logo
#

أحدث الأخبار مع #الاتحاد_السوفياتي

كيف رسمت الحرب مسار الأدب الروسي؟
كيف رسمت الحرب مسار الأدب الروسي؟

الميادين

timeمنذ 10 ساعات

  • سياسة
  • الميادين

كيف رسمت الحرب مسار الأدب الروسي؟

فور الإعلان عن بدء النازيين هجومهم على الاتحاد السوفياتي سنة 1941، كتب فاسيلي ليبيديف كوماتش قصيدته التي لا تزال تتردد إلى اليوم بألحان ألكسندر ألكسندروف "الحرب المقدسة". هذه الأغنية الخالدة كتبت ولحّنت وأدّيت في موسكو في يوم واحد. ومن كلماتها "إنهضي أيتها الدولة الجبارة، إنهضي إلى مواجهة الموت، في المعركة ضد القوى الفاشية الظلامية...". يبدو أن عبقرية فاسيلي ليبيديف كوماتش قد زاوجت في هذه القصيدة بين الموروث الشعبي الروسي والموروث الديني وقوة الحديد والنار، لاستنهاض أبناء الشعوب السوفياتية لمواجهة الغزو النازي. بعد 4 سنوات انتصرت الجيوش السوفياتية على الغزاة النازيين واحتلت عاصمتهم، ورفعت العلم الأحمر على مبنى الرايختساغ وسط برلين في 9 أيار/مايو 1945. اليوم، بعد مرور 80 عاماً على نصر الاتحاد السوفياتي، يخوض وريثه الاتحاد الروسي منذ 2022، حرباً أخرى تحت عنوان "العملية العسكرية الخاصة" على الأراضي الأوكرانية. تتقاطع الشعارات الحالية مع شعارات الحرب العالمية الثانية، التي تسمى في روسيا "الحرب الوطنية العظمى" (1941-1945). خلال السنوات الثلاث الماضية حفلت الساحة الأدبية بمئات النصوص النثرية والشعرية عالجت، أو رافقت بأشكال شتى، العمليات الحربية. ندرك أن روسيا إمبراطورية، والإمبراطوريات في حالة حرب دائمة حفاظاً على مصالحها الاقتصادية أو دفاعاً عن أيديولوجياتها، وفي مراحل الهدوء القليلة تكون في حرب باردة، وكان مقدراً لشعوب روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي والاتحاد الروسي أن تعيش هذا الواقع، وأن تتعايش مع مسألة أخرى، وهي أن حدود الإمبراطورية تكون متغيرة في مدد زمنية وجيزة. ففي روسيا القيصرية، بداية من "الحرب الوطنية العظمى" سنة 1812، تلك التي جسدها الكاتب والفيلسوف، ليف نيقولاييفتش تولستوي، وحارب فيها الأمير الشاعر، بيوتر فيازيمسكي، وكثيرون من المبدعين، نجد أن النتاج الأدبي لهؤلاء كان ينعتق من الإطار الرومانسي الذي كان سائداً في القرن الــ 19 ليسلك طريقه إلى الواقعية، التي تكرست عبر المنهج الواقعي الاشتراكي في أواخر العهد القيصري وبداية العهد السوفياتي. من الطبيعي أن يكون الإنسان هو القصة ومعاناته في زمن الحرب هو المحور، وبالتالي يتتبع الكاتب خطوط السرد المأسوية وصولاً إلى النهاية التي قد لا تكون سعيدة بالضرورة. من هنا يمكننا أن نطلّ على أهمية النصوص التي وصلتنا من العصر الفضي في الأدب الروسي وبدايات العهد السوفياتي التي تحدثت عن مصائر البشر في أزمنة الحرب، لاسيما آنذاك الحرب العالمية الأولى (كما في كتاب "مع الحرب" لستيبان كوندوروشكين)، وسرعان ما انسحبت روسيا منها لتتفرغ إلى بناء اتحاد جمهوريات السوفيات الاشتراكية، وأن تخوض حرباً داخلية بين القديم والجديد، جسّد جانباً منها ميخائيل شولوخوف في روايته الملحمية "الدون الهادئ"، متناولاً فيها عبر نحو 600 شخصية ثانوية مصائر أبناء شعبه القوزاقي في الحرب الأهلية الروسية. انطبعت قصص الحرب العالمية الثانية، وأشعارها وأغانيها، في أذهان أبناء الشعوب السوفياتية وتأثيرها مستمر حتى اليوم. ونلحظ أن الأشهر الأولى من الحرب أنتجت كذلك عشرات الأغنيات التي تبعت مسار كوماتش وكانت تلحن وتغنى على الجبهات. كذلك كان الفنانون السوفيات من مغنين وعازفين ومسرحيين يرافقون الجنود، ليس بهدف الترفيه عنهم بل بهدف شد عزائمهم. فالحرب كانت تحصد آلاف الأرواح يومياً. المرحلة الأولى، استمرت حتى انقلبت الآية على الجيوش الغازية، وتحرير ستالينغراد سنة 1943، مروراً بمعارك الكرّ والفرّ في روستوف وتاغانروغ والدونباس وأوكرانيا والقرم... إلى جانب حصار لينيغراد الطويل والاقتراب من موسكو. تلك المرحلة أنتجت نصوصاً مباشرة تتعامل مع الآني، أي مع الحصار كحصار والمقاومة كمقاومة، أو تعبر عن رسائل من الجنود على الجبهة إلى حبيباتهم وزوجاتهم وأمهاتهم. من الجدير بالملاحظة أن المرحلة الأخيرة التي سبقت النصر، أي المرحلة التي ضمت الشهور الأولى من سنة 1945، عندما انتهى السوفيات من تحرير أرضهم وانطلقوا غرباً عبر أوروبا الشرقية كلها وصولاً إلى ألمانيا، بات الأدب فيها يعبر عن شخصية المحرر السوفياتي الذي اجتاز مسافات هائلة بهدف إزالة كابوس النازية الذي حلّ على صدور شعوب العالم. ونجد أن النصوص بدأت باستشراف الانتصار النهائي وإحلال السلام، كما في أغنية "تعال ندخن يا رفيقي"، وهي قصيدة الشاعر إيليا فرانكل، التي لحنها موديست توباتشينكوف، أو كقصيدة "المعركة الأخيرة" لميخائيل كوجكين، والتي رافقت الشريط السينمائي "التحرير". طبعاً "يوم النصر" في 9 أيار/مايو من كل عام بالغ الأهمية، إلا أنه بحد ذاته يحتل مساحة ضئيلة في الأدب إذا ما قورن بالطريق المؤدية إلى النصر وقصص ملايين البشر الذين عبّدوا بدمائهم هذا الطريق. فالحرب الوطنية العظمى دخلت إلى كل بيت سوفياتي