أحدث الأخبار مع #القرن_السادس_عشر


الجزيرة
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
في نقد يسار اليسار ونظرية عالم بلا أسوار
تُعَدّ حركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية من أبرز المحطات التاريخية التي أسهمت في تشكيل ملامح الفكر الغربي الحديث، إذ فتحت الباب أمام نقد السلطة الدينية، وأرست مفاهيم الفردانية والحرية الدينية. ومع ذلك، فإن تطوّر الفكر الغربي الحديث لم يكن حصيلة هذه الحركة وحدها، بل جاء نتيجة تراكمات أوسع، شملت عصر النهضة، والثورة العلمية، والتنوير. ومع مرور الزمن، بات اليسار الغربي، الذي انطلق في بداياته من منطلقات إنسانية وأخلاقية، عرضة لاختطافٍ من قبل تيارات راديكالية، دفعت به نحو مطالبات تتناقض مع كينونة الإنسان، وتفكّك البنى الأخلاقية والمجتمعية التي شكلت أساس المجتمعات الغربية، تحت شعار "عالم بلا أسوار". بنى التيار اليساري، في معركته ضد المؤسسة الدينية والسلطوية، سرديته على قيم الفردانية والعدالة والمساواة. ومع مرور العقود، تطورت هذه السردية، وبدأت تنحرف عن اعتدالها اليسار والطريق نحو الفردانية بنى التيار اليساري، في معركته ضد المؤسسة الدينية والسلطوية، سرديته على قيم الفردانية والعدالة والمساواة. ومع مرور العقود، تطورت هذه السردية، وبدأت تنحرف عن اعتدالها، متأثرة بالتحولات الفكرية والمدارس الفلسفية التي بالغت في تمجيد الفرد على حساب الجماعة، حتى وصلنا اليوم إلى لحظة مفصلية، يشهد فيها اليسار الراديكالي حالة من الانحدار القيمي. إذ تحوّل من مدافع عن الحريات والحقوق إلى حامل لأفكار مثيرة للجدل اجتماعيًّا، تقوم على فردانية متطرفة، خالية من أي جذور مرجعية مستقرة، ومنفصلة عن روح المجتمع ومسؤولياته. اليافعون وضبابية الهوية في الخطاب الراديكالي منذ ظهور اليسار الحديث، كان الشباب واليافعون أكثر الفئات تأثرًا بخطابه، نظرًا لما يمتازون به من توق إلى التغيير، وسرعة في تقبّل الجديد. هذه القابلية جعلتهم في مرمى خطاب اليسار الراديكالي، لا سيما في قضايا ذات طابع هوياتي معقّد، وهي التي يُروَّج لها اليوم ضمن سرديات الحرية الفردية والحقوق الجندرية، ما ولّد لدى بعض اليافعين مفاهيم ضبابية عن الذات، وهويات مشوشة لا تستند إلى مرجعية مجتمعية واضحة، وهذا أدى إلى حالة من التنافر مع المحيط الاجتماعي، وارتباك في التوازن بين الخصوصية الفردية والمسؤولية الجماعية. تصدُّر فصيل من اليسار المتطرف للمشهد اليومَ جعله رمزًا لفكر منفلت، بلا قيود ولا ضوابط، وفردانية مفرطة تسعى لهدم ما تبقى من أسوار معنوية تحفظ للإنسان إنسانيته المساواة بين الجنسين: من الشراكة إلى التنميط لطالما تبنّى اليسار خطاب المساواة بين الجنسين، وساهم في تمكين المرأة وتعزيز مشاركتها في المجتمع، وهو إنجاز لا يُنكر. غير أن اليسار الراديكالي شوّه هذه المكاسب، من خلال خطاب إعلامي ونظري يُروّج لمساواة مطلقة تتجاهل الفروق البيولوجية والنفسية، وتسعى إلى تنميط الأدوار الإنسانية تحت مبدأ "التماثل الكامل". المفارقة أن هذا الخطاب، في كثير من الأحيان، ترافق مع ارتفاع معدلات العنف ضد النساء، وتزايد حالات الاستغلال والاعتداء، ما يطرح تساؤلات جادة حول فاعلية هذه الأطروحات في تحسين واقع المرأة، بل وقد يُظهر أنها أضرت بها أكثر مما أفادتها. يُقال إن كل شيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده، ويبدو أن هذا ما حدث مع اليسار في نسخته الراديكالية، التي أضرت باليسار المعتدل ذاته، وشوّهت صورته الفكرية والتاريخية. فقد كان لهذا التيار -في لحظة ما- دور في إخراج الغرب من جمود الفكر وسلطة الكهنوت، غير أن تصدُّر فصيله المتطرف للمشهد اليومَ جعله رمزًا لفكر منفلت، بلا قيود ولا ضوابط، وفردانية مفرطة تسعى لهدم ما تبقى من أسوار معنوية تحفظ للإنسان إنسانيته. المطلوب اليوم ليس تبنِّي هذا الخطاب أو الترويج له، بل إعادة التوازن للعقل الغربي، عبر شراكة عقلانية بين يمين اليسار ويسار اليسار المعتدل، تحافظ على المكتسبات، وتمنع الانزلاق نحو التطرف بجميع صوره.


