#أحدث الأخبار مع #TheNewHumanitarianساحة التحرير١٥-٠٥-٢٠٢٥سياسةساحة التحريرتنامي الإرهاب بغرب أفريقيا: مأساة بلا جمهور وضحايا بلا تغطية!إدريس آياتتنامي الإرهاب بغرب أفريقيا: مأساة بلا جمهور وضحايا بلا تغطية! إدريس آيات تشهد منطقة غرب أفريقيا تصاعدًا خطيرًا في الهجمات الإرهابية، بمعدل يفوق ما يحصل في كثير من بقاع العالم. وفق أحدث تقرير لمعهد الاقتصاد والسلام الأسترالي، تحتل المرتبة الأولى عالميًا في معدلات الإرهاب، إلى جانب حضور ست دول أفريقية بين أعلى عشر دول تضررًا (مالي، النيجر، نيجيريا، الصومال، الكاميرون). وهو ما يجعل هذه المنطقة «بؤرة الإرهاب» في العالم؛ إذ يشير التقرير إلى أن دول غرب أفريقيا تمثّل نحو نصف الوفيات الإرهابية العالمية. ورغم تراجع عدد الهجمات الإجمالي (انخفض 17% في بوركينا 2023–2024)، إلا أن الوفيات تقفز بنحو 68%، كما شهدت البلاد هجومًا وحشيًا في أغسطس/2024 راح ضحيته 200 شخص في قرية واحدة. وفي نيجيريا المجاورة، سجل الهجوم الكبير في ولاية يوب يومًا داميًا راح ضحيته 150 قتيلاً مطلع العام، ما يؤكد أن العنف الانتقالي يمتد أيضًا إلى دول غرب أفريقيا الكبرى. ووفق تحليل لوكالة رويترز استنادًا إلى بيانات مركز مراقبة النزاعات (ACLED)، تضاعفت هجمات الجماعات المتطرفة في المنطقة منذ 2021، من معدّل 128 هجومًا شهريًا عام 2021 إلى نحو 224 شهريًا عام 2024. هذه الأرقام المرعبة تثير الاستغراب: كيف لمجلس الأمن الدولي أن يتجاهل مأساة شبه يومية في غرب أفريقيا كما لو كانت ساحة مظلومة خارج حسابات الأمم المتحدة؟ مثلاً، في الشرق الأوسط، اكتسبت إرهاصات الإرهاب دعمًا دوليًا واسعًا حينما مسّتْ مصالح القوى الكبرى. فمنذ 2014 قادت الولايات المتحدة تحالفًا عسكريًا دوليًا ضد تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، بمئات الطائرات والجنود ومستشارين متكاملين مع الجيش العراقي وقوات سوريا الديمقراطية. ونتيجة لهذه الحملة المشتركة، تقلصت مقاتلو «داعش» في «خلافته» إلى أقل من ألف عنصر بنهاية 2023. بالمقابل، حين اشتد العنف في منطقة غرب أفريقيا، اكتفت القوى الكبرى بإسناد المهمة لفرنسا بشكل منفرد. لم تشهد المنطقة على غرار الشرق الأوسط تشكّل تحالف دولي واسع للحماية وإعادة الاستقرار، بل ركّزت الدول الغربية على حماية حدودها وثرواتها. ما حدث هو صورة طبق الأصل عن نظرية أنطونيو غرامشي في الهيمنة الثقافية: إذ تُقنع الطبقة الحاكمة الرأي العام العالمي أن مصالحها هي المصلحة العامة المطلقة، وأن مثلاً، بقاء غرب أفريقيا بلا تحالف دولي عريض هو «أمر طبيعي» يدعو لصمت الأصابع. النتيجة أن إعلامًا دوليًا يعالج مواجهات مكافحة الإرهاب في غرب أفريقيا كما لو كانت شأناً داخليًا دون أولوية عابرة للحدود. فبينما صُوّرت الحملة الدولية على داعش بأنها معركة شرعية ضد تهديد عالمي، تُعامل هجمات تنظيمات (القاعدة وداعش) في غرب القارة السمراء باعتبارها حروبًا إقليمية بلا توصيف مماثل. ولاحقًا، اكتُشفت أنّ عملية 'برخان' الفرنسية في منطقة الساحل، هي الأخرى كانت «تواجدًا استعمارياً» لم تكن تغرب أن تُنهي الإرهاب، مما زاد من معاناة المدنيين، مع ذلك لم تكن تُغطى مجازرها، في حين غطى الإعلام