أحدث الأخبار مع #أوسكاروايلد


البلاد البحرينية
منذ 9 ساعات
- ترفيه
- البلاد البحرينية
سيد ضياء الموسوي وصية حياة.. في زمن الموت 'المقدس' الخميس 22 مايو 2025
قال لصاحبه وهو يشرح له سر تغيره من ثقافة الموت إلى ثقافة الحياة بفضل نصائح أمه التي رحلت كسيرة بعد طول صبر وغياب: أمي لا تحفظ التواريخ، لكنها تحفظ تواريخ موت أبنائها، تحفظ لون القميص، ورائحة آخر عشاء، وتبكي بصمت يشبه صراخ الأرض حين يُدفن فيها طفل. كانت وصيتها رقيقة كدمعة طفل، وحادة كشظية قنبلة سقطت غدرا على مخيم أطفال. كانت تقول لي: لا تكن نايا في أوركسترا الظلام، ولا زهرة على تابوت، ولا قطعة رخام في مقبرة، ولا صورة معلقة على حائط. كانت تحذرني من نصائح توزيع الخبز البلاستيكي قائلة، وهي تردد قول أوسكار وايلد: لا أحد يعطي الفقير الخبز لكن الجميع يعطيه النصيحة. كانت تردد: أريدك حيا، تعود في المساء بثياب مبللة بعرقك لا ملطخة بدمك، تحمل في يدك كتابا ثقافيا لا وصية 'شهيد'. يا ولدي، أنت خُلقت لتنعم بالحياة مثل زعيم الحي والقس والكهنة وأباطرة الدين. أنت خلقت لتعيش؛ فالدنيا ليست سجن الإنسان، بل جنته إذا أحياها بعشق الجمال، وحب الإنسانية، ويقظة الضمير. خلق الله لك العين لتقتنص اللوحة الفنية للحياة، والقلب لتحب، والأذن لتسمع الموسيقى والأغاني الجميلة، والأنف لتشم أزكى العطور، والفم لتتذوق ألذ الطعام، والجسد لترتدي آنق الثياب، والعقل لتملأه بالعلم والانفتاح على الحضارات لا الخرافات، والضمير لتكون الإنسان. يا بني، أنت تراكمت كإنسان من دمعي وناري، من سهري، جعلت لك من ضوء القمر لحافا ومن تراب الأرض وطنا، تعبت وأنا أنتظر يوم تخرجك بشهادة جامعية، وأراك على صفحات الجرائد متفوقا لا مطلوبا أو قتيلا، فلا تجعل 'خاطفي الحياة' يخطفون شبابك كقطاع طرق يتربصون بأي شاب ذكي ليحولوه عبدا في معسكر الحزب ثم يلقونه في النار بأول دعوة عشاء باربكيو سياسي يدعى فيه 'الوجهاء' ويبعد عنه الفقراء. بني، لا تكن من ضمن أولئك الجماهير التي تُصفّق حين ترى السيف يلمع، تبكي حين تنزف، ثم تعود لتُبايع قاتلها لأن خطبته كانت مؤثرة. لا تكن مدفعا في حزب، أو سكينا طائفية تغرس في جسد أخيه لأنه فقط يختلف معه في الدين. لا تكن عجلة في موكب حمل الذهب للزعيم، ولا تقبل بأن تكون نادلا له على مائدة الموت، وهو يوزع لحوم البشر من مسالخ السياسة إلى مقابر الانتحار. لا عليك من الخطب، فتسعين في المئة من الأحاديث التي يروونها إما ملفقة أو مدسوسة أو مطبوخة في مطابخ الخرافات حجبتْ الإنسان عن ربه، وكرستْ الكراهية والحقد وفرقت بين الناس. دور الدين تقديس الإنسان، وإذا دعا لقتله فهو ليس دين الله بل دين الأحزاب. دين واحد ومئة مذهب وألف فرقة وكلها في انشطار، ومجرد اختلاف واحد في تفسير ينبري رجال دين ليحاصروا هذه الفرقة أو ذاك التوجه ولو دينيا باسم أنه خارج عن الدين، وفي الحقيقة هو خارج عن تفسيرهم هم عن الدين، وهذا كفيل بالنسبة لهم للعنه، أو تجييش الناس ضده لمحاصرة اجتماعية. يا ولدي، لم يعد المنبر من خشب، بل من حديد بارد صُبّ من بقايا الخوف، يصعده رجال بأوجه تشبه التاريخ حين كان جلادا، يتكلمون عن الجنة بأصوات من جرّبوا الجحيم وقرّروا أن يورثوه لنا. فالحب ممنوع، والموسيقى بوق من أبواق الشيطان، واللباس هو معيار تقييم المرأة لا ضميرها، وسماع الأغاني ولو في الأعراس حرام، والعمل في مكان مختلط مركز للخطيئة، المرأة عند بعضهم الخطيئة الكبرى، صوتها حرام، ضحكتها حرام، شكلها، لباسها، عطرها، عملها، حديثها، تعليمها، أناقتها، استقلاليتها، قوتها، عظمتها حرام في حرام. كل شي نقوم به حرام لكنهم أحلوا لهم كل شي، مغامراتهم السياسية حلال، ولو راح ضحيتهم آلاف الشباب. الموسيقى حرام إلا إذا كانت في مهرجاناتهم، المرأة عورة إلا إذا تحولت لجارية أو عبدة في منزل بلا أي حقوق. المال حرام إذا لم يكن منه نصيب لهم لكن سرقته من خُمس أو زكاة فهو حلال لأنه تتطهر من يدهم ولهم فيه نصيب. يكرهون الديكتاتورية لكنهم سادتها إذا اختلفت معهم، فهم أشد خصومة في الإقصاء والنبذ وتشويه السمعة، وبمجرد الاختلاف معهم ولو في فكرة ينقضون عليك كضباع على فريسة.. هنا تسقط نظرية الرأي والرأي الآخر التي صدعوا رؤوسنا بها. انظر إليهم كيف هو سلوكهم إذا اختلفت معهم، بلا احترام، بلا حضارة اختلاف، وفوق ذلك كل حديثهم عن الديمقراطية، جرب أن تختلف مع بعض رجال دين في مسألة سيتحولون إلى وحش يبتلعك بعظامك. لهم الحق أن يتهموا البوذي والمسيحي والهندوسي وكل العالم بالخرافة، لكن إن حاولت يوما لتوقف رجل دين من على منبره، وهو يوزع 'مخدرات ' الخرافات في أواني العقول سيحرقك. أين هو الجمهور من مراقبة الخرافات التي تسيء للدين من على المنابر؟ العالم يضحك علينا من خطب حتى الأمي يخجل من الحديث عنها. يا بني، لا تقبل أن تستمع لخطيب إلا اذا كان عالما متنوعا في العلم والثقافة ويحترم عقول المستمعين. أوقفوا كل خطيب يستخف بعقولكم وهو يثرثر هذيانا كعجوز تنتظر موتا. يا بُني، لا تركع أمام من يزخرف القيود بالتقوى، ولا تُقبّل يدا تبارك موتك باسم الجنة، هم لا يريدونك حرا، بل تابعا، يُصفّق لهم وهم يفتون بالخراب. يا بني، خذ نصائحي: 'احذر أن تنظر طويلا في الهاوية؛ لأن الهاوية ستنظر إليك أيضا'. و 'بعض النفوس ترتدي الأناقة كي لا يرى أحد فوضاها الداخلية'. يا بني، 'في داخل كل منا طفلٌ لم يُفهم، وحكيمٌ ينتظر أن يُحرر'. واعلم أن 'أصعب معركة تخوضها هي أن تعود لنفسك بعد أن ضيّعتك علاقات، أو أشخاص، أو أدوار لا تشبهك'. وأن 'أخطر ما في النفس أنها تستطيع أن تكون سجانك أو خلاصك، أنت من يختار'. وأن 'النفس المطمئنة ليست التي لا تتألم، بل التي تفهم ألمها وتحتويه.'؛ لأن الاحتواء أرقى أشكال الوعي، ويقول كروستوفر 'المغادرة الصامتة أعنف رد'. يا بني غادر حزبهم وخرافاتهم وكن مع الله. واجه الآلام فإن 'كل جرح في النفس يهمس لك: هناك شيء يجب أن تفهمه، لا أن تهرب منه'. بني احزم أمتعتك من المقبرة، وغادر أسوارها، وادفن وهم التاريخ الذي صنعوه، واكسر حاجز الخوف من كل شيء، من رجل الدين، من ارتعاش القرية أو خوف المدينة. تحرر يا ولدي، ستستقبلك الحرية، والقيم والأخلاق، والإنسانية، والله عز وجل فهو الله، إله الحب والجمال والإنسان.


موقع كتابات
١٣-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- موقع كتابات
الخطاب التأريخي لدى ليو تولستوي
من الروايات المخيفة التي ألَّفها الكاتب الإنجليزي الساخر 'أوسكار وايلد' Oscar Wilde (1858-1900) رواية 'لوحة دوريان جراي' The Picture of Dorain Grayالتي يحكي فيها قصة حياة شاب كرَّس نفسه للحياة الهيدونية أو حياة الانغماس في حياة اللهو والملذَأت، وساعده على ذلك تمتعه بشباب دائم، في حين أن التقدُّم في العمر والهِرَم كان يصيب صورته التي أخفاها بعيدًا عن الجميع. حاول 'أوسكار وايلد' في تلك الرواية ذات الأحداث المخيفة أن يغوص في خفايا النفس البشرية من خلال منظور اجتماعي وعاشت روايته لتكون أسطورة للأدب المخيف دون أن يحاول أحدهم التطرُّق للمعاني العميقة التي تحملها. على الجانب الآخر، نجد أن الكاتب الروسي 'ليو تولستوي' Leo Tolstoy (1828-1910) الذي حاول في مؤلَّفاته أن يجيب على التساؤلات التي تطرأ على ذهن الإنسان فيما يمر به من مشاعر وأحداث. فلقد كان يسجِّل ما يدور في عصره من أحداث وتطوُّر، لكنه في نفس الوقت كان يستهدف إصلاح المجتمع من منظور إنساني، على عكس 'ديستويفسكي' الذي استهدف الجانب النفسي. وفي طروحاته الروائية التي سردت تفاصيل التاريخ البشرى – أو كما يطلق عليها الفيلسوف الفرنسي 'جون فرانسوا ليوتارد' Jean-Francois Lyotard (1924-1998) 'السرديات الصغرى' – اجتهد 'تولستوي' في أن يجد إجابة ناجعة لما يؤرِّق الإنسان من تساؤلات تجعله غير قادرًا على إصلاح ذاته بغية الوصول السلام النفسي، وبالتالي إصلاح المجتمع. لقد أصبح في ذلك على نقيض المؤرخين المهتمين ب'السرديات الكبري' ذوي النظرة الأحادية للأحداث، الذي لطالما كرر واصفًا إيَّاهم: 'المؤرِّخين كشخص أصم ينخرط في الإجابة على أسئلة لم يوجهها له أحد.' لقد انحاز 'تولستوي' للإنسان وللمشاعر في صورتها الأولى دون أن يتم تشويهها بأي سلبيات، واعتقد أن ذلك هو السبيل لإصلاح المجتمع، ومن ثمَّ، حرص أن يكون من السهل على كل طبقات المجتمع فِهم انتاجه الفكري من روايات وقصص قصيرة ومقالات ، وألَّا يركِّز في تناوله على طبقة واحدة؛ ولهذا، تسللت رواياته إلى تناوُل وقائع في حياة القصور والطبقات الارستقراطية وكذلك حياة الفقراء والفلاحين والمهمشين ومحدثي النعمة، وكذلك انتقلت لحياة الجيش والمعارك. فلقد كان شديد الإيمان أن 'المؤلَّفات العظيمة تكتسب عظمتها فقط حينما تكون متاحة ومفهومة من قبل الجميع.' نشأ الكونت 'ليف نيكولايفيتش تولتستوي' ابن الطبقة الارستقراطية في حياة من الثراء الذي لم يعكر صفوه سوى حياة من اليُتم بدأت بفقدان والديه وأقاربه واحدًا تلو الآخر منذ الطفولة، فتلقَّف تربيته هو وأشقَّاءه الأقارب إلى أن انتهى بهم الأمر للعيش مع إحدى القريبات. لقد انغمس 'تولستوي' في حياة من اللهو العارم في مقتبل حياته على شاكلة 'دوريان جراي'، وعلى عكس 'أوسكار وايلد' الذي