logo
#

أحدث الأخبار مع #مساراتالعقلنةوآفاقالأنسنة»

جدل الدين والتنوير فى كتاب جديد
جدل الدين والتنوير فى كتاب جديد

بوابة الأهرام

time١١-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • بوابة الأهرام

جدل الدين والتنوير فى كتاب جديد

يسعدنى أن أشارك القراء الأعزاء هذا الحديث حول كتاب الأستاذ صلاح سالم بعنوان «جدل الدين والتنوير: مسارات العقلنة وآفاق الأنسنة» وهو من أهم الكتب الصادرة 2025 عن مكتبة الإسكندرية. لقد ارتبط مفهوم التنوير ارتباطًا كبيرًا بمفهوم العقل، منذ أن أعلن ايمانويل كانط (1724-1804) فى مقاله الشهير حول التنوير (نُشر عام 1784) أن التنوير هو خروج عن دائرة القصور العقلي. وكان يقصد من ذلك أن يخرج الإنسان من دائرة العجز، وأن يلج إلى دائرة الحرية التى تمكنه من أن يستخدم عقله فى فهم الكون الذى يحيط به فهمًا موضوعيًا، وأن يكون قادرًا على أن يخاطر بفتح آفاق متجددة أمام إمكانات فهم الحقائق المحيطة به فى العالم الطبيعى والاجتماعي. لقد أصبح التنوير فى هذا الفهم لصيقًا بالتفكير العقلى الذى لا يركن الى الأساليب التقليدية فى فهم العالم بما فيها الفهم الديني. ولم تكن النزعة العقلانية التنويرية التى قادها كانط هى المصدر الوحيد للتفكير العقلى فى الحضارة الغربية. فقد كان هذا التفكير موجودًا ومبثوثًا فى بنية الحضارة منذ أن تبنت هذه الحضارة أفكار أرسطو بتأثير من ابن رشد، ومنذ أن تأكدت النزعة العقلانية عندما أعلن ديكارت مقولته الشهيرة «أنا أفكر إذن أنا موجود» التى اعتبرت الانسان القادر على التفكير مركزًا للوجود. ولكن استحضار كانط هنا يؤشر على بدايات ربط هذه النزعة العقلانية بمشروع التنوير، الذى يعنى فى دلالته العميقة نقض كل أشكال الظلام التى تقيد العقل وتُكبل قدراته على فهم العالم. ولم تكن هذه النزعة العقلانية تستهدف الدين أو تقلل من شأنه، ولكن الصدام بينهما كان حتميًا بسبب الاستخدام السياسى والاجتماعى للدين فى فرض سيطرة على البشر وعلى أساليب تفكيرهم. لقد فرضت الكنيسة سلطة دينية على البشر وعلى أساليب تفكيرهم وتوجهاتهم فى الحياة. ولقد كان من الطبيعى أن يصطدم هذا التيار العقلانى مع التصورات المتشددة فى فهم الدين وفى استخداماته السياسية. ولقد تجلى هذا الصدام بقوة عندما اشتد عود هذا التيار العقلاني، وامتدت آثاره إلى تكوين أسس عقلانية لبناء الدولة وتأسيس عقدها الاجتماعى كما تضافر مع التيارات العلمية التى كانت قد بزغت فى بدايات القرن السادس عشر، والتفكير العلمى الموضوعى الذى لا يركن إلى أى صياغات ميتافيزيقية. ولقد بلغ هذا الصدام أشده عندما أصبح من الصعب على الفهم الدينى أن يستوعب أفكارًا جديدة استطاع العقل أن يصل اليها وأن يتحقق منها بأساليب علمية. ومن ذلك تقديم فهم جديد للكون وحركة الأرض فى علاقتها بالمحيط الكونى فيما عُرف بثورة كوبرنيكوس (1473-1543)، والجرأة على فهم النصوص الدينية على أسس تأويلية تختلف عن الفهم السائد فى الدوائر الدينية، كما حدث فى فهم سبينوزا (1632-1677) لبعض نصوص العهد القديم. بل كان من الطبيعى أن يتسرب هذا التيار العقلانى إلى الدراسات اللاهوتية نفسها، فيجعلها قادرة