أحدث الأخبار مع #السياسة_العالمية


صحيفة الخليج
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- صحيفة الخليج
تفكيك المركزية الغربية في فهم العالم
في زمن تتسارع فيه التحولات السياسية وتتشابك فيه الأزمات العابرة للحدود، بات من الضروري مراجعة الأساليب التي ننظر بها إلى العلاقات بين الدول والشعوب، إذ لم يعد كافياً اعتماد منظور أحادي يختزل تعقيد العالم في صيغ جامدة أو نظريات جامعية مغلقة، بل تبرز الحاجة إلى قراءة أكثر انفتاحاً، تنصت للهامش وتعيد بناء الفهم من نقاط الانكسار والاختلاف. يقدّم مجموعة من الأكاديميين المرموقين وهم ريس كريلي، نيفي مانشاندا، لورا ج. شيبرد، كاي ويلكينسون، كايتلين بيدولف، وستيفاني فيشيل كتاب «التفكير في السياسة العالمية بطريقة مغايرة: مقدمة متنوعة للعلاقات الدولية»، في مسعى منهم إلى إعادة رسم خريطة فهمنا للعلاقات الدولية من خلال تجاوز المداخل التقليدية والانفتاح على رؤى نقدية ومتنوعة تم تهميشها طويلاً في الحقل الأكاديمي. ينطلق الكتاب، الصادر حديثاً عن جامعة أكسفورد ضمن 408 صفحات، من فرضية جوهرية مفادها أن حقل العلاقات الدولية، كما تُدرّّس وتُمارَس في معظم الجامعات الغربية، قد تشكل في إطار نظريات ومدارس فكرية غربية المنشأ، أغفلت، بقصد أو بغير قصد، التعدد الهائل في التجارب الإنسانية وأقصت رؤى وأصوات الشعوب المستعمَرة والمهمشة والنساء والبيئة بوصفها فاعلاً في السياسة العالمية وعليه، فإن هذا الكتاب لا يهدف فقط إلى توسيع نطاق المفاهيم والقضايا التي يناقشها طلاب العلاقات الدولية، بل يسعى كذلك إلى تفكيك البنية المعرفية التي قامت عليها هذه الدراسة منذ قرن تقريباً. يتطرق الكتاب ضمنياً إلى سؤال جوهري: من يملك سلطة إنتاج المعرفة في العلاقات الدولية؟ في هذا السياق، يسلّط الضوء على مركزية المعرفة الغربية والتي طالما احتكرت أدوات التحليل والتفسير، مهمّشة التجارب الأخرى بوصفها «خارج النسق» يطالب المؤلفون بإعادة توزيع هذه السلطة المعرفية من خلال الاعتراف بشرعية أصوات من الجنوب العالمي ومن الأقليات والنساء وغيرهم من المهمشين الذين يمتلكون فهماً أكثر قرباً لواقع الظلم والاستعمار والعنف البنيوي. مقاربات متعددة لفهم العالم يقع الكتاب في خمسة أقسام رئيسة، يتناول كل منها مدخلاً منهجياً أو فلسفياً مختلفاً لدراسة السياسة العالمية، يبدأ القسم الأول، الذي يحمل عنوان «معرفة السياسة العالمية»، بمدخل تأسيسي كتبه ريس كريلي، يتبعه نقاشات حول مفاهيم مثل الحياة اليومية، الخطاب، السرد، الممارسة، الرؤية البصرية والمشاعر، بوصفها مدخلات أساسية لفهم السياسات الدولية المعاصرة. تُعدّ الفقرة الخاصة ب«المشاعر» من أكثر الأجزاء إبداعاً، حيث يعيد المؤلفون النظر في الدور المغيّب للعاطفة في فهم العلاقات الدولية، مؤكّدين على أن السياسة ليست دائماً نتاج حسابات عقلانية، بل تتأثر بالخوف والغضب والأمل والحزن. وفي فصل «الرؤية البصرية»، يُناقش كيف أن الصور لا تُنقل فقط الواقع، بل تشكّله أيضاً، مشيراً إلى أن الصور الفوتوغرافية من مناطق النزاع، الإعلانات السياسية، رموز الدول والمنظمات، جميعها تؤثر في تشكيل وعي الجماهير تجاه الأحداث العالمية. ويوضح الكتاب كيف يمكن استخدام هذه الصور لترسيخ علاقات الهيمنة أو على العكس، لتفكيكها وبناء سرديات مقاومة تعيد للضحايا صوتهم وصورتهم. أما القسم الثاني، الذي يقدمه نيفي مانشاندا، فيركّز على المقاربات ما بعد الكولونيالية واللامركزية ويضم دراسات حول الاستعمار الاستيطاني، الاقتصاد العرقي والعلاقات بين الشعوب المهمشة، ضمن طرح يعيد الاعتبار للتجربة الاستعمارية كعنصر حاسم في تشكيل النظام الدولي الحديث. يناقش هذا القسم كيف تظل آثار الكولونيالية حاضرة في المنظومة السياسية العالمية، سواء من خلال أنظمة الحدود، أو توزيع الموارد، أو حتى في طريقة فهم الآخر. ويأتي القسم الثالث للباحثة لورا ج. شيبرد مخصصاً للمقاربات النسوية ويناقش قضايا الامتياز والأمن والاقتصاد السياسي والدولة والنوع الاجتماعي، من خلال تفكيك أنماط التحيز والسلطة القائمة على النوع. يتبع ذلك قسم رابع حول المقاربات الكويرية، يسلط الضوء على الجسد، الدين، العدالة الدولية وحقوق الإنسان من خلال منظور غير معياري، يعيد النظر في بنية «الشرعية» و«المواطنة» في سياقات متعددة. أما القسم الخامس والأخير، «المقاربات الكوكبية»، الذي تقدمه ستيفاني فيشيل، فيأخذنا نحو رؤى بيئية شاملة تدمج بين الإيكولوجيا، العنف البيئي، العدالة الكوكبية والقانون البيئي، يشير هذا القسم إلى أن التحديات الكبرى في عالم اليوم –من التغيّر المناخي إلى الهجرة الجماعية– لم تعد تُفهم بشكل فعَّال من خلال الحدود الوطنية أو المفاهيم الأمنية الضيقة، بل تتطلب تفكيراً عابراً للحدود