لم يستطع الخروج من تلك الحياة إلَّا بعد سجنه وأخيرًا الموت قهرًا، نبذ 'تولستوي' حياة اللهو، ولم ينجيه من مصير 'دوريان جراي' سوى التطوع بالجيش، الذي أفضى به إلى الاشترك في حرب القرم عام 1856، وبعدها جال في أنحاء أوروبا، إلى أن آثر الاستقرار حينما تزوَّج من فتاة في الثامنة عشرة من عمرها. وفي تلك الفترة، شرع في الكتابة؛ إلَّا أن لقاءه بالكاتب 'فيكتور هوجو' في فرنسا شجعه على كتابة الرواية الطويلة، وأولى رواياته الطويلة كانت 'الحرب والسلام'، وتوالت بعدها الروايات التي خلَّدها التاريخ مثل 'أنا كارنينا' و'سكتشات سفاستوبول' وروايته القصيرة 'موت إيفان ليش'. لقد آثر 'تولستوي' الانحياز للفكر والتجديد في أعماله التي جعلت منه عالم نفس اجتماعي، وإن أفضى ذلك به إلى الدخول في معترك الفكر الفوضوي، وأخيرًا التنازل عن كل ثروته للفقراء والفلاحين الذي بنى لهم المدارس وصار معلِّمًا لهم، ولم يبالي بالمظاهر عندما عاش بين الفقراء والفلاحين وكسا جسده بنفس ملابسهم، بل وكان يصنع أحذيته بنفسه، مما سبب له مشكلات اجتماعية جمَّة. لكن ذلك لم يمنع من ترشيحه لجائزة نوبل للأدب من عام 1902-1906، وجائزة نوبل للسلام في أعوام 1901، 1902، 1909. وبالرغم من أنه لم يحصل على أي منهم، لكن التاريخ يخلِّد اسمه بأنه واحدًا من أعظم الكتَّاب وأكثرهم تأثيرًا على مرّ العصور. لقد علم 'تولستوي' أن المجتمع هو مصدر سعادة الفرد وكذلك شقاءه؛ فبالرغم من ميل الفرد للانتماء للجماعة، لكن ذلك لا يمنع من خوضه للمعارك والمشاحنات النفسية والجسدية مع الآخرين بما في ذلك أفراد عائلته المقرَّبين. بالنسبة له، ذلك لا يعني أن هناك فرد دومًا على حق في حين أن الآخرين يجانبهم الصواب. روايات 'تولستوي' توضِّح أن الإنسان خطَّاء، ولبلوغ أعظم درجات الرَّاحة النفسية يجب الاعتراف أمام أنفسنا أنه لا يوجد شيء كامل. وخير مثال على ذلك، رواية 'أنا كارنينا' التي تناقش قضية إمرأة لم تستطع التعايش مع زوجها المتحجِّر المشاعر؛ لأنها كانت نابضة بالحيوية وترى أنها تستحق حياة أفضل. ولذلك، وقعت في غرام ضابط شاب يضاهيها في الوسامة الشديدة، ويماريها في الحيوية وحب الحياة. سعيًا وراء رغباتها الهيدونية التي سوف تمنحها بالملذات التي حُرمَت منها طوال زيجتها، تهجر زوجها وتهرب مع الضابط الشاب في تحدِّي واضح للمجتمع والأعراف، وتحمَّلت موقف المجتمع السَّاخط عليها؛ لأنها حَلُمت بحياة من السعادة المكتملة والروعة التي لا تشوبها شائبة. لكنها بعد فترة وجيزة تصطدم بالواقع الذي لا يعترف بالكمال. ولكي تحتفظ بتلك الصورة الذهنية، تصبح غيورة وشديدة الشك في حبيبها، حتى جسدها الرائع تجرَّدت منه بعد أن تصاب في قدمها. وعلى هذا، تنقلب حياتها المثالية إلى واقع مقيت يجعلها تكره حتى ذاتها. الدرس الأخلاقي الذي رغب 'تولستوي' تلقينه للقرَّاء من خلال تلك الرواية هو أن السعادة الحقيقية لا توجد في الانغماس في الملذات، بل بالقيام بالواجبات التي من المفروض أن نضلع بها تجاه الآخرين وخاصة تجاه أفراد العائلة والشريك. ومن الدروس الأخرى المستفادة من رواية 'أنا كارنينا' وكذلك من أعماله الأخرى 'التسامح والغفران' اللذان كما يعتقد وسيلة ناجعة للقضاء على الأعداء أو من يؤذي الآخرين نفسيًا ؛ فعندما آبت 'أنا كارنينا' لزوجها نادمة بعد أن تركها حبيبها، وكانت حينها قد أنجبت منه طفلة، أدهشها الزوج، التي لطالما اعتبرته متحجرًا، بأنه صفح عنها، بل ووافق على أن يربي الطفلة كابنة له. رد فعل الزوج قتلها نفسيًا وجعلها تعترف بخطأها، فلو كان طردها أو حتى أهانها لكانت شعرت بالانتصار؛ لأنها أثبتت وجخة نظرها فيه أنه كان زوج سيء ويستحق أن تتركه، لكن تسامحه جعلها تعترف أنها كانت المُخطئة ولا تستحق أي رحمة أو شفقة منه. وعلى هذا، فإن انتحار 'أنا كارنينا' سببه إدراك أنها لم تقدِّر ما كانت تنعم به من هناء وراحة. كان 'تولستوي' طوال مسيرة حياته لا يركض سوى خلف السعادة، وكان يحاول في جميع أعماله أن يؤكِّد على ذلك. فلقد اعتقد أن الحياة مجرَّد حلم، والموت هو الاستيقاظ من ذاك الحلم، ولذلك كان يكرر النصح أنه يجب أن نستغرق في نومنا حتى نبلغ نهاية الحلم، أي أنه لا يحب أن نستيقظ قبل استكماله، والَّا نقاومه لكيلا يتحوَّل إلى كابوس. لقد أصبح العطاء بالنسبة ل'تولستوي' هو ذاك الانغماس الهيدوني الإيجابي في ملذَّات الحياة الذي يمنح الشعور بالسعادة العارمة، وحاول في أعماله الأدبية أن يلقِّن جمهور القرَّاء نفس الدرس حتى يوقنوا أن الفرد هو من يصنع سعادته بنفسه، أو كما يقول: 'إذا أردت أن تصبح سعيدًا، كن سعيدًا'.


