أحدث الأخبار مع #النضال


الميادين
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الميادين
نهاية التنظيم أم بداية الفكرة؟ قراءة في تحوّلات حزب العمال الكردستاني
في تحوّل وصفه مراقبون بأنه "الأهم في تاريخ الحركة الكردية المعاصرة"، أعلن حزب العمال الكردستاني، في ختام مؤتمره الثاني عشر، حلّ هيكله التنظيمي وإنهاء الكفاح المسلح، معلنًا بذلك نهاية مرحلة استمرت أكثر من 4 عقود من الصراع المسلح مع الدولة التركية. هذا الإعلان، الذي جاء تتويجًا لرؤية القائد عبد الله أوجلان، أعاد طرح القضية الكردية بوصفها مفتاحًا لمستقبل الدولة التركية والمنطقة بأسرها، لا باعتبارها مجرد ملف أمني، بل مسألة ديمقراطية وعدالة تاريخية. في هذا المقال التحليلي، نرصد التحولات العميقة التي تضمّنها بيان الحزب، ونضعها في سياقها السياسي والفكري والجيوستراتيجي، ونطرح سؤلًا جوهريًا: هل تنجح هذه الخطوة الجريئة في فتح بوابة السلام أم تتكسر المبادرة مجددًا على صخرة الإنكار والتجاهل؟ ليست كل النهايات هزائم، ولا كل البدايات ولادات. أحيانًا، تموت البندقية لتولد الكلمة. في 12 أيار 2025، طوى حزب العمال الكردستاني صفحةً من أكثر صفحات الشرق الأوسط اشتعالًا، بإعلانه - في بيان مؤتمرٍ تاريخي - حلَّ هيكله التنظيمي وإنهاء الكفاح المسلح الذي شكّل على مدى أكثر من 4 عقود النبض العنيف لقضيةٍ طُمست طويلًا تحت رماد الإنكار والتذويب. لم يكن هذا القرار اعترافًا بالعجز، بل كان إعلانًا عن نضج تجربةٍ بلغت مداها في مواجهة آلة الدولة، وانتقلت إلى طور جديد: من لغة البندقية إلى منطق السياسة، من الجبل إلى ساحة النضال المدني، من التنظيم إلى الفكرة. وما بين سطور البيان، تتبدّى معالم تحوّل فلسفي واستراتيجي تتجاوز حدود التنظيم نفسه، لتعيد طرح السؤال الأعمق: هل آن أوان الحل العادل للقضية الكردية في تركيا؟ من اللافت أن البيان لم يعرض هذا التحوّل بوصفه انكسارًا تحت وطأة الضغط العسكري أو الأمني، بل قدّمه كذروة لانتصارٍ استراتيجي طويل النفس على سياسات الإنكار والإبادة التي شكّلت جوهر البنية التأسيسية للدولة التركية الحديثة منذ معاهدة لوزان ودستور 1924. في نظر الحزب، لم يكن الهدف من النضال المسلح مجرد كسب مواقع أو فرض معادلات آنية، بل إعادة الاعتبار إلى وجودٍ أُريد له أن يُمحى من الجغرافيا والتاريخ. واليوم، يرى أنه أنجز مهمته التاريخية؛ إذ أخرج القضية الكردية من أسر المعالجة الأمنية، ووضعها - بجدارة النضال والتضحيات - على طاولة السياسة بوصفها مسألة وطنية ديمقراطية تفرض نفسها على الدولة والمجتمع معًا. 9 أيار 09:57 8 أيار 10:14 مرةً أخرى، يتقدّم القائد عبد الله أوجلان إلى صدارة المشهد، لا بوصفه مجرد رمزٍ تاريخي أو مرجع فكري، بل كفاعل حيّ يُناط به توجيه المرحلة الجديدة ومرافقة انتقال الحركة من زمن الكفاح المسلح إلى زمن السياسة. المفارقة المؤلمة أن هذا الدور المحوري يُطلب من رجل مُغيَّب قسرًا في عزلة مطلقة منذ سنوات، محروم حتى من حقه الأساسي في التواصل مع العالم الخارجي، فيما يُنتظر منه أن يُشرف على عملية يُفترض أن تعيد صياغة العلاقة بين الكرد والدولة. إنها لحظة تختبر فيها الدولة التركية، وربما المجتمع الدولي أيضًا، صدقيّة حديثهم عن السلام، حين يُفترض أن ينطلق من أكثر الأصوات حجبًا وقمعًا، وهذا ما يضع المجتمع الدولي، والمنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية، أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية واضحة في المطالبة بكسر العزلة المفروضة عليه، لا بوصفه سجينًا سياسيًا فحسب، بل كعنصر جوهري في معادلة السلام أيضاً، وركيزة أساسية لأي حلٍ ديمقراطي شامل للقضية الكردية. لا يعني حل حزب العمال الكردستاني، كما أوضح البيان، نهاية الفكرة أو توقف النضال، بل يشير إلى نقلة استراتيجية من الشكل التنظيمي المغلق المرتبط بالكفاح المسلح إلى مشروع وطني ديمقراطي مفتوح تتوزع فيه الأدوار والمسؤوليات على قوى المجتمع بذاته. إنه تحوّل من منطق الحزب - الطليعة إلى منطق المجتمع - القاعدة، حيث تصبح التنظيمات الشعبية والمدنية، لا البنى العسكرية، هي الفاعل الرئيس في إنتاج السياسة، وبناء الاقتصاد المحلي، والدفاع الذاتي، وترسيخ الديمقراطية القاعدية. في هذا السياق، تتبلور ملامح ما يمكن تسميته "مرحلة ما بعد الحزب"، التي تقوم على