#أحدث الأخبار مع #CeSSRAالمدنمنذ 7 أياممنوعاتالمدنمياه "برّ الياس" العكرة: الأهالي يتعذبون ودراسة تُنذر بالأعظم"المياه لا تصل إلى منزلي إطلاقًا. رائحتها كريهة... رائحة تقتلني" تقول خديجة عثمان (46 سنة) بحرقة وإحساس بالقهر. تعيش هذه السيدة من ذوي الإعاقة، في حي المكاوي في بلدة "برّ اليأس" (كما تطلق عليها الاسم ليأسها من الحالة التي وصلت إليها) في قضاء زحلة في البقاع، مع شقيقتها وأطفال شقيقتها الثلاثة، في منزل لا تصل إليه "مياه الدولة"، لا من حيث الكمية ولا من حيث الجودة. على كرسيها المتحرّك، تجتاز خديجة مسافة ربع ساعة كل بضعة أيام للوصول إلى منزل صديقتها، التي تتصل بها فور وصول "مياه الدولة" إلى بعض الأحياء. تحمل غالونات المياه الفارغة، تعبّئها من هناك، ثم تعود هي وكرسيّها إلى منزلها في سيارة "توكتوك"، وسيلة النقل الأرخص، بتكلفة مئة ألف ليرة لبنانية. المياه التي تحصل عليها بهذه الطريقة هي ملوّثة، "عكرة" وتغليها كثيراً كي تستخدمها للطهي وتحضير الشاي والقهوة. أما مياه الشرب، فتشتريها على نفقتها الخاصة. "أنا قويّة، حتّى وأنا على كرسي متحرّك"، تقول خديجة بابتسامة تتجاوز الإرهاق. وهي تستقل سيارة الأجرة أو التوكتوك الذي يحملها مع كرسيها وغالونات المياه ليوصلها إلى منزلها بعد رحلة شاقة من التعب والتعرق. تحدٍّ يوميّ لكن قصة خديجة لا تُروى فقط لتُشكر على صمودها؛ بل هي مرآة تعكس واقع الظلم المائي في برّ الياس، حيث يتحول الوصول إلى المياه إلى تحدٍّ يومي، تتضاعف وطأته على الأشخاص ذوي الإعاقة والفئات الأكثر هشاشة وفقراً. في بلدة برّ الياس، حيث يقيم أكثر من 130 ألف شخص، بينهم نحو 100 ألف لاجئ سوري، بات الحصول على المياه أشبه بمن يحفر الصخر ليبحث عن الذهب في المناجم. عبء كبير خصوصاً على الفئات الهشّة كالنساء، وكبار السنّ، والأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال. هذا ما كشفته الدراسة الجديدة التي صدرت عن مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقية (CeSSRA) تحت عنوان "اللاعدالة في الوصول إلى المياه في لبنان"، حيث تسلّط الضوء على تجارب الأُسر في منطقة برّ الياس في البقاع، وتستعرض التحديات اليومية التي يواجهها السكّان في ظلّ نقص المياه وتلوثها. معركة من أجل البقاء تروي رانية معاناتها شبه اليومية: "تحت أشعّة الشمس الحارقة في البقاع، التي لا ترحم، أسير مسافات طويلة، وعندما يكون الجو باردًا في الشتاء، أضطر للذهاب تحت المطر. الكثير من المرات، بكيت وأنا أحمل غالونات المياه، فالحياة هنا قاسية جدًا. حمل المياه تحت الشمس الحارقة أو في الأمطار يجعلني أشعر بالضعف، لكن لا خيار آخر لنا". بالنسبة لرانية، الحصول على المياه ليس مجرّد مهمّة يومية، بل هو معركة للبقاء في بلدة حيث يشكّل نقص المياه أزمة حقيقية. فاطمة، لاجئة سورية فرّت من الحرب للبحث عن الأمان في بر الياس، تصف روتينها المحزن ووقتها المهدور للحصول على المياه: "أنتظر في الطابور لساعات لملء حاويات مياه قد لا تكفي حتى للطهي". وتضيف: "أمشي يوميًا في رحلة عذاب لأحصل على القليل من الماء. لا خيار آخر لدينا". المشكلة تتفاقم بفعل بلدية منحلّة، بنية تحتية متدهورة وتوزيع غير عادل للمياه، خاصّة في المناطق المرتفعة حيث لا تصل المياه بتاتًا. ورغم أن 95 بالمئة من الأسر متّصلة بشبكة المياه، إلا أن الخدمة لا تتوفّر سوى لساعات معدودة أسبوعيًا. هذا الوضع يدفع السكّان