وأثرت فيه سلباً بطبيعة الحال، ونشوة النصر مهما بلغت لا يمكنها أن تمحو المآسي. فبعد النصر بشكل مباشر كان لا بد من ظهور منتج أدبي يشد أزر الأمة فوق الدمار الرهيب، فوق المدن والقرى التي لم يبق منها أثر، أو المساحات الهائلة التي شهدت معارك المدفعية والدبابات المليئة بجثث القتلى وبالأجسام غير المنفجرة. في تلك المرحلة بدأت بالظهور روايات ذات صبغة إنسانية وفق منهج الواقعية الاشتراكية، وصل منها إلى القارئ العربي سلسلة "مقاتلون في سبيل وطنهم السوفياتي" على سبيل المثال، وفيها رواية "الصامدون" لبوريس غورباتوف، و"خط الاتصال" لليف كاسيل، و"قصة إنسان حقيقي" لبوريس بولفوي، و"رفاق الطريق" لفيرا بانوفا، وكذلك رواية "في خنادق ستالينغراد" لفيكتور نيكراسوف، و"الثلج الحار" ليوري بونداريف، و"كيف تنتهي الحروب" ليونيد سيفروك، وغيرها من النصوص الروائية التي عالجت الطريق إلى النصر والثمن الهائل الذي دفعته الشعوب السوفياتية في سبيل هذا النصر. وربما هنا يحق لنا أن نتوقف عند نصوص قنسطنطين سميونوف، الذي كان من أبرز الكتّاب في ميدان "أدب الحرب"، إذ غطى أحداث المعارك ومصائر المقاتلين. هل يمكننا تلمس الأثر الثقافي الذي تركه أدب الحرب في الحياة العامة في الاتحاد السوفياتي وروسيا الحديثة؟ بطبيعة الحال يمكننا أن نتوقف عند 3 عناوين مهمة، أنتجت مواد ثقافية مختلفة: الأول، حجم التضحية الهائل الذي رسخ في أذهان الذين بقوا على قيد الحياة ونقلوه إلى أبنائهم وأحفادهم. فالنصر الكبير يفترض أن يوازي حياة ملايين السوفيات، والمآسي الإنسانية المستمرة مع الجرحى والأيتام والثكالى. حجم التضحية الهائل دفع عشرات الآلاف من الكتّاب والشعراء والرسامين والموسيقيين إلى العمل بشكل عفوي لمداواة الجرح الذي أصاب الأمة. نعلم أن الثقافة وحدها خشبة الخلاص في الأزمات الكبرى، وأي تغيير اجتماعي مهما كان حجمه لا بد وأن يسبقه تغيير ثقافي، وأصدق تعبير ثقافي هو ما يتسم بالعفوية التي تتمسك بالحق والعدل والحرية وتنبذ الظلم والقهر والحرمان والأسر. أما العنوان الثاني، فهو الأدب الموجه، ونقصد هنا أن الماكينة السوفياتية التي أنتجت مئات آلاف الأعمال التي عالجت مرحلة ما بعد الحرب الوطنية العظمى، فغطت كل الفئات العمرية وتوجهت إلى جميع أنواع القراء والمتلقين. فلا يكفي أن نفتخر بالأخوة والآباء الذين استشهدوا دفاعاً عن تراب الوطن، بل كان على المثقفين أن يرمموا الوعي عبر الكلمة الشعرية والنثرية واللوحة واللحن والأغنية والمسرحية وجميع أشكال التعبير التي كانت سائدة في تلك المرحلة، ومنها الملصق التوعوي والملصق الإعلامي. كما دخلت الحرب وقصص أبطالها والمآسي الكثيرة في المناهج الدراسية، وحفظ الأطفال واليافعون القصائد الشهيرة عن التضحيات، وبات يوم النصر محطة سنوية للاحتفال، لكن هذه المحطة مبنية على وعي مختلف فئات المجتمع بالثمن الكبير الذي دفع في سبيل الوصول إليه. العنوان الثالث، هو الاستمرارية. خلال الأعوام الثمانين الفائتة، باستثناء السنوات الأولى التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، وهي سنوات مظلمة في روسيا الحديثة، وبعدما ترسخ المفهوم الحقوقي أن كل ما كان للاتحاد السوفياتي بات للاتحاد الروسي، نرى أن مجموعات الكتاب والشعراء والأدباء، والقنوات الثقافية المتعددة والمتنوعة، دأبت على استحضار معاني النصر في الحرب الوطنية العظمى بسبل مختلفة، من قصص الجنود على الجبهات إلى قصص الجنود الذين اختفوا بلا أثر، إلى قصص الأمهات والزوجات والحبيبات، إلى قصص انخراط النساء في القتال على الجبهات جنباً إلى جنب مع الرجال. اليوم، بعدما باتت ماكينة الترجمة والطباعة والنشر السوفياتية من الماضي، والكتاب يخضع لمعايير تجارية بحتة وما تمليه عليه أخلاقيات السوق، قد لا تصل نصوص الحرب الحالية أو "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا إلى القارئ العربي، على الرغم من أن الاتحاد الروسي يواجه الغرب كله، بعديده وعتاده وتكنولوجياته، على الأراضي الأوكرانية. أنتجت الحرب الحالية نصوصاً كثيرة، ولعل الأبرز بينها: قصة أندريه ليسيف "لن نودع بعضنا بعضاً"، ورواية ألكسندر تامونيكوف "مركز التدريب السري"، وقصة "الفاتنة" لفلاديمير كازمين، وقصة "المصدوم" ليسرغي باكششف، ورواية "الصغيرة أنهار (اسم فتاة)"، وكتاب "فيديل في الدونباس – مذكرات مراسل حربي" لفاديم كانديلسكي، ورواية زاخار برليلينين "بعضهم لن يكون مصيره الجحيم"، إلى جانب بضع عشرات من المجموعات القصصية والشعرية، ومنها "نحن لا نترك أبناءنا"، "حروب روسيا"، "الطفولة الضائعة في الدونباس"، و"قصص الدونباس والعملية الخاصة". القاسم المشترك بين كل هذه النصوص الأدبية يكمن في أنها مفرطة في واقعيتها، فهي إما صادرة عن شهود عيان أو عبارة عن لملمة مرويات الناس في السنوات الثلاث الماضية. وهي تذكرنا بنصوص الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا ألكسييفيتش، التي فازت بجائزة نوبل عام 2015، ونصوص أستاذها أليس أدموفيتش (1927-1994)، التي وثقت فظائع الحرب العالمية الثانية بعين استقصائية.