نجاحات التحالف ضد الإرهاب في الشرق الأوسط بلغة النصر والرعاية الدولية. هذا التناقض في المعايير يفضحه أيضًا فقدان اهتمام دولي حقيقي بأزمات السياسة والاستقرار في غرب أفريقيا بالمقارنة مع التصدي لداعش العراقي السوري حين مست مصالحه. التهميش العرقي والأبعاد الجيو-اقتصادية إلى جانب المصالح المادية، ثمة بعد عرقي ضمني في صياغة هذه الاهتمامات. حياة الشعوب السوداء في السودان وهايتي، وغيرها «لا تحظى بالتغطية الإعلامية نفسها» كما تلاحظ مؤسسة The New Humanitarian، فرؤيتنا تتجاهل 'حياة السودان وميانمار وإثيوبيا وهايتي' بشكل روتيني وفقًا لتقريرها الأخير. ينطبق الأمر كذلك على دول غرب أفريقيا. فلا صوت يعلو عندما تُسفك دماء 'الأفارقة السود' كما يحدث لو كانت جماعات مرتزقة تتقاتل بعيدًا عن الشاشة الإخبارية السائدة. فالضحايا في باريس أو أوكرانيا يُشيّعون بمعية مئات الصحفيين والسياسيين، في حين تمضي مذبحة في قرية في موزمبيق أو حملات إعدام في نيجيريا في إطار 'توتر محلي' غير مستحق للمنصة العالمية. هذا الاختزال لعذابات الشعوب الإفريقية يثير شعورًا عميقًا بالغبن والازدواجية: كيف يُطلب من دول المأساة أن تحتسب حقها من الاهتمام الإنساني حين يُعامل العالم معاناتها على أنها إحصائية ثانوية؟ عطفًا على ما سبق؛ لا يمكن تجاوز العوامل الاقتصادية التي تفسر هذا التجاهل. ففي حين تقدّر أهمية بترول الخليج العربي أن يتحكم بالنفط العالمي، تظل ثروات غرب أفريقيا شبه خفية خلف الستار. فمثلاً النيجر هي خامس أكبر منتج لليورانيوم في العالم (حوالي 10% من الإنتاج العالمي، مع خامات عالية الجودة)، إلا أن العالم لم يتحالف لحمايتها بنفس الحماسة التي حماه لمصانع النفط العراقية. وتسيطر شركة «أورانو» الفرنسية على مناجم النيجر، مفضّلة إبقاء التكنولوجيا في حِيازتها بدل مشاركة التكنولوجيا لحماية المدنيين الأبرياء. وعلى الجانب الآخر، تعدّ مالي من أكبر منتجي الذهب في إفريقيا؛ فقد سجّلت إنتاجًا قياسيًا بلغ نحو 70 ألف كغم عام 2024. وتملك بوركينا فاسو أيضًا احتياطات غنية من الذهب. وفي موزمبيق اكتُشف احتياطي غاز هائل (يقدّر بنحو 65 تريليون قدم مكعب)، وعُقدت صفقة استثمار بـ 20 مليار دولار لإنشاء مصفاتي تسييل غاز. ومع ذلك، لم تتم معاملتها مثل حقول النفط في منطقة الشرق الأوسط: فالتركيز الدولي كان على إنشاء مبادرات تجارية ضخمة لشركات الطاقة الكبرى، بينما حُكم على السكان المحليين بالنزوح والعنف. أضف إلى ذلك التبعية المالية: فالنيجر ومالي وبوركينا تودع نصف احتياطيها الإلزامي في الخزينة الفرنسية وتستخدم عملتها «فرنك أفريقي» المرتبطة باليورو. وهذا كله يبرز منطق الاستعمار الحديث؛ إذ تورد هذه البلدان المعادن والطاقة بـثمن بخس في حين تُحتكر أوروبا التصنيع والأرباح. إذا كانت الشكوى في السابق هي أن الشرق الأوسط «قنبلة موقوتة» لأجل نفطه، فنحن أمام قنبلة موقوتة أكبر في إفريقيا: لا تقل ثروات المنطقة أهمية إنارةً للمصانع العالمية، ومن المنطق أن ينال توفير حمايتها نفس القدر من الاهتمام الدولي، وهذا التقاعس بالضبط هو الذي يفسّر توجّه بعض الدول الأفريقية مؤخرًا نحو شُركاء مختلفين في مكافحة الإرهاب. الأبعاد الجيوسياسية يتكشف أيضًا