اليوم الثامن
١٣-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- اليوم الثامن
ليو تولستوي والانغماس الهيدوني الإيجابي
من الروايات المخيفة التي ألَّفها الكاتب الإنجليزي الساخر "أوسكار وايلد" Oscar Wilde (1858-1900) رواية "لوحة دوريان جراي" The Picture of Dorain Gray التي يحكي فيها قصة حياة شاب كرَّس نفسه للحياة الهيدونية أو حياة الانغماس في حياة اللهو والملذَأت، وساعده على ذلك تمتعه بشباب دائم، في حين أن التقدُّم في العمر والهِرَم كان يصيب صورته التي أخفاها بعيدًا عن الجميع. حاول "أوسكار وايلد" في تلك الرواية ذات الأحداث المخيفة أن يغوص في خفايا النفس البشرية من خلال منظور اجتماعي وعاشت روايته لتكون أسطورة للأدب المخيف دون أن يحاول أحدهم التطرُّق للمعاني العميقة التي تحملها. على الجانب الآخر، نجد أن الكاتب الروسي "ليو تولستوي" Leo Tolstoy (1828-1910) الذي حاول في مؤلَّفاته أن يجيب على التساؤلات التي تطرأ على ذهن الإنسان فيما يمر به من مشاعر وأحداث. فلقد كان يسجِّل ما يدور في عصره من أحداث وتطوُّر، لكنه في نفس الوقت كان يستهدف إصلاح المجتمع من منظور إنساني، على عكس "ديستويفسكي" الذي استهدف الجانب النفسي. وفي طروحاته الروائية التي سردت تفاصيل التاريخ البشرى - أو كما يطلق عليها الفيلسوف الفرنسي "جون فرانسوا ليوتارد" Jean-Francois Lyotard (1924-1998) "السرديات الصغرى" – اجتهد "تولستوي" في أن يجد إجابة ناجعة لما يؤرِّق الإنسان من تساؤلات تجعله غير قادرًا على إصلاح ذاته بغية الوصول السلام النفسي، وبالتالي إصلاح المجتمع. لقد أصبح في ذلك على نقيض المؤرخين المهتمين ب"السرديات الكبري" ذوي النظرة الأحادية للأحداث، الذي لطالما كرر واصفًا إيَّاهم: "المؤرِّخين كشخص أصم ينخرط في الإجابة على أسئلة لم يوجهها له أحد." لقد انحاز "تولستوي" للإنسان وللمشاعر في صورتها الأولى دون أن يتم تشويهها بأي سلبيات، واعتقد أن ذلك هو السبيل لإصلاح المجتمع، ومن ثمَّ، حرص أن يكون من السهل على كل طبقات المجتمع فِهم انتاجه الفكري من روايات وقصص قصيرة ومقالات ، وألَّا يركِّز في تناوله على طبقة واحدة؛ ولهذا، تسللت رواياته إلى تناوُل وقائع في حياة القصور والطبقات الارستقراطية وكذلك حياة الفقراء والفلاحين والمهمشين ومحدثي النعمة، وكذلك انتقلت لحياة الجيش والمعارك. فلقد كان شديد الإيمان أن "المؤلَّفات العظيمة تكتسب عظمتها فقط حينما تكون متاحة ومفهومة من قبل الجميع." نشأ الكونت "ليف نيكولايفيتش تولتستوي" ابن الطبقة الارستقراطية في حياة من الثراء الذي لم يعكِّر صفوه سوى حياة من اليُتم بدأت بفقدان والديه وأقاربه واحدًا تلو الآخر منذ الطفولة، فتلقَّف تربيته هو وأشقَّاءه الأقارب إلى أن انتهى بهم الأمر للعيش مع إحدى القريبات. لقد انغمس "تولستوي" في حياة من اللهو العارم في مقتبل حياته على شاكلة "دوريان جراي"، وعلى عكس "أوسكار وايلد" الذي لم يستطع الخروج من تلك الحياة إلَّا بعد سجنه وأخيرًا الموت قهرًا، نبذ "تولستوي" حياة اللهو، ولم ينجيه من مصير "دوريان جراي" سوى التطوع بالجيش، الذي أفضى به إلى الاشترك في حرب القرم عام 1856، وبعدها جال في أنحاء أوروبا، إلى أن آثر الاستقرار حينما تزوَّج من فتاة في الثامنة عشرة من عمرها. وفي تلك الفترة، شرع في الكتابة؛ إلَّا أن لقاءه بالكاتب "فيكتور هوجو" في فرنسا شجعه على كتابة الرواية الطويلة، وأولى رواياته الطويلة كانت "الحرب والسلام"، وتوالت بعدها الروايات التي خلَّدها التاريخ مثل "أنا كارنينا" و"سكتشات سفاستوبول" وروايته القصيرة "موت إيفان ليش". لقد آثر "تولستوي" الانحياز للفكر والتجديد في أعماله التي جعلت منه عالم نفس اجتماعي، وإن أفضى ذلك به إلى الدخول في معترك الفكر الفوضوي، وأخيرًا التنازل عن كل ثروته للفقراء والفلاحين الذي بنى لهم المدارس وصار معلِّمًا لهم، ولم يبالي بالمظاهر عندما عاش بين الفقراء والفلاحين وكسا جسده بنفس ملابسهم، بل وكان يصنع أحذيته بنفسه، مما سبب له مشكلات اجتماعية جمَّة. لكن ذلك لم يمنع من ترشيحه لجائزة نوبل للأدب من عام 1902-1906، وجائزة نوبل للسلام في أعوام 1901، 1902، 1909. وبالرغم من أنه لم يحصل على أي منهم، لكن التاريخ يخلِّد اسمه بأنه واحدًا من أعظم الكتَّاب وأكثرهم تأثيرًا على مرّ العصور. لقد علم "تولستوي" أن المجتمع هو مصدر سعادة الفرد وكذلك شقاءه؛ فبالرغم من ميل الفرد للانتماء للجماعة، لكن ذلك لا يمنع من خوضه للمعارك والمشاحنات النفسية والجسدية مع الآخرين بما في ذلك أفراد عائلته المقرَّبين. بالنسبة له، ذلك لا يعني أن هناك فرد دومًا على حق في حين أن الآخرين يجانبهم الصواب. روايات "تولستوي" توضِّح أن الإنسان خطَّاء، ولبلوغ أعظم درجات الرَّاحة النفسية يجب الاعتراف أمام أنفسنا أنه لا يوجد شيء كامل. وخير مثال على ذلك، رواية "أنا كارنينا" التي تناقش قضية إمرأة لم تستطع التعايش مع زوجها المتحجِّر المشاعر؛ لأنها كانت