هذا ما تفعله روسيا لتفكيك الغرب من الداخل
هذا ما تفعله روسيا لتفكيك الغرب من الداخل

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • سياسة
  • الجزيرة

هذا ما تفعله روسيا لتفكيك الغرب من الداخل

تنشغل مراكز البحث في الولايات المتحدة الأميركية، وفي العديد من الدول الغربية في البحث عن مكامن روسيا، خاصة أن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن ثغرات كثيرة على الضفتين؛ الروسية والغربية. فروسيا استطاعت الصمود في وجه العقوبات الغربية بصورة لم يتوقعها الغرب نفسه، في الوقت الذي تطارد فيه روسيا الآخر في كل مكان، خاصة في أفريقيا، فهل روسيا لديها تصورات وخطط لمواجهة الهيمنة الغربية والأميركية على العالم وتهديدها للمصالح الروسيّة . لكي ننطلق في هذا الموضوع، لا بدّ من قراءة التفكير الإستراتيجي لروسيا، فتصورها لذاتها هي أنها قوة عظمى استثنائية على الساحة الدولية، مدعومة بالأساطير الوطنية للتراث الأرثوذكسي مع عالَم روسي فريد من نوعه، فالسردية الروسية تذهب إلى أن مشاعر القوة العظمى لها جذور تعود إلى قرون سحيقة، جرحت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية كرامةَ هذه القوة، وامتد ذلك إلى المجال الحيوي الإستراتيجي لهذه القوة، وهو ما مسّ كبرياءها، فكان التماسّ مع الجغرافيا الروسية يهدد شعور هذه القوة بالأمن. روسيا مع الحرب الأوكرانية تمهّد إلى عالم متعدد الأقطاب قادم، لذا فهي تعتمد سياسات لتقويض الهيمنة الغربية على العالم، بعض هذه السياسات آتى أُكله، والبعض الآخر أخفق، لذا ذهبت روسيا لعدد من السياسات ترتكز على ما يلي: إعلان سعت روسيا خلال السنوات الماضية إلى الحفاظ على هيمنتها على دول الاتحاد السوفياتي السابق، فهي من وجهة نظرها مجالها الحيوي، خاصة مع وجود جاليات روسية بها تدعم النفوذ الروسي، فربطتها روسيا عبر منظمات إقليمية تربطها أمنيًا واقتصاديًا، فاستفادت روسيا من هذا في تقويض العقوبات الغربية ضدها. فدول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي باتت الباب الخلفي لتقويض هذه العقوبات، ولذا نرى تركيزًا روسيًا على منظمة شنغهاي، ومجموعة البريكس؛ لتقويض الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، مع إنهاء هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي. يرى العديد من الخبراء الروس أن تقويض الهيمنة الأميركية على العالم، يأتي من خلال أخطاء الغرب ذاته، مثلما حدث من أخطاء قاتلة في حرب الولايات المتحدة في أفغانستان وانسحابها، وحرب غزة الأخيرة، وهو ما أدّى إلى عدم استقرار الأمن العالمي، وانعدام التعاون الدولي، وهذا ما عزّز الدعوة لمأسسة نظام عالمي جديد، والتمهيد لمرحلة ما بعد الغرب. التدخل الروسي المباشر لدعم ومساندة الموالين لها والمتوافقين معها سياسيًا، مثلما حدث في الانتخابات الرومانية الأخيرة، فضلًا عن تعزيز البعد الجيوسياسي للحملات المناهضة لتعزيز الديمقراطية والقيم الليبرالية، من هنا نرى دورًا لروسيا في دعم النخب السياسية والأحزاب المعارضة للناتو والاتحاد الأوروبي، كما تسعى روسيا إلى مفاقمة الاستقطاب السياسي والحركات الانفصالية في الدول الغربية عبر حملات التضليل. هذا ما جعل النخب الروسية تصرّح علنًا بأنّ الولايات المتحدة في حالة تراجع كقوة مهيمنة عالميًا، وأن النظام الدولي غير مستقر، ويخضع لتحول عميق، لذا هنا نرى زاوية رؤية تعتمد على أن الغرب مجزأ، وهذا ما أثبته ترامب حين وضع مصالح الولايات المتحدة أولًا حتى ولو جاء ذلك على حساب حلفاء أوروبا التقليديين مثل أوروبا الغربية واليابان، فصارت صناعة السيّارات في ألمانيا واليابان مهددة، وعلى رغم التنسيق المفرط، وتوسيع عضوية الناتو ليضم السويد وفنلندا؛ بسبب حرب أوكرانيا، فإن الغرب ذاته منقسم حول هذه الحرب. يذهب الروس إلى أن أجندة نشر الديمقراطية والليبرالية الأميركية لطالما كانت غطاء لتغييرات جذرية في العديد من الدول، فالثورات الملونة في جورجيا (2003)، وفي أوكرانيا (2004)، وفي قرغيزستان (2005)، قامت على يد شخصيات ذات ميول غربية تحركها يد غربية، وليست نتاجًا لسخط عام، وجاء دعمها عبر منظمات غير حكومية وجهات مانحة إقليمية، وهذا ما حدث في رأيهم في ليبيا التي أوجد التدخل الغربي بها حالة من حالات الفوضى، وعدم الاستقرار. وكان بوتين جادل في عام 2019 بأن الأفكار الليبرالية "عفا عليها الزمن"، وأن القيم التقليدية أكثر استقرارًا وأهمية كمعيار عالمي مضاد لليبرالية، لذا فروسيا تركز في هذا الإطار على الأُسرة وليس الفرد والدين، وهذه رؤية كانت جذابة بالنسبة للحركات اليمينية والمحافظة في أوروبا. تدعم الولايات المتحدة بعض الأنظمة الدكتاتورية أو غيرها، وهذا ما يعتبره الروس نفاقًا مفرطًا لتحسينهم صورة هذه الأنظمة، ويبرز ذلك عند استخدام الولايات المتحدة القواعد والأعراف والقوانين الدولية فقط عند اللزوم، فانتقدت روسيا الغرب وأميركا عند اعترافهما بكوسوفو كدولة مستقلة، بحجة أن هذا لن يشكّل سابقة، واعتبر الروس هذا مثالًا واضحًا على عدم التزام أميركا وحلفائها بالقانون الدولي، وهذا ما وفّر في ذات الوقت سابقة لروسيا لتبرير اعترافها باستقلال إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا. على الجانب الآخر، كان رفض روسيا التدخل لصالح أرمينيا في حرب أذربيجان لاستعادة إقليم ناغورني قره باغ، مقوضًا لمنظمة الأمن الدفاعي الجماعي التي أنشأتها، ففقدت أرمينيا ضمانات الأمن الروسية، ونتيجة لذلك تحول الرأي العام الأرميني تجاه روسيا. لكن على الجانب الآخر، ساندت روسيا حليفها قاسم جومارت توكاييف رئيس كازاخستان في التمرّد الذي واجهه، وهو ما يجعل روسيا حليفًا يعتمد عليه في رأي عدد من دول آسيا الوسطى، لكن أيضًا شكّل فشل روسيا في تسويق لقاح سبوتنيك أثناء جائحة كورونا، مثلًا، روّجه الغرب على محدودية القدرات الروسية، بالرغم من سبقها في إنتاج لقاح لوباء كورونا، وهذا يعود لأسباب إنتاجية، ثم تسويقية، ففازت الصين ومعها الغرب على حساب روسيا. على الطرف الآخر، تستخدم روسيا بمهارة فائقة حرب المعلومات لتعزيز التضليل على مستويات متعددة محليًا وإقليميًا ودوليًا، من خلال أنظمة معقدة، وهذا ما وضح بتدخلها في عددٍ من الاستحقاقات الانتخابية الغربية، لمساندة حلفائها، وهذه الوسيلة اعتبرت في روسيا أداة لتقويض القوة الناعمة الأميركية. تقوم السياسة الروسية على التعاون مع الصين في مناهضة الولايات المتحدة، حتى إن الرئيس الصيني ذكر أن التعاون بينهما هو "شراكة بلا حدود"، فقدمت الصين الكثير لروسيا، لكن في الوقت ذاته تدرك روسيا أن الصين لن تعوضها عن السوق الغربي، خاصة في الغاز والنفط، وفي حقيقة الأمر، الفائز في الصراع الروسي الغربي هي الصين التي شُغل الغرب عنها بمواجهة روسيا، وهذا ما يدركه الرئيس الأميركي ترامب. لكنْ هناك جانب غير مشاهد الآن في المنافسة الأميركية الروسية، وهو السيطرة على القطب الشمالي، وهذا ما يفسر اهتمام ترامب المتزايد بغرينلاند، فروسيا وضعت إستراتيجياتها للقطب الشمالي على أهمية تعزيز الاستعداد القتالي والتعبئة، فبنت قاعدة تريفل العسكرية به. وفي جانب آخر، سعت إلى سياسات واقعية فوقّعت على اتفاقية مع النرويج في عام 2010 التي شهدت نزاعًا حدوديًا دام 40 عامًا من خلال اتفاق خط تعيين الحدود في بحر بارنتس، وهذا ما قوّض مقولات متعلقة بعدائية روسيا تجاه جيرانها، وفي ذات الوقت تسعى روسيا إلى الترويج لطريق الحرير القطبي عبر القطب الشمالي، وهو الذي سيقلل من تكلفة نقل السلع الصينية إلى أوروبا وغيرها. يقرع القطب الشمالي آذان الروس ليس بالثروة المتعددة فحسب- فهو على سبيل المثال به 30 % من احتياطات الغاز غير المكتشفة في العالم- بل أيضًا بوصفه امتدادًا لحدود الإمبراطورية الروسية، حيث إن روسيا جسديًا لديها نصف ساحل القطب الشمالي، ومن هنا فإن الولايات المتحدة التي لديها ألاسكا في القطب الشمالي، ترى أن لها استحقاقات في هذا القطب، لذا فإن غرينلاند هي نقطة تماسّ بينهما. إن كلّ ما سبق يلخّص كيف تقوّض روسيا الهيمنة الأميركية، ومعها الغرب الأوروبي، على العالم، فروسيا تسعى لتعزيز عمقها الإستراتيجي من أجل البقاء الوطني، وبالتالي تسعى لتحجيم دور الناتو، وخلخلة الغرب من الداخل، وتقويض نفوذ الغرب في أفريقيا عبر طرد فرنسا من مناطق نفوذها التقليدية، وبناء تحالف راسخ مع الصين، وبناء سردية قائمة على منظومة القيم التقليدية في مواجهة تصاعد الفردانية والحرية المطلقة للفرد في الغرب، وتأكيد أن مجالها الحيوي غير قابل للاختراق، وملء الفراغ، مثل دورها مع الصين في أفغانستان، أو لعب دور في ليبيا، وظهورها كمورد لاغنى عنه في منظومة الغذاء العالمي (القمح). ثم في النهاية التأكيد على عالم متعدد الأقطاب تقوده عبر تحالفات ومنظمات تقوض المنظومة الغربية، وفي المحصلة لن تكون روسيا هي الفائزة في كل ما سبق ولا أميركا ومعها أوروبا الغربية، بل الصين هي الفائز الأكبر الذي استفاد من هذا الصراع، وتوسّع في مساحات من التحالف والتعاون عبر آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية ببرامج متعددة.