تجاوز الهياكل الهرمية الصارمة لمصلحة نماذج أفقية تعددية، تؤمن بالاكتفاء الذاتي، وتضع النساء والشبيبة في قلب الفعل الاجتماعي والسياسي، انسجامًا مع الرؤية التحررية التي بلورها أوجلان في سجنه، والتي وجدت ترجمتها التطبيقية - بدرجات متفاوتة - في تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، باعتبارها مختبرًا سياسيًا واجتماعيًا لفكر "الأمة الديمقراطية". يضع هذا الإعلان التاريخي الدولة التركية أمام مفترق طرق حاسم لا لبس فيه؛ فإما أن تتلقّف المبادرة بوصفها فرصة نادرة لفتح باب الحل السياسي الشامل والعادل، بما يضمن إنهاء عقود من الحرب والتهميش والتمرد، وإما أن تواصل سياسات الإنكار والملاحقة والعسكرة، فتُحوّل الفرصة إلى مأزق جديد يُضاعف من التوتر والانقسام. لم تعد القضية الكردية اليوم مجرد مسألة أمنية أو معضلة سياسية داخلية، بل أصبحت مؤشرًا لمدى قدرة الدولة التركية على التحول نحو دولة مواطنة، وديمقراطية، وتعددية. وكل تجاهل لهذه اللحظة الفارقة سيكون تجاهلًا مكلفًا، ليس للكرد وحدهم، بل لمستقبل تركيا ككل. لا يمكن قراءة التحوّل في استراتيجية حزب العمال الكردستاني بمعزل عن المشهد الإقليمي والدولي الذي يعاد تشكيله على إيقاع التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، فالهياكل القديمة تتصدع: سوريا ما بعد الحرب تعيش على تخوم الفوضى وإعادة التشكيل، والعراق يعاني انقساماته البنيوية، وإيران ترزح تحت ضغوط الداخل والخارج. وفي قلب هذه الجغرافيا المتحولة، يبرز الكرد كأحد أكثر الفاعلين ديناميكية، ليس فقط لكونهم القومية الرابعة في المنطقة بلا دولة، بل لكونهم أيضاً باتوا حاضرين بقوة في صلب المعادلات الأمنية والسياسية، سواء في قتالهم الحاسم ضد تنظيم داعش أو في بناء تجارب الحكم الذاتي التي مثلت محاولات أولية لصوغ مشروع ديمقراطي عابر للحدود القومية والدينية. من هنا، يأتي توجّه البيان إلى الرأي العام العالمي والحركات الديمقراطية في العالم ليمنح القضية الكردية طابعها الإنساني - الكوني، ويحولها من شأن محلّي - تركي إلى ملف أخلاقي وسياسي مفتوح أمام الضمير العالمي، فالقضية لم تعد ما فُرض على الكرد من حرمان فحسب، بل ما تواطأت فيه أيضاً قوى دولية عبر دعمها للأنظمة القمعية أو سكوتها عن المؤامرات، وفي مقدمتها المؤامرة الدولية التي طالت القائد أوجلان عام 1999. وبرغم ما يحمله البيان من نبرة أمل وتفاؤل، فإن الطريق نحو التحوّل الديمقراطي لا يزال مليئًا بالأشواك والأسئلة الحرجة، فهل تتجاوب الدولة التركية بإرادة سياسية حقيقية، فتُوقف ملاحقاتها الأمنية وعملياتها العسكرية؟ وهل تتخلّى القوى الإقليمية والدولية عن استثمارها في الورقة الكردية كأداة ضغط أو مساومة، وتفسح المجال أمام قيام حركة كردية موحّدة ذات مشروع مدني وسلمي؟ الأهم من ذلك: هل ينجح الكرد أنفسهم، بتعدّد مرجعياتهم الحزبية والجغرافية، في إدارة خلافاتهم الداخلية بروح المسؤولية التاريخية وتجاوز منطق التنافس الفصائلي والمناطقي؟ بين إعلان السلاح ونشوء السلام مسافةٌ لا تُقطع بالشعارات أو الأمنيات، بل بحاجة إلى أدوات جديدة، وعقلية تنظيمية مختلفة، قادرة على نقل الزخم الثوري من ميدان المواجهة المسلحة إلى فضاء النضال الديمقراطي، القائم على الحوار، وبناء المؤسسات، والرؤية السياسية والاجتماعية الطويلة النفس. لقد أنهى حزب العمال الكردستاني حرباً طويلة، لكن السلام لم يبدأ بعد. ما جرى في المؤتمر الثاني عشر ليس بياناً لطي صفحة فقط، بل محاولة شجاعة لإعادة كتابة التاريخ بلغة أخرى، لا تطلب الثأر، بل تطالب بالاعتراف. وفي عالم تتآكل فيه الشرعيات القديمة، ويُعاد فيه رسم الخرائط بالنار والدم، يقف الكرد أمام لحظة مفصلية: أن يُنتزع الاعتراف بنضالهم عبر مشروع ديمقراطي جامع، لا أن يُستبدل الإنكار الرسمي بتهشيم داخلي أو تسويات ناقصة. ولأن المسارات العظيمة تبدأ من الخيارات الشاقة، فإن ما طرحه المؤتمر من حلول وتحولات لن يكتمل إلا إذا توفرت إرادة حقيقية لدى الدولة التركية في كسر حلقة الحرب، كما لن يُكتب له النجاح إلا إذا حافظ الكرد أنفسهم على زخم التغيير، والتزموا بوحدة الهدف، وبنضال مدني طويل النفس، لا تقل تضحياته عن سني الكفاح المسلح؛ فالسلام ليس مجرد نهاية للحرب، بل بداية لمعركة من نوع آخر: معركة من أجل العدالة، والاعتراف، والكرامة المستحقة.