إلى الاعتماد على توصيلات غير قانونية أو شراء المياه من بائعين غير رسميين، ما يثقل كاهل العائلات الفقيرة. التلوّث المائي والآثار الصحية في بلدة برّ إلياس، لا تقتصر الأزمة على نقص المياه فقط، بل تشمل أيضًا تلوثها، مما يزيد من التحديات الصحية. تسريبات شبكات المياه والتخزين غير السليم في خزّانات المياه تساهم في تلوث المصادر المائية، مما يعمّق الفجوة بين الأسر الغنية والفقيرة. الأسر الأكثر ثراءً تستطيع شراء المياه المعبأة أو استخدام أنظمة معالجة متطورة، بينما تضطر الأسر ذات الدخل المحدود استخدام مياه ملوثة من خزّانات غير نظيفة. كما أظهرت الدراسة أن هذا التلوث يساهم في تفشّي الأمراض المنقولة عبر المياه مثل الإسهال، التي تؤثر بشكل خاص على الأطفال وكبار السن. تقول فاطمة، لاجئة سورية في برّ إلياس: "أخشى على صحة أطفالي بسبب تعرضنا لمياه ملوثة. وأنا أصلاً لا أملك المال أو أي إمكانيات لشراء الأدوية أو المياه النظيفة الصالحة للشرب لأنها مكلفة جدًا. أعتمد على الشمس لتنظيف المياه كما نسمع في التلفاز، حيث نضعها لساعات في الشمس، ولكن الرائحة تبقى كريهة رغم كل المحاولات. لقد تعوّدنا على هذه الرائحة وعلى طعمها المر، مثل حياتنا وحياة معظم البقاعيين هنا". النساء... الحلقة الأضعف في برّ إلياس، يقع العبء الأكبر لجمع المياه على النساء، بحسب دراسة مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقية. 61 بالمئة من الأسر تعتمد على الرجال لجلب المياه، بينما 16 بالمئة فقط يعتمدون على النساء. هذه المسؤولية تتضاعف بالنسبة للنساء ذوات الإعاقة، اللواتي يعانين من العزلة الاجتماعية ونقص الدعم. جمع المياه أصبح مهمّة يومية تؤثر بشكل كبير على النساء، مما يجعلها جزءًا أساسيًا من صراعهنّ للبقاء. تهديد المياه الجوفية في حديثه مع "المدن"، يشرح المهندس المدني المتخصص في موضوع مياه الشفّة والصرف الصحي عمر ساروط، أن مشكلة المياه في برّ الياس ليست جديدة، بل نتيجة سنوات من المعاناة. المياه في المنطقة تأتي من نبع شمسين قرب عنجر، لكنها تُهدر في مخيمات النزوح وتتعرض للتلوث من مياه الصرف الصحي، مما يهدّد المياه الجوفية! على الرغم من أن نسبة التلوث حالياً مقبولة، إلا أن الوضع مرشح للتفاقم خلال السنوات القادمة. بعد عشر سنوات، يتوقع ساروط أن تواجه 40 بلدة في المنطقة أزمة مياه خطيرة. في حين أن هناك كمية كافية من المياه لري البقاع لمدة خمسين سنة، إلا أن تلوث مياه الصرف الصحي يؤثر سلباً على جودتها. يؤكد ساروط أن بناء البحيرة قد ساهم في زيادة التلوث الذي بدأ يتسرب إلى المياه الجوفية. رغم أن التلوث لم يصل بعد إلى مستويات غير مقبولة، إلا أن تأثيره سيظهر في السنوات المقبلة، خصوصاً في الآبار الأولى في برّ الياس. ورغم إمكانية معالجة التلوث باستخدام الكلور، تبقى القضية الأساسية هي غياب المسؤولية والمحاسبة. غياب المسؤولية وأشار ساروط إلى أن مشكلة كفرزبد مستمرة منذ 15 سنة من دون اتخاذ إجراءات قانونية، ما يزيد من تعقيد الوضع ويهدد مصادر المياه في المنطقة. في ظل هذه التحديات، تظل المسؤولية غائبة، مما يعرض المنطقة لأزمة مياه خطيرة إذا لم تتم معالجتها بشكل فعال. وأكدت مديرة الوقاية الصحية في وزارة الصحة جويس حداد، عبر اتصال هاتفي مع "المدن" أن وزارة الصحة أطلقت لجنة تنسيقية أو خلية عمل لمتابعة المشاكل المرتبطة بالأمراض المنقولة عبر المياه. وتضم اللجنة مسؤولين عن مشروع WASH في