الجزيرة
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- الجزيرة
التركية الرقمية: تراث الشعر العثماني في عصر التكنولوجيا الحديثة
تخيل أنك تتجول في قلب إسطنبول في القرن السادس عشر، حيث تتسلل روائح القهوة المحمصة من آنية نحاسية مزخرفة بفنون الطبخ العثماني، بينما تبهرك قباب المساجد المزينة بخطوط ذهبية، وتتردد أصداء مطرقة تشكل المنمنمات الدقيقة على مخطوطة تضيء ركنًا من سوق مزدحم. في تلك اللحظة، كان الوقف العثماني ينسج لوحةً حية من المعمار الشامخ والفنون المتعددة -من المدارس التي تعلم الخط إلى السبل التي تروي العطشى- في إمبراطورية تمتد كأجنحة نسر من فيينا إلى بغداد.. لم يكن أولئك الحرفيون والواقفون يعلمون أن هذا الإبداع الثقافي، المزروع في تربة الأصالة والثقافة المحلية، سيحلق يومًا عبر شبكات رقمية، يعيد إحياء التراث في عصر تضيء فيه الشاشات دروب الإلهام. بعد رحلة عبر السلسلة، استكشفت الهوية والقيم والتراث كجسور ثقافية، نصل إلى محطتنا الأخيرة: كيف تحيي الثقافة العثمانية أصالتها بأدوات التكنولوجيا الحديثة؟ هنا يتجلى السؤال: كيف تصبح هذه الفنون نقطة إلهام تحرر الثقافة المحلية نحو العالمية؟ ملحمة "كتاب دده قورقود" -وهي من أوائل الأعمال الأدبية في التراث التركي الذي تبناه العثمانيون- تروي قصص أبطال يقاتلون التنانين والأعداء، كقول دده قورقود: "السيف في يد الرجل كالروح في جسده" حكاية تاريخية: الشعر كمرآة للإمبراطورية الجماليات العثمانية كانت مزيجًا فريدًا يجمع بين التصوف العميق، وروح المحارب الباسل، وثقافة الوقف الإسلامي، وهي ثلاثية شكلت هوية الإمبراطورية متعددة الأوجه. في جانب التصوف، كان الشعر مرآةً للروح، متأثرًا بالطرق الصوفية مثل المولوية والنقشبندية. يونس إمري كتب: "أنا لست أنا، أنا الحقيقة التي تسكنني"، معبرًا عن فناء الذات في الحب الإلهي، بينما جسد رمز "العين والدمعة" عند باقي رحلة العاشق الصوفي نحو الوحدة الكونية، حيث العين هي الحبيب الإلهي والدمعة هي دموع التوق.. فضولي -حتى في غزلياته- كان يخفي معاني تصوفية، كأن الحبيب الأرضي ظل للجمال الأعلى. وفي جانب المحارب، كان الشعر العثماني يرن بصدى السيوف والفتوحات، معبرًا عن ثقافة قتالية شكلت جوهر الإمبراطورية. ملحمة "كتاب دده قورقود" -وهي من أوائل الأعمال الأدبية في التراث التركي الذي تبناه العثمانيون- تروي قصص أبطال يقاتلون التنانين والأعداء، كقول دده قورقود: "السيف في يد الرجل كالروح في جسده". و"ملحمة كوروغلو" تمجد المحارب الثائر، الذي يرفع راية العدالة ضد الظلم، بأبيات تتغنى بالشجاعة والتضحية. حتى في قصائد الديوان، كان الشعراء يُدخلون رموز الحرب، كالسيف والحصان، ليمتزج القتال