الشرق الأوسط
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الشرق الأوسط
قميص عبد الناصر حجاب
غرض النضال يبرر لأصحابه سلوكيات ينأى عنها المواطن العادي الذي لا يرى نفسه سوى شبيه بالأشباه، ونظير للأنظار، ليس متفضلاً عليهم بتضحية لم يطلبوها، ولا يدعي علماً يفوق علمهم، ولا يمنح نفسه موقع القائد بينهم. أسوأ سلوكيات ذلك المناضل أثراً الكذب تحقيقاً لغاية «نبيلة»، وإطلاق الأحكام على الآخرين، واغتيالهم معنوياً وشخصياً. ومن يعتمد الكذب لتوصيل فكرة يفقد فوراً الاتساق والنزاهة، وهما تاج رأس المثقف. من مثقفينا هؤلاء من أحب نسخته الحالية، لكنني أمقت المقت كله نسخته السابقة. والفارق بينهما تخليه عن شخصية المناضل، وغطرسته، ولفه ودورانه، وتقعره عن التفكير المستقيم المباشر. سمعت التسجيلات الأخيرة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وفكرت فوراً في أنور السادات. كيف أحيط في بداية حكمه بشلة من هؤلاء المناضلين، بين سياسيين ومثقفين، ألبوا عليه واتهموه بالخيانة، ودعوا صراحة لقتله، ثم تباهوا بذلك حين حدث. لنكتشف أنه كان الصادق الوحيد بينهم. لا شك أن هؤلاء، لا سيما القريبون من دوائر الحكم في الستينات، علموا أن النظام في مصر قبل بالمسار السلمي خياراً استراتيجياً. أن جمال عبد الناصر أبلغ من حوله، بعد كارثة النكسة، أن مصر تعتزم المضي في ذلك الطريق، وأنه تعلم بالخبرة أن الأنظمة العروبية والبعثية تعتزم التضحية بآخر جندي مصري. علموا من ثم أن أنور السادات في هذا الجانب من القرار السياسي لم يأتِ بجديد، ولا خان عهداً. أنه كان شجاعاً، مضحياً، ناكراً للذات، منجزاً، في غلالة من الدهاء والكاريزما. استطاع في ثلاث سنوات فقط أن ينقل مصر من موقع إلى موقع. فكان مستحقاً للمديح والتمجيد لا التخوين والاغتيال. في مقابل نكرانه للذات، تعامل حملة قميص ناصر مع السادات وكأنهم أولياء الدم. وهو نهج اضطر السادات من البداية إلى أكبر أخطائه. وجد نفسه بلا ظهير شعبي وطلابي، فلجأ إلى الإسلامجية طلباً لهذا المدد. الآن، تمعنوا في المفارقة. لامته جماعات اليسار على ذلك الخيار الذي دفعته إليه دفعاً، لكنها تحالفت مع الإسلامجية، بالصوت والصورة، بالغناء والموسيقى، بالدعاية والنكاية، على غرض التخلص منه. ولا سيما بعد معاهدة السلام. كذبت جماعات اليسار إذن في مسار السلام، وتخابثت في مسار التعامل مع التطرف الديني. والنتيجة أننا خسرنا على الوجهين: خسرنا رجل الحرب والسلام بالاغتيال، وخسرنا حياتنا بالعيش تحت سيطرة التطرف. وخسرنا في نخبتنا الشجاعة والنزاهة والمَثَل. والأمم إن خسرت الشجاعة صار أكبر أمانيها تحجيم السقوط بدلاً من المغامرة من أجل النجاح. امتدت الناصرية إلى أبعد من عبد الناصر بكل أخطائه. صارت الناصرية اسماً كودياً لنظرة إلى الحياة العامة، يتفق عليها قطاع واسع من البشر. حين تنزع المفردات الدينية عن الإسلامجي يتحول فوراً إلى ناصري، وحين تضيف المفردات الدينية إلى اليساري والبعثي والعروبي يتحول فوراً إلى إسلامجي. كلاهما يعتقد أنه يملك الحق المطلق، المستعلي على من حوله. كلاهما يعتقد أن الصراع أفضل جوهرياً من السلام. كلاهما يحب السيطرة ويتغزل بالحرب. لا يختلفان إلا على مساحة السيطرة. وكلاهما لا يدرك قيمة القيمة، ولا منشأها ولا غرضها. هذا جوهر قدرتهم العجيبة على تدمير الخارج والداخل. مَن يدري ربما أوشك عبد الناصر أيضاً على الانفتاح لإنقاذ اقتصاد البلد. ربما فهم بالتجربة لماذا نرسم العدالة عمياء. لا فرق لديها بين مَن يملك ملايين ومَن لا يملك. ربما فهم أنها قيمة مختلفة عن الرحمة والصدقة والعطف. أن انحياز العدالة نحو الغني فساد، وانحيازها نحو الفقير فساد. انحيازها نحو المالك فساد، ونحو المستأجر فساد. بالمصادفة، لا نزال بعد أكثر من نصف قرن على وفاته لا نستطيع تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر من قوانينها الثورية الجائرة. على ما تسببت فيه من إفساد للاقتصاد وتدهور في حال البنايات القديمة، بين مالك يشعر نحوها بالمرارة، ومستأجر لا يعنيه تطويرها. تسجيلات عبد الناصر المنشورة مؤخراً دليل إدانة على رافعي قميص عبد الناصر طوال نصف قرن. وهي إعادة اعتبار للسادات، ولعشرات الكتاب والمثقفين الذين كانوا صادقين معنا، فعاشوا في ضنك من تشويه دوائر الثقافة لهم، وأغمطوا حقوقهم. لولا موهبة نجيب محفوظ الطاغية لكان واحداً منهم. هؤلاء هم الدليل الحي على أن ما انكشف من تسجيلات عبد الناصر ظل مدفوناً بفعل فاعل.