يربط بين العدالة البيئية والاجتماعية والاقتصادية. إعادة تعريف مفاهيم السياسة العالمية إن أبرز ما يميز هذا الكتاب هو الروح الجماعية التي تحكمه، حيث نقرأ أصواتاً متعددة، من تخصصات وخلفيات جغرافية وثقافية مختلفة، تتضافر لتقديم سردية بديلة للعلاقات الدولية ولا يدَّعي الكتاب امتلاك نظرية بديلة موحدة، بل يدعو القارئ إلى الاعتراف بالتعددية المعرفية والانخراط النقدي مع الواقع العالمي بعيداً عن الانحيازات الإمبريالية والذكورية والعرقية التي لطالما اتسم بها هذا الحقل. يمكن اعتبار هذا الكتاب دعوة مباشرة لإعادة النظر في كيفية تدريس العلاقات الدولية في الجامعات، خاصة في الجنوب العالمي، فهو يرفض نمط التلقين الأحادي للنظريات الغربية ويدعو إلى منهج تحرّري يفسح المجال أمام الطلاب لمساءلة المسلمات والتفكير نقدياً في ما يُقدّم لهم بوصفه «حقائق علمية»، من هذا المنظور، يشكّل الكتاب أداة تعليمية ذات طابع تحويلي، لا مجرد مادة أكاديمية تقليدية. يدفع هذا الكتاب القارئ إلى إعادة النظر في الأسئلة الأساسية التي تؤطر فهمنا للعالم: من يُعرّف السياسة؟ من يُحَدِّد القضايا التي تستحق الدراسة؟ ومن يُقصى من المشهد التحليلي؟ من خلال لغته التحليلية الواضحة ومجموعة مقارباته المتنوعة، يضع الكتاب نصب عينيه ضرورة كسر احتكار المعرفة وفتح المجال أمام مقاربات تعترف بالتجربة الإنسانية في تعقيدها وتعددها. يركّز الكتاب أيضاً على ضرورة إعادة تعريف مفاهيم السياسة العالمية بما يتجاوز التصنيفات الضيقة للدول والأنظمة والمصالح الاستراتيجية، فبدلاً من اختزال السياسة في تحالفات القوى الكبرى أو التنافس الجيوسياسي، يدعو المؤلفون إلى فهم السياسة بوصفها ممارسة يومية تتقاطع فيها الأجساد والحدود والموارد والرموز ويؤكد أن السياسة هنا لا تنحصر في مراكز القرار، بل تمتد إلى مواقع المعاناة، كمعسكرات اللاجئين وحقول النفط والمناطق المنكوبة بالكوارث البيئية، بهذا التوسيع لمفهوم السياسة، يعيد الكتاب الاعتبار للفاعلين غير التقليديين ويعزز فكرة أن كل موقع في العالم –مهما كان هامشياً– يمكن أن يكون مركزاً للتحليل والتفكير السياسي.


الإمارات اليوم
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الإمارات اليوم
محلل: على القادة الأوروبيين رسم مسار مستقل في السياسة العالمية
أوروبا على مفترق طرق، لقد تجاوزنا ذروة التعاون الأمني عبر الأطلسي، فيما تنظر إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى معظم دولنا الأوروبية بمزيج من الازدراء والاستهزاء والعداء الصريح. وعلى أقل تقدير، لم يعد قادة أوروبا يعتبرون الدعم والحماية الأميركية التقليدية متوافرة لهم بعد الآن. وعليهم أن يأملوا الأفضل، وأن يخططوا تحسباً للأسوأ، وهذا يعني رسم مسار مستقل في السياسة العالمية. ليس هذا الوضع خطأ ترامب بالكامل، حتى لو لم يأت للبيت الأبيض، فإن إعادة التوازن الجذري للعلاقات عبر الأطلسي أصبحت أمراً ضرورياً منذ زمن طويل. ونظرة سريعة على الكرة الأرضية تكشف ذلك، فالولايات المتحدة ليست قوة أوروبية، والالتزام العسكري الأميركي الدائم لأوروبا يُمثل شذوذاً تاريخياً وجيوسياسياً، ولا يمكن تبرير التزام باهظ الثمن من هذا النوع إلا في حالة الضرورة الاستراتيجية القصوى، مثل منع أي قوة منفردة من الهيمنة على المنطقة بأكملها. وهذا الهدف الاستراتيجي هو السبب الرئيس في دخول الولايات المتحدة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسبب احتفاظها بقوات كبيرة في أوروبا خلال الحرب الباردة. كانت هذه السياسات منطقية آنذاك، لكن الحرب الباردة انتهت منذ أكثر من 30 عاماً، وانتهت أيضاً مرحلة القطب الواحد منذ بضع سنوات. الناحية المثالية ومن الناحية المثالية، ينبغي على الولايات المتحدة العمل مع أوروبا للتفاوض على تقسيم جديد للمهام، لكي يصبح هذا الانتقال سلساً وفعالاً قدر الإمكان. وستكون قمة «الناتو» المقبلة في يونيو فرصة مثالية لتسريع هذه العملية، خصوصاً إذا اختارت الولايات المتحدة القيام بدور بنّاء. لكن للأسف، لا تعتقد إدارة ترامب أن أوروبا شريك اقتصادي قيّم أو حليف استراتيجي مفيد، بل ترى أوروبا كمجموعة من الدول المتدهورة والمنقسمة والمتراجعة، الملتزمة بالقيم الليبرالية التي يرفضها ترامب والرافضة لحركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى». ويشعر ترامب براحة أكبر مع بعض الزعماء مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أكثر من ارتياحه للسياسيين الأوروبيين، كما أن إدارته أكثر تعاطفاً مع جماعات اليمين المتطرف، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا أو التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان في فرنسا. وأيد ترامب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويعتقد أن الاتحاد الأوروبي شُكّل بهدف «إزعاج الولايات المتحدة»، ويفضل التعامل مع دول أوروبية فردية بدلاً من التعامل مع مسؤولي الاتحاد الأوروبي، الذين يمثلون أوروبا ككل. ويرفض ترامب الأعراف أو القواعد التي قد تتعارض مع أحلامه مثل ضم غرينلاند أو ضم كندا إلى الولايات المتحدة. وباستهداف حربه الجمركية القارة العجوز، فإنه يُصعّب على أوروبا تحقيق أهداف الإنفاق الدفاعي التي يفرضها عليها. حماية المصالح يبدو هذا مُقلقاً من منظور أوروبي، لكن على قادة أوروبا أيضاً أن يتصالحوا مع عجز إدارة ترامب المتأصل، حيث تُعتبر الحرب التجارية الفوضوية أوضح مثال على ذلك، كما يجب ألا ننسى المسؤولين غير المؤهلين الذين عينهم ترامب، فضلاً عن فضيحة «سيغنال جيت» المُحرجة، والهجمات المُستمرة على المؤسسات العلمية والجامعات، والمفاوضات غير الاحترافية مع روسيا وإيران، والفوضى المُتكررة الصادرة من مكتب وزير الدفاع. فإذا اعتقد القادة الأوروبيون أن الأميركيين يعرفون ما يفعلون، فعليهم في هذه الحالة أن يعيدوا النظر في ما يعتقدون. وإزاء هذا الوضع على الأوروبيين أولاً الابتعاد عن الخلاف مع الولايات المتحدة، وإبداء الاستعداد للتفاوض على ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة بروح تعاونية. لكن إذا أصرت واشنطن على افتعال المشكلات معهم، فعليهم الاستعداد للتضحية لحماية مصالح أوروبا. ثانياً، إذا اضطر الأوروبيون لمواجهة إدارة أميركية غير ودية، فمن الأفضل أن يتحدثوا بصوت واحد ويقاوموا مساعي الولايات المتحدة لتفريقهم. وينبغي على أوروبا تنفيذ معظم الإصلاحات الاقتصادية الموصى بها في تقرير قدمه الاقتصادي ماريو دراغي في بروكسل، حول مستقبل القدرة التنافسية الأوروبية، حيث استعرض صورة اقتصاد الاتحاد الأوروبي، كما ينبغي إلغاء حق النقض الذي يسمح للدول الأعضاء عرقلة الإجراءات الضرورية لصالح القارة. وإذا دفع هذا الإلغاء دولاً معارضة مثل المجر إلى الانسحاب من الاتحاد، فقد يكون ذلك من الأفضل للدول المتبقية. بناء القدرات ثالثًا، الأمر لا يتعلق بزيادة ميزانيات الدفاع (مع أن بعض الدول الأوروبية بحاجة إلى إنفاق المزيد)، بل يتعلق بإنفاق اليورو بفاعلية وبناء قدرات ميدانية مستدامة لا تعتمد على الكثير من المساعدة الأميركية. ويُعد هدف وزير الدفاع الأميركي السابق جيمس ماتيس المتمثل في «أربع ثلاثينات» (30 كتيبة، 30 سرباً جوياً، 30 سفينة، جاهزة خلال 30 يوماً) نقطة انطلاق جيدة، لكن أي قوة عسكرية أوروبية موثوقة لا تعتمد على الكثير من المساعدة الأميركية ستتطلب أكثر من ذلك. وكما حذر أستاذ العلوم السياسية في برنامج الدراسات الأمنية بمعهد «ماساتشوستس للتكنولوجيا»، باري بوسن أخيراً، يجب على أوروبا تجنب الانجرار إلى دور حفظ سلام مكلف في أوكرانيا ما بعد الحرب، والتركيز بدلاً من ذلك على تطوير قدرة قوية للأسلحة المشتركة يمكنها التدخل حيثما دعت الحاجة. رابعًا، نظراً لأن المظلة النووية الأميركية تبدو غير موثوقة بشكل متزايد، فقد حان الوقت للأوروبيين لإجراء نقاش جاد ومستدام حول دور الأسلحة النووية في الأمن الإقليمي. وكيفية استجابة الأوروبيين لذلك متروكة لهم بالطبع، لكن لا يمكنهم تجاهله بعد الآن. برأيي الشخصي، لا يتطلب الردع الأوروبي الموثوق مواكبة الترسانات الأميركية أو الروسية، لأن هدفه الأساسي هو ردع أي هجوم واسع النطاق على استقلال الدول الأوروبية الرئيسة، وكل ما يتطلبه ذلك هو قدرة فعّالة على الرد. والخبر السار هو أن المسؤولين الأوروبيين والخبراء الاستراتيجيين بدأوا بمناقشة هذه القضايا، وهو أمرٌ إيجابي. خيارات أوروبية خامساً على الدول الأوروبية تذكير واشنطن بأن لديها خيارات، إذا استمرت في عدائها أو عدم موثوقيتها، وأنها ستعمل مع الآخرين - بما في ذلك الصين - على الرغم من أن للاتحاد الأوروبي مخاوفه الخاصة بشأن التجارة مع الصين، إلا أن الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع بكين، وربما توسيعها، قد يكون ضرورياً إذا أصر ترامب على رفع حواجز التعريفات الجمركية. لطالما اتبعت الدول الأوروبية نهج الولايات المتحدة في حظر تصدير جوانب حيوية من التكنولوجيا المتقدمة، حتى لو تطلب ذلك تكاليف باهظة. على سبيل المثال، اتبعت هولندا نهج إدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، في منعها شركة «إيه إس إم إل» (وهي شركة هولندية) من بيع آلات الطباعة المتقدمة إلى الصين، وقرر عدد من دول الاتحاد الأوروبي حظر تقنية هواوي للجيل الخامس على الرغم من أنها أرخص وأفضل من البدائل. فإذا أصرت إدارة ترامب على التعامل بحزم مع أوروبا في قضايا أخرى، فسيكون على أوروبا أن تمتنع عن اتباع مثل هذا النهج في المستقبل. أخيراً على المدى البعيد ينبغي على الدول