منظمة "يونيسف"، ويهدف إلى تحسين المياه والصرف الصحي والنظافة العامة. ويسعى إلى توفير مياه آمنة للأطفال في جميع أنحاء المنطقة. تلوّث نهر الليطاني تُعاني منطقة برّ الياس من تلوث بيئي شديد، خصوصاً من جرّاء تلوث نهر الليطاني، الذي كان في الماضي مصدرًا حيويًا لمياه الشرب والري. اليوم، أصبح النهر ملوثًا بسبب التصريف الصناعي والنفايات الزراعية والصرف الصحي غير المعالج. هذا التلوث أسهم في زيادة معدلات السرطان بين السكان، خصوصًا بين الأطفال الذين أصبحوا أكثر عرضة للأمراض المنقولة عبر المياه. هذه الأوضاع الملوثة تزيد من معاناة السكان الذين يعانون بالفعل من غياب الأمان المائي. ارتفاع تكاليف المياه أدى الارتفاع الحاد في تكاليف المياه بنسبة 244بالمئة إلى تعميق الأزمة الاقتصادية. ففي تموز (يونيو) 2024، ارتفع سعر 1000 لتر من المياه إلى 500000 ليرة لبنانية، ما يزيد من العبء المالي على الأسر الفقيرة. وأفاد جورج، أب لأسرة مكونة من 11 فردًا، يعيش بالقرب من نهر الليطاني، أنه "لم نرَ المياه في هذا الشارع منذ 15 سنة، أي منذ تركيب شبكة المياه الجديدة"! هذه الزيادة الكبيرة في تكاليف المياه دفعت الأسر الفقيرة إلى الاعتماد على المياه غير الموثوقة، ما يزيد من معاناتها الصحية والمالية، هؤلاء ليسوا مجرد أرقام أو قصص متفرقة، بل هم وجوه حقيقية تُجسّد واقعًا غير عادل، حيث يتحول الماء من حق أساسي إلى معركة يومية. وزيرة البيئة: ليس ضمن اختصاصنا في اتصال مع وزيرة البيئة د. تمارا الزين، أكدت "أن الوزارة تتابع عن كثب الوضع البيئي والمائي في لبنان، ولكنها أوضحت أن الصلاحيات التنفيذية المتعلقة بالمياه لا تقع ضمن اختصاص وزارة البيئة. "بغض النظر عن هذه الدراسة، نحن على دراية كاملة بالوضع العام، ولكن كما ذكرت، كل الشق التنفيذي المتعلق بالمياه لا يقع ضمن صلاحيات وزارة البيئة. نحن نُعبّر عن رأينا ونقدّم بعض الحلول، لكن التنفيذ ليس بيدنا". وأضافت الوزيرة في حديثها عن التحديات التي تواجهها الوزارة في معالجة أزمة المياه: "من وجهة نظري الشخصية، يُعدّ توزيع المسؤوليات عن المياه بين عدة وزارات أمرًا غير عادل للمياه. من الضروري أن تكون هناك وزارة مخصصة بالكامل للمياه والموارد المائية، بحيث تشمل جميع الجوانب المتعلقة بالمياه من التنسيق إلى التنفيذ لضمان معالجة شاملة وفعّالة لهذه الأزمة". وزارة الطاقة والمياه: كلور ومشاريع أما وزارة الطاقة والمياه، فقد أكّد الفريق التقني فيها لـ "المدن" أنهم يعملون حاليًا على استكمال مشروع تأهيل أنظمة مياه الشرب في البقاع الغربي وراشيا وبعض قرى شرقي قضاء زحلة، الممول من منحة دولة الكويت رقم 32. هناك أموال متوفرة من الصندوق الكويتي للتنمية، ما يسمح باستكمال المشروع عبر مناقصة سيُطلقها مجلس الإنماء والإعمار قريبًا. كان المشروع قد توقف بسبب انهيار العملة الوطنية في 2019، ولكن مع توفر التمويل الجديد، سيتم استئناف العمل. ستستفيد بلدة بر إلياس بشكل كبير من هذا المشروع، حيث سيساهم في تطوير مصادر المياه بشكل أساسي، وتوسيع وتأهيل شبكة توزيع مياه الشفة، مما سيحسن الوضع المائي في المنطقة بشكل ملحوظ. وبالنسبة لمشروع الصرف الصحي، يتم حالياً تنفيذ محطة تكرير المرج وشبكة تجميع المياه المبتذلة بتمويل من الحكومة الإيطالية عبر مجلس الإنماء والإعمار. في الوقت الراهن، تعمل مؤسسة مياه البقاع على معالجة التلوث باستخدام الكلور وإيصال المياه إلى