logo
#

أحدث الأخبار مع #النبأ،

استخدام الدين كأداة دموية.. آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي
استخدام الدين كأداة دموية.. آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

البوابة

time١٣-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • البوابة

استخدام الدين كأداة دموية.. آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

فى عددها 494 الصادر يوم الخميس 8 مايو 2025، نشرت صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية الرسمية لتنظيم داعش، افتتاحية حملت عنوانًا لافتًا: «فزت وربّ الكعبة». هذا العنوان مستلهم من مقولة منسوبة إلى الصحابي الجليل حرام بن ملحان، وردت فى كتب السيرة النبوية، عندما طُعن غدرًا أثناء أدائه لمهمة دعوية فى زمن النبى محمد، فهتف بتلك العبارة تعبيرًا عن استشعاره للفوز بالشهادة رغم قتله غدرًا. باختيار هذا العنوان، يسعى تنظيم داعش إلى توظيف الرمز الدينى والتاريخى لإضفاء مشروعية أخلاقية ودينية على عملياته العنيفة، وإعادة تأويل وقائع القتل والموت فى سياق معاصر بوصفها تجليات للفوز الإلهى والرضا الرباني. تعمل هذه الافتتاحية على إعادة إنتاج منظومة من الرموز والمقولات الدينية القديمة، وتُسقطها على الواقع السياسى الراهن ضمن سردية جهادية مغلقة. الخطاب هنا لا يُقدّم فقط مبررات أيديولوجية للعنف، بل يُعيد تشكيل وعى أنصاره عبر آليات لغوية ونفسية تهدف إلى تطبيع القتل وتجميله. من خلال هذه اللغة التعبوية، يتم تحويل الموت إلى احتفال، والمذبحة إلى نصر، والانتحار إلى شهادة، بما يخلق حالة وجدانية مغلقة تُلغى الحواس النقدية وتُعطل التفكير المستقل. تحليل هذا النص من خلال منهج تحليل الخطاب (Discourse Analysis) يُظهر بوضوح كيف يستخدم التنظيم أدوات لغوية واستدعاءات دينية منتقاة بعناية لبناء سردية ذاتية تعزز القطيعة مع العالم الخارجي، وتُقصى كل رواية بديلة. فالنص لا يكتفى بتبرير العنف، بل يُعيد تشكيل المفاهيم الدينية التقليدية – كالـ"شهادة" و"الجهاد" و"النصر" – لتتلاءم مع أهداف التنظيم وممارساته العنيفة. وتتحول بذلك اللغة إلى أداة للهيمنة الأيديولوجية، تشتغل على الوجدان والدين والهوية فى آنٍ معًا. فى السياق السياسى والأيديولوجى الأوسع، تعكس هذه الافتتاحية كيف يستثمر تنظيم داعش فى الرموز التراثية لإعادة إنتاج خطاب تعبوى يتجاوز حدود الحدث الآنى إلى مشروع طويل الأمد لصناعة الولاء والهوية. إنها محاولة لتأبيد المعركة، ليس فقط على الأرض، بل فى العقول والقلوب. وهذا ما يجعل تحليل الخطاب الداعشى ضروريًا لفهم بنيته الداخلية وآليات تأثيره، خاصة فى ظل تحولات ساحة الجهاد المعولم، وتنامى أدوات الإعلام الحربى الرقمي، وازدياد الحاجة إلى مقاربات نقدية تفكك هذا الخطاب من داخله. البنية الخطابية والتركيز على الثنائية القيمية تعتمد افتتاحية العدد ٤٩٤ من صحيفة النبأ على بنية خطابية تتسم بالحسم القيمي، عبر تقديم ثنائيات متقابلة ومطلقة: مثل "الربح مقابل الخسارة"، و"الفوز الدنيوى مقابل الفوز الأخروي"، و"المجاهدون مقابل القاعدون". هذه الثنائيات لا تُطرح كخيارات تفاوضية أو اجتهادية، بل تُفرض كحدود فاصلة بين الإيمان والكفر، بين الفلاح والخذلان. ما يُراد من هذه البنية ليس الإقناع العقلي، وإنما استدعاء موقف وجدانى حاد، يضع القارئ أمام اختبار أخلاقى حاسم: إما أن تكون مع "الحق" المتمثل فى الجهاد والتضحية، أو مع "الباطل" المتجسد فى الراحة والانكفاء. الخطاب يتعمد نفى أى منطقة وسطى أو موقف تأملى قد يسمح بالحياد أو التفكير النقدي. فإما أن تكون "مجاهدًا" تنتمى إلى صفوة الله المختارة، أو "قاعدًا" من أهل الخذلان، ممن باعوا آخرتهم بدنياهم. هذا الإلغاء الممنهج لأى خيار ثالث يعكس رغبة التنظيم فى احتكار التأويل الدينى والشرعي، بحيث تصبح رؤيته للجهاد والموت هى المعيار الوحيد للتقوى والصلاح. بهذا الشكل، تُغلق كل منافذ الحوار أو الاجتهاد، ويُختزل الدين فى معادلة دموية لا تقبل النقاش. لا يستند هذا الخطاب إلى برهنة عقلية أو تحليل واقعي، بل يقوم على استثارة الانفعال العاطفى والوجداني. يتم توظيف مفردات من قبيل "الفوز الأعظم"، "الجنة"، "النصر الموعود"، فى مقابل ألفاظ مثل "الخسران المبين"، "الذل"، و"الخذلان"، لصناعة حالة وجدانية تحفّز الانتماء القتالى وتؤسس لمنطق تضحوى متطرف. فبدل أن يُطلب من القارئ أن يفكر، يُدفع إلى أن يشعر، ويتحمّس، ثم ينخرط. وهذا بالضبط ما تحتاجه جماعات مثل داعش: وقود بشرى غير متردد، يتخذ القرار بناءً على الانفعال لا العقل. إن هذه البنية الخطابية المبنية على التقابل القيمى الحاد تُستخدم كأداة تحشيد فعالة. فعندما يُقابل "الحق الإلهي" بـ"الماديات الجاهلية"، و"الباقية" بـ"الفانية"، تصبح كل تفاصيل الحياة الدنيوية مشبوهة، ويُصبح الانتماء للجماعة والموت فى صفوفها هو الخيار الوحيد المشروع دينيًا. بهذا الشكل، ينجح التنظيم فى نزع الشرعية عن أى خطاب إصلاحى أو سلمى أو حتى واقعي، ويحول الجهاد إلى هوية شاملة، لا إلى فعل محكوم بشروط شرعية وأخلاقية دقيقة. إنه خطاب لا يهدف فقط إلى الإقناع، بل إلى الهيمنة النفسية وتوجيه القرار الفردى نحو التطرف. استخدام النصوص الدينية خارج سياقاتها تعتمد افتتاحية النبأ على اقتباسات دينية من القرآن والسنة تُنتزع من سياقاتها التاريخية والشرعية، وتُوظف فى سياق تعبوى يخدم الأجندة القتالية للتنظيم. من بين هذه النصوص قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾، وكذلك قول الصحابى الجليل: "فزتُ ورب الكعبة" عند مقتله. هذه الآيات والأحاديث تُستخدم لا بوصفها مصادر للهداية والبيان، وإنما كشعارات دعائية تبرر الموت والقتل وتُضفى عليهما طابعًا من القداسة والتفوق الأخلاقي. النتيجة أن النص الدينى يُفقد معناه الشامل ويُختزل فى بعده القتالى فقط. لا تقدم الافتتاحية أى إحالة إلى الضوابط الفقهية التى تؤطر مفهوم الجهاد فى الشريعة الإسلامية. فلا ذكر لمبدأ "إعلان الإمام أو ولى الأمر"، ولا لشروط مشروعية القتال مثل دفع العدوان، أو التناسب بين الفعل ورد الفعل، أو حرمة التعرض للمدنيين. هذا التجاهل المتعمد للإطار الفقهى يُحول الجهاد من فريضة مشروطة إلى نشاط قتالى مطلق، مما يفتح الباب أمام العنف الفوضوى ويشرعن القتل على الهوية، حتى خارج ميدان القتال. اللافت فى الخطاب أن استخدام النصوص لا يهدف إلى بيان مقاصد الشريعة من حفظ النفس والدين والعقل، بل إلى إثارة الانفعال الدينى لدى القارئ. فالنص القرآنى لا يُعرض ضمن سياقه التفسيرى أو المقاصدي، بل يُستدعى كعبارة مقتطعة تغذى إحساسًا بالتفوق الأخلاقى والبطولى لمن يختار "الاستشهاد". هذا النوع من الخطاب يعطل القدرة على التفكير النقدى ويُفضى إلى نوع من "التمجيد الدينى للموت"، حيث يصبح القتل والقتل المضاد سُنة ممدوحة لا جريمة مدانة. فى المحصلة، ما يجرى فى هذا الخطاب هو تحريف منهجى للمفاهيم الدينية؛ إذ تُحوّل آيات الجهاد من أدوات دفاعية تحفظ كرامة الإنسان إلى أدوات تحريضية تُستخدم لتبرير الإرهاب. ويتم تغييب مفاهيم مركزية فى الإسلام مثل العدالة، والرحمة، والنية، والمآل، لحساب مقاربة أحادية عنيفة تُختزل فيها الطاعة فى القتال والولاء فى سفك الدماء. وبهذا يتم تشويه العقيدة ذاتها وتحويلها إلى منصة للدم، بدل أن تبقى إطارًا للهداية والرحمة. اللعب على النوستالجيا الدينية يعتمد النص على توظيف مفهوم "القرون المفضلة" - أى زمن الصحابة والتابعين - بوصفه نموذجًا ذهبيًا خالصًا، خاليًا من التناقضات أو التعقيدات التاريخية. ويُستخدم هذا النموذج لتكوين ثنائية حادة بين "الماضى الطاهر" و"الحاضر المنحط"، حيث يصوَّر الصحابة وكأنهم جميعًا باعوا أنفسهم لله دون تردد، بينما يُقدَّم المعاصرون كغارقين فى الجبن والملذات. هذا النوع من الخطاب يغفل أن زمن