الجزيرة
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
"سد الذرائع".. فخ لخنق المقاومة
عبر تاريخ النضال ضد الاستعمار، سعت القوى المهيمنة إلى استخدام إستراتيجيات متعددة لضبط المقاومة والحد من تأثيرها. لم تقتصر هذه الإستراتيجيات على القمع المباشر أو البطش العسكري، بل امتدت لتشمل محاولات أكثر تعقيدًا تستهدف الوعي والإرادة الجماعية للشعوب المناضلة. ضمن هذا الإطار، يظهر مفهوم "سد الذرائع" كأداة سياسية يُراد منها كبح الفعل المقاوم؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تجنب التصعيد. في السياق الفلسطيني، تأخذ هذه السياسات بُعدًا خاصًا نظرًا لتداخل العوامل السياسية والاجتماعية في ظل واقع استعماري طويل الأمد. يتجلى مفهوم "سد الذرائع" هنا كآلية لضبط الفعل النضالي، حيث يتحوّل من وسيلة لحماية المجتمع إلى ذريعة لتجميد أي تحرك يهدد الاحتلال. وبينما نجحت حركات تحررية في العالم – كجنوب أفريقيا والجزائر – في كسر هذه الإستراتيجيات عبر خطاب تحرري يعيد تشكيل الوعي، لا يزال التحدي في الحالة الفلسطينية قائمًا: كيف يمكن تجاوز سياسات ضبط المقاومة بكافة أشكالها، وبناء إرادة شعبية تتحدى الاحتلال بفاعلية. سد الذرائع في السياق الاستعماري رغم أن المصطلح لم يستخدم حرفيًا في العديد من دراسات ما بعد الاستعمار، فإن السلطات الاستعمارية كثيرًا ما مارست سياسة "سد الذرائع" لمنع نشوء مقاومة أو وعي وطني، عبر مجموعة من الإجراءات، مثل منع التعليم الوطني أو تعليم لغة السكان الأصليين: بحجة أن نشر لغات السكان الأصليين يُمكن أن يُستخدم لنشر أفكار استقلالية، وكالرقابة على الصحافة والمطبوعات، لوأد تشكيل وعي جمعي نحو الاستعمار، أو من خلال محاربة الرموز الثقافية أو الدينية أو التاريخية للسكان الأصليين؛ لأنها تعبر عن الهوية الجمعية للمجتمعات المستعمَرة. أدبيات ما بعد الاستعمار تنتقد بشدة هذا النوع من "المنع الوقائي" بوصفه شكلًا من المراقبة والسيطرة الأيديولوجية. فإدوارد سعيد دعا لتعزيز القدرة الشخصية والجماعية في مواجهة الأفكار المعدّة مسبقًا من قبل الاستعمار، وأيضًا ما أشار إليه فرانز فانون حول آليات الاستعمار، الذي يتجاوز السيطرة الجسدية ليصل إلى السيطرة على الوعي، حيث يستبطن المستعمَر مفاهيم وديناميات الهيمنة ويعيد إنتاجها داخل مجتمعه، حيث يتحول النضال والفعل الثوري إلى فعل يثير الخوف والارتباك بدلًا من أن يكون تعبيرًا عن إرادة التحرر. يمكن أيضًا النظر إلى "سد الذرائع" في تجارب الحركات التحررية، كما في تجربة جنوب أفريقيا، والجزائر، والهند. ففي جنوب أفريقيا، استخدم نظام الفصل العنصري ذرائع قانونية للحفاظ على النظام والقمع السياسي ضد السود. فيما في الجزائر كانت ممارسات الاستعمار الفرنسي تستخدم ذرائع مثل "الحفاظ على النظام"؛ لتبرير قمع جبهة التحرير الوطني. وفي الهند، استخدمت بريطانيا ذرائع مشابهة لتصوير المقاومة كقوى "رجعية". في كل هذه الحركات، كان كسر "سد الذرائع" يتطلب بناء خطاب تحرري متماسك يعارض السرديات الاستعمارية، ويُعيد بناء الشرعية التحررية على أسس شعبية ودولية. إعادة التأطير لسياسة "سد الذرائع" من منظور تحرّري لا يوجد لدى حركات التحرر في العالم إشكالية في فكرة "سد الذرائع"، ففي تجربة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، كان هناك ميل في بعض الفترات إلى تهدئة الفعل النضالي؛ بحجة عدم إعطاء ذريعة للنظام العنصري لتكثيف القمع. وكذلك في تجارب أخرى، ولكن كان ذلك في سياق تبني إستراتيجية نضالية شاملة تقوم على دمج الفعل الدبلوماسي مع المقاومة الشعبية والكفاح المسلح، لا أن تترك فراغًا يستغله الاستعمار في إعادة ترتيب أجندته. تكمن المعضلة الأساسية في الجمع بين "سد الذرائع" والعمل التحرري في الاستخدام المزدوج لهذا المفهوم. فمن جهة، تُقدَّم فكرة "سد الذرائع" كإجراء وقائي يهدف إلى منع