الأوروبية استكشاف سبل تخفيف التوتر مع روسيا. لن يكون هذا سهلاً، خصوصاً إذا كان بوتين لايزال يحكم روسيا، لكن الوضع الراهن المتمثل في الشك المتبادل العميق والمواجهة والاضطرابات لن يصب في مصلحة أوروبا. ومع تزايد قوتها العسكرية وتحسن أمنها، ينبغي على الدول الأوروبية أن تظل منفتحة على تدابير بناء الثقة التي تهدف إلى معالجة المخاوف الأمنية المشروعة لكل جانب. وتُذكرنا المبادرات السابقة، مثل عملية هلسنكي ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بأن الانفراج ممكن حتى بين المتنافسين، وينبغي على القادة الأوروبيين المستقبليين أن يظلوا منفتحين على هذا الاحتمال. إستيفن إم والت* *كاتب عمود ومحلل في «الفورين بوليسي» عن «الفورين بوليسي» منافس قوي تُعدّ الصين الآن المنافس الرئيس لأميركا كقوة عظمى، وقوة إقليمية مهيمنة محتملة، وتحتاج الولايات المتحدة إلى تركيز مواردها وطاقاتها المحدودة على منع الهيمنة الصينية في آسيا. والخبر السار هو أنه لا توجد دولة قوية بما يكفي للهيمنة على أوروبا اليوم - ولا حتى روسيا - ما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى تحمل هذا العبء. ويبلغ عدد سكان أوروبا أكثر من ثلاثة أضعاف عدد سكان روسيا، ويعادل ناتجها المحلي الإجمالي تسعة أضعاف ناتج روسيا، كما أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي «الناتو» تنفق أكثر من إنفاق روسيا على الدفاع، على الرغم من أنها لا تنفق هذه الأموال بكفاءة عالية. ولو تم حشد قوتها الكامنة الأكبر كما ينبغي، لاستطاعت أوروبا ردع أو هزيمة أي تحدٍّ روسي مباشر دون مساعدة مباشرة كبيرة من «العم سام». . إدارة ترامب لا تعتقد أن أوروبا شريك اقتصادي قيّم أو حليف استراتيجي مفيد، بل تراها مجموعة من الدول المتدهورة والمنقسمة والمتراجعة. . يجب على الأوروبيين الابتعاد عن الخلاف مع أميركا، وإبداء الاستعداد للتفاوض على ترتيبات أمنية واقتصادية جديدة وبناء قدرات عسكرية.


الميادين
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الميادين
"فورين أفيرز": ما زالت الحرب العالمية الثانية مستمرّة
مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً مطوّلاً يتناول تأثيرات الحرب العالمية الثانية على التاريخ والسياسة العالمية، بدءاً من أسبابها وتفسيرات بداياتها المختلفة، مروراً بنتائجها الإنسانية والسياسية، ووصولاً إلى استمرار تداعياتها حتى اليوم. أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية: نادراً ما يكون التاريخ منظّماً. وغالباً ما يفضي إلى تداخل الزمن مع الأعمال غير المنجزة، التي تتراكم من حقبة إلى أخرى. والحرب العالمية الثانية نموذجية بهذا المعنى، وفي حجم آثارها على حياة الناس ومصائر الأمم. ولقد كانت مزيجاً من العديد من تنوّع الصراعات، من ضمنها الكراهية العرقية والقومية العنصرية التي تصاعدت عقب انهيار 4 إمبراطوريّات وإعادة رسم الحدود في مؤتمر باريس للسلام بعد الحرب العالمية الأولى، حيث زعم عدد من المؤرّخين أنّ الحرب العالمية الثانية كانت مرحلة من حرب طويلة استمرّت من عام 1914 إلى عام 1945 أو حتّى انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، أو أنّها حرب أهلية عالمية، اندلعت في البداية بين الرأسمالية والشيوعية، ثمّ بين (الديمقراطية والاستبدادية). لا شكّ في أنّ الحرب العالمية الثانية جمعت خيوط التاريخ العالمي، بامتدادها القارّي من جهة، وتسريعها إنهاء الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط من جهة أخرى. وبالرغم من هذه التجربة وانخراط الدول في النظام المنبثق عقبها، فقد صاغت كلّ دولة رواية مشاركتها على نحو خاص في الصراع الكبير، وتصرّ عليها. حتّى إنّ مسألة متى بدأت الحرب لا تزال موضع نقاش. ففي السردية الأميركية أنّها بدأت فعلاً عندما دخلت الولايات المتحدة الصراع بعد أن هاجمت اليابان بيرل هاربور في 7 كانون الأوّل/ديسمبر 1941، وحين أعلن الطاغية الألماني أدولف هتلر الحرب عليها بعد بضعة أيام من الهجوم الياباني. كذلك، يصرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنّ الحرب بدأت في حزيران/يونيو 1941، عندما غزا هتلر الاتّحاد السوفياتي، متجاهلاً الغزو السوفياتي والنازي المشترك لبولندا في أيلول/سبتمبر 1939، والذي يمثّل بداية الحرب بالنسبة لمعظم الأوروبيين. كما أنّ البعض يرجعها إلى ما هو أبعد من ذلك. فبالنسبة للصين بدأت في عام 1937، مع الحرب اليابانية الصينية، أو حتّى قبل ذلك مع الاحتلال الياباني لمنشوريا في عام 1931. ويعتقد الكثيرون من اليسار في إسبانيا أنّها بدأت مع إطاحة الجنرال فرانسيسكو فرانكو بالجمهورية في العام 1936، ممّا تسبّب باندلاع الحرب الأهلية في البلاد. ولا تزال هذه الرؤى المتضاربة مصدراً للتوتر