الصحابة كان مليئًا بالنقاشات والخلافات والاجتهادات المتعددة، وأن قراراتهم لم تكن دومًا أحادية أو ساذجة كما يوحى الخطاب الجهادي. لا يُستدعى الماضى هنا من أجل الدراسة أو الاعتبار أو النقد، بل بوصفه "حنينًا مطهرًا"، يُستخدم كوقود تعبوي. فاستحضار التاريخ لا يجرى على أسس عقلية أو معرفية، بل بوصفه ذاكرة رمزية مثقلة بالعاطفة، تُوظف لترسيخ مشاعر الذنب لدى المتلقي، ثم توجيهه نحو فعل "التطهر" من هذا الذنب عبر العنف. يصبح الماضى الإسلامى نموذجًا مفترضًا يُضغط به على الحاضر، ويُستخدم لإدانة كل من يختار الحياة والواقعية بدل الفناء فى المعركة. هذه القراءة للماضى تُفضى إلى بناء سردية تراجيدية تتطلب "خلاصًا" حتميًا. فى هذه السردية، يُقدَّم الموت لا كقدر مؤلم بل كخلاص شخصى ومجد جماعي. تُبنى الهوية على فكرة أن الإنسان لا يكون مسلمًا حقيقيًا إلا إذا "ضحى بنفسه"، وأن التضحية هنا تعنى إزهاق الروح لا الاجتهاد أو الصبر أو النضال المدني. هذه المقاربة الخطابية تعيد تدوير مفهوم "الشهادة" وتفرغه من أبعاده الأخلاقية والفقهية، ليصبح مجرد أداء مسرحى للموت العنيف باسم العقيدة. أخطر ما فى هذه النوستالجيا الدينية أنها لا تستحضر الماضى كما كان، بل كما "يُراد له أن يكون". فكل السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى شكّلت سلوك الصحابة والتابعين تُطمس عمدًا، ويُختزل التاريخ الإسلامى فى لحظة بطولية دائمة. النتيجة أن الأفراد المعاصرين يُدفعون إلى تقليد مثالات غير واقعية، تحت ضغط خطاب يستبعد تمامًا تعقيدات الواقع الراهن، ويُصور القفز إلى الموت كسبيل وحيد إلى المعنى والانتماء والانتصار. وظيفة النص فى السياق الدعائى العام للتنظيم تُفهم هذه الافتتاحية بوصفها استجابة دعائية مدروسة لحالة تراجع ميدانى يمر بها تنظيم داعش، سواء فى معاقله التقليدية بسوريا والعراق، أو فى فروعه النشطة بأفريقيا. فى لحظات الانكسار، لا يملك التنظيم ما يقدّمه لجمهوره سوى الرمزية والتضحية. من هنا، يتصاعد التركيز على مفردات الموت، الشهادة، والبطولة الفردية، لتغطية العجز فى تحقيق المكاسب الواقعية أو الحفاظ على الأراضي. إن توقيت نشر هذا النوع من الخطابات ليس اعتباطيًا، بل يأتى ضمن تقويم تعبوى هدفه إنعاش الروح القتالية وتجنب تفكك البنية التنظيمية. يعمل النص على ترميم المعنويات داخل صفوف المقاتلين بعد سلسلة من الهزائم والتراجعات. فى ظل خسائر متتالية، يصبح من الصعب الإبقاء على الحماسة الجهادية من دون تعزيز سرديات "الابتلاء" و"التمكين المؤجل" و"الفوز الأخروي". لذلك، تعتمد الافتتاحية على خطاب شعورى يمنح القتال قيمة رمزية مطلقة، حتى وإن فقد معناه الاستراتيجي. الرسالة المبطنة هنا: "لا تهمّ الهزائم، ما دمتم تموتون على الطريق الصحيح"، وهى رسالة تُبقى على درجة من التماسك العقائدى داخل التنظيم. فى لحظات الانكسار، تظهر التساؤلات داخل القواعد: لماذا خسرنا؟ أين وعد الله بالنصر؟ هل ما زال هذا الطريق صوابًا؟ هنا يتدخل الخطاب الدعائى ليحاصر هذه الأسئلة ويمنعها من التسرّب. تُصوَّر الهزيمة كنوع من "الفرز الإلهي"، لا كفشل تنظيمى أو استراتيجي، ويُعاد تعريف "النصر" باعتباره صبرًا وتمحيصًا لا إنجازًا ماديًا. بهذه الطريقة، يتحوّل النص إلى أداة تحصين نفسى وعقائدى ضد خطر الانشقاق أو التمرد الداخلي، ويعيد فرض الطاعة على القواعد الجهادية عبر آلية الإيمان بالمحنة لا بالنتائج. أخيرًا، تعمل الافتتاحية على ترسيخ خطاب النخبوية الجهادية، عبر تصوير المقاتلين كـ"صفوة مختارة" تفهم الحقيقة بينما يغرق الناس فى الغفلة والدنيا. هذا الخطاب يُعيد بناء هوية معنوية بديلة تحمى الأفراد من الشعور بالفشل أو العزلة، فحتى فى الهزيمة يُمنح المنتمى شعورًا بالتفوّق الأخلاقى والروحي. بهذا المنطق، تصبح الخسائر فرصة لإعادة تعريف الذات بوصفها "مظلومة لكنها طاهرة"، و"مُحاصَرة لكنها على الحق"، وهى إحدى أهم ركائز الدعاية الجهادية فى لحظات الضعف والانكفاء. أثر هذا الخطاب على تنامى الإرهاب تُنتج الخطابات من هذا النوع بنية نفسية تبريرية تجعل من العنف، بل ومن الانتحار ذاته، خيارًا مشروعًا بل ومرغوبًا. حين يُقدَّم الموت بوصفه طريقًا مؤكدًا إلى الفوز الأخروي، ويُصوَّر القتل بوصفه طاعة لله، يُعاد تشكيل وعى المتلقى بطريقة تُعطّل الحاجز الأخلاقى الطبيعى تجاه العنف. بهذا، تتحول مشاعر الخوف أو التردد إلى شعور بالبطولة، ويُعاد تعريف "الإنسانية" كضعف، فى مقابل "القوة" التى تتمثل فى التضحية بالذات وقتل الآخرين. يُستخدم هذا الخطاب كسند دينى زائف يسهم فى تجنيد المراهقين والشباب، خصوصًا فى البيئات المهمشة أو التى تفتقر إلى وعى دينى رصين. حين يُقدَّم النص الشرعى خارج سياقه ليخدم فكرة الموت كأسمى مراتب الإيمان، يتحوّل إلى أداة تجنيد ذات فاعلية كبيرة، لأنها تلبّى حاجة الشباب للانتماء، وتمنحهم غاية "عظيمة" يضحّون من أجلها. هكذا، يصبح الانخراط فى العنف مشروعًا دينيًا لا يحتاج إلى تبرير، بل إلى تسليم مطلق. أحد أخطر آثار هذا الخطاب هو خلق حالة من الانفصال الكامل عن الواقع الاجتماعي. فكل ما هو خارج دائرة "المجاهدين" يُصوَّر كفساد أو ضلال أو جبن، بما فى ذلك الأسرة، المدرسة، الدولة، وحتى الفقهاء والعلماء. هكذا تنشأ عقلية تكفيرية مغلقة ترى أن الخلاص لا يكون إلا بالقطيعة مع المجتمع، وتمارس عنفًا "تطهيريًا" لا يستهدف الأعداء فحسب، بل كل من يخالف أو يتردد أو يشكّك. الخطاب الجهادى لا يعترف بفكرة السياسة، ولا بالمجتمع المدني، ولا بالحلول التفاوضية. هو خطاب يختزل العالم فى صراع مطلق بين الحق والباطل، ويحوّل أى تسوية أو نقاش إلى خيانة. حين تُختزل الحياة فى ثنائية "الجهاد أو القعود"، تصبح أدوات التغيير السلمى ملغاة، ويُفسَّر كل خلاف باعتباره ردّة أو نفاقًا. بهذا الشكل، تُغلق أبواب الإصلاح من الداخل، وتُفتح نوافذ الإرهاب بوصفه الطريق الوحيد المتاح أمام "المؤمن الحقيقي". جوهر هدام تُظهر هذه الافتتاحية، رغم لغتها الهادئة وكسوتها الدينية، جوهرًا مدمّرًا يختزل الإيمان فى القتل، والنجاة فى الموت، والبطولة فى سفك الدم. فالمأساة تُحوّل إلى ملحمة، والضرورة الدفاعية تُبدَّل بغرض وجودي. هنا لا يعود القتل جريمة تُضطر الجماعات لتبريرها، بل يتحول إلى فضيلة تُدعى الجماهير لتمجيدها. وهكذا يولد خطاب استئصالى لا يكتفى بإبادة الآخر، بل يستهدف الذات أيضًا، عبر تقديم الموت كأعلى درجات التعبّد. إن مواجهة هذا النمط من الخطاب الجهادى لا يمكن أن تتم بالاستنكار الأخلاقى فقط أو بالملاحقة الأمنية فحسب. بل هى معركة تأويل ومعرفة، تبدأ بإعادة قراءة التراث الإسلامى قراءة واعية وناقدة، لا تجتزئ النصوص ولا تسلخها من سياقاتها. فالمفاهيم المحورية مثل الجهاد، الشهادة، البيعة، والفوز، تحتاج إلى إعادة تأصيل فقهى وتاريخي، يضعها فى أطرها المقاصدية، ويحررها من التوظيف التحريضى الذى تمارسه التنظيمات المتطرفة. كما أن الاستمرار فى تجاهل المنصات التى تروّج لهذا الخطاب يساهم فى انتشاره وتعميق أثره. فهناك حاجة ملحة لتجفيف المنابع الإعلامية التى تُعيد إنتاج هذه النصوص أو تُمررها باسم "الرأى الآخر" أو "حرية التعبير". ويجب مساءلة كل من يتيح لهذه الأفكار أن تتسلل إلى الفضاء العام دون تفكيك أو نقد، لأن السلبية هنا ليست حيادًا، بل تمهيد لصعود موجات جديدة من العنف المؤدلج. يبقى الرهان الأعمق فى هذه المواجهة هو إصلاح الفضاء الدينى والإعلامي، بحيث يستعيد لغته الأصيلة المرتبطة بالحياة والكرامة والرحمة. فمواجهة خطاب القتل لا تكون بخطابات مضادة له بنفس منطق التجييش، بل ببناء سردية دينية وأخلاقية جديدة تُعيد للمقدس معناه، وللإنسان قيمته. هذا التحول من فقه الموت إلى فقه الحياة هو الشرط الجوهرى لخلق حصانة معرفية ومجتمعية ضد مشاريع العنف والانتحار الجماعى المقنّع باسم الدين.