التصعيد، أو إثارة ردود فعل عنيفة من قبل المحتل. ومن جهة أخرى، يمكن أن يتحول هذا المفهوم إلى أداة تقييدية تعمل على شلّ الحركة النضالية، وتحويل الفعل التحرري إلى مجرد ردود فعل محكومة بشروط الاحتلال. فعندما تُتبنى سياسة "سد الذرائع" بشكل مطلق وغير مرن، تتحول إلى قيد دائم على الفعل التحرري. ومن هنا، يأتي التحدي في إعادة صياغة المفهوم ليتحول من كونه مجرد إجراء يُعنى بتفادي ردود الفعل القمعية، إلى أداة إستراتيجية واعية تُعنى بتوقيت الفعل ومكانه وتضمن أكبر قدر من التأثير بأقل تكلفة سياسية أو اجتماعية. الاستخدام المطلق لسياسة "سد الذرائع" يحيد الفعل النضالي، ويضعه في خانة الفعل المؤجل؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تفادي التصعيد، لذلك، من الضروري إعادة تأطير المفهوم ليصبح جزءًا من إستراتيجية نضالية شاملة، فالثورات المناهضة للاستعمار انطلقت من إرادة تحريرية جذرية، وليس من منطق التكيف مع شروط المستعمِر. فمحاولة التفاوض أو التماهي مع منطق السلطة الاستعمارية تضعف الفعل النضالي التحرري، لأن الاحتلال يتبنى مفهوم الهيمنة، وما يسعى إليه المُحتلون هو كسره. لكن التحول الأصعب هو أن تتحول سياسة "سد الذرائع" لأيدولوجيا وبرنامج سياسي، يستعدي كل فعل مناضل وتحرري مهما كان نوعه، ويصبح فلسفة قمع لا فلسفة ضبط. سد الذرائع الفلسطينية: حواجز في وجه الثورة الشعبية تطورت سياسة "سد الذرائع" في السياق الفلسطيني لتتجاوز مجرد التهدئة وضبط الفعل المقاوم، أو ضبط الإيقاع بين السياسي والنضالي، لتصبح نهجًا وإستراتيجية شاملة ومركبة قيدت العمل النضالي في عدة اتجاهات أبرزها ما يلي: الأول: استخدام سياسة "سد الذرائع" كآلية لتقييد الفعل النضالي الجماهيري والشعبي، تحت ذرائع "الحفاظ على الأمن"، أو "تجنب التصعيد"، وفرض قيود قسرية على الحراكات الجماهيرية، فمن منظور تحليلي، يمكن القول إن سياسة "سد الذرائع" في الضفة الغربية تُعزز مناخًا سياسيًا ينزع عن المقاومة بكافة أنواعها مشروعيتها من جهة، بينما يُفسح المجال أمام المستوطنين لمواصلة تمددهم بدعم كامل من حكومة الاحتلال. يشير ذلك إلى أن الاحتلال لا يحتاج فعليًا إلى ذرائع لتوسيع استيطانه، بل يعتبر ذلك جزءًا من إستراتيجيته بعيدة المدى لضم الأرض وتهويدها. فالاحتلال دائمًا في حالة إنتاج لذرائعه الخاصة لتبرير الإبادة، إذ لا يمكن لسياسات ضبط الحراك الجماهيري أن توقف مشروعًا استيطانيًا يتغذى على منطق الإبادة والإحلال. بالتالي، فإن استمرار التمسك بسياسة "سد الذرائع" يعكس قراءة غير دقيقة للواقع، ويضعف القدرة على حشد مقاومة شعبية فاعلة قادرة على مواجهة الاستيطان كخطر وجودي، والتجارب التاريخية أثبتت أن الانتفاضات الشعبية كانت عامل ضغط على الاحتلال لتقييد أنشطته وليس العكس. وبدليل أنه لولا الانتفاضة الأولى لما كان هناك "سلطة وطنية فلسطينية". الاتجاه الثاني: الامتناع عن اتخاذ إجراءات كان من شأنها أن تُقيّد الاحتلال وتحدّ من قدرته على الإبادة. فقد تحوّل هذا المفهوم إلى ذريعة لعدم اتباع السبل الممكنة لتقييد الاحتلال ومحاسبته على جرائمه، خشية ردة فعل الاحتلال. فعلى مدى سنوات ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تُحسن القيادة الفلسطينية استثمار أدواتها السياسية والقانونية، في وقت كانت فيه بحاجة ملحّة إلى خلق رافعة دولية تقوّي موقفها وتُقيد حركة الاحتلال. ورغم امتلاكها ملفات مهمة قابلة للتدويل مثل قضية اغتيال الشهيد ياسر عرفات، أو المجازر المتكررة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن السلطة لم تبادر إلى تحريكها بجدّية على الساحة الدولية. تلك الملفات كان يمكن أن تشكل نقاط تحول رمزية وقانونية تحمل الاحتلال المسؤولية، وتؤسس لـ"ردع أخلاقي وقانوني" يُضعف منطق الإفلات من العقاب. الاتجاه الثالث: بالإضافة للأسباب المركبة لموقف السلطة السلبي تجاه ترتيب البيت الفلسطيني والتقارب مع حركة حماس، إلا أن أحد هذه الأسباب هو تبني إستراتيجية "سد ذرائع" الاحتلال، وسكون السلطة بتخوّفات الخشية من ردة فعل الاحتلال تجاه السلطة نفسها. الاتجاه الرابع: سياسة "سد الذرائع" أثرت أيضًا على بناء التحالفات الدولية. في كثير من الأحيان، يتم تجنب الانخراط في شراكات مع حركات تحرر أو دول داعمة للمقاومة خشية "إثارة غضب" الدول الغربية أو التعرض لضغوط سياسية واقتصادية. هذه الإستراتيجية أدت إلى عزلة نسبية، خاصة في المحافل الدولية حيث تُقدّم القضية الفلسطينية أحيانًا ضمن خطاب "إنساني" بحت يتجنب تسليط الضوء على البعد التحرري، مما أضعف التحالفات مع الحركات المناهضة للاستعمار في الجنوب العالمي. في الختام، فـ"سد الذريعة" لا يكون بتبنّي مبررات خطاب الاحتلال في الإبادة، أو تهميش الفعل الشعبي، أو الصمت على الجرائم، بل ببناء مشروع سياسي تحرري، وسياسات توحيدية، ومبادرات قانونية ودبلوماسية تُحرج الاحتلال وتُقيده أمام العالم. أما حين تغيب تلك السياسات، فإن الفراغ الذي تتركه السلطة يتحول إلى ساحة مفتوحة يتحرك فيها الاحتلال بلا رادع، وتصبح السلطة – ولو ضمنيًا – طرفًا يُسهّل العدوان لا من يضع حدًا له.


الجزيرة
١٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
فخ لخنق المقاومة
عبر تاريخ النضال ضد الاستعمار، سعت القوى المهيمنة إلى استخدام إستراتيجيات متعددة لضبط المقاومة والحد من تأثيرها. لم تقتصر هذه الإستراتيجيات على القمع المباشر أو البطش العسكري، بل امتدت لتشمل محاولات أكثر تعقيدًا تستهدف الوعي والإرادة الجماعية للشعوب المناضلة. ضمن هذا الإطار، يظهر مفهوم "سد الذرائع" كأداة سياسية يُراد منها كبح الفعل المقاوم؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تجنب التصعيد. في السياق الفلسطيني، تأخذ هذه السياسات بُعدًا خاصًا نظرًا لتداخل العوامل السياسية والاجتماعية في ظل واقع استعماري طويل الأمد. يتجلى مفهوم "سد الذرائع" هنا كآلية لضبط الفعل النضالي، حيث يتحوّل من وسيلة لحماية المجتمع إلى ذريعة لتجميد أي تحرك يهدد الاحتلال. وبينما نجحت حركات تحررية في العالم – كجنوب أفريقيا والجزائر – في كسر هذه الإستراتيجيات عبر خطاب تحرري يعيد تشكيل الوعي، لا يزال التحدي في الحالة الفلسطينية قائمًا: كيف يمكن تجاوز سياسات ضبط المقاومة بكافة أشكالها، وبناء إرادة شعبية تتحدى الاحتلال بفاعلية. سد الذرائع في السياق الاستعماري رغم أن المصطلح لم يستخدم حرفيًا في العديد من دراسات ما بعد الاستعمار، فإن السلطات الاستعمارية كثيرًا ما مارست سياسة "سد الذرائع" لمنع نشوء مقاومة أو وعي وطني، عبر مجموعة من الإجراءات، مثل منع التعليم الوطني أو تعليم لغة السكان الأصليين: بحجة أن نشر لغات السكان الأصليين يُمكن أن يُستخدم لنشر أفكار استقلالية، وكالرقابة على الصحافة والمطبوعات، لوأد تشكيل وعي جمعي نحو الاستعمار، أو من خلال محاربة الرموز الثقافية أو الدينية أو التاريخية للسكان الأصليين؛ لأنها تعبر عن الهوية الجمعية للمجتمعات المستعمَرة. أدبيات ما بعد الاستعمار تنتقد بشدة هذا النوع من "المنع الوقائي" بوصفه شكلًا من المراقبة والسيطرة الأيديولوجية. فإدوارد سعيد دعا لتعزيز القدرة الشخصية والجماعية في مواجهة الأفكار المعدّة مسبقًا من قبل الاستعمار، وأيضًا ما أشار إليه فرانز فانون حول آليات الاستعمار، الذي يتجاوز السيطرة الجسدية ليصل إلى السيطرة على الوعي، حيث يستبطن المستعمَر مفاهيم وديناميات الهيمنة ويعيد إنتاجها داخل مجتمعه، حيث يتحول النضال والفعل الثوري إلى فعل يثير الخوف والارتباك بدلًا من أن يكون تعبيرًا عن إرادة التحرر. يمكن أيضًا النظر إلى "سد الذرائع" في تجارب الحركات التحررية، كما في تجربة جنوب أفريقيا، والجزائر، والهند. ففي جنوب أفريقيا، استخدم نظام الفصل العنصري ذرائع قانونية