نابضة بالحيوية وترى أنها تستحق حياة أفضل. ولذلك، وقعت في غرام ضابط شاب يضاهيها في الوسامة الشديدة، ويماريها في الحيوية وحب الحياة. سعيًا وراء رغباتها الهيدونية التي سوف تمنحها بالملذات التي حُرمَت منها طوال زيجتها، تهجر زوجها وتهرب مع الضابط الشاب في تحدِّي واضح للمجتمع والأعراف، وتحمَّلت موقف المجتمع السَّاخط عليها؛ لأنها حَلُمت بحياة من السعادة المكتملة والروعة التي لا تشوبها شائبة. لكنها بعد فترة وجيزة تصطدم بالواقع الذي لا يعترف بالكمال. ولكي تحتفظ بتلك الصورة الذهنية، تصبح غيورة وشديدة الشك في حبيبها، حتى جسدها الرائع تجرَّدت منه بعد أن تصاب في قدمها. وعلى هذا، تنقلب حياتها المثالية إلى واقع مقيت يجعلها تكره حتى ذاتها. الدرس الأخلاقي الذي رغب "تولستوي" تلقينه للقرَّاء من خلال تلك الرواية هو أن السعادة الحقيقية لا توجد في الانغماس في الملذَّات، بل بالقيام بالواجبات التي من المفروض أن نضلع بها تجاه الآخرين وخاصة تجاه أفراد العائلة والشريك. ومن الدروس الأخرى المستفادة من رواية "أنا كارنينا" وكذلك من أعماله الأخرى "التسامح والغفران" اللذان كما يعتقد وسيلة ناجعة للقضاء على الأعداء أو من يؤذي الآخرين نفسيًا ؛ فعندما آبت "أنا كارنينا" لزوجها نادمة بعد أن تركها حبيبها، وكانت حينها قد أنجبت منه طفلة، أدهشها الزوج، التي لطالما اعتبرته متحجرًا، بأنه صفح عنها، بل ووافق على أن يربي الطفلة كابنة له. رد فعل الزوج قتلها نفسيًا وجعلها تعترف بخطأها، فلو كان طردها أو حتى أهانها لكانت شعرت بالانتصار؛ لأنها أثبتت وجخة نظرها فيه أنه كان زوج سيء ويستحق أن تتركه، لكن تسامحه جعلها تعترف أنها كانت المُخطئة ولا تستحق أي رحمة أو شفقة منه. وعلى هذا، فإن انتحار "أنا كارنينا" سببه إدراك أنها لم تقدِّر ما كانت تنعم به من هناء وراحة. كان "تولستوي" طوال مسيرة حياته لا يركض سوى خلف السعادة، وكان يحاول في جميع أعماله أن يؤكِّد على ذلك. فلقد اعتقد أن الحياة مجرَّد حلم، والموت هو الاستيقاظ من ذاك الحلم، ولذلك كان يكرر النصح أنه يجب أن نستغرق في نومنا حتى نبلغ نهاية الحلم، أي أنه لا يحب أن نستيقظ قبل استكماله، والَّا نقاومه لكيلا يتحوَّل إلى كابوس. لقد أصبح العطاء بالنسبة ل"تولستوي" هو ذاك الانغماس الهيدوني الإيجابي في ملذَّات الحياة الذي يمنح الشعور بالسعادة العارمة، وحاول في أعماله الأدبية أن يلقِّن جمهور القرَّاء نفس الدرس حتى يوقنوا أن الفرد هو من يصنع سعادته بنفسه، أو كما يقول: "إذا أردت أن تصبح سعيدًا، كن سعيدًا".


مجلة سيدتي
١٠-٠٤-٢٠٢٥
- ترفيه
- مجلة سيدتي
أجمل الاقتباسات من الأدب العالمي التي تلهمك للحياة
يعرف الكُتّاب ببصيرتهم النافذة وحكمتهم الواسعة وفطنتهم البليغة والتي مكنتهم من التعرف إلى ماهية الحياة ورؤية ما وراء الأمور بعمق، وسواء أكانوا يكتبون الآن أو منذ قرون، يُمكننا اكتساب مهارات حياتية قيّمة من خلال مراجعة كتاباتهم. سواءً أكانوا حكماء أم أدباء وفلاسفة أم مجرد مُتبصرين، فقد أحدث العديد من هؤلاء الكُتّاب فرقاً كبيراً في حياة الناس. من الحب إلى الخسارة إلى إنجاز الأمور في الموعد المحدد، وحيث تُوفر لنا اقتباسات الأدب العالمي اقتباسات رائعة من عقول رائعة ورؤيةً ثاقبةً من بصيرة ملهمة في كثير من أمور الحياة، بالسياق التالي "سيدتي" جمعت لك من موقع أجمل الاقتباسات من الأدب العالمي التي يُمكنها أن تُغير تفكيرك، وتُوسّع مداركك، وتُلهمك الكثير من المعارف عن نفسك وعن الحياة. ماذا تعرف عن الحياة؟ " الحياة أندر شيء في العالم. معظم الناس موجودون، هذا كل شيء." - أوسكار وايلد. "أنها لن تعود أبداً هذا ما يجعل الحياة حلوة." - إميلي ديكنسون. "الحياة ما هي إلا مسرح، وجميع الرجال والنساء مجرد ممثلين." - ويليام شكسبير. " الحياة صعبة، لكن الإنسان أكثر صعوبة." - ستيفاني بينيت هنري. "يجب أن نفهم الحياة بالعكس. ولكن يجب أن نعيش إلى الأمام". سورين كيركجارد. "أستطيع التحكم في عواطفي وانفعالاتي إذا استطعت فهم طبيعتها، وهذه هي الحياة". – سبينوزا. "المعرفة سهلة نسبياً. ولكن الرغبة بالحياة والتصرف وفقاً لما يرغب فيه المرء دائماً أصعب." - ألدوس هكسلي. "أن تكون لبقاً بالحياة هو فن ترك شيء ما مرئياً دون أن تجعل منه عدواً" - إسحاق نيوتن. " لا يوجد شيء بالحياة مثل العودة إلى مكان لم يتغير لتكتشف الطرق التي تغيرت فيه بها بنفسك" - نيلسون مانديلا. " لا يولد البشر إلى الأبد في اليوم الذي تلدهم فيه أمهاتهم، لكن الحياة تجبرهم على ولادة أنفسهم مراراً وتكراراً" - غابرييل غارسيا ماركيز. "أصعب شيء في الحياة هو معرفة نفسك" - ديوجينس. " الحياة بسيطة جداً، ومع ذلك نصر على جعلها معقدة" – كونفوشيوس. "إن حياتنا تعبر دائماً عن نتيجة أفكارنا المهيمنة " - سورين كيركيجارد. "في النهاية، ليس عدد السنوات في حياتنا هو المهم، بل الحياة في سنواتنا." - أبراهام لينكولن. "لا يمكنك إيجاد السلام بتجنب الحياة" – فرجينيا