وعدم الاستقرار في السياسة العالمية. لقد أنتجت الحرب العالمية الثانية أيضاً توازناً غالباً ما كان متوتّراً بين أوروبا والولايات المتحدة. كما أجبرت طموحات هتلر للهيمنة بريطانيا على التخلّي عن دورها الذي نصّبته لنفسها كشرطي عالمي، والتوجّه إلى الأميركيين طلباً للمساعدة. مع ذلك، كان البريطانيون يفتخرون حقّاً بدورهم في النصر النهائي للحلفاء، لكنّهم حاولوا إخفاء نفوذهم العالمي المتراجع من خلال ترديد المقولة المبتذلة بأنّ المملكة المتحدة تمكّنت من "التفوّق على وزنها"، خلال الحرب، والتمسّك بـعلاقتها الخاصّة مع الولايات المتحدة. كذلك تشرشل كان مستاء من احتمال عودة القوّات الأميركية إلى ديارها بعد انتهاء حرب المحيط الهادئ في العام 1945. وعلى الرغم من أنّ المواقف الأميركية ظلّت تتأرجح بين السعي إلى تأدية دور عالمي نشط والتراجع إلى الانعزالية، لقد أدّى التهديد الذي تشكّله موسكو السوفياتية إلى ضمان بقاء واشنطن منخرطة بقوّة في أوروبا حتّى انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991. الآن دخلت أوّل حرب قارية كبرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية عامها الرابع في أوكرانيا، ويرجع هذا جزئياً إلى القراءة الانتقائية التي ينتهجها بوتين للتاريخ الروسي، بينما تهدّد الصراعات القاتلة في الشرق الأوسط وأماكن أخرى بالانتشار على نطاق أوسع. وفي هذه الأثناء، يبدو أنّ إدارة ترامب تتخلّى عن القيادة العالمية للولايات المتحدة في نوبة غضب مرتبكة. قبل 80 عاماً، مهّدت نهاية الحرب العالمية الثانية الطريق لنظام دولي جديد قائم على احترام السيادة الوطنية والحدود. وقد يأتي موعد دفع ثمن باهظ للتردّد الأميركي، والرضا الأوروبي، والانتقام الروسي. لقد حفرت وحشية الحرب العالمية الثانية في ذاكرة أجيال عديدة. كانت أوّل صراع حديث يقتل فيه الملايين من الضحايا المدنيين الذين يفوقون بكثير عدد المقاتلين. وقد حدث كلّ ذلك من خلال نزع الصفة الإنسانية عن العدوّ على أساس أيديولوجي، وإثارة المشاعر القومية إلى أبعد حدّ، والترويج للعنصرية باعتبارها فضيلة من جانب، والحرب الطبقية اللينينية التي أيّدت إبادة كلّ معارضة من جانب آخر. في المجمل قتل نحو 85 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية، وهو رقم يشمل من لقوا حتفهم بسبب المجاعة والمرض. وقتل ما يقرب من خُمس سكان بولندا، كما فقد ما يقرب من 6 ملايين آخرين. وخسر الصينيون أكثر من 20 مليون إنسان، كما فاق عدد ضحايا المجاعة والمرض عدد القتلى في ساحة المعركة. وتتراوح تقديرات عدد القتلى السوفيات بين 24 مليوناً و26 مليوناً، وستالين كان يعلم في عام 1945 أنّ العدد الإجمالي تجاوز 20 مليون ضحية، بينما اعترف بثلث هذه الخسارة فقط، محاولاً إخفاء حجم الفظائع التي ألحقها بشعبه، بحسب ما أشار الباحث في العلاقات الدولية ديفيد رينولدز، إلى أنّ ستالين "اكتفى بـ 7.5 ملايين قتيل باعتباره رقماً يبدو بطولياً إلى حدّ ما. لا يكفي أن نتذكّر الضحايا، الذين تعمّد من قتلهم إخفاء هوياتهم الشخصية. وبالنسبة لمن نجوا، من أسرى الحرب والمدنيين المحتجزين في المعسكرات، لقد غيّر الصراع حياة الكثيرين منهم بطرق غير متصوّرة. وأغلب من استسلموا لواقعهم كانوا من أوائل الضحايا. أما الناجون على الأرجح، فكانوا ممّن عزموا بشدّة على العودة إلى عائلاتهم، أو التمسّك بمعتقداتهم، أو الشهادة على جرائم شنيعة، بينما لم يتمكّن العديد من الجنود الأسرى الآخرين من العودة إلى ديارهم. ولعقود بعد الحرب، ظلّت ذكرى مآسيها حيّة في قلوب من عاشوها بأنفسهم، بينما تشكّل نظام ما بعد الحرب على أيدي أجيال كان هدفها منع تكرار مثل هذه المأساة. ولكن بالنسبة لأولئك الذين لم يعيشوا هذا الصراع، وينظرون إلى الماضي بعين اليوم، فإنّ عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية قد يكون مجرّد رقم من الصعب عليهم استيعاب حقيقته بأنّ عشرات الملايين من الضحايا قد سقطوا خلاله. إنّ فقدان هذا الارتباط المباشر بالماضي يعني فقدان العزم المشترك الذي أنتج على مدى 80 عاماً سلاماً متواصلاً، وإن كان غير كامل إلى حدّ كبير، بين القوى العظمى. 