للحفاظ على النظام والقمع السياسي ضد السود. فيما في الجزائر كانت ممارسات الاستعمار الفرنسي تستخدم ذرائع مثل "الحفاظ على النظام"؛ لتبرير قمع جبهة التحرير الوطني. وفي الهند، استخدمت بريطانيا ذرائع مشابهة لتصوير المقاومة كقوى "رجعية". في كل هذه الحركات، كان كسر "سد الذرائع" يتطلب بناء خطاب تحرري متماسك يعارض السرديات الاستعمارية، ويُعيد بناء الشرعية التحررية على أسس شعبية ودولية. إعادة التأطير لسياسة "سد الذرائع" من منظور تحرّري لا يوجد لدى حركات التحرر في العالم إشكالية في فكرة "سد الذرائع"، ففي تجربة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، كان هناك ميل في بعض الفترات إلى تهدئة الفعل النضالي؛ بحجة عدم إعطاء ذريعة للنظام العنصري لتكثيف القمع. وكذلك في تجارب أخرى، ولكن كان ذلك في سياق تبني إستراتيجية نضالية شاملة تقوم على دمج الفعل الدبلوماسي مع المقاومة الشعبية والكفاح المسلح، لا أن تترك فراغًا يستغله الاستعمار في إعادة ترتيب أجندته. تكمن المعضلة الأساسية في الجمع بين "سد الذرائع" والعمل التحرري في الاستخدام المزدوج لهذا المفهوم. فمن جهة، تُقدَّم فكرة "سد الذرائع" كإجراء وقائي يهدف إلى منع التصعيد، أو إثارة ردود فعل عنيفة من قبل المحتل. ومن جهة أخرى، يمكن أن يتحول هذا المفهوم إلى أداة تقييدية تعمل على شلّ الحركة النضالية، وتحويل الفعل التحرري إلى مجرد ردود فعل محكومة بشروط الاحتلال. فعندما تُتبنى سياسة "سد الذرائع" بشكل مطلق وغير مرن، تتحول إلى قيد دائم على الفعل التحرري. ومن هنا، يأتي التحدي في إعادة صياغة المفهوم ليتحول من كونه مجرد إجراء يُعنى بتفادي ردود الفعل القمعية، إلى أداة إستراتيجية واعية تُعنى بتوقيت الفعل ومكانه وتضمن أكبر قدر من التأثير بأقل تكلفة سياسية أو اجتماعية. الاستخدام المطلق لسياسة "سد الذرائع" يحيد الفعل النضالي، ويضعه في خانة الفعل المؤجل؛ بحجة الحفاظ على الاستقرار أو تفادي التصعيد، لذلك، من الضروري إعادة تأطير المفهوم ليصبح جزءًا من إستراتيجية نضالية شاملة، فالثورات المناهضة للاستعمار انطلقت من إرادة تحريرية جذرية، وليس من منطق التكيف مع شروط المستعمِر. فمحاولة التفاوض أو التماهي مع منطق السلطة الاستعمارية تضعف الفعل النضالي التحرري، لأن الاحتلال يتبنى مفهوم الهيمنة، وما يسعى إليه المُحتلون هو كسره. لكن التحول الأصعب هو أن تتحول سياسة "سد الذرائع" لأيدولوجيا وبرنامج سياسي، يستعدي كل فعل مناضل وتحرري مهما كان نوعه، ويصبح فلسفة قمع لا فلسفة ضبط. سد الذرائع الفلسطينية: حواجز في وجه الثورة الشعبية تطورت سياسة "سد الذرائع" في السياق الفلسطيني لتتجاوز مجرد التهدئة وضبط الفعل المقاوم، أو ضبط الإيقاع بين السياسي والنضالي، لتصبح نهجًا وإستراتيجية شاملة ومركبة قيدت العمل النضالي في عدة اتجاهات أبرزها ما يلي: الأول: استخدام سياسة "سد الذرائع" كآلية لتقييد الفعل النضالي الجماهيري والشعبي، تحت ذرائع "الحفاظ على الأمن"، أو "تجنب التصعيد"، وفرض قيود قسرية على الحراكات الجماهيرية، فمن منظور تحليلي، يمكن القول إن سياسة "سد الذرائع" في الضفة الغربية تُعزز مناخًا سياسيًا ينزع عن المقاومة بكافة أنواعها مشروعيتها من جهة، بينما يُفسح المجال أمام المستوطنين لمواصلة تمددهم بدعم كامل من حكومة الاحتلال. يشير ذلك إلى أن الاحتلال لا يحتاج فعليًا إلى ذرائع لتوسيع استيطانه، بل يعتبر ذلك جزءًا من إستراتيجيته بعيدة المدى لضم الأرض وتهويدها. فالاحتلال دائمًا في حالة إنتاج لذرائعه الخاصة لتبرير الإبادة، إذ لا يمكن لسياسات ضبط الحراك الجماهيري أن توقف مشروعًا استيطانيًا يتغذى على منطق الإبادة والإحلال. بالتالي، فإن استمرار التمسك بسياسة "سد الذرائع" يعكس قراءة غير دقيقة للواقع، ويضعف القدرة على حشد مقاومة شعبية فاعلة قادرة على مواجهة الاستيطان كخطر وجودي، والتجارب التاريخية