طائرات بونتلاند ومخاوف مقديشو: صراع السيطرة في وجه تمدد داعش
طائرات بونتلاند ومخاوف مقديشو: صراع السيطرة في وجه تمدد داعش

الحركات الإسلامية

time١٣-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الحركات الإسلامية

طائرات بونتلاند ومخاوف مقديشو: صراع السيطرة في وجه تمدد داعش

أعلنت سلطات بونتلاند، الإقليم شبه المستقل في شمال شرق الصومال، عن حصولها على أربع مروحيات قتالية حديثة لتعزيز عملياتها ضد تنظيم "داعش" في منطقة جبال الميسكاد، بحسب ما أفاد موقع كاسيمادا أونلاين المحلي. وتأتي هذه الخطوة في وقت يتزايد فيه التهديد الذي يشكله التنظيم المتشدد، وسط تراجع قدرة الحكومة الفيدرالية على فرض سيطرتها على العاصمة مقديشو ومحيطها . وقال محمد أحمد فاديجو، المتحدث باسم عملية "هيلاك"، القوة الأمنية الخاصة في بونتلاند، إن المروحيات ستستخدم في "ضربات دقيقة ونشر سريع للقوات ودعم لوجستي وإجلاء الضحايا من مناطق وعرة يصعب الوصول إليها برا". وأضاف أن بونتلاند قامت بشراء هذه المروحيات بمواردها الخاصة، دون الإفصاح عن المصدر أو القيمة الكاملة للصفقة، والتي تقدر بملايين الدولارات . داعش يستغل الانقسام السياسي ويعزز وجوده منذ تأسيس فرعه المحلي عام 2015، سعى تنظيم داعش في الصومال إلى ترسيخ نفوذه في منطقة القرن الأفريقي، مستفيدا من الانقسامات القبلية، وضعف الحكم المركزي، وموقع الصومال الاستراتيجي. وتشير معلومات استخباراتية حديثة إلى تجدد جهود التنظيم لدمج نفسه داخل الفصائل المحلية المسلحة، وتوسيع شبكات التجنيد لتشمل مجندين من إثيوبيا، السودان، وتنزانيا . ويؤكد تقرير صادر عن مركز مكافحة الإرهاب (CTC) أن التنظيم وسع نشاطه الدعائي ليشمل لغات مثل الأمهرية والسواحيلية، مما يعكس تحولا استراتيجيا نحو التوسع في شرق أفريقيا . تحول جهادي من الداخل إلى العابر للحدود ويوثق عدد جديد من صحيفة النبأ، الناطقة باسم داعش، تحول التنظيم في الصومال من كونه حركة تمرد محلية إلى لاعب في شبكة الإرهاب الدولية. فقد اتهم بالضلوع في هجوم استهدف السفارة الإسرائيلية في السويد خلال مايو 2024، كما كثف دعواته للمقاتلين الأجانب للانضمام إلى صفوفه، مروجا للصومال كـ"أرض تمكين" جديدة . ضعف الجهود الدولية وتحديات AUSSOM ورغم تشكيل بعثة الاتحاد الأفريقي الجديدة للدعم والاستقرار في الصومال (AUSSOM) ، والتي يفترض أن تحل محل ATMIS وتنشر أكثر من 12,000 عنصر، لا تزال التحديات الأمنية قائمة. فضعف التنسيق، وعدم الاستقرار الإقليمي، والتمويل غير الكافي يقيد فعالية هذه الجهود في مواجهة كل من داعش وحركة الشباب . التداعيات الإقليمية والدولية إن تزايد نفوذ داعش في الصومال يشكل تهديدا مباشرا للأمن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن، ويؤثر على دول الجوار مثل كينيا وإثيوبيا. كما أن شبكات التهريب العابرة للحدود التي يستخدمها التنظيم تعزز من قدراته على تمويل العمليات الخارجية وتنفيذ هجمات بعيدة المدى . نحو مواجهة شاملة مع استمرار هشاشة الوضع الأمني، وتحول الصومال إلى مركز جهادي ناشئ، يبدو أن الرد العسكري وحده لن يكون كافيا. يتطلب الأمر تعاونا دوليا أوسع لمعالجة الأسباب الجذرية للتطرف، من التهميش السياسي والفقر إلى ضعف الحكم المحلي . بينما تمثل مروحيات بونتلاند خطوة مهمة في ردع داعش محليا، فإن التحدي الأكبر يتمثل في منع الصومال من أن يصبح معقل داعش العالمي التالي — وهو سيناريو بدأت ملامحه تتشكل بالفعل .

الدين كأداة دموية: آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي
الدين كأداة دموية: آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