وقع الصراع الجديد على صعيد المصالح الكبرى. فمنطقة غرب أفريقيا يقبع خارج أولويات النظام العالمي التقليدي. تغطي حروب أوكرانيا والشرق الأوسط معظم اهتمام الصحافة والمجالس الدولية، فتبقى مواجهات أفريقيا جنوب الصحراء خارج أجندات «العالم». إلا أن تجاهل هذه الحقبة يؤتي بمردودات سلبية بالضرورة: فقد ذكرت تقارير الأمم المتحدة أن مسار الهجرة من غرب أفريقيا إلى أوروبا قد تصاعد بنسبة 62% خلال النصف الأول من 2024، إذ بلغ عدد المهاجرين الوافدين إلى جزر الكناري من هذه الدول نحو 17.3 ألفًا مقابل 10.7 آلاف قبل عام. ورغم أن هذه موجة إنسانية كبرى، فإن البلدان الغربية استقبلتها بإجراءات أمنية وإغلاق الحدود أكثر منها بدعم استقرار الدول التي يغادر منها الناس. بالمقابل، أدت إخفاقات الحكومات المحلية وتصاعد العنف إلى موجات انقلاب عسكري (مالي وبوركينا والنيجر)، مما دفع البعض للتوجه نحو بكين، وموسكو، بل حتى تركيا، معلنين أنها بديل لشركائهم الغربيين. والمحصلة الجيوسياسية أن شبه دول جهادية بدأت تظهر في أحضان فوضى غرب أفريقيا والصحراء الكبرى، تحيط بها مراكز قوى عالمية بأذرع ضعيفة. ومع طرد القوات الأمريكية والأوروبية بعد الانقلابات، صار المجال مفتوحًا لقوى منافسة لكسب النفوذ دون مراقبة. فالأفكار الغرامشية عن «الهيمنة الطالعة» تنطبق هنا أيضاً: إذ يرضخ النظام الإعلامي والسياسي للفكرة القائلة بأن أفريقيا ليست على رأس الأولويات. ختامًا، ليس الغرض من هذه الصرخة، إعادة عزف اللحن المألوف عن ازدواجية المعايير، ولا استدرار عواطف القارئ بشكوى التهميش العرقي الذي اعتاد عليه كثير من الكتّاب الأفارقة. بل هو جرس إنذار حقيقي لما هو آت: فالتطورات الجارية اليوم تنذر بفتح الباب أمام موجة إرهابية أكثر اتساعًا، وعنفًا، وتنظيمًا مما شهده العالم في دير الزور والموصل. موجة قد لا تكتفي بتهديد أرواح الأبرياء، بل ستطال مصالح كبرى، وشركات عابرة للحدود، بل ورعايا تلك الدول، واقتصادات إقليمية ودولية صامتة اليوم، وحينها سيكون الثمن فادحًا، والخسائر جماعية. فإذا كان العالم قد قرّر — بصمته أو تواطئه — أن أرواح الفقراء المهمشّين لا تستحق المخاطرة، وأن حياة طفل في غرب أفريقيا لا تُقاس بذات المعيار الذي تُقاس به حياة طفل في كييف أو باريس، وإذا باتت دموع الأمهات في تومبوكتو تُعدّ هامشًا على دفتر الأحزان العالمي، فمتى إذن سيتحرّك التحالف الدولي ومجلس الأمن لحماية مصالح القوى الكبرى بغرب أفريقيا؟ أليست مناجم الذهب واليورانيوم والغاز، التي باتت اليوم في مرمى الفوضى، هي ما يحرك السفن ويستنفر القرارات ويستجلب الاجتماعات العاجلة؟ إن الصمت عن غرب أفريقيا اليوم هو خيار أخلاقي محفوف بالعواقب. فكل يوم يُترك فيه الأطفال وحدهم في وجه رصاصة الإرهابيين، وكل قرية تُمحى دون أن ترفّ عينٌ في مجلس الأمن، هو يومٌ يُراكم الكارثة المقبلة. ليست المسألة إن كانت الفوضى ستطال المصالح الدولية، بل متى. وعندما يحدث ذلك، لن يكون السؤال: كيف حدث؟ بل: لماذا انتظرنا طويلًا، بينما كانت النار تشتعل أمام أعيننا، فقط لأنها لم تكن تحرقنا بعد؟ 2025-05-15 The post تنامي الإرهاب بغرب أفريقيا: مأساة بلا جمهور وضحايا بلا تغطية!إدريس آيات first appeared on ساحة التحرير.