عقدة أوكرانيا.. لماذا فشل الغرب في هزيمة روسيا حتى الآن؟
عقدة أوكرانيا.. لماذا فشل الغرب في هزيمة روسيا حتى الآن؟

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • سياسة
  • الجزيرة

عقدة أوكرانيا.. لماذا فشل الغرب في هزيمة روسيا حتى الآن؟

في الساعات الأولى من صباح الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022، عندما تصاعد الدخان فوق سماء كييف وعبرت الدبابات الروسية الحدود، كان واضحا منذ اللحظات الأولى أن ثمة شيئا خطيرا سوف يتأثر به العالم كله. لم تكن تلك حربًا محدودة على إقليم متنازع عليه، بل كانت في جوهرها إعادة فتح حسابات الجغرافيا السياسية العالمية من قلب أوراسيا، حيث تتقاطع دائما أطماع القوى الكبرى، وتُختبر معادلات القوة. مثلت الحرب اختبارا حاسما للنظام الدولي الذي وُلد على أنقاض الاتحاد السوفياتي. فمن جانب روسيا؛ لم تكن الحرب إلا محاولة لتصحيح ما تعتبره انكسارًا جيوسياسيًّا أصابها منذ نهاية الحرب الباردة، بعد فقدان مجالها الحيوي في شرق أوروبا. أما أوكرانيا، فتسعى للانفكاك النهائي من جاذبية المدار الروسي، وتحقيق حلم الانتماء الكامل إلى الغرب. وفي المنتصف، تقف الولايات المتحدة وأوروبا، أمام انقسام تاريخي حول تحديد الأولويات وتعريف الضرورات الأمنية لكل منهما. ومنذ بداية الحرب؛ راهنت العديد من العواصم الغربية على أن مزيجًا من العقوبات الاقتصادية الصارمة، والدعم العسكري السخي لأوكرانيا، إلى جانب وحدة الموقف في حلف الناتو، سيكون كفيلًا بردع موسكو ودفعها إلى التراجع، أو على الأقل استنزاف قدراتها الإستراتيجية. لكن مجريات الحرب، وما تبعها من تحولات ميدانية وسياسية، كشفت عن محدودية هذا الرهان، وأظهرت قصور الغرب عن تحقيق انتصار حاسم. وبعد أكثر من ثلاثة أعوام، أصبح واضحًا أن أسباب هذا الإخفاق لا تقتصر على العوامل العسكرية أو الميدانية، بل تعود إلى منظومة أعمق وأكثر تعقيدًا، تشمل الأبعاد الجيوسياسية والديموغرافية والإستراتيجية. فرغم الضغوط المتواصلة، أظهرت روسيا قدرة ملحوظة على الصمود والمرونة في التكيف مع حرب طويلة الأمد، في حين واجه الغرب فجوة بين إمكاناته الهائلة وقدرته على تحويلها إلى نتائج ملموسة على الأرض. فما العوامل التي منعت الغرب من تحقيق الانتصار السريع على موسكو؟ ولماذا تدخل الحرب عامها الرابع وسط آمال محدودة في الوصول إلى اتفاقيات جزئية دون الوصول إلى اتفاق يحسم الأسباب الجذرية لاندلاع الحرب؟ توازن قوى وتغيرات سياسية حادة بعد أكثر من ثلاثة أعوام من المواجهة الغربية لموسكو؛ تُسيطر روسيا الآن فعليًّا على ما يقارب 20٪ من الأراضي الأوكرانية، بما يشمل شبه جزيرة القرم التي ضمّتها عام 2014، وأغلب أراضي المناطق الأربع: لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون، التي أعلنت موسكو ضمها بعد بدء الغزو في 2022. هذه المكاسب الميدانية ترافقت مع تغيّر سياسي لافت، تجسّد في مقاربة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي تتبنى سياسة أكثر براغماتية وأقل حدة، وتُجري مفاوضات مباشرة مع موسكو بهدف وقف الحرب، حتى وإن تطلّب الأمر الإبقاء على المناطق التي خسرتها أوكرانيا تحت السيطرة الروسية. في بدايتها، بدت الحرب محاولة لاجتياح سريع من جانب روسيا، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. وفي هذا النوع من الحروب، يصبح الانتصار مرهونا بعاملين رئيسيين: القدرة على القتال، وإرادة الاستمرار فيه، كما يقول المؤرخ الأميركي المتخصص في الشأن الروسي، ستيفن كوتكين. ولا تُقاس القدرة على القتال بما تملكه الدولة من دبابات أو مقاتلات أو طائرات مسيّرة فحسب، بل بما تستطيع إنتاجه بشكل مستمر عبر مجمّعها الصناعي، وعدد خطوط إنتاجها، وعمال مصانعها، وتحالفاتها الخارجية. وقد زادت روسيا ميزانيتها العسكرية إلى أكثر من 6٪ من ناتجها المحلي في 2024، بعد أن كانت 3.9٪، مما يُعد مؤشرًا واضحًا على نيتها مواصلة القتال. كما أمر الرئيس بوتين في سبتمبر/أيلول من العام نفسه بزيادة عدد الجيش بنحو 180 ألف جندي، ليصل إلى 1.5 مليون، وهي التوسعة الكبرى الثالثة له منذ بدء الحرب. وعلى عكس الحالة الروسية، يعاني الجانب الأوكراني من هشاشة القدرة على القتال واستنزاف تدريجي في الإرادة القتالية، نظرًا إلى اعتماده المفرط على الإمدادات الغربية. فجُلّ العتاد العسكري الأوكراني مصدره الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما يجعل قدرة كييف على مواصلة الحرب مرتبطة بشكل مباشر بإرادة الشركاء الغربيين ومدى التزامهم. لكن هذه الدول، رغم كثافة الإمدادات، لم تُطوّر خطوط إنتاج جديدة كافية لتعويض ما ترسله إلى أوكرانيا. وكانت المخزونات الأوروبية في الأصل محدودة، في حين لا يزال إنتاج الذخائر، وخصوصًا المدفعية منها، يسير بوتيرة أبطأ من وتيرة الاستهلاك في جبهات القتال. وفي مؤشرات واضحة على هذا الاستنزاف، لجأت الولايات المتحدة إلى استدانة ذخائر من كوريا الجنوبية، رغم القيود الدستورية التي تمنع سول من تصدير الأسلحة إلى مناطق النزاع. كما اضطرّت واشنطن إلى تزويد أوكرانيا بذخائر عنقودية محظورة في الدول الأوروبية، وسبق أن تحفّظت الولايات المتحدة نفسها على استخدامها. كل ذلك يعكس هشاشة البنية العسكرية الذاتية لأوكرانيا، وعجزها عن مواكبة متطلبات الحرب دون دعم خارجي مباشر. كما يُبرز محدودية الإرادة الغربية في تحويل المعركة إلى مواجهة شاملة وطويلة الأمد، في ظل تزايد الضغط السياسي الداخلي في الغرب، وشعور الناخبين بالإرهاق المالي والعسكري من حرب لا أفق لنهايتها. الجغرافيا تقاتل مع روسيا تُعد روسيا أكبر دولة مساحة في العالم، بامتداد جغرافي يبلغ نحو 17 مليون كيلومتر مربع، مما يمنحها قدرة استثنائية على المناورة الإستراتيجية من أوروبا الشرقية إلى سواحل المحيط الهادي. وهي تتشارك حدودًا برية أو بحرية مع 16 دولة، بعضها من الحلفاء النوويين، وأبرزهم الصين، ثاني أقوى قوة اقتصادية وعسكرية في العالم، بحدود يصل طولها إلى 4200 كيلومتر، إضافة إلى كوريا الشمالية، ثم إيران التي لا تشترك مع روسيا بحدود برية، لكنها ترتبط بها جغرافيًّا عبر بحر قزوين، وهو امتداد إستراتيجي لا يقل أهمية عن الحدود البرية من الناحية اللوجستية. ومن ثم فلا يمكن إغفال الدور المحوري الذي أدته الجغرافيا في تعزيز قدرة روسيا على الصمود في وجه الحصار الغربي. فالدول المجاورة لها مباشرة، مثل الصين وكوريا الشمالية ومنغوليا، أو تلك التي ترتبط بها عبر حدود وسيطة، وفّرت لها دعمًا متنوعًا، سواء عبر الإمداد المباشر أو عبر توفير نقاط عبور إستراتيجية، بدوافع تتراوح بين المصالح الذاتية والعداء للغرب. هذا الامتداد الجغرافي الواسع، الذي يشمل قلب أوراسيا، يجعل من المستحيل عمليًّا فرض حصار شامل وفعّال على روسيا. ورغم أن بعض هذه الدول ليست داعمة لروسيا بشكل كامل، فإن امتناعها عن المشاركة في العقوبات الغربية، واحتفاظها بعلاقات اقتصادية وتجارية مع موسكو، يجعلها فعليًّا "حليفة بحكم الجغرافيا"، وكان التجلي الأبرز لهذا العمق الجغرافي هو مشاركة كوريا الشمالية بأكثر من 10 آلاف مقاتل لإسناد الجيش الروسي في الدفاع عن كورسك. الردع النووي لا يزال فعالا منذ الأيام الأولى للحرب، خيّم شبح الخوف من التصعيد النووي على كل قرارات الغرب في معايرة الردود الممكنة على موسكو. وعلى الرغم من الإدانات والعقوبات والدعم العسكري الغربي الواسع لكييف، بقيت هناك "خطوط حمراء غير مرئية" تقيّد السلوك الغربي، لمنع وقوع الخطر النووي. تمتلك روسيا ثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، وأكثر من 6 آلاف رأس نووي. ومنذ بداية الحرب، لمّح الرئيس فلاديمير بوتين ومسؤولون روس إلى إمكانية استخدام السلاح النووي في حال "تهديد وجودي". هذا التهديد، وإن لم يكن صريحا، أجبر صناع القرار في واشنطن وبروكسل على التعامل مع موسكو بوصفها قوة ذات "حواجز خطيرة". وكانت النتيجة: لم تُستهدف المصانع، ولا المنشآت العسكرية العميقة، ولا البنية التحتية داخل روسيا، رغم أنها تمدّ على جبهات القتال. لم تواجه روسيا أي قصف عميق داخل أراضيها كما حصل مع ألمانيا النازية أو صربيا في الحروب السابقة، مما منحها حرية نقل السلاح والجنود بأمان داخل أراضيها، والإنتاج العسكري المستمر في مصانع بعيدة عن الجبهات. في المقابل، لم تتمتع أوكرانيا بهذا العمق الإستراتيجي، حيث كانت بنيتها التحتية هدفا مستمرا للقصف الروسي، مما وضعها في موقع دفاعي دائم. وإجمالا يمكن القول بأن الخوف من الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع قوة نووية، قيّد خيارات الدول الغربية. فالولايات المتحدة والناتو كلاهما رفضا إقامة منطقة حظر جوي، أو إرسال قوات برية، أو تسليم أوكرانيا صواريخ بعيدة المدى (في بداية الحرب) لضرب العمق الروسي. وحتى حين قدّمت واشنطن لكييف صواريخ طويلة المدى (ATACMS)، فرضت شروطا صارمة بأن لا تُستخدم داخل الأراضي الروسية. ربما كان توقع التهديد النووي مبالغا فيه، لكن احتمال استخدامه ليس صفرا، ويبدو أن بوتين راهن على أن مجرد التهديد بالغموض النووي كاف لشل إرادة الغرب في بعض الاتجاهات، وقد نجح. اقتصاد الحرب في روسيا والالتفاف على العقوبات راهنت أوروبا والولايات المتحدة على "سلاح العقوبات" ليكون أداة فعالة تؤدي إلى تدمير الاقتصاد الروسي وإلحاق الهزيمة بموسكو، غير أن الواقع وأرقام الاقتصاد الروسي يرويان حكاية مختلفة تثبت فشلا واسعا لرهانات الغرب، وتكشف الكثير من مواطن الخلل في توظيف ذلك السلاح. مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الرابع، ورغم 16 حزمة من العقوبات الغربية، نما الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 4.1 بالمئة في عام 2024، مقارنة بـ 3.6 في المئة في العام السابق له، بعد أن وصل إلى حدود -1.3 في المئة عند بداية الحرب. ورغم العقوبات الواسعة، نجحت روسيا في التحايل على القيود التجارية عبر بيع النفط بطرق غير رسمية، إلى جانب تصدير النيكل والبلاتين والغاز الطبيعي إلى دول مثل الصين والهند. وسمحت هذه الإيرادات بتمويل المجهود الحربي وتعزيز الإنفاق الحكومي، رغم ارتفاع التضخم إلى 9.5 في المئة وفوائد الإقراض إلى 21 في المئة لكبح التضخم، كما ذكر تقرير لشبكة "سي إن إن" الأميركية في فبراير/شباط 2025. كما استمرت المصانع الروسية في الحصول على المواد الخام والتكنولوجيا اللازمة للإنتاج العسكري، مما مكّن الدولة من مواصلة الحرب دون أزمات مالية كبيرة، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية. في محاولة للحد من الأرباح الروسية من النفط، أعلنت مجموعة السبع أن شركات التأمين والسفن الغربية يمكن استخدامها فقط عند شحن النفط بسعر 60 دولارًا أو أقل. لذلك طورت روسيا شبكة جديدة من السفن من أجل الالتفاف حول القيود ومواصلة الشحن إلى الصين والهند، وفق شبكة "سي إن بي سي" الأميركية. وبحسب المجلس الأطلسي الذي يتتبع تأثير العقوبات، تنقل روسيا 71 بالمئة من صادراتها من النفط عبر "أسطول شبحي" يجري إخفاء أصول ملكيته. كما أظهرت بيانات "Windward" في سبتمبر/أيلول 2023 أن هناك 1400 سفينة اسُتخدمت لنقل النفط الروسي في تحدٍّ للعقوبات الغربية، والعديد منها يبحر دون تأمين. وأشار المجلس الأطلسي أيضا إلى أن معظم البنوك الروسية مستمرة في الوصول إلى نظام سويفت (خدمة مراسلة تربط المؤسسات