الحركات الإسلامية

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الحركات الإسلامية

الدين كأداة دموية: آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

في عددها 494 الصادر يوم الخميس 8 مايو 2025، نشرت صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية الرسمية لتنظيم داعش، افتتاحية حملت عنوانًا لافتًا: "فزت وربّ الكعبة". هذا العنوان مستلهم من مقولة منسوبة إلى الصحابي الجليل حرام بن ملحان، وردت في كتب السيرة النبوية، عندما طُعن غدرًا أثناء أدائه لمهمة دعوية في زمن النبي محمد ﷺ، فهتف بتلك العبارة تعبيرًا عن استشعاره للفوز بالشهادة رغم قتله غدرًا. باختيار هذا العنوان، يسعى تنظيم داعش إلى توظيف الرمز الديني والتاريخي لإضفاء مشروعية أخلاقية ودينية على عملياته العنيفة، وإعادة تأويل وقائع القتل والموت في سياق معاصر بوصفها تجليات للفوز الإلهي والرضا الرباني. تعمل هذه الافتتاحية على إعادة إنتاج منظومة من الرموز والمقولات الدينية القديمة، وتُسقطها على الواقع السياسي الراهن ضمن سردية جهادية مغلقة. الخطاب هنا لا يُقدّم فقط مبررات أيديولوجية للعنف، بل يُعيد تشكيل وعي أنصاره عبر آليات لغوية ونفسية تهدف إلى تطبيع القتل وتجميله. من خلال هذه اللغة التعبوية، يتم تحويل الموت إلى احتفال، والمذبحة إلى نصر، والانتحار إلى شهادة، بما يخلق حالة وجدانية مغلقة تُلغي الحواس النقدية وتُعطل التفكير المستقل. تحليل هذا النص من خلال منهج تحليل الخطاب (Discourse Analysis) يُظهر بوضوح كيف يستخدم التنظيم أدوات لغوية واستدعاءات دينية منتقاة بعناية لبناء سردية ذاتية تعزز القطيعة مع العالم الخارجي، وتُقصي كل رواية بديلة. فالنص لا يكتفي بتبرير العنف، بل يُعيد تشكيل المفاهيم الدينية التقليدية – كالـ"شهادة" و"الجهاد" و"النصر" – لتتلاءم مع أهداف التنظيم وممارساته العنيفة. وتتحول بذلك اللغة إلى أداة للهيمنة الأيديولوجية، تشتغل على الوجدان والدين والهوية في آنٍ معًا. في السياق السياسي والأيديولوجي الأوسع، تعكس هذه الافتتاحية كيف يستثمر تنظيم داعش في الرموز التراثية لإعادة إنتاج خطاب تعبوي يتجاوز حدود الحدث الآني إلى مشروع طويل الأمد لصناعة الولاء والهوية. إنها محاولة لتأبيد المعركة، ليس فقط على الأرض، بل في العقول والقلوب. وهذا ما يجعل تحليل الخطاب الداعشي ضروريًا لفهم بنيته الداخلية وآليات تأثيره، خاصة في ظل تحولات ساحة الجهاد المعولم، وتنامي أدوات الإعلام الحربي الرقمي، وازدياد الحاجة إلى مقاربات نقدية تفكك هذا الخطاب من داخله. البنية الخطابية والتركيز على الثنائية القيمية تعتمد افتتاحية العدد 494 من صحيفة النبأ على بنية خطابية تتسم بالحسم القيمي، عبر تقديم ثنائيات متقابلة ومطلقة: مثل "الربح مقابل الخسارة"، و"الفوز الدنيوي مقابل الفوز الأخروي"، و"المجاهدون مقابل القاعدون". هذه الثنائيات لا تُطرح كخيارات تفاوضية أو اجتهادية، بل تُفرض كحدود فاصلة بين الإيمان والكفر، بين الفلاح والخذلان. ما يُراد من هذه البنية ليس الإقناع العقلي، وإنما استدعاء موقف وجداني حاد، يضع القارئ أمام اختبار أخلاقي حاسم: إما أن تكون مع "الحق" المتمثل في الجهاد والتضحية، أو مع "الباطل" المتجسد في الراحة والانكفاء. الخطاب يتعمد نفي أي منطقة وسطى أو موقف تأملي قد يسمح بالحياد أو التفكير النقدي. فإما أن تكون "مجاهدًا" تنتمي إلى صفوة الله المختارة، أو "قاعدًا" من أهل الخذلان، ممن باعوا آخرتهم بدنياهم. هذا الإلغاء الممنهج لأي خيار ثالث يعكس رغبة التنظيم في احتكار التأويل الديني والشرعي، بحيث تصبح رؤيته للجهاد والموت هي المعيار الوحيد للتقوى والصلاح. بهذا الشكل، تُغلق كل منافذ الحوار أو الاجتهاد، ويُختزل الدين في معادلة دموية لا تقبل النقاش. لا يستند هذا الخطاب إلى برهنة عقلية أو تحليل واقعي، بل يقوم على استثارة الانفعال العاطفي والوجداني. يتم توظيف مفردات من قبيل "الفوز الأعظم"، "الجنة"، "النصر الموعود"، في مقابل ألفاظ مثل "الخسران المبين"، "الذل"، و"الخذلان"، لصناعة حالة وجدانية تحفّز الانتماء القتالي وتؤسس لمنطق تضحوي متطرف. فبدل أن يُطلب من القارئ أن يفكر، يُدفع إلى أن يشعر، ويتحمّس، ثم ينخرط. وهذا بالضبط ما تحتاجه جماعات مثل داعش: وقود بشري غير متردد، يتخذ القرار بناءً على الانفعال لا العقل. إن هذه البنية الخطابية المبنية على التقابل القيمي الحاد تُستخدم كأداة تحشيد فعالة. فعندما يُقابل "الحق الإلهي" بـ"الماديات الجاهلية"، و"الباقية" بـ"الفانية"، تصبح كل تفاصيل الحياة الدنيوية مشبوهة، ويُصبح الانتماء للجماعة والموت في صفوفها هو الخيار الوحيد المشروع دينيًا. بهذا الشكل، ينجح التنظيم في نزع الشرعية عن أي خطاب إصلاحي أو سلمي أو حتى واقعي، ويحول الجهاد إلى هوية شاملة، لا إلى فعل محكوم بشروط شرعية وأخلاقية دقيقة. إنه خطاب لا يهدف فقط إلى الإقناع، بل إلى الهيمنة النفسية وتوجيه القرار الفردي نحو التطرف. استخدام النصوص الدينية خارج سياقاتها تعتمد افتتاحية النبأ على اقتباسات دينية من القرآن والسنة تُنتزع من سياقاتها التاريخية والشرعية، وتُوظف في سياق تعبوي يخدم الأجندة القتالية للتنظيم. من بين هذه النصوص قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾، وكذلك قول الصحابي الجليل: "فزتُ ورب الكعبة" عند مقتله. هذه الآيات والأحاديث تُستخدم لا بوصفها مصادر للهداية والبيان، وإنما كشعارات دعائية تبرر الموت والقتل وتُضفي عليهما طابعًا من القداسة والتفوق الأخلاقي. النتيجة أن النص الديني يُفقد معناه الشامل ويُختزل في بعده القتالي فقط. لا تقدم الافتتاحية أي إحالة إلى الضوابط الفقهية التي تؤطر مفهوم الجهاد في الشريعة الإسلامية. فلا ذكر لمبدأ "إعلان الإمام أو ولي الأمر"، ولا لشروط مشروعية القتال مثل دفع العدوان، أو التناسب بين الفعل ورد الفعل، أو حرمة التعرض للمدنيين. هذا التجاهل المتعمد للإطار الفقهي يُحول الجهاد من فريضة مشروطة إلى نشاط قتالي مطلق، مما يفتح الباب أمام العنف الفوضوي ويشرعن القتل على الهوية، حتى خارج ميدان القتال. اللافت في الخطاب أن استخدام النصوص لا يهدف إلى بيان مقاصد الشريعة من حفظ النفس والدين والعقل، بل إلى إثارة الانفعال الديني لدى القارئ. فالنص القرآني لا يُعرض ضمن سياقه التفسيري أو المقاصدي، بل يُستدعى كعبارة مقتطعة تغذي إحساسًا بالتفوق الأخلاقي والبطولي لمن يختار "الاستشهاد". هذا النوع من الخطاب يعطل القدرة على التفكير النقدي ويُفضي إلى نوع من "التمجيد الديني للموت"، حيث يصبح القتل والقتل المضاد سُنة ممدوحة لا جريمة مدانة. في المحصلة، ما يجري في هذا الخطاب هو تحريف منهجي للمفاهيم الدينية؛ إذ تُحوّل آيات الجهاد من أدوات دفاعية تحفظ كرامة الإنسان إلى أدوات تحريضية تُستخدم لتبرير الإرهاب. ويتم تغييب مفاهيم مركزية في الإسلام مثل العدالة، والرحمة، والنية، والمآل، لحساب مقاربة أحادية عنيفة تُختزل فيها الطاعة في القتال والولاء في سفك الدماء. وبهذا يتم تشويه العقيدة ذاتها وتحويلها إلى منصة للدم، بدل أن تبقى إطارًا للهداية والرحمة. اللعب على النوستالجيا الدينية يعتمد النص على توظيف مفهوم "القرون المفضلة" — أي زمن الصحابة والتابعين — بوصفه نموذجًا ذهبيًا خالصًا، خاليًا من التناقضات أو التعقيدات التاريخية. ويُستخدم هذا النموذج لتكوين ثنائية حادة بين "الماضي الطاهر" و"الحاضر المنحط"، حيث يصوَّر الصحابة وكأنهم جميعًا باعوا أنفسهم لله دون تردد، بينما يُقدَّم المعاصرون كغارقين في الجبن والملذات. هذا النوع من الخطاب يغفل أن زمن الصحابة كان مليئًا بالنقاشات والخلافات والاجتهادات المتعددة، وأن قراراتهم لم تكن دومًا أحادية أو ساذجة كما يوحي الخطاب الجهادي. لا يُستدعى الماضي هنا من أجل الدراسة أو الاعتبار أو النقد، بل بوصفه "حنينًا مطهرًا"، يُستخدم كوقود تعبوي. فاستحضار التاريخ لا يجري على أسس عقلية أو معرفية، بل بوصفه ذاكرة رمزية مثقلة بالعاطفة، تُوظف لترسيخ مشاعر الذنب لدى المتلقي، ثم توجيهه نحو فعل "التطهر" من هذا الذنب عبر العنف. يصبح الماضي الإسلامي نموذجًا مفترضًا يُضغط به على الحاضر، ويُستخدم لإدانة كل من يختار الحياة والواقعية بدل الفناء في المعركة. هذه القراءة للماضي تُفضي إلى بناء سردية تراجيدية تتطلب "خلاصًا" حتميًا. في هذه السردية، يُقدَّم الموت لا كقدر مؤلم بل كخلاص شخصي ومجد جماعي. تُبنى الهوية على فكرة أن الإنسان لا يكون مسلمًا حقيقيًا إلا إذا "ضحى بنفسه"، وأن التضحية هنا تعني إزهاق الروح لا الاجتهاد أو الصبر أو النضال المدني. هذه المقاربة الخطابية تعيد تدوير مفهوم "الشهادة" وتفرغه من أبعاده الأخلاقية والفقهية، ليصبح مجرد أداء مسرحي للموت العنيف باسم العقيدة. أخطر ما في هذه النوستالجيا الدينية أنها لا تستحضر الماضي كما كان، بل كما "يُراد له أن يكون". فكل السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شكّلت سلوك الصحابة والتابعين تُطمس عمداً، ويُختزل التاريخ الإسلامي في لحظة بطولية دائمة. النتيجة أن الأفراد المعاصرين يُدفعون إلى تقليد مثالات غير واقعية، تحت ضغط خطاب يستبعد تمامًا تعقيدات الواقع الراهن، ويُصور القفز إلى الموت كسبيل وحيد إلى المعنى والانتماء والانتصار. وظيفة النص في السياق الدعائي العام للتنظيم تُفهم هذه الافتتاحية بوصفها استجابة دعائية مدروسة لحالة تراجع ميداني يمر بها تنظيم داعش، سواء في معاقله التقليدية بسوريا والعراق، أو في فروعه النشطة بأفريقيا. في لحظات الانكسار، لا يملك التنظيم ما يقدّمه لجمهوره سوى الرمزية والتضحية. من هنا، يتصاعد التركيز على مفردات الموت، الشهادة، والبطولة الفردية، لتغطية العجز في تحقيق المكاسب الواقعية أو الحفاظ على الأراضي. إن توقيت نشر هذا النوع من الخطابات ليس اعتباطيًا، بل يأتي ضمن تقويم تعبوي هدفه إنعاش الروح القتالية وتجنب تفكك البنية التنظيمية. يعمل النص على ترميم المعنويات داخل صفوف المقاتلين بعد سلسلة من الهزائم والتراجعات. في ظل خسائر متتالية، يصبح من الصعب الإبقاء على الحماسة الجهادية من دون تعزيز سرديات "الابتلاء" و"التمكين المؤجل" و"الفوز الأخروي". لذلك، تعتمد الافتتاحية على خطاب شعوري يمنح القتال قيمة رمزية مطلقة، حتى وإن فقد معناه الاستراتيجي. الرسالة المبطنة هنا: "لا تهمّ الهزائم، ما دمتم تموتون على الطريق الصحيح"، وهي رسالة تُبقي على درجة من التماسك العقائدي داخل التنظيم. في لحظات الانكسار، تظهر التساؤلات داخل القواعد: لماذا خسرنا؟ أين وعد الله بالنصر؟ هل ما زال هذا الطريق صوابًا؟ هنا يتدخل الخطاب الدعائي ليحاصر هذه الأسئلة ويمنعها من التسرّب. تُصوَّر الهزيمة كنوع من "الفرز الإلهي"، لا كفشل تنظيمي أو استراتيجي، ويُعاد تعريف "النصر" باعتباره صبرًا وتمحيصًا لا إنجازًا ماديًا. بهذه الطريقة، يتحوّل النص إلى أداة تحصين نفسي وعقائدي ضد خطر الانشقاق أو التمرد الداخلي، ويعيد فرض الطاعة على القواعد الجهادية عبر آلية الإيمان بالمحنة لا بالنتائج. أخيرًا، تعمل الافتتاحية على ترسيخ خطاب النخبوية الجهادية، عبر تصوير المقاتلين كـ"صفوة مختارة" تفهم الحقيقة بينما يغرق الناس في الغفلة والدنيا. هذا الخطاب يُعيد بناء هوية معنوية بديلة تحمي الأفراد من الشعور بالفشل أو العزلة، فحتى في الهزيمة يُمنح المنتمي شعورًا بالتفوّق الأخلاقي والروحي. بهذا المنطق، تصبح الخسائر فرصة لإعادة تعريف الذات بوصفها "مظلومة لكنها طاهرة"، و"مُحاصَرة لكنها على الحق"، وهي إحدى أهم ركائز الدعاية الجهادية في لحظات الضعف والانكفاء. أثر هذا الخطاب على تنامي الإرهاب تُنتج الخطابات من هذا النوع بنية نفسية تبريرية تجعل من العنف، بل ومن الانتحار ذاته، خيارًا مشروعًا بل ومرغوبًا. حين يُقدَّم الموت بوصفه طريقًا مؤكدًا إلى الفوز الأخروي، ويُصوَّر القتل بوصفه طاعة لله، يُعاد تشكيل وعي المتلقي بطريقة تُعطّل الحاجز الأخلاقي الطبيعي تجاه العنف. بهذا، تتحول مشاعر الخوف أو التردد إلى شعور بالبطولة، ويُعاد تعريف "الإنسانية" كضعف، في مقابل "القوة" التي تتمثل في التضحية بالذات وقتل الآخرين. يُستخدم هذا الخطاب كسند ديني زائف يسهم في تجنيد المراهقين والشباب، خصوصًا في البيئات المهمشة أو التي تفتقر إلى وعي ديني رصين. حين يُقدَّم النص الشرعي خارج سياقه ليخدم فكرة الموت كأسمى مراتب الإيمان، يتحوّل إلى أداة تجنيد ذات فاعلية كبيرة، لأنها تلبّي حاجة الشباب للانتماء، وتمنحهم غاية "عظيمة" يضحّون من أجلها. هكذا، يصبح الانخراط في العنف مشروعًا دينيًا لا يحتاج إلى تبرير، بل إلى تسليم مطلق. أحد أخطر آثار هذا الخطاب هو خلق حالة من الانفصال الكامل عن الواقع الاجتماعي. فكل ما هو خارج دائرة "المجاهدين" يُصوَّر كفساد أو ضلال أو جبن، بما في ذلك الأسرة، المدرسة، الدولة، وحتى الفقهاء والعلماء. هكذا تنشأ عقلية تكفيرية مغلقة ترى أن الخلاص لا يكون إلا بالقطيعة مع المجتمع، وتمارس عنفًا "تطهيريًا" لا يستهدف الأعداء فحسب، بل كل من يخالف أو يتردد أو يشكّك. الخطاب الجهادي لا يعترف بفكرة السياسة، ولا بالمجتمع المدني، ولا بالحلول التفاوضية. هو خطاب يختزل العالم في صراع مطلق بين الحق والباطل، ويحوّل أي تسوية أو نقاش إلى خيانة. حين تُختزل الحياة في ثنائية "الجهاد أو القعود"، تصبح أدوات التغيير السلمي ملغاة، ويُفسَّر كل خلاف باعتباره ردّة أو نفاقًا. بهذا الشكل، تُغلق أبواب الإصلاح من الداخل، وتُفتح نوافذ الإرهاب بوصفه الطريق الوحيد المتاح أمام "المؤمن الحقيقي". خاتمة: تُظهر هذه الافتتاحية، رغم لغتها الهادئة وكسوتها الدينية، جوهرًا مدمّرًا يختزل الإيمان في القتل، والنجاة في الموت، والبطولة في سفك الدم. فالمأساة تُحوّل إلى ملحمة، والضرورة الدفاعية تُبدَّل بغرض وجودي. هنا لا يعود القتل جريمة تُضطر الجماعات لتبريرها، بل يتحول إلى فضيلة تُدعى الجماهير لتمجيدها. وهكذا يولد خطاب استئصالي لا يكتفي بإبادة الآخر، بل يستهدف الذات أيضًا، عبر تقديم الموت كأعلى درجات التعبّد. إن مواجهة هذا النمط من الخطاب الجهادي لا يمكن أن تتم بالاستنكار الأخلاقي فقط أو بالملاحقة الأمنية فحسب. بل هي معركة تأويل ومعرفة، تبدأ بإعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة واعية وناقدة، لا تجتزئ النصوص ولا تسلخها من سياقاتها. فالمفاهيم المحورية مثل الجهاد، الشهادة، البيعة، والفوز، تحتاج إلى إعادة تأصيل فقهي وتاريخي، يضعها في أطرها المقاصدية، ويحررها من التوظيف التحريضي الذي تمارسه التنظيمات المتطرفة. كما أن الاستمرار في تجاهل المنصات التي تروّج لهذا الخطاب يساهم في انتشاره وتعميق أثره. فهناك حاجة ملحة لتجفيف المنابع الإعلامية التي تُعيد إنتاج هذه النصوص أو تُمررها باسم "الرأي الآخر" أو "حرية التعبير". ويجب مساءلة كل من يتيح لهذه الأفكار أن تتسلل إلى الفضاء العام دون تفكيك أو نقد، لأن السلبية هنا ليست حيادًا، بل تمهيد لصعود موجات جديدة من العنف المؤدلج. يبقى الرهان الأعمق في هذه المواجهة هو إصلاح الفضاء الديني والإعلامي، بحيث يستعيد لغته الأصيلة المرتبطة بالحياة والكرامة والرحمة. فمواجهة خطاب القتل لا تكون بخطابات مضادة له بنفس منطق التجييش، بل ببناء سردية دينية وأخلاقية جديدة تُعيد للمقدس معناه، وللإنسان قيمته. هذا التحول من فقه الموت إلى فقه الحياة هو الشرط الجوهري لخلق حصانة معرفية ومجتمعية ضد مشاريع العنف والانتحار الجماعي المقنّع باسم الدين.