وولف. " الغرض من الحياة هو أن تكون سعيداً" - الدالاي لاما. "كن لطيفاً، فكل من تقابله بالحياة يخوض معركة شرسة" - أفلاطون. "أفضل ما في الحياة هو ما لا تستطيع أي صورة التعبير عنه " - فرانسيس بيكون. اقتباسات تلهمك في التعامل والتفاعل والتكيف.. والنجاح بالحياة "لم يفت الأوان أبداً لتكون ما كان بإمكانك أن تكونه" - جورج إليوت. " الرجل الذي لا يتغذى على أحلامه يشيخ سريعاً" وليام شكسبير. "أن تكون على سجيتك في عالم يحاول باستمرار أن يجعلك شخصاً آخر هو أعظم إنجاز" - رالف والدو إمرسون. "الألم حتمي. المعاناة اختيارية" - هاروكي موراكامي. " التقدير شيء رائع. فهو يجعل ما هو ممتاز في الآخرين ملكاً لنا أيضاً" - فولتير. "لا يستطيع المحبوبون الموت من أجل الحب فهو الخلود" - إميلي ديكنسون. "دعني أعيش، أحب، وأقولها بعبارات جميلة" - سيلفيا بلاث. "لا تدع سعادتك تعتمد على شيء قد تخسره" - سي. إس. لويس. "كلنا محطمون، وهكذا يتسلل النور" - إرنست همنغواي. " الوعي بالذات وحب الذات مهمان. من نكون هو ما نقود به" – برينيه براون. "يجلس الهواة منتظرين الإلهام، بينما ننهض نحن ونبدأ العمل» – ستيفن كينغ. "ابدأ. اغتنم الفرصة. قد يكون الأمر سيئاً، لكنها الطريقة الوحيدة التي يمكنك من خلالها فعل أي شيء جيد حقاً بالحياة" – ويليام فوكنر. "ككاتب، لا يجب أن تُصدر أحكاماً، بل يجب أن تفهم" – إرنست همنغواي. "لإنتاج كتاب عظيم، يجب أن تختار موضوعاً عظيماً وفكرة أكثر عظمة" – هيرمان ملفيل. "كلما زادت الصعوبة، كلما زاد المجد في التغلب عليها" - أبيقور. "الإنسان محكوم عليه بالحرية " جان بول سارتر. "في كل شيء هناك جزء من كل شيء " – أناكساجوراس. "الرجل الشجاع هو الذي يتغلب ليس فقط على أعدائه، بل على ملذاته ب الحياة أيضاً" ديمقريطس. " الإبداع يتطلب الشجاعة للتخلي عن اليقينيات" - إريك فروم. "إن أخذ النصيحة الجيدة يتطلب حكمة أكبر من تقديمها " - جون تشورتون كولينز. "لا شيء أكثر ضرراً للإبداع من غضب الإلهام" - أومبرتو إيكو. " نحن نائمون. حياتنا عبارة عن حلم. ولكن في بعض الأحيان نستيقظ، فقط لفترة كافية لنعرف أننا نحلم" - لودفيج فيتجنشتاين. ونحو المزيد من ذات السياق يمكنك متابعة الرابط:


Independent عربية
١٥-٠٣-٢٠٢٥
- ترفيه
- Independent عربية
العدالة بالريشة والحبر... رسامون ينقلون "وجوه المحاكمات"
في قاعة المحكمة، حيث تكتب فصول درامية من التاريخ، يكون التوثيق البصري شاهداً صامتاً على لحظات مفصلية. منذ قرون شكل رسم المحاكمات نافذة للناس على قضايا أثارت الرأي العام، من محاكمات السحر في سالم في ماساتشوستس، إلى محاكمة القاتل المتسلسل تشارلز مانسون، حيث وثقت رسومات الفنانين مشاهد لم يكن بالإمكان تصويرها بعدسات الكاميرا. في العصر الحديث، لا تزال هذه المهنة قائمة، على رغم التطور التكنولوجي الذي يجعل من السهل تسجيل كل شيء بضغطة زر. لكن لماذا ما زلنا نحتاج إلى فناني المحاكم في زمن تملأ الصور والشاشات حياتنا؟ أصول رسم المحاكمات رسم المحاكمات هو فن قديم ظهر كوسيلة لتوثيق الإجراءات القضائية بصرياً قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي. تعود أصول هذه الممارسة إلى أوروبا في العصور الوسطى، حيث كان الفنانون يكلفون بتوثيق المحاكمات الكبرى التي كانت تحظى باهتمام واسع. واحدة من أقدم الرسومات المعروفة لمحاكمة تاريخية تعود إلى عام 1586، حين صور فنان إنجليزي مجهول محاكمة ماري ملكة الاسكتلنديين، أثناء مثولها أمام محكمة إنجليزية في قلعة فوذرينغاي. كما يذكر أن رسومات توثيقية لمحاكمة غاليليو غاليلي عام 1633 لا تزال محفوظة حتى اليوم في متحف اللوفر. في بريطانيا خلال القرن الـ19، لعب الرسم دوراً مهماً في توثيق المحاكمات الشهيرة مثل محاكمة أوسكار وايلد عام 1895، حين ساعدت الرسومات المنشورة في الصحف على تشكيل الرأي العام حول قضيته. وفي الولايات المتحدة، يعود تاريخ رسم المحاكمات إلى محاكمات السحر في مدينة سالم في ماساتشوستس عام 1692، حين نشرت رسومات توضيحية لمحاكم التفتيش التي أقيمت لمقاضاة النساء المتهمات بالسحر. وفقاً لدراسة أجرتها جامعة سياركوز في نيويورك، كانت الصحف في العصر الفيكتوري تعتمد على الفنانين الذين كانوا يلقبون بـ"رسامي الإطفاء" نظراً إلى استدعائهم على وجه السرعة، إذ كانوا يهرعون إلى المحاكم ويرسلون رسوماتهم إلى الصحف في اليوم نفسه لنشرها. قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي في القرن الـ19، كانت هذه الرسومات تستخدم كأداة لنقل وقائع المحاكمات إلى الجمهور، سواء عبر الصحف المطبوعة أو المعارض العامة. فقد كانت الوسيلة الوحيدة التي مكنت الناس من رؤية تعابير المتهمين والقضاة والشهود أثناء المحاكمة. حتى اليوم، تظل هذه الرسومات مهمة في المحاكم التي تحظر التصوير، مثل المحاكم الفيدرالية الأميركية والمحاكم البريطانية، حيث يتم يُوظف فنانو الرسم لتوثيق القضايا المهمة بصرياً. من أبرز رسامي المحاكمات