المالية حول العالم) بما يمكنها من إجراء المعاملات الدولية وتسوية المدفوعات العابرة للحدود. التوجه الأميركي نحو الصين وأولويات أوروبية أخرى خلال العقد الماضي على الأقل؛ اعتُبر احتواء صعود الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والصراع المحتمل حول تايوان، أولويات قصوى للولايات المتحدة. ورغم أن واشنطن دعمت أوكرانيا بشكل واسع عسكريا واقتصاديا، فإن الصراع مع روسيا لم يكن أولوية إستراتيجية أميركية عليا، مقارنة بالملف الصيني، حيث تبرز الصين بمنزلة قوة التحدي الأولى للنظام الدولي بقيادة واشنطن. وبخلاف كوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان (ضمنيا)، ودول الناتو، فإن أوكرانيا لا ترتبط باتفاق دفاعي ملزم مع الولايات المتحدة. لذا فإن الدعم الأميركي لها، رغم أهميته، يظل محدودا بطبيعة المصالح الإستراتيجية الأميركية الأشمل، مما جعله أقرب إلى التضامن السياسي والمساعدات العسكرية المشروطة، وليس التزاما وجوديا. وبصرف النظر عن القدرة الاقتصادية والعسكرية الأميركية الهائلة، فإن القيادة السياسية لا يمكنها خوض صراعات كبرى متعددة أو تمويلها في وقت واحد. التصعيد في تايوان، أو مواجهة مباشرة مع الصين، سيكون كل منهما أكثر تعقيدا وأهمية جيوسياسية من الحرب في أوكرانيا، أيا كانت نتائجها. وهذا ما يجعل صنّاع القرار الأميركيين يوازنون بين دعم أوكرانيا، وحشد الإمكانات لكبح نفوذ الصين. ويبدو أن واشنطن أدركت مؤخرا أن استمرار الحرب الأوكرانية سيكون صراعا مفتوحا يستنزف طاقات الولايات المتحدة ويضعف قدرتها على التركيز على أولوياتها البعيدة المدى، ويُهدد بإيجاد حالة "إرهاق إستراتيجي" داخلي، سياسي وشعبي، قد تؤثر في التزامات واشنطن اتجاه تايوان أو تحالفاتها في آسيا. وفضلا عن واشنطن؛ ظهرت في بعض الدول مثل ألمانيا، وفرنسا، وهنغاريا، وسلوفاكيا، قوى سياسية تشكك في جدوى استمرار دعم أوكرانيا، كما تصاعدت أصوات من تيارات يمينية وشعبوية تقول: "هذه ليست حربنا"، أو "لماذا نمنح أوكرانيا مليارات الدولارات بينما نعاني داخليًّا؟". وفي المقابل، تدعو دول أخرى، مثل دول البلطيق وبولندا، إلى هزيمة عسكرية واضحة لروسيا، معتبرة أن أية تسوية ستعطي روسيا فرصة لاستعادة نفوذها الإقليمي. هذا التردد الإستراتيجي والانقسام حول تفسير الحرب وحدود الموقف المفترض، أظهر المعسكر الغربي مؤخرا بصورة المنشق الباحث عن مخرج، وهي صورة بكل الأحوال تغري بوتين في استمرار ممارسة الضغوط العسكرية، واستمرار الضغط على نقطة ضعف ترامب التي يدركها جيدا وهي أنه لا يريد هذه الحرب. "بدون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن أن تكون إمبراطورية" مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي في مقال لفورين أفيرز عام 1994 بحسب بريجنسكي ومنظرين آخرين؛ كان استقلال أوكرانيا ضربة قاسية وجهت إلى صميم مكانة موسكو الإمبراطورية، ولا تزال النخبة الأمنية في موسكو منذ ذلك الحين تعتبر استقلال أوكرانيا وضعية شاذة تاريخيا وخطرا يهدد مكانة روسيا بوصفها قوة عظمى. ومن ثم؛ حين أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا بعد سنوات من بدء زحف الناتو شرقا منذ قمة بوخارست عام 2008 التي فتحت الباب لمناقشة انضمام جورجيا وأوكرانيا للحلف، كان بوتين يدرك أنه يقوم بإعادة تصحيح التاريخ وإيقاف تدهور مكانة الأمة الروسية، ويعني هذا أن سقفا عاليا من الخسائر يمكن تحمله في سبيل هذه المغامرة التاريخية. على الصعيد الجيوستراتيجي، يرى الإستراتيجيون الروس أوكرانيا منطقة عازلة ضرورية لحماية العمق الروسي من أي اعتداء غربي محتمل. لقد عانت روسيا تاريخيًّا غزوات مدمرة جاءت عبر السهل الأوكراني -من حملة نابليون في القرن التاسع عشر إلى اجتياح هتلر في الحرب العالمية الثانية- ولذلك ترسَّخ في الوعي الإستراتيجي الروسي أن غياب السيطرة أو النفوذ في أوكرانيا يفتح الباب أمام تهديد وجودي لا يمكن تحمله أو التعايش معه. ورغم أن حلف الناتو لم يكن يخطط فعليًّا لشن حرب على روسيا، فإن منطق الجغرافيا السياسية يفترض دائما التحسب للسيناريو الأسوأ. فبدون أوكرانيا في فلكها، تفقد روسيا عمقها الإستراتيجي، وتتراجع خطوط دفاعها إلى حدودها المباشرة بشكل خطير. في حال التحقت أوكرانيا بحلف الناتو، يمكن لصواريخ الحلف أن تُنْصَب على مسافة لا تزيد على 200 كيلومتر من سان بطرسبرغ. وإلى جانب الهاجس الأمني، ثمة بُعد تاريخي وهوياتي يحكم نظرة موسكو لأوكرانيا. كثيرًا ما عبّر بوتين وغيره من كبار المسؤولين الروس عن اقتناع مفاده أن الروس والأوكرانيين "شعب واحد" تربطه جذور تاريخية ودينية عميقة، هذه الرؤية لا تعتبر أوكرانيا مجرد دولة جارة، بل تراها مكوّنًا جوهريًّا من "العالم الروسي"، وهي رؤية ثقافية وحضارية ترتكز على ثلاثة أعمدة: روسيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا. وفق هذا المنظور، تُعتبر كييف مهد الحضارة السلافية الشرقية، حيث وُلدت "كييف روس" في القرن التاسع الميلادي، ويرى القوميون الروس أنها الجذر التاريخي للدولة الروسية الحديثة. هذه الاعتبارات هي التي دفعت بريجنسكي وآخرين منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك أوروبا الشرقية إلى القول بأن بقاء أوكرانيا على الحياد ضرورة لمنع استفزاز روسيا، وأن أي محاولة لضم أوكرانيا للناتو ستمثل ضغوطا هائلة على الوعي القومي والإستراتيجي الروسي لن يمكنه تحملها. لكن لسبب غير مفهوم بدقة؛ وبعد سنوات طويلة من عقلنة محاولات تحجيم موسكو، غامرت الولايات المتحدة والناتو بتجاوز الخطوط الحمراء المستقرة في نظام ما بعد الحرب الباردة، وهي المغامرة التي لم تخرج منها بعد.