داعش وأزمة الهوية الجهادية.. خطاب الحرب النفسية في مواجهة الفشل
داعش وأزمة الهوية الجهادية.. خطاب الحرب النفسية في مواجهة الفشل

البوابة

time٠٦-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • البوابة

داعش وأزمة الهوية الجهادية.. خطاب الحرب النفسية في مواجهة الفشل

في افتتاحية العدد ٤٩٣ من صحيفة النبأ، الصادرة مساء الخميس ١ مايو ٢٠٢٥، عن تنظيم "داعش"، يعيد التنظيم إنتاج خطابه الدعائى القديم، مستعينًا بمفردات الحرب النفسية لتأطير حالة التراجع التى يعانى منها. ينحو الخطاب نحو شيطنة مطلقة للعالم الخارجي، حيث يُصوَّر "العدو" على أنه كتلة متجانسة تشمل الجيوش، والحكومات، والعلماء، والعملاء، وحتى الأفراد المجهولين "الذين لا يعلمهم إلا الله"، كما يقول النص. هذا التوسيع المقصود لدائرة العدو لا يعكس فقط نزعة توطينية للبارانويا الجماعية داخل بنية التنظيم، بل يكشف عن محاولة مكرورة لصياغة العالم فى ثنائية صارمة: "نحن" مقابل "الآخر الشرير"، بما يبرر الانغلاق ويُحصّن أفراده من أى مساءلة أو شك داخلي. الحرب النفسية يُقدّم النص نفسه بوصفه دفاعًا عقديًا ونفسيًا فى وجه ما يسميه "الحرب النفسية"، لكنه فى جوهره يعبّر عن أزمة أعمق يعيشها التنظيم: أزمة اهتزاز الثقة فى المشروع نفسه. يتحدث النص عن الثبات والصبر والعقيدة، لكنه يلمّح ضمنيًا إلى فقدانها أو ضعفها، فالمبالغة فى الدعوة إلى "الثبات على الطريق" تكشف أن الطريق ذاته أصبح موضع تساؤل من قِبل بعض الأتباع. الإلحاح على التحذير من "الاختيارات البديلة"، كالنماذج الأخرى من الإسلاميين (طالبان، الجولاني)، يكشف أن هذه النماذج أصبحت أكثر جاذبية للأفراد الباحثين عن "شرعية جهادية" مقبولة سياسيًا، وهو ما يزعزع سردية داعش عن "المنهاج الصحيح". خطاب دفاعى أما من الناحية الإعلامية، فتشير هذه الافتتاحية إلى انحسار فعالية الدعاية الخارجية للتنظيم. فبدلًا من الخطاب الهجومى الذى كان يتفاخر بالإنجازات، يركّز النص على خطاب دفاعى يفتقر إلى الثقة، يدور حول "المؤامرة العالمية" و"الحرب النفسية"، وكأن التنظيم أصبح مطاردًا فى الوعى أكثر مما هو موجود فى الواقع. وهذا التحول من خطاب القوة إلى خطاب الضحية، ومن استعراض التمكين إلى التحصين ضد التفكك، يعكس إدراكًا داخليًا لدى صناع الدعاية أن مشروع "الخلافة" الذى كان ملهمًا فى عيون مناصريه، لم يعد كذلك، بل أصبح عبئًا يتطلب خطابًا تعبويًا لمحاولة الحفاظ على ما تبقى من الولاء والتماسك. خطاب مهووس بـ"المؤامرة الكونية" يهيمن على افتتاحية العدد ٤٩٣ من صحيفة النبأ خطاب تآمرى مكثف، يعيد إنتاج سردية "المؤامرة الكونية" التى طالما استخدمها تنظيم "داعش" كركيزة تفسيرية لكل ما يواجهه من إخفاقات وتحديات. فى هذا النص، تُصوَّر الحرب النفسية بوصفها جبهة شاملة تضم قائمة غير منتهية من الأعداء: من جيوش وحكومات إلى شيوخ ومراكز أبحاث ومخابرات، مرورًا بعلماء وعملاء، وحتى أطراف غامضة "لا يعلمهم إلا الله" على حد تعبيره. هذا التضخيم المقصود لحجم العدو لا يخدم التحليل الواقعي، بل يُستخدم لترسيخ الذهنية الحصارية التى يعيش فيها التنظيم، والتى تُغلق باب التفكير خارج ثنائية "نحن مقابل العالم"، وتحوّل أتباعه إلى كائنات مشحونة بالرعب والارتياب الدائم. ما يكشفه هذا الخطاب، فى جوهره، ليس قوة تنظيمية أو صلابة فكرية، بل هشاشة بنيوية يعانى منها التنظيم فى بنيته الداخلية. فبدل الانخراط فى مراجعة نقدية أو تفسير واقعى للتراجع الذى أصابه على مستوى الفكرة والممارسة، يواصل التنظيم الهروب إلى الأمام عبر تضخيم المؤامرة لتبرير فشله وشرعنة بقائه فى موقع الضحية المحاصرة. هذا الهوس بالمؤامرة لا يهدف إلى تعبئة الأتباع فحسب، بل يمنعهم من التفكير الحر، ويعطل أى محاولة للفهم أو التقييم الموضوعي، خشية أن تؤدى إلى تفكيك السردية التى يقوم عليها المشروع الجهادي. الخطير فى هذا الخطاب التآمرى أنه لا يكتفى بخلق أعداء خارجيين، بل يزرع الشك داخل صفوف التنظيم نفسه. فكل تساؤل أو تردد قد يُفسَّر باعتباره جزءًا من "الحرب النفسية"، وكل اختلاف يُصنّف تلقائيًا فى خانة الخيانة أو العمالة. وبهذا، يصبح التنظيم كيانًا مغلقًا على ذاته، يرفض كل صوت داخلى لا يعزف على نغمة "الثبات والصبر"، ويقمع أية محاولة للمراجعة أو التغيير. هذا النوع من الانغلاق الأيديولوجى لا يحمى التنظيم، بل يُسرّع من تآكله الذاتي، لأنه يعجز عن التكيّف مع المتغيرات أو إصلاح أخطائه، فى ظل سيطرة عقلية المؤامرة على مجمل تفكيره. شيطنة العقل والشك وتحريم النقد تتبنّى افتتاحية النبأ فى عددها ٤٩٣ خطابًا صارمًا يحاصر ملكة التفكير النقدى ويجرّم السؤال والتأمل، من خلال تصنيف أى تساؤل أو محاولة للمراجعة باعتبارها "شبهة" خطيرة. وتُقدَّم هذه "الشبهات" بوصفها البوابة الكبرى للحرب النفسية التى يخوضها العدو، وبالتالى فإن مجرد طرح الأسئلة أو البحث فى البدائل يُعد خيانة داخلية للصف، وانهزامًا نفسيًا أمام الخصم. هذا النوع من الخطاب لا يُعادى النقد الخارجى فحسب، بل يصادر الحق فى التفكير الفردي، ويحاصر العقل داخل دائرة مغلقة من الولاء المطلق والانقياد الأعمى. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى تحميل الانفتاح على الآخر – أيًّا كانت صورته – تهمة "الفتنة"، وهو مصطلح دينى تقليدى شديد الحساسية، يُستخدم هنا لترويع الأفراد من أى تفاعل معرفى أو وجدانى مع غيرهم. فكل تعاطف، وكل محاولة لفهم وجهة نظر مختلفة، أو حتى الاستماع لها، يُصنَّف مباشرة ضمن أدوات العدو لاختراق الصف، وهو ما يكرّس عزلة شعورية وفكرية عميقة، ويحوّل العضو فى التنظيم إلى كيان منغلق مشحون بالخوف من الآخر ومن ذاته. النتيجة الحتمية لهذا البناء الخطابى هى خلق بيئة خانقة يُجرَّم فيها التفكير، ويُحوَّل فيها الدين إلى أداة للرقابة النفسية، يُستخدم فيها الإيمان كدرع لا للتثبيت على القيم، بل لمنع مراجعتها. ويُقدَّم الشك – بوصفه وظيفة معرفية صحية – كخطر وجودى يجب القضاء عليه، لا بوصفه مقدمة للفهم أو وسيلة للتعمق فى الإيمان. وبهذا، يُحَصَّن التنظيم ضد أى نقاش داخلى محتمل لا بإقناع الأعضاء، بل بترهيبهم، مما يجعل أى بادرة تفكير مستقل عملاً مريبًا يستدعى التوبة أو العقوبة. بناء معنويات زائفة على ركام الواقع يُعيد تنظيم داعش فى افتتاحيته الأخيرة إنتاج خطاب الهروب من الواقع، من خلال الترويج لفكرة أن "قوة الروح" وحدها كافية لمواجهة الهزائم العسكرية والانهيارات التنظيمية. ففى سياق يتطلب مراجعة استراتيجية أو حتى مجرد إقرار بالوقائع، يفضّل التنظيم أن ينسج بطولات معنوية مفترضة، مفاخِرًا بما يسميه "ثبات المجاهدين فى الباغوز"، رغم أن ما جرى هناك كان نهاية دموية مأساوية لمشروعه فى الشام، ونتيجة مباشرة لفشله السياسى والعسكري. بهذا الخطاب، يحوّل داعش الانكسار إلى سردية "صمود"، ويستبدل التقييم الواقعى بالتعالى الشعوري. من خلال استدعاء معركة الباغوز، لا يسعى التنظيم فقط إلى بث الأمل الزائف فى صفوفه المتبقية، بل يحاول إنتاج أسطورة معنوية تقفز فوق الوقائع، وتُقدِّم الهزيمة الكبرى على أنها اختبار إيمانى أو "تمحيص" ربانى للمخلصين من أتباعه. وهذا النمط من الخطاب ليس جديدًا؛ فقد استُخدم مرارًا فى أدبيات الجماعات المغلقة التى تحتفل بخسائرها تحت عنوان "الثبات" و"الابتلاء"، ما يعكس محاولة للهروب من المراجعة النقدية أو المساءلة التنظيمية. تكمن خطورة هذا النوع من التفسير فى أنه يُنتج وعيًا زائفًا ومضادًا للتغيير، إذ لا يُسمح فيه بالاعتراف بالأخطاء أو الفشل، بل يُعاد تأطير كل هزيمة ضمن منظومة رمزية مغلقة، تكرّس العجز بدلًا من تجاوزه. إنه خطاب يعيد تزييف الواقع بطريقة تُبقى الجماعة داخل وهم الأحقية والتفوق المعنوي، رغم انهيارها على كل المستويات، ويغذّى فى الوقت ذاته نزعة استشهادية لا تبحث عن نصر حقيقي، بل عن موت "ذو معنى" داخل سردية خلاصية لا علاقة لها بالواقع. خطاب ازدواجي: محاربة الإسلاميين بالإسلاميين؟ فى افتتاحية العدد ٤٩٣ من صحيفة "النبأ"، يهاجم تنظيم داعش بشدة ما يسميه "البدائل الجهادية" التى يروّج لها الغرب، فى إشارة مباشرة إلى حركات مثل "طالبان" و"هيئة تحرير الشام" بقيادة أبو محمد الجولاني. ويقدّم هذه الكيانات بوصفها مشاريع مشبوهة تسعى لاختراق صفوف "المجاهدين الحقيقيين"، واستقطاب أنصار التنظيم عبر تبنى خطاب أكثر مرونة سياسيًا وأقل صدامية مع العالم. هذا الطرح يكشف عن قلق حقيقى داخل تنظيم داعش من تآكل تأثيره لصالح تنظيمات تطرح نفسها كبدائل أكثر قابلية للبقاء والتفاوض، حتى وإن ظلت ضمن الفلك الجهادى نفسه. لكن اللافت فى هذا الخطاب ليس مجرد رفض التنظيم لمنافسيه، بل الطريقة التى يستخدم فيها نفس أدوات الحرب النفسية التى يتّهم بها الآخرين. فبدلًا من تقديم نقد موضوعى لمآلات تجارب كـ"طالبان" أو "الجولاني"، يعمد داعش إلى تخوينهم ووصمهم بالعمالة، دون أن يسمح بأى مراجعة ذاتية لمشروعه هو، أو أى تساؤل حول الكلفة الهائلة لخياراته العنيفة. بهذا السلوك، لا يبدو أن التنظيم يختلف جوهريًا عن خصومه، بل يعيد إنتاج نفس منطق الإقصاء والاتهام بالردة، وهو ما يُظهر بوضوح محدودية أفقه وانغلاقه على ذاته. تنافس على الزعامة والمشروعية الصراع بين تنظيم "داعش" وخصومه من الجماعات الجهادية الأخرى، كما تعكسه افتتاحية العدد ٤٩٣ من صحيفة "النبأ"، لا ينبع من خلافات جذرية فى الأيديولوجيا أو الرؤية الدينية، بل من تنافس على الزعامة والمشروعية داخل الفضاء الجهادى نفسه. فكل الأطراف التى يهاجمها التنظيم – من "طالبان" إلى "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولانى – تشترك معه فى المنطلقات العقائدية الكبرى، كفكرة "الحاكمية لله"، ومفهوم "الولاء والبراء"، وتكفير الأنظمة القائمة، واعتماد العنف المسلح كأداة للتغيير. ما يفرّقهم ليس الفكرة بل طريقة تنفيذها، ومدى الاستعداد للمناورة السياسية أو تقديم تنازلات شكلية. من هذا المنظور، فإن الحملة التى يشنها تنظيم داعش على تلك الجماعات "البديلة" لا تعبّر عن وعى نقدى حقيقى بمخاطر الانحراف أو التمييع، بل تكشف عن أزمة نفسية داخل التنظيم، تعكس مخاوفه من فقدان المكانة داخل المشهد الجهادى العالمي. فحين يتراجع نفوذ داعش ميدانيًا وتخبو قدرته على التجنيد، تصبح أى جماعة أخرى تقدم خطابًا "جهاديًا" أكثر براغماتية أو توظيفًا للواقع، تهديدًا رمزيًا وتنظيميًا له، حتى وإن كانت تشاركه نفس القناعات. لذلك يعمد داعش إلى تخوينهم وشيطنتهم، لا لأنه يختلف معهم فى الجوهر، بل لأنه يخشى من قدرتهم على منافسته ضمن جمهور يؤمن بالمرجعيات نفسها. المفارقة هنا أن التنظيم الذى يُتهم الآخرين بالعمالة للغرب أو بالتفريط، لا يملك تصورًا بديلًا واقعيًا أو مراجعة ذاتية لمشروعه الدموى الذى فشل فى كل المستويات: من إقامة الدولة، إلى كسب الحاضنة، إلى الحفاظ على كوادره. بل يواصل اجترار نفس السردية التى فشلت، بينما يتهم الآخرين بالخيانة، فقط لأنهم يحاولون البقاء عبر مقاربات أقل صدامية. وهذا يعكس مأزقًا عميقًا لا يخص "داعش" وحده، بل يمتد إلى عموم الحركات الجهادية التى تتشابه فى الجوهر، لكنها تتصارع على الشكل. لذا، فإن مجرد اختلاف الدرجة لا يعنى تقليل الخطورة، بل ربما يزيدها، لأن "التطرف المرن" قد يكون أكثر قدرة على البقاء والانتشار. العاطفة ضد العقل: تكتيك تقليدى متجدد يلجأ تنظيم داعش فى افتتاحيته، إلى واحدة من أقدم تقنيات الخطاب التعبوي: ترذيل العاطفة وتقديس "الصلابة الإيمانية" بوصفها الحصن الأخير أمام ما يسميه "الحرب النفسية". يهاجم النص من يسميهم "العاطفيين"، وهم أولئك الذين – بحسب وصفه – تأثروا بـ"الابتسامات والنسائم"، فى إشارة ساخرة إلى من استجابت مشاعرهم للواقع الإنسانى الطبيعى أو تفاعلوا مع مظاهر الجمال والسلام فى الحياة. فى المقابل، يُمجَّد "المجاهد الصلب" الذى لا تهزه العواطف ولا يُضعفه الحنين، بل يظل – وفقًا لهذا النموذج – متمترسًا خلف عقيدته كصخرة صمّاء. هذا التوصيف لا يقدّم صورة متوازنة للإنسان، بل يسعى إلى إعادة تشكيل الفرد على نحو يتناقض مع فطرته البشرية. فباسم "الثبات العقائدي"، يتم الترويج لنموذج الإنسان الذى لا يضحك، لا يتألم، لا يتردد، ولا يحنّ. الإنسان الذى لا تهمه الحياة ولا الناس، بل فقط ما تمليه عليه الجماعة العقائدية. هذا المسعى لعزل الأعضاء عن عواطفهم هو إحدى أدوات التنظيم فى إحكام السيطرة على أفراده، وتجريدهم من أى قدرة على التفاعل الطبيعى مع محيطهم، أو إعادة التفكير فى ما يفعلونه. يمثل هذا النهج فى جوهره، انعكاسًا واضحًا للتربية "الداعشية" التى تنظر إلى العاطفة بوصفها خللًا فى العقيدة، وإلى الشك الإنسانى باعتباره مدخلًا لـ"الفتنة". وهو بذلك يفرغ الدين من محتواه الروحى والإنساني، ويحوله إلى مشروع صلد، جامد، لا يرى فى الرحمة أو التردد أو الحزن إلا علامات ضعف يجب التخلص منها. وبهذا، يُقتل الحس الإنسانى داخل الفرد لصالح آلة فكرية متطرفة لا تتعامل مع الحياة إلا بمنطق الموت والتجرد الكامل من المشاعر. الإعلام كخط دفاع: الترويج للإنغلاق تُختَتم افتتاحية العدد ٤٩٣ من صحيفة "النبأ" بتكليف الجهاز الإعلامى داخل تنظيم داعش بمهمة "التحصين المعنوي" ضد ما يسمونه "الحرب النفسية". لكن هذه المهمة ليست دعوة إلى التنوير أو الحوار، بل إلى الانغلاق والرقابة. فالتنظيم لا يطلب من إعلامييه خوض النقاشات أو تفنيد الآراء المختلفة، بل يحذرهم من ذلك، مؤكدًا أن الرد على "كل شبهة" أو الدخول فى "كل نقاش" قد يؤدى إلى تصدع داخلى ويزعزع الصف التنظيمي. وهذا الاعتراف الضمنى بهشاشة البناء الفكرى يفضح طبيعة المشروع: إنه كيان لا يحتمل الجدل، ولا يتحمل التساؤل. هذا المنع الممنهج للنقاش يعكس فلسفة سلطوية ترى فى الكلمة الحرة خطرًا يفوق الرصاص، وتؤمن بأن الوعى إذا تُرك دون رقابة قد يُفضى إلى الانشقاق أو حتى التمرد. ولذلك، يروج الخطاب لفكرة "إماتة بعض القضايا بالصمت"، وكأن الصمت أداة تطهير عقائدي. وبهذا، يتحول الإعلام – المفترض أن يكون أداة تواصل وفهم – إلى جدار عازل، يصد التساؤلات بدل أن يواجهها، ويخنق النقاش بدل أن يفتحه. فى نهاية المطاف، يكشف هذا التوجه الإعلامى عن خوف التنظيم العميق من فقدان السيطرة على عقول أفراده. فالمشكلة ليست فى "الحرب النفسية" التى يدعيها، بل فى واقع التنظيم ذاته: واقع يقوم على خطاب أحادي، مغلق، لا يسمح بالمراجعة أو التعددية، ويخشى أن تؤدى كلمة واحدة إلى انهيار الوهم الذى يقدمه لأتباعه بوصفه "مشروع الخلافة". خاتمة: خطاب مأزوم يحاول إخفاء العجز افتتاحية العدد ٤٩٣ من صحيفة "النبأ" ليست تعبيرًا عن قوة متماسكة، بل مرآة تعكس أزمة وجودية يعانى منها تنظيم داعش. إنها محاولة لتضميد جراح مشروع يتداعى، بعد أن خسر الأرض التى كان يدّعى إقامة "الخلافة" عليها، وتراجعت قدرته على إبهار المتابعين أو استقطاب أنصار جدد. ما يقدمه النص ليس بيان انتصار، بل نشرة قلق، مشبعة بالاستنفار النفسى والدعوي، وكأن التنظيم يحاول عبثًا إنعاش جثة مشروع انتهى فعليًا، رغم أن خطابه ما زال يتنفس اصطناعيًا. فى مواجهة هذا الواقع، يلوذ التنظيم بخطاب انغلاقي، يحشد الأتباع داخل سردية مظلومية دائمة، ويطالبهم بالتحصن ضد "الشبهات" و"الفتن" عبر الصمت والعزلة الذهنية. لكنه بذلك لا يزرع الصلابة كما يزعم، بل يكرس الهشاشة. فالفرد الذى يُمنع من التفكير، ويُرهب من النقد، ويُغلق عليه باب السؤال، لا يتحول إلى مؤمن راسخ، بل إلى تابع مأزوم، يخشى العالم، ويرى فى كل فكرة غريبة تهديدًا، وفى كل اختلاف خطرًا. هذا النمط من "التربية العقدية" لا يصنع الروح القتالية، بل يعمق الانهيار النفسي. إن التحصين الحقيقى لا يكون بالخوف من الأفكار، بل بمواجهتها؛ لا بالهروب من التساؤل، بل بتشجيعه، ولا ببناء الجدران، بل بفتح النوافذ. المشروع الذى يقوم على القلق والعداء للمعرفة، وينظر إلى العقل بوصفه عدوًا، محكوم عليه بالعقم والتآكل الذاتي، مهما رفع من شعارات الجهاد أو الصمود. فالأفراد الذين يُربون على الشك فى كل شيء إلا ما يُلقن لهم، يصبحون عبئًا على أنفسهم وعلى تنظيمهم، مهما حملوا من سلاح أو رددوا من شعارات.