8 أيار 13:11 7 أيار 10:11 لقد غيّرت الحرب العالم تماماً. وفي الدول المتحاربة، لم يبقَ سوى القليل من الأرواح من دون أن تمسّ. وكثيرات هنّ اللّواتي فقدن خطّابهنّ في الحرب ولم يتزوّجن قطّ، ولم يرزقن بأطفال. كما أنّ الرجال العائدين لم يتمكّنوا من التكيّف مع حقيقة أنّ النساء تولّين إدارة كلّ شيء، ممّا جعلهم يشعرون بالنقص. وكان ردّ الفعل أقوى في أوروبا مثل ألمانيا، حيث سمع الرجال الذين سجنوا خلال الحرب للمرّة الأولى عن عمليّات الاغتصاب الجماعي التي ارتكبها الجيش الأحمر في الغالب. وشعروا بالإهانة لعدم وجودهم هناك للدفاع عن نسائهم. ولم يتحمّلوا معرفة أنّ النساء تعاملن مع الصدمة بالطريقة الوحيدة الممكنة بالتحدّث مع بعضهنّ البعض عنها. وفي فرنسا وغيرها من الدول التي احتلّت، تساءل الرجال العائدون من معسكرات الاعتقال والعمل القسري في ألمانيا كيف تمكّنت النساء اللواتي يفتقرن إلى أيّ مصدر رزق من البقاء على قيد الحياة، وبدأوا يشتبهون في وجود علاقات بينهنّ وبين جنود العدوّ أو تجّار السوق السوداء. وليس من المستغرب، وقد أدّت هذه المسائل إلى فترة رجعية اجتماعية استمرّت طيلة أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. كما استمرّ الصراع السياسي العنيف حتّى بعد انتهاء الأعمال العنفية. وفي آب/أغسطس 1945، بعد انتهاء القتال في المسرح الأوروبي بوقت طويل، بدأ الاتحاد السوفياتي بإطلاق سراح الجنود الإيطاليين الذين أسرهم في المرحلة الأخيرة من حملة دول المحور للسيطرة على ستالينغراد. وقد أعيد هؤلاء الجنود إلى ديارهم من دون ضبّاطهم. لأنّ زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي ناشد موسكو آنذاك في أن تؤخّر عودة الأسرى ذوي الرتب الأعلى الذين قد يدينون الاتحاد السوفياتي علناً، ويضرّون بفرص الحزب في الانتخابات المقبلة. كما تجمّع الشيوعيون في محطّات السكك الحديدية في إيطاليا للترحيب بالجنود العائدين، وكانوا يتوقّعون منهم أن يكونوا أكثر تعاطفاً مع قضيّتهم، لكنهم شعروا بالفزع عندما رأوا الجنود قد كتبوا عبارة "أباسو كومونيزمو" تسقط الشيوعية، على عربات القطار، واندلعت معارك في المحطّات، ووصفت الصحافة الشيوعية العائدين الذين انتقدوا الاتحاد السوفياتي بأيّ شكل من الأشكال بالفاشيين. أزيلت الحدود أو أعيد ترسيمها في أثناء الحرب وبعدها. ولم يعد كثير من النازحين يعرفون جنسياتهم. وهُجّرت أو أخليت أو قتلت أعداد كبيرة من السكّان، بل مدن بأكملها أحياناً دمّرت، على يد الجماعات شبه العسكرية والشرطة السرّية. وفي عام 1939، أُلقي البولنديون فيما أصبح فجأة غرب أوكرانيا في مساحات كازاخستان أو سيبيريا المهجورة، وتركوا ليموتوا جوعاً. وقد احتلّ السوفيات مدينة لفيف البولندية مرّتين، ومرّة واحدة من قبل النازيين، الذين أرسلوا يهودها إلى معسكرات الموت. وفي مؤتمر يالطا في شباط/فبراير 1945، حيث اجتمع قادة بريطانيا والسوفيات والولايات المتحدة لمناقشة تنظيم أوروبا ما بعد الحرب، أجبر ستالين القوى المتحالفة على قبول نقل بولندا بأكملها إلى الغرب، واستقبال المقاطعات الألمانية السابقة على الجانب الغربي بينما يستوعب الاتحاد السوفياتي المقاطعات البولندية إلى الشرق. ولإكمال تنفيذ هذه الخطة، قام الجيش الأحمر بأكبر عملية تهجير قسري ممنهجة للسكان في العصر الحديث، حيث نقل أكثر من 13 مليون ألماني وبولندي وأوكراني من مناطقهم. مع استمرار مناقشات يالطا في مؤتمر بوتسدام في آب/أغسطس 1945، تكشّفت رغبة ستالين في توسيع الأراضي السوفياتية بوضوح، حيث أبدى اهتماماً بتولّي السيطرة على المستعمرات الإيطالية السابقة في أفريقيا، واقترح إزاحة فرانكو في إسبانيا. "يجب أن يكون من الجيد جدّاً أن تكون في برلين الآن بعد كلّ ما عاناه بلدك"، قال السفير الأميركي أفريل هاريمان لدى الاتحاد السوفياتي، لستالين الذي نظر إلى السفير من دون تغيير بتعابيره، وقال: "ذهب القيصر ألكسندر إلى باريس"، ولم يكن يمزح أنّه في العام السابق، صدرت أوامر القيادة السوفياتية بوضع خطط لغزو فرنسا وإيطاليا والاستيلاء على المضيق بين الدنمارك والنرويج. وفي عام 1945، أخبر الجنرال السوفياتي سيرجي شتيمينكو سيرغو بيريا، الذي كان والده قائداً للشرطة السرية السوفياتية المخيفة خلال عهد ستالين، "كان من المتوقّع أن يتخلّى الأميركيون عن أوروبا التي سقطت في الفوضى، بينما تصاب بريطانيا وفرنسا بالشلل بسبب مشكلاتهما الاستعمارية". عليه اعتقد القادة السوفيات أنّ هذا خلق فرصة وثغرة. وفقط عندما علم السوفيات أنّ الولايات المتحدة كانت على وشك بناء القنبلة الذرّية، تراجعوا عن الخطط، حتّى لو لم تكن شهية موسكو للتوسّع كذلك. أيضاً أطلقت الحرب العالمية الثانية فجر العصر النووي، واختراع القنبلة الذرية المرعبة للعالم الذي اعتبر القصف الأميركي لهيروشيما وناغازاكي جريمة حرب. ومع ذلك، فإنّ استهداف هاتين المدينتين اليابانيتين في آب/أغسطس 1945، تضمّن خياراً أخلاقياً ثقيلاً. وقبل أن يسرّع القصف نهاية الحرب، أراد الجنرالات اليابانيون القتال بدلاً من قبول شروط الاستسلام الصادرة عن قوّات الحلفاء في إعلان بوتسدام في تموز/يوليو 1945. وقد كانوا مستعدّين للتضحية بملايين المدنيين اليابانيين من خلال إجبارهم على مقاومة غزو الحلفاء بحراب الخيزران والمتفجّرات المربوطة بأجسادهم. وبحلول عام 1944، كان نحو 400 ألف مدني يموتون شهرياً من المجاعة في مناطق