المشتركين، إلا أن التعديات على الشبكة والتهرب من دفع المستحقات يعيقان فعالية العمل. وفيما يتعلق بمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، فقد قدمت تقارير إلى مجلس الوزراء ووزارات الطاقة والصحة حول تلوث المياه الجوفية في بر إلياس، وتقدمت بشكوى للنيابة العامة المالية ضد بلدية بر إلياس بسبب تحويل مياه الصرف الصحي إلى مجرى نهر الحويزق، الذي يصب في مجرى نهر الغزيل، أحد أهم روافد نهر الليطاني. استراتيجيات التكيف والمرونة على الرغم من هذه التحديات، يظهر سكان برّ إلياس مرونة "اضطرارية" كبيرة في مواجهة الأزمة. تعتمد الأسر على استراتيجيات متنوعة للبقاء على قيد الحياة، مثل تخزين المياه أو الاعتماد على التوصيلات غير القانونية أو شراء المياه من موردين غير رسميين. لكن هذه الحلول تأتي بتكاليف مالية وصحية مرتفعة. كما تقول فاطمة: "نتكيف، نبقى على قيد الحياة، لكننا لا يمكننا العيش هكذا إلى الأبد". وتدعو دراسة مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقية إلى إصلاح السياسات بشكل عاجل لمعالجة الأسباب الجذرية لأزمة المياه. فتحسين البنية التحتية، وتوزيع المياه العادل، و تعزيز تنفيذ قوانين المياه أمرٌ ضروري لضمان حصول كل مقيم في بر إلياس على مياه آمنة. وتُعد المشاركة المجتمعية أمرًا أساسيًا، حيث يجب تمكين المجتمعات المحلية للمشاركة في إدارة المياه ومراقبة جودتها. بالإضافة إلى ذلك، فإن السياسات الحساسة للنوع الاجتماعي ضرورية لضمان أن يتم دعم النساء، وخصوصاً ذوات الإعاقة، في المهام اليومية التي أصبحت عبئاً عليهن. يجب على المنظمات غير الحكومية والناشطين المحليين أن يدافعوا عن السياسات الشاملة التي تلبي احتياجات الفئات الأكثر تهميشًا. عدم الثقة في السلطات والحاجة إلى التحرك يعبر السكان المحليون في بر الياس عن إحباطهم العميق نتيجة غياب الاستجابة الحكومية للأزمة المائية المستمرة. كما يصف جورج، أحد سكان البلدة، حال الكثيرين: "لا أحد يهتم بنا. لقد أصبحنا نطور جلداً سميكًا لكل شيء". تعكس هذه الكلمات عدم الثقة المتزايدة في السلطات التي تبدو غير قادرة على معالجة أزمة المياه أو الاعتراف بالتفاوت في توزيعها. إن تأثير هذه الأزمة لا يقتصر على المعاناة الجسدية فقط، بل يمتد ليشمل جوانب نفسية تؤثر بشكل كبير على السكان. يشعر الكثيرون بالقلق والإحباط نتيجة الانقطاع المستمر للمياه، مما يضاعف الضغوط النفسية، خاصة بالنسبة للنساء والأطفال. هذه التحديات تؤدي إلى توتر العلاقات الأسرية وزيادة مشاعر العجز وفقدان الأمل. فالمعاناة من نقص المياه لا تقتصر على صعوبة جمع المياه، بل تشمل أيضًا التوتر النفسي الناتج عن غياب الأمان المائي. تتفاقم هذه الضغوط في ظل بنية تحتية ضعيفة وغير كافية، مما يزيد من مستويات التوتر، خاصة لدى الفئات الأكثر هشاشةً مثل النساء وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، اللاجئين. إن أزمة المياه في بر إلياس هي بمثابة تجسيد لأزمة أوسع يعاني منها العديد من المناطق اللبنانية، إلا أن آثارها على الصحة النفسية للمواطنين، خاصة في ظل الظروف المعيشية الصعبة، تظل الأكثر وضوحًا في هذه البلدة. تعتبر أزمة المياه في بر إلياس ليست مجرد مشكلة بيئية، بل هي قضية حقوق إنسان تتطلب تدخلاً عاجلاً. السكان، وخصوصاً النساء والأطفال والفئات الضعيفة، يواجهون أزمة إنسانية شديدة بسبب نقص المياه. لذلك، حان الوقت للتحرك لضمان الوصول إلى المياه النظيفة كحق أساسي للجميع.
المدنمنذ 7 أياممنوعاتالمدنمياه "برّ الياس" العكرة: الأهالي يتعذبون ودراسة تُنذر بالأعظم"المياه لا تصل إلى منزلي إطلاقًا. رائحتها كريهة... رائحة تقتلني" تقول خديجة عثمان (46 سنة) بحرقة وإحساس بالقهر. تعيش هذه السيدة من ذوي الإعاقة، في حي المكاوي في بلدة "برّ اليأس" (كما تطلق عليها الاسم ليأسها من الحالة التي وصلت إليها) في قضاء زحلة في البقاع، مع شقيقتها وأطفال شقيقتها الثلاثة، في منزل لا تصل إليه "مياه الدولة"، لا من حيث الكمية ولا من حيث الجودة. على كرسيها المتحرّك، تجتاز خديجة مسافة ربع ساعة كل بضعة أيام للوصول إلى منزل صديقتها، التي تتصل بها فور وصول "مياه الدولة" إلى بعض الأحياء. تحمل غالونات المياه الفارغة، تعبّئها من هناك، ثم تعود هي وكرسيّها إلى منزلها في سيارة "توكتوك"، وسيلة النقل الأرخص، بتكلفة مئة ألف ليرة لبنانية. المياه التي تحصل عليها بهذه الطريقة هي ملوّثة، "عكرة" وتغليها كثيراً كي تستخدمها للطهي وتحضير الشاي والقهوة. أما مياه الشرب، فتشتريها على نفقتها الخاصة. "أنا قويّة، حتّى وأنا على كرسي متحرّك"، تقول خديجة بابتسامة تتجاوز الإرهاق. وهي تستقل سيارة الأجرة أو التوكتوك الذي يحملها مع كرسيها وغالونات المياه ليوصلها إلى منزلها بعد رحلة شاقة من التعب والتعرق. تحدٍّ يوميّ لكن قصة خديجة لا تُروى فقط لتُشكر على صمودها؛ بل هي مرآة تعكس واقع الظلم المائي في برّ الياس، حيث يتحول الوصول إلى المياه إلى تحدٍّ يومي، تتضاعف وطأته على الأشخاص ذوي الإعاقة والفئات الأكثر هشاشة وفقراً. في بلدة برّ الياس، حيث يقيم أكثر من 130 ألف شخص، بينهم نحو 100 ألف لاجئ سوري، بات الحصول على المياه أشبه بمن يحفر الصخر ليبحث عن الذهب في المناجم. عبء كبير خصوصاً على الفئات الهشّة كالنساء، وكبار السنّ، والأشخاص ذوي الإعاقة والأطفال. هذا ما كشفته الدراسة الجديدة التي صدرت عن مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقية (CeSSRA) تحت عنوان "اللاعدالة في الوصول إلى المياه في لبنان"، حيث تسلّط الضوء على تجارب الأُسر في منطقة برّ الياس في البقاع، وتستعرض التحديات اليومية التي يواجهها السكّان في ظلّ نقص المياه وتلوثها. معركة من أجل البقاء تروي رانية معاناتها شبه اليومية: "تحت أشعّة الشمس الحارقة في البقاع، التي لا ترحم، أسير مسافات طويلة، وعندما يكون الجو باردًا في الشتاء، أضطر للذهاب تحت المطر. الكثير من المرات، بكيت وأنا أحمل غالونات المياه، فالحياة هنا قاسية جدًا. حمل المياه تحت الشمس الحارقة أو في الأمطار يجعلني أشعر بالضعف، لكن لا خيار آخر لنا". بالنسبة لرانية، الحصول على المياه ليس مجرّد مهمّة يومية، بل هو معركة للبقاء في بلدة حيث يشكّل نقص المياه أزمة حقيقية. فاطمة، لاجئة سورية فرّت من الحرب للبحث عن الأمان في بر الياس، تصف روتينها المحزن ووقتها المهدور للحصول على المياه: "أنتظر في الطابور لساعات لملء حاويات مياه قد لا تكفي حتى للطهي". وتضيف: "أمشي يوميًا في رحلة عذاب لأحصل على القليل من الماء. لا خيار آخر لدينا". المشكلة تتفاقم بفعل بلدية منحلّة، بنية تحتية متدهورة وتوزيع غير عادل للمياه، خاصّة في المناطق المرتفعة حيث لا تصل المياه بتاتًا. ورغم أن 95 بالمئة من الأسر متّصلة بشبكة المياه، إلا أن الخدمة لا تتوفّر سوى لساعات معدودة أسبوعيًا. هذا الوضع يدفع السكّان إلى الاعتماد على