ساحة التحرير١٥-٠٥-٢٠٢٥سياسةساحة التحريرتنامي الإرهاب بغرب أفريقيا: مأساة بلا جمهور وضحايا بلا تغطية!إدريس آياتتنامي الإرهاب بغرب أفريقيا: مأساة بلا جمهور وضحايا بلا تغطية! إدريس آيات تشهد منطقة غرب أفريقيا تصاعدًا خطيرًا في الهجمات الإرهابية، بمعدل يفوق ما يحصل في كثير من بقاع العالم. وفق أحدث تقرير لمعهد الاقتصاد والسلام الأسترالي، تحتل المرتبة الأولى عالميًا في معدلات الإرهاب، إلى جانب حضور ست دول أفريقية بين أعلى عشر دول تضررًا (مالي، النيجر، نيجيريا، الصومال، الكاميرون). وهو ما يجعل هذه المنطقة «بؤرة الإرهاب» في العالم؛ إذ يشير التقرير إلى أن دول غرب أفريقيا تمثّل نحو نصف الوفيات الإرهابية العالمية. ورغم تراجع عدد الهجمات الإجمالي (انخفض 17% في بوركينا 2023–2024)، إلا أن الوفيات تقفز بنحو 68%، كما شهدت البلاد هجومًا وحشيًا في أغسطس/2024 راح ضحيته 200 شخص في قرية واحدة. وفي نيجيريا المجاورة، سجل الهجوم الكبير في ولاية يوب يومًا داميًا راح ضحيته 150 قتيلاً مطلع العام، ما يؤكد أن العنف الانتقالي يمتد أيضًا إلى دول غرب أفريقيا الكبرى. ووفق تحليل لوكالة رويترز استنادًا إلى بيانات مركز مراقبة النزاعات (ACLED)، تضاعفت هجمات الجماعات المتطرفة في المنطقة منذ 2021، من معدّل 128 هجومًا شهريًا عام 2021 إلى نحو 224 شهريًا عام 2024. هذه الأرقام المرعبة تثير الاستغراب: كيف لمجلس الأمن الدولي أن يتجاهل مأساة شبه يومية في غرب أفريقيا كما لو كانت ساحة مظلومة خارج حسابات الأمم المتحدة؟ مثلاً، في الشرق الأوسط، اكتسبت إرهاصات الإرهاب دعمًا دوليًا واسعًا حينما مسّتْ مصالح القوى الكبرى. فمنذ 2014 قادت الولايات المتحدة تحالفًا عسكريًا دوليًا ضد تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، بمئات الطائرات والجنود ومستشارين متكاملين مع الجيش العراقي وقوات سوريا الديمقراطية. ونتيجة لهذه الحملة المشتركة، تقلصت مقاتلو «داعش» في «خلافته» إلى أقل من ألف عنصر بنهاية 2023. بالمقابل، حين اشتد العنف في منطقة غرب أفريقيا، اكتفت القوى الكبرى بإسناد المهمة لفرنسا بشكل منفرد. لم تشهد المنطقة على غرار الشرق الأوسط تشكّل تحالف دولي واسع للحماية وإعادة الاستقرار، بل ركّزت الدول الغربية على حماية حدودها وثرواتها. ما حدث هو صورة طبق الأصل عن نظرية أنطونيو غرامشي في الهيمنة الثقافية: إذ تُقنع الطبقة الحاكمة الرأي العام العالمي أن مصالحها هي المصلحة العامة المطلقة، وأن مثلاً، بقاء غرب أفريقيا بلا تحالف دولي عريض هو «أمر طبيعي» يدعو لصمت الأصابع. النتيجة أن إعلامًا دوليًا يعالج مواجهات مكافحة الإرهاب في غرب أفريقيا كما لو كانت شأناً داخليًا دون أولوية عابرة للحدود. فبينما صُوّرت الحملة الدولية على داعش بأنها معركة شرعية ضد تهديد عالمي، تُعامل هجمات تنظيمات (القاعدة وداعش) في غرب القارة السمراء باعتبارها حروبًا إقليمية بلا توصيف مماثل. ولاحقًا، اكتُشفت أنّ عملية 'برخان' الفرنسية في منطقة الساحل، هي الأخرى كانت «تواجدًا استعمارياً» لم تكن تغرب أن تُنهي الإرهاب، مما زاد من معاناة المدنيين، مع ذلك لم تكن تُغطى مجازرها، في حين غطى الإعلام نجاحات التحالف ضد