أثبتت أن الانتفاضات الشعبية كانت عامل ضغط على الاحتلال لتقييد أنشطته وليس العكس. وبدليل أنه لولا الانتفاضة الأولى لما كان هناك "سلطة وطنية فلسطينية". الاتجاه الثاني: الامتناع عن اتخاذ إجراءات كان من شأنها أن تُقيّد الاحتلال وتحدّ من قدرته على الإبادة. فقد تحوّل هذا المفهوم إلى ذريعة لعدم اتباع السبل الممكنة لتقييد الاحتلال ومحاسبته على جرائمه، خشية ردة فعل الاحتلال. فعلى مدى سنوات ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لم تُحسن القيادة الفلسطينية استثمار أدواتها السياسية والقانونية، في وقت كانت فيه بحاجة ملحّة إلى خلق رافعة دولية تقوّي موقفها وتُقيد حركة الاحتلال. ورغم امتلاكها ملفات مهمة قابلة للتدويل مثل قضية اغتيال الشهيد ياسر عرفات، أو المجازر المتكررة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن السلطة لم تبادر إلى تحريكها بجدّية على الساحة الدولية. تلك الملفات كان يمكن أن تشكل نقاط تحول رمزية وقانونية تحمل الاحتلال المسؤولية، وتؤسس لـ"ردع أخلاقي وقانوني" يُضعف منطق الإفلات من العقاب. الاتجاه الثالث: بالإضافة للأسباب المركبة لموقف السلطة السلبي تجاه ترتيب البيت الفلسطيني والتقارب مع حركة حماس، إلا أن أحد هذه الأسباب هو تبني إستراتيجية "سد ذرائع" الاحتلال، وسكون السلطة بتخوّفات الخشية من ردة فعل الاحتلال تجاه السلطة نفسها. الاتجاه الرابع: سياسة "سد الذرائع" أثرت أيضًا على بناء التحالفات الدولية. في كثير من الأحيان، يتم تجنب الانخراط في شراكات مع حركات تحرر أو دول داعمة للمقاومة خشية "إثارة غضب" الدول الغربية أو التعرض لضغوط سياسية واقتصادية. هذه الإستراتيجية أدت إلى عزلة نسبية، خاصة في المحافل الدولية حيث تُقدّم القضية الفلسطينية أحيانًا ضمن خطاب "إنساني" بحت يتجنب تسليط الضوء على البعد التحرري، مما أضعف التحالفات مع الحركات المناهضة للاستعمار في الجنوب العالمي. في الختام، فـ"سد الذريعة" لا يكون بتبنّي مبررات خطاب الاحتلال في الإبادة، أو تهميش الفعل الشعبي، أو الصمت على الجرائم، بل ببناء مشروع سياسي تحرري، وسياسات توحيدية، ومبادرات قانونية ودبلوماسية تُحرج الاحتلال وتُقيده أمام العالم. أما حين تغيب تلك السياسات، فإن الفراغ الذي تتركه السلطة يتحول إلى ساحة مفتوحة يتحرك فيها الاحتلال بلا رادع، وتصبح السلطة – ولو ضمنيًا – طرفًا يُسهّل العدوان لا من يضع حدًا له.


٢٨-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
بمشاركة جماهيرية حاشدة.. انطلاق مسيرات يوم القدس العالمي تحت شعار 'إنا على العهد يا قدس'
انطلقت صباح اليوم الجمعة، مسيرات يوم القدس العالمي في أكثر من 900 مدينة وبلدة إيرانية بمشاركة جماهيرية حاشدة، تحت شعار 'إنا على العهد يا قدس'. وسيتولى رئيس مجلس الشورى الإسلامي محمد باقر قاليباف إلقاء الكلمة الرئيسية في العاصمة طهران، بينما سيلقي متحدثون آخرون كلماتهم في المحافظات الأخرى. وتأتي هذه المسيرات في وقت أعرب فيه قائد الثورة الإسلامية، الإمام السيد علي الخامنئي، في رسالة متلفزة أمس الخميس، عن أمله في أن تكون تظاهرات هذا العام من بين 'الأعظم والأكثر تأثيرًا' في السنوات الأخيرة، مشددًا على أهمية الحضور الجماهيري الكثيف. وتحمل مسيرات يوم القدس العالمي هذا العام رسائل سياسية تتجاوز البعد المحلي، وتؤكد من جديد على موقف إيران الثابت تجاه القضية الفلسطينية، ليس كموقف دبلوماسي فحسب، بل كالتزام شعبي واستراتيجي. كما تهدف هذه التظاهرات إلى توجيه رسالة مناهضة لمحاولات التطبيع الإقليمي مع إسرائيل، والتأكيد على استمرار النضال ضد الاحتلال في ظل التصعيد الإسرائيلي المستمر. ومن المقرر أن تتحرك المسيرات في طهران في عشرة مسارات رئيسية تتجه نحو نقطة التجمع المركزي، فيما أكدت اللجنة المنظمة تغطية الحدث بأكثر من 100 كاميرا لتوثيق الحضور الجماهيري الواسع.