توصيلات غير قانونية أو شراء المياه من بائعين غير رسميين، ما يثقل كاهل العائلات الفقيرة. التلوّث المائي والآثار الصحية في بلدة برّ إلياس، لا تقتصر الأزمة على نقص المياه فقط، بل تشمل أيضًا تلوثها، مما يزيد من التحديات الصحية. تسريبات شبكات المياه والتخزين غير السليم في خزّانات المياه تساهم في تلوث المصادر المائية، مما يعمّق الفجوة بين الأسر الغنية والفقيرة. الأسر الأكثر ثراءً تستطيع شراء المياه المعبأة أو استخدام أنظمة معالجة متطورة، بينما تضطر الأسر ذات الدخل المحدود استخدام مياه ملوثة من خزّانات غير نظيفة. كما أظهرت الدراسة أن هذا التلوث يساهم في تفشّي الأمراض المنقولة عبر المياه مثل الإسهال، التي تؤثر بشكل خاص على الأطفال وكبار السن. تقول فاطمة، لاجئة سورية في برّ إلياس: "أخشى على صحة أطفالي بسبب تعرضنا لمياه ملوثة. وأنا أصلاً لا أملك المال أو أي إمكانيات لشراء الأدوية أو المياه النظيفة الصالحة للشرب لأنها مكلفة جدًا. أعتمد على الشمس لتنظيف المياه كما نسمع في التلفاز، حيث نضعها لساعات في الشمس، ولكن الرائحة تبقى كريهة رغم كل المحاولات. لقد تعوّدنا على هذه الرائحة وعلى طعمها المر، مثل حياتنا وحياة معظم البقاعيين هنا". النساء... الحلقة الأضعف في برّ إلياس، يقع العبء الأكبر لجمع المياه على النساء، بحسب دراسة مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقية. 61 بالمئة من الأسر تعتمد على الرجال لجلب المياه، بينما 16 بالمئة فقط يعتمدون على النساء. هذه المسؤولية تتضاعف بالنسبة للنساء ذوات الإعاقة، اللواتي يعانين من العزلة الاجتماعية ونقص الدعم. جمع المياه أصبح مهمّة يومية تؤثر بشكل كبير على النساء، مما يجعلها جزءًا أساسيًا من صراعهنّ للبقاء. تهديد المياه الجوفية في حديثه مع "المدن"، يشرح المهندس المدني المتخصص في موضوع مياه الشفّة والصرف الصحي عمر ساروط، أن مشكلة المياه في برّ الياس ليست جديدة، بل نتيجة سنوات من المعاناة. المياه في المنطقة تأتي من نبع شمسين قرب عنجر، لكنها تُهدر في مخيمات النزوح وتتعرض للتلوث من مياه الصرف الصحي، مما يهدّد المياه الجوفية! على الرغم من أن نسبة التلوث حالياً مقبولة، إلا أن الوضع مرشح للتفاقم خلال السنوات القادمة. بعد عشر سنوات، يتوقع ساروط أن تواجه 40 بلدة في المنطقة أزمة مياه خطيرة. في حين أن هناك كمية كافية من المياه لري البقاع لمدة خمسين سنة، إلا أن تلوث مياه الصرف الصحي يؤثر سلباً على جودتها. يؤكد ساروط أن بناء البحيرة قد ساهم في زيادة التلوث الذي بدأ يتسرب إلى المياه الجوفية. رغم أن التلوث لم يصل بعد إلى مستويات غير مقبولة، إلا أن تأثيره سيظهر في السنوات المقبلة، خصوصاً في الآبار الأولى في برّ الياس. ورغم إمكانية معالجة التلوث باستخدام الكلور، تبقى القضية الأساسية هي غياب المسؤولية والمحاسبة. غياب المسؤولية وأشار ساروط إلى أن مشكلة كفرزبد مستمرة منذ 15 سنة من دون اتخاذ إجراءات قانونية، ما يزيد من تعقيد الوضع ويهدد مصادر المياه في المنطقة. في ظل هذه التحديات، تظل المسؤولية غائبة، مما يعرض المنطقة لأزمة مياه خطيرة إذا لم تتم معالجتها بشكل فعال. وأكدت مديرة الوقاية الصحية في وزارة الصحة جويس حداد، عبر اتصال هاتفي مع "المدن" أن وزارة الصحة أطلقت لجنة تنسيقية أو خلية عمل لمتابعة المشاكل المرتبطة بالأمراض المنقولة عبر المياه. وتضم اللجنة مسؤولين عن مشروع WASH في منظمة "يونيسف"، ويهدف