المشهورين الذين تركوا بصماتهم في هذا المجال: هوارد برودي الذي قدم رسومات شهيرة خلال محاكمات مثل محاكمة شارلز مانسون، ومارلين تشيرش التي وثقت محاكمة القاتل المتسلسل ديفيد بيركوفيتش في سبعينيات القرن الماضي. كذلك اشتهر بيل روبليز بتوثيق محاكمة أو جي سيمبسون ومجموعة من القضايا البارزة الأخرى. أصبح كثير من هذه الرسومات يساوي أموالاً ضخمة في المزادات العلنية، حيث بيع بعضها بمبالغ عالية، بل حتى إن نسخاً مقلدة منها متوافرة للشراء عبر الإنترنت. مما يثير الاهتمام أيضاً هو أن بعض الصور الشهيرة لفنانين معروفين رُسمت بواسطة رسامي محاكمات، على رغم أنهم لم يدخلوا قاعات المحاكم أبداً. تحديات قانونية وتقنية في كثير من الأنظمة القانونية حول العالم، يمنع التصوير الفوتوغرافي والفيديو داخل المحاكمات لأسباب تتعلق بالحفاظ على نزاهة الإجراءات القضائية وضمان خصوصية الأطراف المعنية. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يعود هذا المنع إلى عام 1935 بعد محاكمة قضية اختطاف وقتل ابن الطيار الشهير تشارلز ليندبرغ، التي كانت محور اهتمام إعلامي ضخم، إذ أدى استخدام الكاميرات إلى فوضى في المحكمة وأثر سلباً في سير القضية. رداً على ذلك، فرضت الجمعية الأميركية للمحاماة حظراً على الكاميرات في المحاكم، وهو الحظر الذي تم تأكيده بموجب القواعد الفيدرالية عام 1944، خصوصاً في القضايا الجنائية، من خلال القانون "53" الذي يمنع التصوير في قاعات المحكمة. تعد هذه القيود أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل دور الرسامين حيوياً في توثيق المحاكمات حتى يومنا هذا، إذ تستخدم رسوماتهم لتوفير صور دقيقة للأحداث التي تتم خلف الأبواب المغلقة. وعلى رغم وجود قوانين تقيد التصوير، فإن الرسامين يمتلكون ميزة فنية في توثيق مشاهد المحاكم التي لا يمكن أن تلتقطها الكاميرات، مثل التعبيرات الدقيقة أو المشاعر الإنسانية التي تظهر بصورة جلية في الرسومات. يقول الرسام الشهير بيل روبلز، إن الفنان لا يستطيع أن يكون كاميرا، ولكن من الناحية الأخرى، يستطيع الفنان أن يفعل ما لا يمكن للكاميرا أن تفعله. علاوة على ذلك، يمكن أن تؤثر هذه القيود في مهنة رسم المحاكمات بصورة غير مباشرة، إذ يبقى بعض الفنانين في حال قلق دائم من أن يتغير الوضع القانوني في المستقبل، ويسمح بالكاميرات داخل المحاكم، مما قد يقلل من حاجة المحاكمات إليهم. وعلى رغم ذلك هناك بعض الفروق القانونية بين الدول حول توثيق المحاكمات. ففي بعض الدول مثل الولايات المتحدة، تسمح بعض المحاكم بوجود الفنانين أثناء مجريات المحاكمة، ولكن ذلك يعتمد على قرار القاضي، بينما في دول أخرى مثل المملكة المتحدة وهونغ كونغ، يمنع على الفنانين الرسم في قاعات المحكمة وتقتصر رسوماتهم على الذاكرة والتخيل بعد مغادرة المحكمة. لماذا لا تزال مهمة اليوم؟ على رغم التطور الكبير في التكنولوجيا والإعلام، فإن رسم المحاكمات لا يزال يحتفظ بمكانته في نقل الأحداث القانونية، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا ذات الأبعاد الإنسانية العميقة. في حين يمكن للتصوير الفوتوغرافي والفيديو تقديم صورة واقعية للحظة، إلا أن الرسم يضفي بعداً إنسانياً لا يمكن تقليده. الفنانون في قاعات المحكمة قادرون على التقاط المشاعر الدقيقة التي قد تفوتها عدسة الكاميرا. على سبيل المثال، يمكن للفنان نقل التعبيرات الدقيقة على وجه المتهم، أو الأجواء العاطفية للمحكمة، أو حتى التوتر في المكان، بصورة فنية تجعل المشهد أكثر تأثيراً. يستند هذا النوع من الرسم إلى تقنيات تتجاوز التصوير الفوتوغرافي العادي. ففي محاكمة مايكل جاكسون عام 2005، حين كان يواجه اتهامات بالتحرش بالأطفال، كانت رسومات الفنانين مثل بيل روبليس وميشيل كيركو تأسر الجمهور بمشاهد مفعمة بالتوتر والدراما، تظهر اللحظات التي تحمل أكبر كمية من العاطفة والضغط، وهو أمر كان من الصعب أن تلتقطه كاميرات التلفزيون. وبالنسبة إلى محاكمة إيمي واينهاوس، التي كان يملأها الحزن والتوتر النفسي، كانت الرسوم تجسد الاضطراب الداخلي للمغنية بصورة أكبر مما يمكن لأية صورة أن تنقله. في حين أن بعض المحاكمات البارزة تبث مباشرة على الهواء، مثل النزاع القضائي بين جوني ديب وآمبر هيرد في 2022، نجد أن المحاكمات الأخرى، مثل محاكمة دونالد ترمب أو دومينيك بيلكوت، وُثقت من طريق الرسومات فقط. هذه المفارقة بين بث اللحظات الحية عبر الكاميرات والتوثيق الدقيق والمبدع للحظات من خلال الرسوم تظهر كيف أن الرسم ما زال يحتفظ بدوره الفريد في توثيق القضايا. في دراسة نشرتها جامعة كولومبيا بعنوان "رسوم المحاكم وتطور الصحافة القانونية"، تم تأكيد أن الرسومات لا تقتصر فقط على توثيق الأحداث، بل تلعب دوراً في توجيه الجمهور نحو تقييم الأحداث بطرق قد لا تكون ممكنة عبر التصوير الفوتوغرافي فقط. هذه الفروق بين التصوير الفوتوغرافي والرسم تجعل من الأخير أداة غير قابلة للاستبدال في توثيق المحاكمات، إذ لا يقتصر دوره على التسجيل المرئي للأحداث فحسب، بل يضاف إليه جانب إنساني وفني يبرز التوترات والتعقيدات التي قد لا يمكن لأية كاميرا أن تلتقطها. تطور الأساليب والتقنيات شهدت أساليب رسم المحاكمات تطوراً ملحوظاً بمرور الزمن، إذ بدأت المهنة في العصور القديمة باستخدام الأدوات التقليدية مثل أقلام الرصاص والحبر، وصولاً إلى تقنيات الرسم الرقمي الحديثة. في القرون الماضية، كان الرسامون يعتمدون على أدوات بسيطة مثل الفحم والحبر لإنتاج رسومات سريعة وموجزة توثق اللحظات الحاسمة في المحكمة. على سبيل المثال، في محاكمة غاليليو عام 1633، استخدم الرسامون وسائل تقليدية لتوثيق المحاكمة التي كانت تحت نظر الإمبراطورية البابوية. كانت هذه الرسومات تهدف إلى نقل جوهر الأحداث والتوترات السياسية والدينية التي كانت تكتنف المحاكمة. لكن مع تطور وسائل الإعلام والتكنولوجيا، دخلت أساليب فنية جديدة في مجال رسم المحاكمات. في النصف الثاني من القرن الـ20، بدأ رسامو المحاكمات باستخدام الألوان المائية والأقلام الملونة لتقديم صور أكثر حيوية ودقة. في محاكمة تشارلز مانسون، على سبيل المثال، كانت الرسومات المنتجة تجسد بصورة واضحة الحركة العاطفية في المحكمة. بمرور الوقت، أصبح الرسم يتسم بدقة أكبر في التفاصيل، مع التركيز على الأبعاد النفسية للأشخاص في القاعة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ومع دخول العصر الرقمي، تغيرت التقنيات بصورة كبيرة. بدأ بعض رسامي المحاكمات في استخدام الأدوات الرقمية مثل الرسم على الكمبيوتر اللوحي أو الكمبيوتر المحمول، مما أتاح لهم تعديل الرسومات بسرعة وتقديم صور أكثر دقة وفورية. لم تعد هذه التقنية تقتصر على الرسم اليدوي، بل أصبحت جزءاً من الأساليب الحديثة التي تسمح بإنشاء رسومات يمكن نشرها بصورة أسرع وأكثر كفاءة في وسائل الإعلام. على سبيل المثال، في محاكمة مايكل جاكسون، استخدم الرسامون تقنيات رقمية لتحسين جودة الرسومات التي تنشر على الإنترنت وعلى شاشات التلفزيون، وهو ما جعل الرسومات أكثر قابلية للوصول في الزمن الفعلي مقارنة بالأساليب التقليدية. لكن السؤال الأبرز في العصر الحديث هو ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل الرسامين البشريين في توثيق المحاكمات. تشير بعض التقارير والدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يكون قادراً على إنشاء رسومات تعتمد على الصور الفوتوغرافية أو الفيديوهات، مثلما يحدث في بعض المجالات الفنية الأخرى. على سبيل المثال، استخدم الباحثون في جامعة أكسفورد الذكاء الاصطناعي لتحليل واستخراج تفاصيل من صور ثابتة، وهو ما قد يشكل تهديداً للعمل اليدوي في بعض المجالات. ومع ذلك لا يزال للرسامين البشر ميزة فنية لا يمكن استبدالها بالكامل، بخاصة في ما يتعلق بقدرتهم على نقل الإحساس والعواطف من خلال الصور. في محاكمة إيمي واينهاوس، كان الفنانون يلتقطون ليس فقط ملامحها الجسدية، بل أيضاً تعبيرات وجهها المعقدة التي تعكس مشاعرها الداخلية. بينما قد ينجح الذكاء الاصطناعي في تقليد الصور المرئية، فإن التفرد الذي يضيفه الرسام البشري في نقل المشاعر الإنسانية، وكذلك التفسير الفني للأحداث، يظل غير قابل للاستبدال. في دراسة نشرتها جامعة نيويورك حول تأثير الذكاء الاصطناعي في الفن المعاصر بعنوان "اللمسة الإنسانية في الفن الرقمي"، أُشير إلى أن الذكاء الاصطناعي قد ينجح في محاكاة الأسلوب الفني، لكنه لن يقدر على توصيل تلك اللمسات البشرية التي تجعل الرسم أكثر من مجرد صورة. مستقبل يواجه التحديات والتطور يشير كثير من الخبراء إلى أن مهنة رسم المحاكمات قد تكون في خطر بسبب تطور تكنولوجيا التصوير وتزايد الاعتماد على الكاميرات في المحاكم. مع ذلك ووفقاً لأبحاث جامعة سيراكيوز التي أظهرت أن وجود الكاميرات في المحاكم غالباً ما يؤدي إلى "التمركز الإعلامي" والتركيز على الجوانب الدرامية على حساب الحقيقة القانونية، فإن هذا يعزز الحاجة إلى الرسامين الذين يتمتعون بقدرة على تقديم تفسير بصري غير متحيز. في ما يتعلق بتكيف هذه المهنة مع التغيرات القانونية والتكنولوجية، يمكن أن يكون الحل في دمج الأساليب الرقمية الحديثة مع الممارسات التقليدية. ومع ذلك تبقى هذه الأساليب الحديثة في حاجة إلى لمسة إنسانية يمكن أن تضيفها الخبرات الفنية للمبدعين. في تقرير نشرته مجلة "آرت نيوز" عام 2020، أُشير إلى أن الرسامين الرقميين يمكنهم تقديم رؤية فنية مختلفة تستفيد من تقنيات مثل "التكبير والاقتصار على أجزاء معينة من الصورة"، مما يجعلهم أداة قيمة في توثيق المحاكمات المعقدة. في النهاية، وعلى رغم التحديات المستقبلية التي قد تواجه مهنة رسم المحاكمات، يبدو أن هذه المهنة ستظل ضرورية، بل قد تصبح أكثر أهمية في المستقبل. قد لا تحل التقنيات الحديثة محل الرسام البشري بالكامل، ولكن يمكن أن تتكامل معه، مما يخلق جيلاً جديداً من الرسومات المحكمة التي تجمع بين التقنية والإبداع الفني.