على إفراز تفسيرات مغايرة تناهض سيطرة الكهنوت الدينى على عقول البشر. ولقد كانت الثورة الإصلاحية التى قادها مارتن لوثر(1483-1546)، سببًا فى إحداث انقسام كبير داخل الفكر اللاهوتى انعكس فى صراعات دينية عميقة، ورغم أن هذا الصراع كان صراعًا دينيًا خالصًا، إلا أنه كان فى جوهره صراع بين تفسيرات عقلية للدين فى مقابل التفسيرات الغيبية الميتافيزيقية. فقد كان اللاهوت الذى أفرزته أفكار لوثر لاهوتًا عقلانيًا يتوافق بشدة مع دعوات التنوير العقلانية. وإذا كان الجدال بين الدين والعقل الذى تشكل فى الفضاء الواقعى قد عكس صورًا من العنف والإقصاء، فإنه كان هادئًا ومنيًرا داخل الخطاب الفلسفي. لقد كان من الطبيعى أن يجادل الفلاسفة حول مشكلة الدين طالما أن جدالهم يُبنى على العقل. ولقد أسهم هذا الجدال فى بلورة كثير من القضايا، والإجابة على الأسئلة التى يطرحها العقل حول الدين، ومن ذلك مثلًا: هل هناك تعارض بين العقل والإيمان؟ إلى أى مدى يمكن أن يسهم الإيمان فى إدراك جوانب من الوجود لا يمكن أن يدركها العقل؟ وما طبيعة الإيمان المُؤسس على العقل؟ وهل هذا الإيمان صحيحًا فى مقابل نظيره المُؤسس على الحاجة الإنسانية إلى معرفة الله؟ وما دور الدين فى بناء الحياة؟ هل يمكن أن يكون الدين جزءًا من تكوين الخطاب السياسي؟ أم الأفضل أن يكون علاقة شخصية بين الانسان وعالمه الإيمانى الخاص؟ وأسئلة أخرى كثيرة ساهم الفكر الفلسفى والاجتماعى فى بلورتها ومشاكلتها، ليقدم لنا زادًا فلسفيًا على درجة عالية من الثراء. يحاول الكتاب الذى بين أيدينا، وعبر صفحات تربو على الخمسمائة صفحة أن يعرض للجدل الفكرى عن العقل والدين، وأن يبحر بنا فى رحلة طويلة من البحث والتدقيق والـتأمل وطرح الأفكار والمناقشة العميقة لكى يكتشف طبيعة الجدل بين الدين والعقل، بين القول فى العقلنة والقول فى الأنسنة، أو بعبارة أسهل بين السعى نحو صياغة الوجود بطريقة عقلانية مجردة لا وجه للتعاطف فيها، والسعى نحو البحث عن الروح وعن جوهر الوجود الإنسانى العميق. وقد لجأ الكاتب فى مسعاه المنهجى الى التحليل الرأسى التاريخى تارة، والى التحليل الأفقى المقارن تارة أخري. فهو يصعد بنا رأسيًا عبر المسار التاريخى ليتعمق فى بحث مذاهب فلسفية ثلاثة ظهرت متتالية إلى حد ما، وهي: المذهب المثالى الذاتي، والمذهب المثالى التجريبي، والمذهب التجريبى الحسي. ولا يكتفى بهذا الصعود التاريخى الرأسي، بل يسعى إلى أن يتبع هذا الجدل بشكل أفقى عبر البحث فى تقاليد تنويرية ثلاثة كبرى هي: التقليد الأنجلوسكسوني، والتقليد اللاتيني، والتقليد الألماني، مع توضيح التشابهات والاختلافات بينها. ولقد استغرق البحث عبر هذا التصاعد الرأسي، والمسح الأفقى ثلاثة عشر فصلًا، فيما يربو على خمسمائة صفحة؛ فجاء الكتاب سفرًا متميزًا فى البحث الفلسفى الذى لا يخلو قط من قدرة على التفلسف وطرح الأفكار الجديدة. لقد أضاف كاتبنا بهذا الكتاب إضافة جوهرية إلى المكتبة العربية، توضع فوق إضافاته السابقة التى تعبر عن مسيرة فكرية رصينة ومطمئنة تضع صاحبها فى مقدمة الصفوف فى المجال العام الثقافى العربي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store