين صار عندهم تذوّق وجبة "وطنية" أخيرة قبل الموت مُراداً، وممراً إلى تصليح بعض ما خرّبته وحشية زعيم غاب وعاد. أمّا ريلوند المعذّب، فتنتهي حياته منفياً، مُبعداً عن شمس المدينة التي أحبّها، وحلم يوماً أنْ يعيش أهلها بهناء.