الإرهاب في الشرق الأوسط بلغة النصر والرعاية الدولية. هذا التناقض في المعايير يفضحه أيضًا فقدان اهتمام دولي حقيقي بأزمات السياسة والاستقرار في غرب أفريقيا بالمقارنة مع التصدي لداعش العراقي السوري حين مست مصالحه. التهميش العرقي والأبعاد الجيو-اقتصادية إلى جانب المصالح المادية، ثمة بعد عرقي ضمني في صياغة هذه الاهتمامات. حياة الشعوب السوداء في السودان وهايتي، وغيرها «لا تحظى بالتغطية الإعلامية نفسها» كما تلاحظ مؤسسة The New Humanitarian، فرؤيتنا تتجاهل 'حياة السودان وميانمار وإثيوبيا وهايتي' بشكل روتيني وفقًا لتقريرها الأخير. ينطبق الأمر كذلك على دول غرب أفريقيا. فلا صوت يعلو عندما تُسفك دماء 'الأفارقة السود' كما يحدث لو كانت جماعات مرتزقة تتقاتل بعيدًا عن الشاشة الإخبارية السائدة. فالضحايا في باريس أو أوكرانيا يُشيّعون بمعية مئات الصحفيين والسياسيين، في حين تمضي مذبحة في قرية في موزمبيق أو حملات إعدام في نيجيريا في إطار 'توتر محلي' غير مستحق للمنصة العالمية. هذا الاختزال لعذابات الشعوب الإفريقية يثير شعورًا عميقًا بالغبن والازدواجية: كيف يُطلب من دول المأساة أن تحتسب حقها من الاهتمام الإنساني حين يُعامل العالم معاناتها على أنها إحصائية ثانوية؟ عطفًا على ما سبق؛ لا يمكن تجاوز العوامل الاقتصادية التي تفسر هذا التجاهل. ففي حين تقدّر أهمية بترول الخليج العربي أن يتحكم بالنفط العالمي، تظل ثروات غرب أفريقيا شبه خفية خلف الستار. فمثلاً النيجر هي خامس أكبر منتج لليورانيوم في العالم (حوالي 10% من الإنتاج العالمي، مع خامات عالية الجودة)، إلا أن العالم لم يتحالف لحمايتها بنفس الحماسة التي حماه لمصانع النفط العراقية. وتسيطر شركة «أورانو» الفرنسية على مناجم النيجر، مفضّلة إبقاء التكنولوجيا في حِيازتها بدل مشاركة التكنولوجيا لحماية المدنيين الأبرياء. وعلى الجانب الآخر، تعدّ مالي من أكبر منتجي الذهب في إفريقيا؛ فقد سجّلت إنتاجًا قياسيًا بلغ نحو 70 ألف كغم عام 2024. وتملك بوركينا فاسو أيضًا احتياطات غنية من الذهب. وفي موزمبيق اكتُشف احتياطي غاز هائل (يقدّر بنحو 65 تريليون قدم مكعب)، وعُقدت صفقة استثمار بـ 20 مليار دولار لإنشاء مصفاتي تسييل غاز. ومع ذلك، لم تتم معاملتها مثل حقول النفط في منطقة الشرق الأوسط: فالتركيز الدولي كان على إنشاء مبادرات تجارية ضخمة لشركات الطاقة الكبرى، بينما حُكم على السكان المحليين بالنزوح والعنف. أضف إلى ذلك التبعية المالية: فالنيجر ومالي وبوركينا تودع نصف احتياطيها الإلزامي في الخزينة الفرنسية وتستخدم عملتها «فرنك أفريقي» المرتبطة باليورو. وهذا كله يبرز منطق الاستعمار الحديث؛ إذ تورد هذه البلدان المعادن والطاقة بـثمن بخس في حين تُحتكر أوروبا التصنيع والأرباح. إذا كانت الشكوى في السابق هي أن الشرق الأوسط «قنبلة موقوتة» لأجل نفطه، فنحن أمام قنبلة موقوتة أكبر في إفريقيا: لا تقل ثروات المنطقة أهمية إنارةً للمصانع العالمية، ومن المنطق أن ينال توفير حمايتها نفس القدر من الاهتمام الدولي، وهذا التقاعس بالضبط هو الذي يفسّر توجّه بعض الدول الأفريقية مؤخرًا نحو شُركاء مختلفين في مكافحة الإرهاب. الأبعاد الجيوسياسية يتكشف أيضًا وقع الصراع الجديد