هكذا تواجه روسيا الغرب المنقسم
هكذا تواجه روسيا الغرب المنقسم

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • سياسة
  • الجزيرة

هكذا تواجه روسيا الغرب المنقسم

تنشغل مراكز البحث في الولايات المتحدة الأميركية، وفي العديد من الدول الغربية في البحث عن مكامن روسيا، خاصة أن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن ثغرات كثيرة على الضفتين؛ الروسية والغربية. فروسيا استطاعت الصمود في وجه العقوبات الغربية بصورة لم يتوقعها الغرب نفسه، في الوقت الذي تطارد فيه روسيا الآخر في كل مكان، خاصة في أفريقيا، فهل روسيا لديها تصورات وخطط لمواجهة الهيمنة الغربية والأميركية على العالم وتهديدها للمصالح الروسيّة . لكي ننطلق في هذا الموضوع، لا بدّ من قراءة التفكير الإستراتيجي لروسيا، فتصورها لذاتها هي أنها قوة عظمى استثنائية على الساحة الدولية، مدعومة بالأساطير الوطنية للتراث الأرثوذكسي مع عالَم روسي فريد من نوعه، فالسردية الروسية تذهب إلى أن مشاعر القوة العظمى لها جذور تعود إلى قرون سحيقة، جرحت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية كرامةَ هذه القوة، وامتد ذلك إلى المجال الحيوي الإستراتيجي لهذه القوة، وهو ما مسّ كبرياءها، فكان التماسّ مع الجغرافيا الروسية يهدد شعور هذه القوة بالأمن. روسيا مع الحرب الأوكرانية تمهّد إلى عالم متعدد الأقطاب قادم، لذا فهي تعتمد سياسات لتقويض الهيمنة الغربية على العالم، بعض هذه السياسات آتى أُكله، والبعض الآخر أخفق، لذا ذهبت روسيا لعدد من السياسات ترتكز على ما يلي: سعت روسيا خلال السنوات الماضية إلى الحفاظ على هيمنتها على دول الاتحاد السوفياتي السابق، فهي من وجهة نظرها مجالها الحيوي، خاصة مع وجود جاليات روسية بها تدعم النفوذ الروسي، فربطتها روسيا عبر منظمات إقليمية تربطها أمنيًا واقتصاديًا، فاستفادت روسيا من هذا في تقويض العقوبات الغربية ضدها. فدول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي باتت الباب الخلفي لتقويض هذه العقوبات، ولذا نرى تركيزًا روسيًا على منظمة شنغهاي، ومجموعة البريكس؛ لتقويض الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، مع إنهاء هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي. يرى العديد من الخبراء الروس أن تقويض الهيمنة الأميركية على العالم، يأتي من خلال أخطاء الغرب ذاته، مثلما حدث من أخطاء قاتلة في حرب الولايات المتحدة في أفغانستان وانسحابها، وحرب غزة الأخيرة، وهو ما أدّى إلى عدم استقرار الأمن العالمي، وانعدام التعاون الدولي، وهذا ما عزّز الدعوة لمأسسة نظام عالمي جديد، والتمهيد لمرحلة ما بعد الغرب. التدخل الروسي المباشر لدعم ومساندة الموالين لها والمتوافقين معها سياسيًا، مثلما حدث في الانتخابات الرومانية الأخيرة، فضلًا عن تعزيز البعد الجيوسياسي للحملات المناهضة لتعزيز الديمقراطية والقيم الليبرالية، من هنا نرى دورًا لروسيا في دعم النخب السياسية والأحزاب المعارضة للناتو والاتحاد الأوروبي، كما تسعى روسيا إلى مفاقمة الاستقطاب السياسي والحركات الانفصالية في الدول الغربية عبر حملات التضليل. هذا ما جعل النخب الروسية تصرّح علنًا بأنّ الولايات المتحدة في حالة تراجع كقوة مهيمنة عالميًا، وأن النظام الدولي غير مستقر، ويخضع لتحول عميق، لذا هنا نرى زاوية رؤية تعتمد على أن الغرب مجزأ، وهذا ما أثبته ترامب حين وضع مصالح الولايات المتحدة أولًا حتى ولو جاء ذلك على حساب حلفاء أوروبا التقليديين مثل أوروبا الغربية واليابان، فصارت صناعة السيّارات في ألمانيا واليابان مهددة، وعلى رغم التنسيق المفرط، وتوسيع عضوية الناتو ليضم السويد وفنلندا؛ بسبب حرب أوكرانيا، فإن الغرب ذاته منقسم حول هذه الحرب. يذهب الروس إلى أن أجندة نشر الديمقراطية والليبرالية الأميركية لطالما كانت غطاء لتغييرات جذرية في العديد من الدول، فالثورات الملونة في جورجيا (2003)، وفي أوكرانيا (2004)، وفي قرغيزستان (2005)، قامت على يد شخصيات ذات ميول غربية تحركها يد غربية، وليست نتاجًا لسخط عام، وجاء دعمها عبر منظمات غير حكومية وجهات مانحة إقليمية، وهذا ما حدث في رأيهم في ليبيا التي أوجد التدخل الغربي بها حالة من حالات الفوضى، وعدم الاستقرار. وكان بوتين جادل في عام 2019 بأن الأفكار الليبرالية "عفا عليها الزمن"، وأن القيم التقليدية أكثر استقرارًا وأهمية كمعيار عالمي مضاد لليبرالية، لذا فروسيا تركز في هذا الإطار على الأُسرة وليس الفرد والدين، وهذه رؤية كانت جذابة بالنسبة للحركات اليمينية والمحافظة في أوروبا. تدعم الولايات المتحدة بعض الأنظمة الدكتاتورية أو غيرها، وهذا ما يعتبره الروس نفاقًا مفرطًا لتحسينهم صورة هذه الأنظمة، ويبرز ذلك عند استخدام الولايات المتحدة القواعد والأعراف والقوانين الدولية فقط عند اللزوم، فانتقدت روسيا الغرب وأميركا عند اعترافهما بكوسوفو كدولة مستقلة، بحجة أن هذا لن يشكّل سابقة، واعتبر الروس هذا مثالًا واضحًا على عدم التزام أميركا وحلفائها بالقانون الدولي، وهذا ما وفّر في ذات الوقت سابقة لروسيا لتبرير اعترافها باستقلال إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا. على الجانب الآخر كان رفض روسيا التدخل لصالح أرمينيا في حرب أذربيجان لاستعادة إقليم ناغورني قره باغ، مقوضًا لمنظمة الأمن الدفاعي الجماعي التي أنشأتها، ففقدت أرمينيا ضمانات الأمن الروسية، ونتيجة لذلك تحول الرأي العام الأرميني تجاه روسيا. لكن على الجانب الآخر ساندت روسيا حليفها قاسم جومارت توكاييف رئيس كازاخستان في التمرّد الذي واجهه، وهو ما يجعل روسيا حليفًا يعتمد عليه في رأي عدد من دول آسيا الوسطى، لكن أيضًا شكّل فشل روسيا في تسويق لقاح سبوتنيك أثناء جائحة كورونا، مثلًا، روّجه الغرب على محدودية القدرات الروسية، بالرغم من سبقها في إنتاج لقاح لوباء كورونا، وهذا يعود لأسباب إنتاجية، ثم تسويقية، ففازت الصين ومعها الغرب على حساب روسيا. على الطرف الآخر، تستخدم روسيا بمهارة فائقة حرب المعلومات لتعزيز التضليل على مستويات متعددة محليًا وإقليميًا ودوليًا، من خلال أنظمة معقدة، وهذا ما وضح بتدخلها في عددٍ من الاستحقاقات الانتخابية الغربية، لمساندة حلفائها، وهذه الوسيلة اعتبرت في روسيا أداة لتقويض القوة الناعمة الأميركية. تقوم السياسة الروسية على التعاون مع الصين في مناهضة الولايات المتحدة، حتى إن الرئيس الصيني ذكر أن التعاون بينهما هو "شراكة بلا حدود"، فقدمت الصين الكثير لروسيا، لكن في الوقت ذاته تدرك روسيا أن الصين لن تعوضها عن السوق الغربي، خاصة في الغاز والنفط، وفي حقيقة الأمر، الفائز في الصراع الروسي الغربي هي الصين التي شُغل الغرب عنها بمواجهة روسيا، وهذا ما يدركه الرئيس الأميركي ترامب. لكنْ هناك جانب غير مشاهد الآن في المنافسة الأميركية الروسية، وهو السيطرة على القطب الشمالي، وهذا ما يفسر اهتمام ترامب المتزايد بغرينلاند، فروسيا وضعت إستراتيجياتها للقطب الشمالي على أهمية تعزيز الاستعداد القتالي والتعبئة، فبنت قاعدة تريفل العسكرية به. وفي جانب آخر، سعت إلى سياسات واقعية فوقّعت على اتفاقية مع النرويج في عام 2010 التي شهدت نزاعًا حدوديًا دام 40 عامًا من خلال اتفاق خط تعيين الحدود في بحر بارنتس، وهذا ما قوّض مقولات متعلقة بعدائية روسيا تجاه جيرانها، وفي ذات الوقت تسعى روسيا إلى الترويج لطريق الحرير القطبي عبر القطب الشمالي، وهو الذي سيقلل من تكلفة نقل السلع الصينية إلى أوروبا وغيرها. يقرع القطب الشمالي آذان الروس ليس بالثروة المتعددة فحسب- فهو على سبيل المثال به 30 % من احتياطات الغاز غير المكتشفة في العالم- بل أيضًا بوصفه امتدادًا لحدود الإمبراطورية الروسية، حيث إن روسيا جسديًا لديها نصف ساحل القطب الشمالي، ومن هنا فإن الولايات المتحدة التي لديها ألاسكا في القطب الشمالي، ترى أن لها استحقاقات في هذا القطب، من هنا فإن غرينلاند هي نقطة تماسّ بينهما. إن كلّ ما سبق يلخّص كيف تقوّض روسيا الهيمنة الأميركية، ومعها الغرب الأوروبي، على العالم، فروسيا تسعى لتعزيز عمقها الإستراتيجي من أجل البقاء الوطني، وبالتالي تسعى لتحجيم دور الناتو، وخلخلة الغرب من الداخل، وتقويض نفوذ الغرب في أفريقيا عبر طرد فرنسا من مناطق نفوذها التقليدية، وبناء تحالف راسخ مع الصين، وبناء سردية قائمة على منظومة القيم التقليدية في مواجهة تصاعد الفردانية والحرية المطلقة للفرد في الغرب، وتأكيد أن مجالها الحيوي غير قابل للاختراق، وملء الفراغ، مثل دورها مع الصين في أفغانستان، أو لعب دور في ليبيا، وظهورها كمورد لاغنى عنه في منظومة الغذاء العالمي (القمح). ثم في النهاية التأكيد على عالم متعدد الأقطاب تقوده عبر تحالفات ومنظمات تقوض المنظومة الغربية، وفي المحصلة لن تكون روسيا هي الفائزة في كل ما سبق ولا أميركا ومعها أوروبا الغربية، بل الصين هي الفائز الأكبر الذي استفاد من هذا الصراع، وتوسّع في مساحات من التحالف والتعاون عبر آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية ببرامج متعددة.