شرق آسيا والمحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا التي احتلتها القوات اليابانية. كذلك أراد الحلفاء أيضاً إنقاذ أسرى الحرب الأميركيين والأستراليين والبريطانيين الذين كانوا يتضوّرون جوعاً حتّى الموت في المعسكرات اليابانية، أو يذبحون من قبل خاطفيهم بناء على أوامر طوكيو. فعلى الرغم من أنّ القنبلة الذرية أودت بحياة أكثر من 200 ألف ياباني، إلّا أنّ هذا السلاح الرهيب ربّما أنقذ الكثير أيضاً في مفارقة أخلاقية مثيرة. للأفضل أو للأسوأ لقد أعادت الحرب العالمية الثانية ضبط مسار السياسة الدولية. ومهّدت هزيمة اليابان الطريق في النهاية لصعود الصين الحديثة. كما كان انهيار الإمبراطوريات البريطانية والهولندية والفرنسية في عامي 1941 و1942 بمثابة نهاية الإمبراطورية الأوروبية، وحفّزت التحرّك نحو التكامل السياسي في القارّة بدل الحروب. كذلك تمّت ترقية كلّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى مكانة القوى العظمى، وأطلقت منظمة الأمم المتحدة التي كانت أهدافها الرئيسية هي حماية سيادة البلدان وحظر العدوان المسلح والغزو الأراضي. ولقد كانت الأمم المتحدة إلى حدّ كبير حلم الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، الذي كان مستعدّاً للسماح لستالين بالسيطرة الكاملة على بولندا لتحقيق ذلك. ومع ذلك، منذ نحو شهرين أدارت الولايات المتحدة ظهرها للمبادئ التأسيسية للأمم المتحدة، وصوّتت إلى جانب روسيا ورفضت إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا، كما أدّت الحرب العالمية الثانية أيضاً إلى الحرب الباردة. يقول بعض المؤرّخين إنّ هذا الصراع الجديد بدأ في عام 1947 مع اتّفاقية كلاي روبرتسون، حين قرّرت السلطات البريطانية والأميركية تصنيع ألمانيا الغربية، ممّا أثار جنون العظمة لدى ستالين. شهد ذلك العام بالتأكيد تصاعداً في التوتّرات، حيث أصدر ستالين أمراً للأحزاب الشيوعية الأوروبية بتحضير أسلحتها استعداداً لحرب مستقبلية، ووضع الأساس للحصار السوفياتي لبرلين في العام التالي. لكنّ المسألة تعود في أصولها إلى أبعد من ذلك بكثير، ففي حزيران/يونيو 1941. كان ستالين قد أصيب بصدمة بسبب عملية بربروسا، الغزو الذي قاده النازيوّن ضدّ بلاده الذي بدأ في ذلك الشهر. لذلك أصبح مصمّماً على إحاطة نفسه بدول تابعة في جميع أنحاء وسط وجنوب أوروبا، حتّى لا يتمكّن أيّ غاز من مفاجأة الاتحاد السوفياتي مرّة أخرى. لعدة قرون كانت روسيا مهووسة بالسيطرة على جيرانها لمنع تطويقها. وكان جدار الصدّ لستالين هو بولندا. ولقد حافظ بوتين على هذه العقلية الأساسية، وبالنسبة له فإنّ الحدود الأكثر ضعفاً في البلاد هي أوكرانيا، التي يجادل بأنّها تنتمي إلى روسيا. وعندما تصرّف بوتين بناء على هذا الادّعاء بغزو أوكرانيا في العام 2022، أعاد سمة من سمات حقبة الحرب العالمية الثانية التي كانت غائبة إلى حدّ كبير في السياسة العالمية منذ ذلك الحين. وقد شكّل القادة من خلال الأنظمة التي سيطروا عليها مسار هذا الصراع الواسع. من تشرشل إلى روزفلت إلى ستالين، لقد أعادت مكائدهم تنشيط الفكرة في الخيال الشعبي لـ "الرجل العظيم" الذي يقود مجرى التاريخ. وفي السنوات الأخيرة، كان للقادة السياسيين تأثير أقلّ نسبياً. فالنظام الاقتصادي المعولم يقيّد إلى حدّ كبير حرّية عملهم، كما أنّ التفكير المستمرّ في كيفية تأثير القرار في وسائل الإعلام يجعل العديد منهم أكثر حذراً في جرأتهم. ولزمن طويل بدا الأمر كما لو أنّ القادة السياسيين لن يستطيعوا تحديد مسار الأحداث مرّة أخرى بالطريقة التي فعلوها في الحرب العالمية الثانية. لكنّ غزو بوتين لأوكرانيا غيّر كلّ ذلك، بينما الرئيس ترامب يرى في الرئيس الروسي نموذجاً يحتذى به. الآن، وبينما تستعدّ روسيا للاحتفال بيوم النصر، فإنّ بوتين مصمّم على حلب قصّة "الحرب الوطنية العظمى" لبلاده بكلّ ما تستحقّه. قد يعيد اسم مدينة فولغوغراد إلى ستالينغراد الذي غُيّر في عام 1961 كجزء من حملة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لإنهاء الستالينية، وتسليط الضوء على انتصار الجيش الأحمر في نهاية المطاف على دول المحور في معركة ستالينغراد في عام 1943، وهي نقطة التحوّل النفسي الكبرى للحرب. في الحقيقة، لا توجد مجموعة واحدة من الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الحرب العالمية الثانية. فالحرب تتحدّى التعميم ولا تندرج في تفسيرات سهلة. وتحتوي على قصص لا حصر لها عن المأساة والفساد والنفاق والهوس الأناني والخيانة والخيارات المستحيلة والسادية التي لا تصدّق. لكنّها تحتوي أيضاً على قصص عن التضحية بالنفس والرحمة، حيث التشبّث بإيمان أساسي بالإنسانية، على الرغم من الظروف المروّعة والقمع الساحق. نقله إلى العربية: حسين قطايا.