بالروحانية، كما في قول نفي: "قلبي ميدان، والحب سيف يقطعني". أما الوقف الإسلامي، فكان سمةً ثقافية مميزة للعثمانيين، حيث دعم الأوقاف للمدارس، والمستشفيات، ومجالس الشعر، كما في وقف "والدة عتيق" بإسكودار الذي شمل تدريس الأدب والفنون. هذه الثقافة العطائية لم تتلاش، بل تتجلى في الفضاء الرقمي كجزء من الذاكرة الثقافية. منصة "وقفي" السعودية، المستلهمة من التراث الإسلامي الذي ازدهر في العصر العثماني، تشجع على إنشاء أوقاف رقمية لدعم التعليم والمجتمع، معيدةً إحياء فكرة الوقف التي كانت تغذي المدارس والفنون في إسطنبول القديمة. بينما يعيد مشروع "مكتبة السليمانية الإلكترونية" تقديم وثائق الأوقاف مع شروحات تفاعلية، كأن روح الوقف تعود لتحيي المعرفة كما فعلت في مجالس السلاطين. حتى على منصة X، تعاد مشاركة قصص أوقاف مثل "وقف المكفوفين" -الذي كان يعيّن قارئًا لكل ضرير-، كتعبير عن التكافل الذي يتردد صداه في الشبكات الاجتماعية. تحليل عميق: الجماليات والرمزية في زمن الشبكات الجماليات العثمانية، التي نُسجت قديمًا من خيوط التصوف وخفقات المحارب، تتجلى اليوم في الفضاء الرقمي كمرآة تعكس تنوع الإمبراطورية بألوان جديدة. في عالم الشبكات، تتحول الروحانية الصوفية إلى تجارب بصرية وسمعية تحاكي الرقصات الدائرية للدراويش، حيث تصبح الأبيات أكثر من مجرد كلمات مكتوبة، تصبح لحنًا يتردد في مقاطع فيديو تعيد تشكيل التأمل بإيقاعات معاصرة. على الجانب الآخر، تحيي روح المحارب الباسل عبر عوالم افتراضية، تعيد إحياء المعارك بتقنيات ثلاثية الأبعاد، حيث تتحول السيوف إلى أيقونات رقمية تلهم الجماهير لتعيد كتابة البطولة بلغة التفاعل السريع. هذا التكامل يتجسد في منصات تحول النصوص إلى "شعر بصري" يمزج بالصور المتحركة، أو صفحات اجتماعية تطلق هتافات رقمية تعيد إحياء رموز الشجاعة كالخيول الجامحة. لكن التحدي يظل قائمًا: كيف تحافظ الروحانية على عمقها في زمن يطالب بالتأمل بينما تتسارع الخوارزميات؟ وكيف تبقي البطولة على حماسها دون أن تتحول إلى مجرد لعبة عابرة؟ في هذا التوتر بين التأمل والسرعة، تكمن فرصة الثقافة العثمانية لتعيد صياغة جمالياتها، مثبتةً أن الرمزية يمكن أن تتكيف دون أن تفقد جذورها. دراسة حالة: "Osmanlı Tarihi".. البطولة العثمانية في الفضاء الرقمي في أوائل عام 2023، أطلقت لعبة "Osmanlı Tarihi" كسيف رقمي يقطع ظلام النسيان، معيدًا إحياء الملاحم العثمانية في عالم يعج بالشاشات. لم تكن مجرد لعبة إلكترونية، بل تجربة تفاعلية استلهمت "كوروغلو" و"دده قورقود" لتعيد بناء المعارك التاريخية بتقنيات ثلاثية الأبعاد، تحاكي أصوات السيوف وضربات الخيول على أرض الأناضول. بحلول نهاية العام، سجلت اللعبة أكثر من 2 مليون