إلى تحسين المياه والصرف الصحي والنظافة العامة. ويسعى إلى توفير مياه آمنة للأطفال في جميع أنحاء المنطقة. تلوّث نهر الليطاني تُعاني منطقة برّ الياس من تلوث بيئي شديد، خصوصاً من جرّاء تلوث نهر الليطاني، الذي كان في الماضي مصدرًا حيويًا لمياه الشرب والري. اليوم، أصبح النهر ملوثًا بسبب التصريف الصناعي والنفايات الزراعية والصرف الصحي غير المعالج. هذا التلوث أسهم في زيادة معدلات السرطان بين السكان، خصوصًا بين الأطفال الذين أصبحوا أكثر عرضة للأمراض المنقولة عبر المياه. هذه الأوضاع الملوثة تزيد من معاناة السكان الذين يعانون بالفعل من غياب الأمان المائي. ارتفاع تكاليف المياه أدى الارتفاع الحاد في تكاليف المياه بنسبة 244بالمئة إلى تعميق الأزمة الاقتصادية. ففي تموز (يونيو) 2024، ارتفع سعر 1000 لتر من المياه إلى 500000 ليرة لبنانية، ما يزيد من العبء المالي على الأسر الفقيرة. وأفاد جورج، أب لأسرة مكونة من 11 فردًا، يعيش بالقرب من نهر الليطاني، أنه "لم نرَ المياه في هذا الشارع منذ 15 سنة، أي منذ تركيب شبكة المياه الجديدة"! هذه الزيادة الكبيرة في تكاليف المياه دفعت الأسر الفقيرة إلى الاعتماد على المياه غير الموثوقة، ما يزيد من معاناتها الصحية والمالية، هؤلاء ليسوا مجرد أرقام أو قصص متفرقة، بل هم وجوه حقيقية تُجسّد واقعًا غير عادل، حيث يتحول الماء من حق أساسي إلى معركة يومية. وزيرة البيئة: ليس ضمن اختصاصنا في اتصال مع وزيرة البيئة د. تمارا الزين، أكدت "أن الوزارة تتابع عن كثب الوضع البيئي والمائي في لبنان، ولكنها أوضحت أن الصلاحيات التنفيذية المتعلقة بالمياه لا تقع ضمن اختصاص وزارة البيئة. "بغض النظر عن هذه الدراسة، نحن على دراية كاملة بالوضع العام، ولكن كما ذكرت، كل الشق التنفيذي المتعلق بالمياه لا يقع ضمن صلاحيات وزارة البيئة. نحن نُعبّر عن رأينا ونقدّم بعض الحلول، لكن التنفيذ ليس بيدنا". وأضافت الوزيرة في حديثها عن التحديات التي تواجهها الوزارة في معالجة أزمة المياه: "من وجهة نظري الشخصية، يُعدّ توزيع المسؤوليات عن المياه بين عدة وزارات أمرًا غير عادل للمياه. من الضروري أن تكون هناك وزارة مخصصة بالكامل للمياه والموارد المائية، بحيث تشمل جميع الجوانب المتعلقة بالمياه من التنسيق إلى التنفيذ لضمان معالجة شاملة وفعّالة لهذه الأزمة". وزارة الطاقة والمياه: كلور ومشاريع أما وزارة الطاقة والمياه، فقد أكّد الفريق التقني فيها لـ "المدن" أنهم يعملون حاليًا على استكمال مشروع تأهيل أنظمة مياه الشرب في البقاع الغربي وراشيا وبعض قرى شرقي قضاء زحلة، الممول من منحة دولة الكويت رقم 32. هناك أموال متوفرة من الصندوق الكويتي للتنمية، ما يسمح باستكمال المشروع عبر مناقصة سيُطلقها مجلس الإنماء والإعمار قريبًا. كان المشروع قد توقف بسبب انهيار العملة الوطنية في 2019، ولكن مع توفر التمويل الجديد، سيتم استئناف العمل. ستستفيد بلدة بر إلياس بشكل كبير من هذا المشروع، حيث سيساهم في تطوير مصادر المياه بشكل أساسي، وتوسيع وتأهيل شبكة توزيع مياه الشفة، مما سيحسن الوضع المائي في المنطقة بشكل ملحوظ. وبالنسبة لمشروع الصرف الصحي، يتم حالياً تنفيذ محطة تكرير المرج وشبكة تجميع المياه المبتذلة بتمويل من الحكومة الإيطالية عبر مجلس الإنماء والإعمار. في الوقت الراهن، تعمل مؤسسة مياه البقاع على معالجة التلوث باستخدام الكلور وإيصال المياه إلى المشتركين، إلا أن التعديات