على صعيد المصالح الكبرى. فمنطقة غرب أفريقيا يقبع خارج أولويات النظام العالمي التقليدي. تغطي حروب أوكرانيا والشرق الأوسط معظم اهتمام الصحافة والمجالس الدولية، فتبقى مواجهات أفريقيا جنوب الصحراء خارج أجندات «العالم». إلا أن تجاهل هذه الحقبة يؤتي بمردودات سلبية بالضرورة: فقد ذكرت تقارير الأمم المتحدة أن مسار الهجرة من غرب أفريقيا إلى أوروبا قد تصاعد بنسبة 62% خلال النصف الأول من 2024، إذ بلغ عدد المهاجرين الوافدين إلى جزر الكناري من هذه الدول نحو 17.3 ألفًا مقابل 10.7 آلاف قبل عام. ورغم أن هذه موجة إنسانية كبرى، فإن البلدان الغربية استقبلتها بإجراءات أمنية وإغلاق الحدود أكثر منها بدعم استقرار الدول التي يغادر منها الناس. بالمقابل، أدت إخفاقات الحكومات المحلية وتصاعد العنف إلى موجات انقلاب عسكري (مالي وبوركينا والنيجر)، مما دفع البعض للتوجه نحو بكين، وموسكو، بل حتى تركيا، معلنين أنها بديل لشركائهم الغربيين. والمحصلة الجيوسياسية أن شبه دول جهادية بدأت تظهر في أحضان فوضى غرب أفريقيا والصحراء الكبرى، تحيط بها مراكز قوى عالمية بأذرع ضعيفة. ومع طرد القوات الأمريكية والأوروبية بعد الانقلابات، صار المجال مفتوحًا لقوى منافسة لكسب النفوذ دون مراقبة. فالأفكار الغرامشية عن «الهيمنة الطالعة» تنطبق هنا أيضاً: إذ يرضخ النظام الإعلامي والسياسي للفكرة القائلة بأن أفريقيا ليست على رأس الأولويات. ختامًا، ليس الغرض من هذه الصرخة، إعادة عزف اللحن المألوف عن ازدواجية المعايير، ولا استدرار عواطف القارئ بشكوى التهميش العرقي الذي اعتاد عليه كثير من الكتّاب الأفارقة. بل هو جرس إنذار حقيقي لما هو آت: فالتطورات الجارية اليوم تنذر بفتح الباب أمام موجة إرهابية أكثر اتساعًا، وعنفًا، وتنظيمًا مما شهده العالم في دير الزور والموصل. موجة قد لا تكتفي بتهديد أرواح الأبرياء، بل ستطال مصالح كبرى، وشركات عابرة للحدود، بل ورعايا تلك الدول، واقتصادات إقليمية ودولية صامتة اليوم، وحينها سيكون الثمن فادحًا، والخسائر جماعية. فإذا كان العالم قد قرّر — بصمته أو تواطئه — أن أرواح الفقراء المهمشّين لا تستحق المخاطرة، وأن حياة طفل في غرب أفريقيا لا تُقاس بذات المعيار الذي تُقاس به حياة طفل في كييف أو باريس، وإذا باتت دموع الأمهات في تومبوكتو تُعدّ هامشًا على دفتر الأحزان العالمي، فمتى إذن سيتحرّك التحالف الدولي ومجلس الأمن لحماية مصالح القوى الكبرى بغرب أفريقيا؟ أليست مناجم الذهب واليورانيوم والغاز، التي باتت اليوم في مرمى الفوضى، هي ما يحرك السفن ويستنفر القرارات ويستجلب الاجتماعات العاجلة؟ إن الصمت عن غرب أفريقيا اليوم هو خيار أخلاقي محفوف بالعواقب. فكل يوم يُترك فيه الأطفال وحدهم في وجه رصاصة الإرهابيين، وكل قرية تُمحى دون أن ترفّ عينٌ في مجلس الأمن، هو يومٌ يُراكم الكارثة المقبلة. ليست المسألة إن كانت الفوضى ستطال المصالح الدولية، بل متى. وعندما يحدث ذلك، لن يكون السؤال: كيف حدث؟ بل: لماذا انتظرنا طويلًا، بينما كانت النار تشتعل أمام أعيننا، فقط لأنها لم تكن تحرقنا بعد؟ 2025-05-15 The post تنامي الإرهاب بغرب أفريقيا: مأساة بلا جمهور وضحايا بلا تغطية!إدريس آيات first appeared on ساحة التحرير.