الشرق الأوسط
٠٨-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الشرق الأوسط
معادلة الربح بعدم الخسارة!
يقول كثير من الدراسات العسكريّة والاستراتيجيّة إن اللاعب من خارج إطار الدولة يربح عندما لا يخسر، وتخسر الدولة عندما لا تربح. ترتكز هذه النظريّة على المنطق التاليّ: لا مُسلّمات تُلزم اللاعب من خارج إطار الدولة بتقديم بيانات تقيس نصره أمام مجتمعه، وحتميّة تحويلها إلى مكاسب سياسيّة. بكلام بسيط جداً، لا يوجد من يُحاسب أو يُراقب هذا اللاعب. وعادةً، ترتكز ديمومة هذا اللاعب على العناصر التالية: الحاجة إلى ملاذ آمن، وضرورة توفّر راعٍ خارجيّ يموّله بكلّ ما يلزم، كما وجوب توفّر قائد كاريزماتي عقلاني مستعد لاستعمال العنف حتى ضدّ مجتمعه. بعد سقوط الدبّ الروسيّ، والحرب الكونيّة على الإرهاب بعد كارثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001، بدأ اللاعب من خارج إطار الدولة يؤدي دوراً مهمّاً في السياسة العالميّة، مثله مثل باقي الدول ومن كل الأوزان. ألم تُغير «11 أيلول» الديناميكيّة العالميّة؟ ألم تتحرك أميركا إلى حرب كونيّة على الإرهاب كان مسرحها الأساسيّ منطقة الشرق الأوسط؟ قبل «11 أيلول»، لم يسيطر اللاعب من خارج إطار الدولة على الأرض والمساحة. بل كان لاعباً غير منظور-شبح، لا يمكن قياس النجاح عليه. فاغتيال قائد مهم له مثلاً، لم يكن يعني سقوطه كتنظيم. لكن بعد تحوّله للسيطرة على الأرض، وإنشاء كيانات مماثلة لكيانات الدولة، أو الخلافة، أصبح هذا اللاعب هشّاً، يمكن عدّه وحدّه وقتاله بطريقة تقليديّة وقياس النجاح عليه. هكذا كان الأمر مع تحوّل تنظيم «القاعدة» إلى «داعش»، وإعلان الخلافة. وهكذا كان الأمر بعد تحوّل «حزب الله» اللبنانيّ من قتال حرب العصابات إلى السيطرة على الأرض بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وتشكيله دولة ضمن الدولة (لاعب هجين)، وذهابه إلى سوريا للقتال هناك. ينسحب هذا الأمر على حركة «حماس»، لكن بالطبع مع الاعتراف بأن ظروف كل لاعب مختلفة عن الآخر، حتى ولو جمع ما يُسمّى مبدأُ «وحدة الساحات» كلاً من «حماس» و«حزب الله». في كثير من خطبه، كان أمين عام «حزب الله» السابق حسن نصر الله، يُردّد: «إننا نربح إذا لم نخسر». وهذا يعني القدرة على الصمود أمام عدوّ قويّ جدّاً، باعتماد الحرب اللاتماثليّة، ومع القدرة على التعويض، وإعادة بناء القوّة بعد توقّف الحرب. حصل هذا الأمر فعلاً بعد حرب يوليو (تمّوز) 2006. ينسحب هذا الأمر على حركة «حماس» في قطاع غزّة. فهي خاضت كثيراً من الحروب المحدودة ضد الجيش الإسرائيليّ، لكنها استطاعت الصمود، والتعويض بعد كل جولة قتال. غيّرت مفاجأة 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 كل الديناميكيّة، كما كل المعادلات والمفاهيم التي كان يعتمدها اللاعب من خارج إطار الدولة في استراتيجيّة قتاله. لكن كيف؟ يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجاك، في معرض تحليله مكونات المعادلة الجدليّة (Dialectic) التي وضعها الفيلسوف الألماني هيغل، التي تقوم على الأطروحة، نقيض الأطروحة، والتوليف (thesis,antithesis, synthesis)، إنه لا يمكن تغيير مكونات هذه المعادلة. لكن جُلّ ما يمكن فعله هو التأثير في الأطروحة، أو نقيضها، كي نؤثّر في النتاج أو التوليفة. وإذا رأينا أن اللاعب من خارج الدولة يربح إذا لم يخسر، وتخسر الدولة التي حاربته إذا لم تنتصر، فكيف لإسرائيل أن تُغيّر نتاج أو توليفة هذه المعادلات؟ استناداً إلى تحليل الفيلسوف سلافوي؛ عمدت إسرائيل إلى رفع مستوى الخسارة لدى أعدائها إلى درجة، لا يمكن لهم التعويض في وقت قصير، والتحضير لجولة قادمة. وبذلك، تتغيّر معادلة «نربح إذا لم نخسر»، فقط لأن إسرائيل انتقلت في مقاربتها العسكريّة من ترميم الردع، إلى الردع العقابيّ-النكبويّ. في الختام، إذا رأينا أن السلاح النوويّ هو الرادع الأساسيّ لمنع قيام حروب مباشرة بين القوى العظمى، وإذا رأينا أنه بسبب هذا السلاح تتّجه القوى العظمى إلى الحروب بالوساطة، وعبر الوكلاء، فماذا سيحصل إذا قرّرت الصين استرداد جزيرة تايوان بالقوة العسكريّة؟ خصوصاً أن هذه الجزيرة تشكّل جوهرة التاج في الاستراتيجيّة الأميركيّة لاحتواء الصين؟