على الشبكة والتهرب من دفع المستحقات يعيقان فعالية العمل. وفيما يتعلق بمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، فقد قدمت تقارير إلى مجلس الوزراء ووزارات الطاقة والصحة حول تلوث المياه الجوفية في بر إلياس، وتقدمت بشكوى للنيابة العامة المالية ضد بلدية بر إلياس بسبب تحويل مياه الصرف الصحي إلى مجرى نهر الحويزق، الذي يصب في مجرى نهر الغزيل، أحد أهم روافد نهر الليطاني. استراتيجيات التكيف والمرونة على الرغم من هذه التحديات، يظهر سكان برّ إلياس مرونة "اضطرارية" كبيرة في مواجهة الأزمة. تعتمد الأسر على استراتيجيات متنوعة للبقاء على قيد الحياة، مثل تخزين المياه أو الاعتماد على التوصيلات غير القانونية أو شراء المياه من موردين غير رسميين. لكن هذه الحلول تأتي بتكاليف مالية وصحية مرتفعة. كما تقول فاطمة: "نتكيف، نبقى على قيد الحياة، لكننا لا يمكننا العيش هكذا إلى الأبد". وتدعو دراسة مركز العلوم الاجتماعية للأبحاث التطبيقية إلى إصلاح السياسات بشكل عاجل لمعالجة الأسباب الجذرية لأزمة المياه. فتحسين البنية التحتية، وتوزيع المياه العادل، و تعزيز تنفيذ قوانين المياه أمرٌ ضروري لضمان حصول كل مقيم في بر إلياس على مياه آمنة. وتُعد المشاركة المجتمعية أمرًا أساسيًا، حيث يجب تمكين المجتمعات المحلية للمشاركة في إدارة المياه ومراقبة جودتها. بالإضافة إلى ذلك، فإن السياسات الحساسة للنوع الاجتماعي ضرورية لضمان أن يتم دعم النساء، وخصوصاً ذوات الإعاقة، في المهام اليومية التي أصبحت عبئاً عليهن. يجب على المنظمات غير الحكومية والناشطين المحليين أن يدافعوا عن السياسات الشاملة التي تلبي احتياجات الفئات الأكثر تهميشًا. عدم الثقة في السلطات والحاجة إلى التحرك يعبر السكان المحليون في بر الياس عن إحباطهم العميق نتيجة غياب الاستجابة الحكومية للأزمة المائية المستمرة. كما يصف جورج، أحد سكان البلدة، حال الكثيرين: "لا أحد يهتم بنا. لقد أصبحنا نطور جلداً سميكًا لكل شيء". تعكس هذه الكلمات عدم الثقة المتزايدة في السلطات التي تبدو غير قادرة على معالجة أزمة المياه أو الاعتراف بالتفاوت في توزيعها. إن تأثير هذه الأزمة لا يقتصر على المعاناة الجسدية فقط، بل يمتد ليشمل جوانب نفسية تؤثر بشكل كبير على السكان. يشعر الكثيرون بالقلق والإحباط نتيجة الانقطاع المستمر للمياه، مما يضاعف الضغوط النفسية، خاصة بالنسبة للنساء والأطفال. هذه التحديات تؤدي إلى توتر العلاقات الأسرية وزيادة مشاعر العجز وفقدان الأمل. فالمعاناة من نقص المياه لا تقتصر على صعوبة جمع المياه، بل تشمل أيضًا التوتر النفسي الناتج عن غياب الأمان المائي. تتفاقم هذه الضغوط في ظل بنية تحتية ضعيفة وغير كافية، مما يزيد من مستويات التوتر، خاصة لدى الفئات الأكثر هشاشةً مثل النساء وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة، اللاجئين. إن أزمة المياه في بر إلياس هي بمثابة تجسيد لأزمة أوسع يعاني منها العديد من المناطق اللبنانية، إلا أن آثارها على الصحة النفسية للمواطنين، خاصة في ظل الظروف المعيشية الصعبة، تظل الأكثر وضوحًا في هذه البلدة. تعتبر أزمة المياه في بر إلياس ليست مجرد مشكلة بيئية، بل هي قضية حقوق إنسان تتطلب تدخلاً عاجلاً. السكان، وخصوصاً النساء والأطفال والفئات الضعيفة، يواجهون أزمة إنسانية شديدة بسبب نقص المياه. لذلك، حان الوقت للتحرك لضمان الوصول إلى المياه النظيفة كحق أساسي للجميع.