داعش وأزمة الهوية الجهادية: خطاب الحرب النفسية في مواجهة الفشل
داعش وأزمة الهوية الجهادية: خطاب الحرب النفسية في مواجهة الفشل

الحركات الإسلامية

time٠٢-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الحركات الإسلامية

داعش وأزمة الهوية الجهادية: خطاب الحرب النفسية في مواجهة الفشل

في افتتاحية العدد 493 من صحيفة النبأ، الصادرة مساء الخميس 1 مايو 2025، عن تنظيم "داعش"، يعيد التنظيم إنتاج خطابه الدعائي القديم، مستعينًا بمفردات الحرب النفسية لتأطير حالة التراجع التي يعاني منها. ينحو الخطاب نحو شيطنة مطلقة للعالم الخارجي، حيث يُصوَّر "العدو" على أنه كتلة متجانسة تشمل الجيوش، والحكومات، والعلماء، والعملاء، وحتى الأفراد المجهولين "الذين لا يعلمهم إلا الله"، كما يقول النص. هذا التوسيع المقصود لدائرة العدو لا يعكس فقط نزعة توطينية للبارانويا الجماعية داخل بنية التنظيم، بل يكشف عن محاولة مكرورة لصياغة العالم في ثنائية صارمة: "نحن" مقابل "الآخر الشرير"، بما يبرر الانغلاق ويُحصّن أفراده من أي مساءلة أو شك داخلي. يُقدّم النص نفسه بوصفه دفاعًا عقديًا ونفسيًا في وجه ما يسميه "الحرب النفسية"، لكنه في جوهره يعبّر عن أزمة أعمق يعيشها التنظيم: أزمة اهتزاز الثقة في المشروع نفسه. يتحدث النص عن الثبات والصبر والعقيدة، لكنه يلمّح ضمنيًا إلى فقدانها أو ضعفها، فالمبالغة في الدعوة إلى "الثبات على الطريق" تكشف أن الطريق ذاته أصبح موضع تساؤل من قِبل بعض الأتباع. الإلحاح على التحذير من "الاختيارات البديلة"، كالنماذج الأخرى من الإسلاميين (طالبان، الجولاني)، يكشف أن هذه النماذج أصبحت أكثر جاذبية للأفراد الباحثين عن "شرعية جهادية" مقبولة سياسيًا، وهو ما يزعزع سردية داعش عن "المنهاج الصحيح". أما من الناحية الإعلامية، فتشير هذه الافتتاحية إلى انحسار فعالية الدعاية الخارجية للتنظيم. فبدلًا من الخطاب الهجومي الذي كان يتفاخر بالإنجازات، يركّز النص على خطاب دفاعي يفتقر إلى الثقة، يدور حول "المؤامرة العالمية" و"الحرب النفسية"، وكأن التنظيم أصبح مطاردًا في الوعي أكثر مما هو موجود في الواقع. وهذا التحول من خطاب القوة إلى خطاب الضحية، ومن استعراض التمكين إلى التحصين ضد التفكك، يعكس إدراكًا داخليًا لدى صناع الدعاية أن مشروع "الخلافة" الذي كان ملهمًا في عيون مناصريه، لم يعد كذلك، بل أصبح عبئًا يتطلب خطابًا تعبويًا لمحاولة الحفاظ على ما تبقى من الولاء والتماسك. خطاب مهووس بـ"المؤامرة الكونية" يهيمن على افتتاحية العدد 493 من صحيفة النبأ خطاب تآمري مكثف، يعيد إنتاج سردية "المؤامرة الكونية" التي طالما استخدمها تنظيم "داعش" كركيزة تفسيرية لكل ما يواجهه من إخفاقات وتحديات. في هذا النص، تُصوَّر الحرب النفسية بوصفها جبهة شاملة تضم قائمة غير منتهية من الأعداء: من جيوش وحكومات إلى شيوخ ومراكز أبحاث ومخابرات، مرورًا بعلماء وعملاء، وحتى أطراف غامضة "لا يعلمهم إلا الله" على حد تعبيره. هذا التضخيم المقصود لحجم العدو لا يخدم التحليل الواقعي، بل يُستخدم لترسيخ الذهنية الحصارية التي يعيش فيها التنظيم، والتي تُغلق باب التفكير خارج ثنائية "نحن مقابل العالم"، وتحوّل أتباعه إلى كائنات مشحونة بالرعب والارتياب الدائم. ما يكشفه هذا الخطاب، في جوهره، ليس قوة تنظيمية أو صلابة فكرية، بل هشاشة بنيوية يعاني منها التنظيم في بنيته الداخلية. فبدل الانخراط في مراجعة نقدية أو تفسير واقعي للتراجع الذي أصابه على مستوى الفكرة والممارسة، يواصل التنظيم الهروب إلى الأمام عبر تضخيم المؤامرة لتبرير فشله وشرعنة بقائه في موقع الضحية المحاصرة. هذا الهوس بالمؤامرة لا يهدف إلى تعبئة الأتباع فحسب، بل يمنعهم من التفكير الحر، ويعطل أي محاولة للفهم أو التقييم الموضوعي، خشية أن تؤدي إلى تفكيك السردية التي يقوم عليها المشروع الجهادي. الخطير في هذا الخطاب التآمري أنه لا يكتفي بخلق أعداء خارجيين، بل يزرع الشك داخل صفوف التنظيم نفسه. فكل تساؤل أو تردد قد يُفسَّر باعتباره جزءًا من "الحرب النفسية"، وكل اختلاف يُصنّف تلقائيًا في خانة الخيانة أو العمالة. وبهذا، يصبح التنظيم كيانًا مغلقًا على ذاته، يرفض كل صوت داخلي لا يعزف على نغمة "الثبات والصبر"، ويقمع أية محاولة للمراجعة أو التغيير. هذا النوع من الانغلاق الأيديولوجي لا يحمي التنظيم، بل يُسرّع من تآكله الذاتي، لأنه يعجز عن التكيّف مع المتغيرات أو إصلاح أخطائه، في ظل سيطرة عقلية المؤامرة على مجمل تفكيره. شيطنة العقل والشك، وتحريم النقد تتبنّى افتتاحية النبأ في عددها 493 خطابًا صارمًا يحاصر ملكة التفكير النقدي ويجرّم السؤال والتأمل، من خلال تصنيف أي تساؤل أو محاولة للمراجعة باعتبارها "شبهة" خطيرة. وتُقدَّم هذه "الشبهات" بوصفها البوابة الكبرى للحرب النفسية التي يخوضها العدو، وبالتالي فإن مجرد طرح الأسئلة أو البحث في البدائل يُعد خيانة داخلية للصف، وانهزامًا نفسيًا أمام الخصم. هذا النوع من الخطاب لا يُعادي النقد الخارجي فحسب، بل يصادر الحق في التفكير الفردي، ويحاصر العقل داخل دائرة مغلقة من الولاء المطلق والانقياد الأعمى. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى تحميل الانفتاح على الآخر – أيًّا كانت صورته – تهمة "الفتنة"، وهو مصطلح ديني تقليدي شديد الحساسية، يُستخدم هنا لترويع الأفراد من أي تفاعل معرفي أو وجداني مع غيرهم. فكل تعاطف، وكل محاولة لفهم وجهة نظر مختلفة، أو حتى الاستماع لها، يُصنَّف مباشرة ضمن أدوات العدو لاختراق الصف، وهو ما يكرّس عزلة شعورية وفكرية عميقة، ويحوّل العضو في التنظيم إلى كيان منغلق مشحون بالخوف من الآخر ومن ذاته. النتيجة الحتمية لهذا البناء الخطابي هي خلق بيئة خانقة يُجرَّم فيها التفكير، ويُحوَّل فيها الدين إلى أداة للرقابة النفسية، يُستخدم فيها الإيمان كدرع لا للتثبيت على القيم، بل لمنع مراجعتها. ويُقدَّم الشك – بوصفه وظيفة معرفية صحية – كخطر وجودي يجب القضاء عليه، لا بوصفه مقدمة للفهم أو وسيلة للتعمق في الإيمان. وبهذا، يُحَصَّن التنظيم ضد أي نقاش داخلي محتمل لا بإقناع الأعضاء، بل بترهيبهم، مما يجعل أي بادرة تفكير مستقل عملاً مريبًا يستدعي التوبة أو العقوبة. بناء معنويات زائفة على ركام الواقع يُعيد تنظيم داعش في افتتاحيته الأخيرة إنتاج خطاب الهروب من الواقع، من خلال الترويج لفكرة أن "قوة الروح" وحدها كافية لمواجهة الهزائم العسكرية والانهيارات التنظيمية. ففي سياق يتطلب مراجعة استراتيجية أو حتى مجرد إقرار بالوقائع، يفضّل التنظيم أن ينسج بطولات معنوية مفترضة، مفاخِرًا بما يسميه "ثبات المجاهدين في الباغوز"، رغم أن ما جرى هناك كان نهاية دموية مأساوية لمشروعه في الشام، ونتيجة مباشرة لفشله السياسي والعسكري. بهذا الخطاب، يحوّل داعش الانكسار إلى سردية "صمود"، ويستبدل التقييم الواقعي بالتعالي الشعوري. من خلال استدعاء معركة الباغوز، لا يسعى التنظيم فقط إلى بث الأمل الزائف في صفوفه المتبقية، بل يحاول إنتاج أسطورة معنوية تقفز فوق الوقائع، وتُقدِّم الهزيمة الكبرى على أنها اختبار إيماني أو "تمحيص" رباني للمخلصين من أتباعه. وهذا النمط من الخطاب ليس جديدًا؛ فقد استُخدم مرارًا في أدبيات الجماعات المغلقة التي تحتفل بخسائرها تحت عنوان "الثبات" و"الابتلاء"، ما يعكس محاولة للهروب من المراجعة النقدية أو المساءلة التنظيمية. تكمن خطورة هذا النوع من التفسير في أنه يُنتج وعيًا زائفًا ومضادًا للتغيير، إذ لا يُسمح فيه بالاعتراف بالأخطاء أو الفشل، بل يُعاد تأطير كل هزيمة ضمن منظومة رمزية مغلقة، تكرّس العجز بدلًا من تجاوزه. إنه خطاب يعيد تزييف الواقع بطريقة تُبقي الجماعة داخل وهم الأحقية والتفوق المعنوي، رغم انهيارها على كل المستويات، ويغذّي في الوقت ذاته نزعة استشهادية لا تبحث عن نصر حقيقي، بل عن موت "ذو معنى" داخل سردية خلاصية لا علاقة لها بالواقع. خطاب ازدواجي: محاربة الإسلاميين بالإسلاميين؟ في افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ"، يهاجم تنظيم داعش بشدة ما يسميه "البدائل الجهادية" التي يروّج لها الغرب، في إشارة مباشرة إلى حركات مثل "طالبان" و"هيئة تحرير الشام" بقيادة أبو محمد الجولاني. ويقدّم هذه الكيانات بوصفها مشاريع مشبوهة تسعى لاختراق صفوف "المجاهدين الحقيقيين"، واستقطاب أنصار التنظيم عبر تبني خطاب أكثر مرونة سياسيًا وأقل صدامية مع العالم. هذا الطرح يكشف عن قلق حقيقي داخل تنظيم داعش من تآكل تأثيره لصالح تنظيمات تطرح نفسها كبدائل أكثر قابلية للبقاء والتفاوض، حتى وإن ظلت ضمن الفلك الجهادي نفسه. لكن اللافت في هذا الخطاب ليس مجرد رفض التنظيم لمنافسيه، بل الطريقة التي يستخدم فيها نفس أدوات الحرب النفسية التي يتّهم بها الآخرين. فبدلًا من تقديم نقد موضوعي لمآلات تجارب كـ"طالبان" أو "الجولاني"، يعمد داعش إلى تخوينهم ووصمهم بالعمالة، دون أن يسمح بأي مراجعة ذاتية لمشروعه هو، أو أي تساؤل حول الكلفة الهائلة لخياراته العنيفة. بهذا السلوك، لا يبدو أن التنظيم يختلف جوهريًا عن خصومه، بل يعيد إنتاج نفس منطق الإقصاء والاتهام بالردة، وهو ما يُظهر بوضوح محدودية أفقه وانغلاقه على ذاته. الصراع بين تنظيم "داعش" وخصومه من الجماعات الجهادية الأخرى، كما تعكسه افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ"، لا ينبع من خلافات جذرية في الأيديولوجيا أو الرؤية الدينية، بل من تنافس على الزعامة والمشروعية داخل الفضاء الجهادي نفسه. فكل الأطراف التي يهاجمها التنظيم – من "طالبان" إلى "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني – تشترك معه في المنطلقات العقائدية الكبرى، كفكرة "الحاكمية لله"، ومفهوم "الولاء والبراء"، وتكفير الأنظمة القائمة، واعتماد العنف المسلح كأداة للتغيير. ما يفرّقهم ليس الفكرة بل طريقة تنفيذها، ومدى الاستعداد للمناورة السياسية أو تقديم تنازلات شكلية. من هذا المنظور، فإن الحملة التي يشنها تنظيم داعش على تلك الجماعات "البديلة" لا تعبّر عن وعي نقدي حقيقي بمخاطر الانحراف أو التمييع، بل تكشف عن أزمة نفسية داخل التنظيم، تعكس مخاوفه من فقدان المكانة داخل المشهد الجهادي العالمي. فحين يتراجع نفوذ داعش ميدانيًا وتخبو قدرته على التجنيد، تصبح أي جماعة أخرى تقدم خطابًا "جهاديًا" أكثر براغماتية أو توظيفًا للواقع، تهديدًا رمزيًا وتنظيميًا له، حتى وإن كانت تشاركه نفس القناعات. لذلك يعمد داعش إلى تخوينهم وشيطنتهم، لا لأنه يختلف معهم في الجوهر، بل لأنه يخشى من قدرتهم على منافسته ضمن جمهور يؤمن بالمرجعيات نفسها. المفارقة هنا أن التنظيم الذي يُتهم الآخرين بالعمالة للغرب أو بالتفريط، لا يملك تصورًا بديلًا واقعيًا أو مراجعة ذاتية لمشروعه الدموي الذي فشل في كل المستويات: من إقامة الدولة، إلى كسب الحاضنة، إلى الحفاظ على كوادره. بل يواصل اجترار نفس السردية التي فشلت، بينما يتهم الآخرين بالخيانة، فقط لأنهم يحاولون البقاء عبر مقاربات أقل صدامية. وهذا يعكس مأزقًا عميقًا لا يخص "داعش" وحده، بل يمتد إلى عموم الحركات الجهادية التي تتشابه في الجوهر، لكنها تتصارع على الشكل. لذا، فإن مجرد اختلاف الدرجة لا يعني تقليل الخطورة، بل ربما يزيدها، لأن "التطرف المرن" قد يكون أكثر قدرة على البقاء والانتشار. العاطفة ضد العقل: تكتيك تقليدي متجدد يلجأ تنظيم داعش في افتتاحيته، إلى واحدة من أقدم تقنيات الخطاب التعبوي: ترذيل العاطفة وتقديس "الصلابة الإيمانية" بوصفها الحصن الأخير أمام ما يسميه "الحرب النفسية". يهاجم النص من يسميهم "العاطفيين"، وهم أولئك الذين – بحسب وصفه – تأثروا بـ"الابتسامات والنسائم"، في إشارة ساخرة إلى من استجابت مشاعرهم للواقع الإنساني الطبيعي أو تفاعلوا مع مظاهر الجمال والسلام في الحياة. في المقابل، يُمجَّد "المجاهد الصلب" الذي لا تهزه العواطف ولا يُضعفه الحنين، بل يظل – وفقًا لهذا النموذج – متمترسًا خلف عقيدته كصخرة صمّاء. هذا التوصيف لا يقدّم صورة متوازنة للإنسان، بل يسعى إلى إعادة تشكيل الفرد على نحو يتناقض مع فطرته البشرية. فباسم "الثبات العقائدي"، يتم الترويج لنموذج الإنسان الذي لا يضحك، لا يتألم، لا يتردد، ولا يحنّ. الإنسان الذي لا تهمه الحياة ولا الناس، بل فقط ما تمليه عليه الجماعة العقائدية. هذا المسعى لعزل الأعضاء عن عواطفهم هو إحدى أدوات التنظيم في إحكام السيطرة على أفراده، وتجريدهم من أي قدرة على التفاعل الطبيعي مع محيطهم، أو إعادة التفكير في ما يفعلونه. يمثل هذا النهج في جوهره، انعكاسًا واضحًا للتربية "الداعشية" التي تنظر إلى العاطفة بوصفها خللًا في العقيدة، وإلى الشك الإنساني باعتباره مدخلًا لـ"الفتنة". وهو بذلك يفرغ الدين من محتواه الروحي والإنساني، ويحوله إلى مشروع صلد، جامد، لا يرى في الرحمة أو التردد أو الحزن إلا علامات ضعف يجب التخلص منها. وبهذا، يُقتل الحس الإنساني داخل الفرد لصالح آلة فكرية متطرفة لا تتعامل مع الحياة إلا بمنطق الموت والتجرد الكامل من المشاعر. الإعلام كخط دفاع: الترويج للإنغلاق تُختَتم افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ" بتكليف الجهاز الإعلامي داخل تنظيم داعش بمهمة "التحصين المعنوي" ضد ما يسمونه "الحرب النفسية". لكن هذه المهمة ليست دعوة إلى التنوير أو الحوار، بل إلى الانغلاق والرقابة. فالتنظيم لا يطلب من إعلامييه خوض النقاشات أو تفنيد الآراء المختلفة، بل يحذرهم من ذلك، مؤكدًا أن الرد على "كل شبهة" أو الدخول في "كل نقاش" قد يؤدي إلى تصدع داخلي ويزعزع الصف التنظيمي. وهذا الاعتراف الضمني بهشاشة البناء الفكري يفضح طبيعة المشروع: إنه كيان لا يحتمل الجدل، ولا يتحمل التساؤل. هذا المنع الممنهج للنقاش يعكس فلسفة سلطوية ترى في الكلمة الحرة خطرًا يفوق الرصاص، وتؤمن بأن الوعي إذا تُرك دون رقابة قد يُفضي إلى الانشقاق أو حتى التمرد. ولذلك، يروج الخطاب لفكرة "إماتة بعض القضايا بالصمت"، وكأن الصمت أداة تطهير عقائدي. وبهذا، يتحول الإعلام – المفترض أن يكون أداة تواصل وفهم – إلى جدار عازل، يصد التساؤلات بدل أن يواجهها، ويخنق النقاش بدل أن يفتحه. في نهاية المطاف، يكشف هذا التوجه الإعلامي عن خوف التنظيم العميق من فقدان السيطرة على عقول أفراده. فالمشكلة ليست في "الحرب النفسية" التي يدعيها، بل في واقع التنظيم ذاته: واقع يقوم على خطاب أحادي، مغلق، لا يسمح بالمراجعة أو التعددية، ويخشى أن تؤدي كلمة واحدة إلى انهيار الوهم الذي يقدمه لأتباعه بوصفه "مشروع الخلافة". خاتمة: خطاب مأزوم يحاول إخفاء العجز افتتاحية العدد 493 من صحيفة "النبأ" ليست تعبيرًا عن قوة متماسكة، بل مرآة تعكس أزمة وجودية يعاني منها تنظيم داعش. إنها محاولة لتضميد جراح مشروع يتداعى، بعد أن خسر الأرض التي كان يدّعي إقامة "الخلافة" عليها، وتراجعت قدرته على إبهار المتابعين أو استقطاب أنصار جدد. ما يقدمه النص ليس بيان انتصار، بل نشرة قلق، مشبعة بالاستنفار النفسي والدعوي، وكأن التنظيم يحاول عبثًا إنعاش جثة مشروع انتهى فعليًا، رغم أن خطابه ما زال يتنفس اصطناعيًا. في مواجهة هذا الواقع، يلوذ التنظيم بخطاب انغلاقي، يحشد الأتباع داخل سردية مظلومية دائمة، ويطالبهم بالتحصن ضد "الشبهات" و"الفتن" عبر الصمت والعزلة الذهنية. لكنه بذلك لا يزرع الصلابة كما يزعم، بل يكرس الهشاشة. فالفرد الذي يُمنع من التفكير، ويُرهب من النقد، ويُغلق عليه باب السؤال، لا يتحول إلى مؤمن راسخ، بل إلى تابع مأزوم، يخشى العالم، ويرى في كل فكرة غريبة تهديدًا، وفي كل اختلاف خطرًا. هذا النمط من "التربية العقدية" لا يصنع الروح القتالية، بل يعمق الانهيار النفسي. إن التحصين الحقيقي لا يكون بالخوف من الأفكار، بل بمواجهتها؛ لا بالهروب من التساؤل، بل بتشجيعه، ولا ببناء الجدران، بل بفتح النوافذ. المشروع الذي يقوم على القلق والعداء للمعرفة، وينظر إلى العقل بوصفه عدوًا، محكوم عليه بالعقم والتآكل الذاتي، مهما رفع من شعارات الجهاد أو الصمود. فالأفراد الذين يُربون على الشك في كل شيء إلا ما يُلقن لهم، يصبحون عبئًا على أنفسهم وعلى تنظيمهم، مهما حملوا من سلاح أو رددوا من شعارات.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store