تحميل عبر منصات مثل Steam وGoogle Play، وفق تقارير المطورين، حيث اجتذبت 65% من اللاعبين من تركيا و15% من جمهور عالمي مفتون بالتاريخ العثماني، بينما شكل الشباب تحت 30 عامًا 70% من قاعدتها. اللعبة، التي صممت بميزانية تجاوزت 3 ملايين دولار، حققت تفاعلاً هائلاً على X، حيث بلغت مشاركات #OsmanlıTarihi نحو 300 ألف تغريدة خلال الأشهر الستة الأولى، مع تعليقات مثل "أشعر بأنني كوروغلو يقاتل من جديد". لكن التحدي ظهر جليًّا: دراسة حديثة من جامعة بوغازيتشي (2024) كشفت أن 70% من اللاعبين يفضلون التجربة الرقمية دون العودة إلى النصوص الشعرية الأصلية التي ألهمت اللعبة، ما يظهر كيف تحلق البطولة العثمانية في الفضاء الرقمي، لكنها تواجه مخاطر فقدان العمق الأدبي. "Osmanlı Tarihi" دليل على أن الثقافة المحلية، عندما تُحتضَن بالتكنولوجيا، تصبح بوابةً للتواصل العالمي. أفكار عملية مبدعة: إحياء الشعر العثماني رقميًّا تخيل أنك تجلس على ضفاف البوسفور الرقمي، تفتح تطبيق "ديوان العصر" الذي يهمس لك بأبيات تترنح على إيقاعات باقي وفضولي، يقترحها ذكاء اصطناعي يعرف أنفاسك الشعرية، ثم يدعوك لتطلقها كمقاطع صوتية تعانق الأثير، أو صور متلألئة تضيء الشاشات. بعدها، تبحر إلى ميتافيرس البوسفور الشعري، عالم يعيد خلق إسطنبول العثمانية بأزقتها وقصورها، تجلس في مجلس شعري مع نفي تحييه تقنية الذكاء الاصطناعي، وتمتلك أبياتًا نادرة كتحف رقمية عبر NFTs تحمل عبق الماضي. ثم تغامر في لعبة "ملحمة الشعر"، تجوب الأناضول لتجمع أبيات "كوروغلو" المتناثرة كنجوم في سماء رقمية، بتعاون مع متحف طوبكابي الذي يفتح أبوابه لمخطوطات تضيء الرحلة. وفي لحظة حالمة، تطلق منصة "الأبيات الحية" عروضًا بتقنية الواقع المعزز، فترى كلمات يونس إمري تتراقص كأمواج البوسفور فوق شاشتك. تتخيل بعدها هاكاثونًا يجمع مبرمجين وشعراء يتنافسون لابتكار تطبيق يحول النصوص العثمانية إلى تركية حديثة، محافظًا على إيقاعاتها كأنفاس تتردد عبر الزمن، ثم تطلق دراسة تحلل تغريدات #الشعر_العثماني لتكشف الرموز التي تحرك القلوب – العشق، الحرية – كمرآة لتحولاتنا. من استكشاف هوياتنا الرقمية في بداية السلسلة، مرورًا بالعواطف والقيم الدينية كجسور للتضامن، إلى التراث الشعري والبطولي الذي يحلق عبر التكنولوجيا، اختزلت هذه الرحلة هدفًا واحدًا: الثقافة المحلية، عندما تحتضن بأدوات العصر، تتحرر من أنماطها لتصبح صوتًا عالميًّا، نقطة إلهام تزهر من جذورها الأصيلة. كما رأينا في "الدين الرقمي" قيمًا تتجاوز الحواجز، وفي "شرق آسيا" تراثًا يعانق الحداثة، وفي "الفارسية الرقمية" شعرًا يحلق كفراشات، فإن "التركية الرقمية" تظهر أن التكنولوجيا حامل للأصالة لا نقيض لها.