"تجربة تايغا".. لم حاول السوفيات تفجير 250 قنبلة نووية بمكان واحد؟
"تجربة تايغا".. لم حاول السوفيات تفجير 250 قنبلة نووية بمكان واحد؟

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • علوم
  • الجزيرة

"تجربة تايغا".. لم حاول السوفيات تفجير 250 قنبلة نووية بمكان واحد؟

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في مناقشة أفكار تبدو غريبة اليوم، تتعلق باستخدام القنابل النووية ليس فقط للحرب، بل للبناء أيضا. وقد سميت هذه المشروعات " بالانفجارات النووية السلمية"، وقد أُجريت حوالي 150 تجربة من هذا النوع بين عامي 1957 و1989 في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وكانت التطبيقات متنوعة، شملت الحفر واسع النطاق لإنشاء الخزانات والقنوات والموانئ وتحفيز استخلاص النفط والغاز، وإنشاء تجاويف لتخزين النفط أو الغاز أو النفايات تحت الأرض، وإطفاء حرائق حقول الغاز، وإنتاج الطاقة عبر الفلوريدات المنصهرة تحت الأرض لإنتاج البخار للكهرباء، وتكسير خام النحاس والفوسفات تمهيدا للتعدين، وغيرها . مشروع خاص جدا ومن أشهر التجارب السوفياتية التي اعتمدت هذه الفكرة مشروع "تايغا"، حيث كان الاتحاد السوفياتي مهووسا بمشاريع البنية التحتية الضخمة التي تُظهر قوته الهندسية، وكان أحد هذه الأحلام بناء قناة تربط نهر بيتشورا في منطقة القطب الشمالي بنهر كاما، الذي يغذي نهر الفولغا، الشريان النهري الرئيسي لروسيا. وكانت هناك أسباب اقتصادية وإستراتيجية مهمة، حيث سيُسهّل هذا المشروع نقل الموارد الطبيعية، كالأخشاب والفحم، من أقصى الشمال إلى وسط البلاد، وسيُوفّر طريقا مائيا أكثر ملاءمة للملاحة، وهو أمر مفيد خاصة مع تجمّد العديد من أنهار سيبيريا شتاء. إلى جانب ذلك، كان لهذا المشروع قيمة عسكرية كامنة، إذ وفّر طريق نقل احتياطيا في حال تهديدات الناتو. إعلان لكن حفر مثل هذه القناة عبر تضاريس نائية ووعرة كان كابوسا من حيث التكلفة واللوجيستيات. وهنا جاء دور القنابل النووية، حيث قرر العلماء السوفيات في أوائل سبعينيات القرن الماضي، اختبار إمكانية استخدام الشحنات النووية لحفر قناة عن طريق تفجير التربة والصخور، وإذا نجح الاختبار ستستخدم 250 قنبلة نووية لحفر القناة. الاختبار الأولي اختير موقع الاختبار في مقاطعة كوستروما، بالقرب من قرية فاسيوكوفو، وهي منطقة هادئة مليئة بالغابات تبعد أكثر من ألف كيلومتر عن موسكو. ووُضعت 3 قنابل نووية تحت الأرض في خط مستقيم، بمسافة 165 مترا بين كل منها، بلغت قوة كل منها 15 كيلوطنا، أي ما يعادل تقريبا قوة القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما، ودُفنت القنابل تحت عمق 127 مترا من الأرض لمنع ظهور سحابة فطر مرئية أو انفجار على مستوى السطح، وسُميت هذه التجربة "تايغا"، في إشارة إلى الغابة الروسية الشاسعة التي نُفذت فيها. وفي 23 فبراير/شباط 1971، فُجرت القنابل الثلاث في آنٍ واحد، اهتزت الأرض بعنف، وتشكلت حفرة هائلة، وأزاح الانفجار ملايين الأطنان من الأرض، تماما كما كان مُخططا له، وترك وراءه منخفضا يشبه الخندق، يبلغ طوله حوالي 700 متر وعمقه 30 مترا، ظل موجودا إلى الآن تحت اسم "البحيرة النووية" ومن وجهة نظر فيزيائية، كان الاختبار ناجحا، فقد فعلت القنابل ما كان من المفترض أن تفعله بالضبط وهو إنشاء قناة. ولكن، على الرغم من ذلك لم تسر الأمور كما هو متوقع، فقد تسربت مواد مشعة من الانفجارات إلى السطح وإلى الهواء، وتلوثت التربة والمياه والنباتات في المنطقة، كما انطلقت غازات مشعة من باطن الأرض عبر الشقوق والصدوع، وإلى جانب ذلك، فقد رصد أثر هذا الإشعاع في الدول المجاورة. كما أن التفجير مثل خيبة أمل هندسية، فعلى الرغم من أن الانفجار أحدث حفرة كبيرة، فإن جدران الحفرة كانت غير مستقرة، والقاع غير مستوٍ، وجعلت التربة الصقيعية والمياه الجوفية في المنطقة من المستحيل مواصلة العمل فيها دون تعزيزات مكثفة. وتسبب ما سبق في توقف المشروع، وأصبحت هذه الحفرة بمثابة تحفة فنية من حقبة الحرب الباردة، أشبه بنصب تذكاري لوقت اعتقدت فيه الحكومات أن القنابل النووية يمكن استخدامها كالجرافات. تجارب حديثة وفي عام 2009، جمع العلماء عينات من التربة والأشنيات (كائنات تعايشية تتكون من ترافق بين الطحالب الخضراء المجهرية وفطريات خيطية) من 6 مواقع مختلفة في منطقة "تايغا" للتجارب النووية، كان الهدف قياس كمية المواد المشعة التي لا تزال موجودة في البيئة بعد عقود من التجربة. ووجد الباحثون بقايا الانشطار الناتج عن الانفجار النووي، مثل السيزيوم-137 واليوروبيوم-155، إلى جانب مواد مشعة أخرى مثل الكوبالت-60 والنيوبيوم-94 والبزموت-207. وكانت نسبة هذه العناصر لا تزال كبيرة، فعلى سبيل المثال احتوى الموقع على ما يصل إلى 700 ضعف من السيزيوم 137 مقارنة بالمستويات الأساسية. وكانت المفاجأة أنه حتى بعد مرور ما يقارب من 40 عاما من هذا التفجير، لا يزال الموقع يعاني من تلوث إشعاعي كبير، وخاصة في التربة. إلى جانب ذلك، لاحظ العلماء أن العناصر المشعة انتقلت إلى الأنظمة البيولوجية -مثل الأشنات، التي خزنتها ضمن عملياتها الحيوية- مما يُظهر تعرضا بيئيا. ولا تزال مستويات الإشعاع في الموقع أعلى بكثير من المعدل الطبيعي، ويجب توخي الحذر عند أي دخول أو استخدام للأراضي في المنطقة. إعلان بقايا الحرب الباردة الأمر لم يقف عند تجارب الاتحاد السوفياتي، كان للولايات المتحدة نسخها الخاصة من هذه التفجيرات، ففي عام 1962، اختبرت الولايات المتحدة مفهوما مشابها في تجربة "سيدان" النووية في نيفادا، والتي أحدثت حفرة هائلة. ومثل تايغا، أنتجت غبارا إشعاعيا، واعتُبرت في النهاية فشلا في البناء. والآن، توقفت إلى حد كبير التفجيرات النووية السلمية في كل العالم تقريبا، بدأ الأمر في عام 1996، حيث اعتمدت الأمم المتحدة معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية. وتحظر هذه المعاهدة جميع التفجيرات النووية، بما في ذلك التفجيرات النووية الشاملة، لأي غرض كان، ورغم عدم تصديق جميع القوى النووية عليها بعد، فإنها رسّخت القاعدة العالمية ضد أي تفجيرات نووية. وتبقى هذه التجارب شاهدا على أن القنبلة النووية كانت دائما خطرا على البشرية، فقدرتها على الهدم والتلويث استثنائية، حتى في الجوانب السلمية. ويرى العديد من العلماء في هذا النطاق أن تلك بالأساس هي المشكلة الأساسية حينما نتحدث عن احتمالات استخدام السلاح النووي، فهي بالفعل ضعيفة لأن امتلاك الكثير من الدول لهذه القدرة المدمرة يمنعها من استخدامها (خشية أن تستخدم ضدها)، إلا أن مجرد وجود احتمال ضعيف -لكنه مدمر للغاية- يظل خطيرا جدا.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store