منذ 10 ساعات
تأمُّلات لغويةأنا موجود أم متواجد؟!
سؤالٌ دقيقٌ ومهم، قد أثار هذا الاستعمال جدلًا قديمًا بين اللغويين والمعاصرين، في ميدان اللغة الفصحى الرسمية مقابل اللغة المتداولة المعاصرة.
ولحسم المسألة لابد من النظر في جذور المفردات، فالأصل اللغوي لـ (التواجُد): مأخوذ من الوجد، وهو الحزن أو الحب أو الانفعال الشديد، وقد استُخدم عند الصوفية بمعنى إظهار الوجد والتأثر الروحي. يقولون: 'تواجَدَ فلان'، أي أظهر الوجد.
لذلك يرى كثير من اللغويين القدماء أن استعمال (تواجَد) بمعنى (وُجِدَ في مكان) غير صحيح؛ لأنه خروج عن المعنى الأصلي للكلمة.
وقد أنكر هذا الاستعمال مجمع اللغة العربية بالقاهرة في قراراته القديمة، وقال: 'لا يجوز أن يُقال: أنا متواجد في المكان الفلاني، بل الصواب: موجود'.
والسؤال هنا: هل الإنكار مطلق؟
هنا نأتي إلى الجانب الآخر من المسألة، وهو: اللغة بطبيعتها كائن حيّ، تستعمل وتتطور، وقد يقع في اللغة ما يسمى بـ تطوّر المعنى (semantic shift)، إذ تُستعمل الكلمة في غير معناها الأصلي ثم تشيع حتى تُقبَل عرفًا واصطلاحًا.
ففي الاستعمال المعاصر، أصبحت كلمة (متواجد) شائعة جدًا بمعنى (موجود)، خصوصًا في لغة الإعلام والتقارير اليومية، مثلاً: (الضيف متواجد في القاعة)، إلى درجة أن كثيرًا من الناس لم يعودوا يفهمون من 'التواجد' سوى معنى الحضور المكاني.
إذن، ما الموقف اللغوي السليم؟
هناك ثلاث مستويات للفهم:
(تواجُد) لا تعني الحضور المكاني، بل تعني إظهار الوجد والانفعال، واستعمالها في غير هذا المعنى خطأ.
ما زال يُفَضَّل استعمال (موجود) بدلاً من (متواجد) في الخطابات الرسمية والأكاديمية.
شاع استخدام (متواجد) بمعنى (موجود)، وأصبح مستساغًا عند عامة الناس، بل حتى في بعض الإعلام الرسمي.
ما الحل أو 'المخرج اللغوي'؟
إذا أردت أن تبرّر هذا الاستعمال من زاوية لغوية، فلك أن تقول:
(التواجُد) من باب التفاعل، ويمكن تأويله بأنه السعي إلى إظهار الوجود أو تأكيده أو الاستمرار فيه، مما قد يختلف عن مجرد الوجود (الساكن) ويشير إلى نوع من النية أو التفاعل مع المكان. وهذا من باب المجاز اللغوي أو التطور الدلالي، وقد شاع استخدامها حتى أصبحت مفهومة ومقبولة عرفًا، وإن كانت غير أصيلة في الفصحى. وهذا تأويل مقبول عند بعض المعاصرين، لكنه يبقى اجتهاديًّا.
الخلاصة:
•إن أردت الدقة والالتزام بالفصيح: قل موجود.
•إن تكلمت بلغة الناس أو في الإعلام أو السياق العادي: 'متواجد' أصبحت مقبولة عرفًا، ولو أنك لو قلت 'موجود' فأنت أكثر ضبطًا.
•الإنكار من بعض اللغويين صحيح من جهة الأصل اللغوي، لكنه لا يُلزم في الاستعمال العام اليوم، خاصةً مع تطوّر اللغة.
المراجع:
• رأي مجمع اللغة العربية بالقاهرة: في قرارات المجمع (في دورته الثانية عام 1936)، ورد التالي: 'يخطئ العامة في استعمال (متواجِد) بدلًا من (موجود)، لأن التواجُد في اللغة معناه التظاهر بالوجد، أي الحزن أو الحب أو الانفعال، وهو غير الوجود المكاني.' ملحوظة: هذا القرار لا يزال يُستشهد به إلى اليوم في كتب التصحيح اللغوي.
• من معجم 'لسان العرب' لابن منظور: 'الوجد: الحزن، وقد وجد وجدًا، و(التواجُد): إظهار الوجد، لا الوجد الحقيقي.' وهذا المعنى هو ما اعتمده الصوفية في مصطلحاتهم الروحية.
• من 'المعجم الوسيط' (الطبعة الحديثة بإشراف مجمع اللغة):
• تواجَدَ: أظهرَ الوجدَ.
• المُتواجِد: المُظهر للوجد.
ولم يذكر إطلاقًا معنى 'الحضور المكاني' أو 'الوجود في المكان'.
• في 'المعجم العربي الأساسي' الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بدأ يظهر هذا الاستخدام:
'تواجَد في المكان: كان حاضرًا فيه' (مع ملاحظة أن هذا المعجم موجه للناطقين بغير العربية، ويميل إلى توثيق الاستخدامات الشائعة أكثر من الالتزام بالفصيح الصرف).