أحدث الأخبار مع #الوعي


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- ترفيه
- الجزيرة
'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم
لطالما كان هلاكنا في نظام تشغيلنا نحن سادة الكون، فنحن نصنع كل هذه الأدوات السحرية، لكن الهمجية لا تزال متأصلة في عقولنا، رؤوسنا مليئة بالبرمجيات المعيبة ذاتها، مثلما كانت قبل آلاف السنين، محرومة من أي تطور. في زمن إنسان الكهف، كان العنف ضروريا للعيش، أما الآن فقد صار السبيل الوحيد لنجاتنا -نحن جنس البشر- أن نتعاون معا، لكننا لا نستطيع ذلك لأننا ما زلنا محكومين بالخوف، ما زلنا متملكين وأنانيين، متعجرفين وعنيفين. يأتي هذا الحوار الذاتي الحكيم ضمن حلقة 'لعبة' من الموسم السابع من مسلسل 'المرآة السوداء' (Black Mirror 7)، على لسان عجوز مهوس بكائنات صفراء صغيرة، تسكن عالما رقميا للعبة اخترعها عبقري مجنون، وتحاول هذه الكائنات السيطرة على البشرية، لتخليصها من خوفها الأبدي، وهي تسمى الحشد، ولها حياة ووعي. ما تقترحه هذه الحكاية الغريبة أن العقل البشري أقرب لحاسوب، وأن الحشد رموز برمجية مكتوبة، تستطيع النفاذ إلى عقلك مباشرة، ثم إعادة برمجته. هل الوعي البشري برمجية يمكن اختراقها؟ تنتمي هذه الحلقة إلى دراما الإثارة النفسية والتحقيق، ومع ذلك تأتي نهايتها المفتوحة بفيض من الأسئلة ذات الجوهر الفلسفي، مثل التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للوعي البشري، وعن ما إذا كنا نسير في الحياة بما يشبه البرمجيات الموروثة، أو التي دونتها في عمق الوعي نشأتنا وبيئتنا، وما الأخطار التي تواجهنا في المستقبل، وهل يمكن التأثير علينا واختراقنا بمثل هذه السهولة؟ وما معنى الإرادة الحرة في ظل هذه المعطيات؟ هذه الأسئلة بالتأكيد هي أفضل ما يمنحه لمشاهديه مسلسل 'المرآة السوداء'، الذي يرى البعض أنه مسلسل الخيال العلمي الأفضل والأعمق تأثيرا خلال الـ15 عاما الماضية. واقع اليوم هو مستقبل الأمس سئل مبدع المسلسل 'تشارلي بروكر' في حوار حول الموسم السابع، هل ستستمر حلقاته إلى الأبد؟ فقال إن التطور التقني السريع يمنحه إلهاما أكثر مما حلم به ذات يوم. يستطيع 'بروكر' الآن أن يبتكر حكايات لم يكن يتخيل كتابتها حين بدأ العمل على مسلسله قبل 14 عاما، فلا تبدو حكاياته اليوم كأنها تدور في مستقبل قريب، بل في واقع آني، ولم يبد المسلسل حقيقيا من قبل مثلما يتجلى اليوم، وذلك ما يجعله أكثر إثارة للقلق. اشتهر 'المرآة السوداء' برؤاه المظلمة والقلقة حول مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا، وتدور بعض الحلقات في فلك هذه الرؤى، لكن المسلسل أساسا عن الطبيعة الإنسانية، عن نقاط ضعفنا البشرية، التي تتضخم بسبب التكنولوجيا حتى تبلغ أفقا مرعبا. تظل التكنولوجيا مجرد أداة بين أيدينا، يمكن استخدامها على أي نحو شئنا، وهذه ليست قصة آلات تنقلب على الإنسان، بل قصة ذوات جريحة، معطوبة على نحو جذري، تصير التكنولوجيا سلاحها. قدرات التكنولوجيا.. أدوات جبارة في أيادٍ مختلة أفضل ما يقدمه 'بروكر' في عمله هو تأطير رؤيتنا لأنفسنا في مسارات مستقبلية محتملة، مستبدلا المرايا التقليدية بشاشة التلفاز الباردة اللامعة، أو الهاتف الذكي، فنشاهد انعكاسا مظلما لذواتنا الفردية وللمجتمع كافة، هنا تصبح التكنولوجيا عدسة تمكننا من تفكيك المخاوف البشرية، وهذا أفضل ما تقدمه سرديات الخيال العلمي، فهي تجعلنا نرى أنفسنا على نحو أفضل. يفتتح الموسم الجديد بحلقة 'أناس عاديون'، وتدور حول زوجين محبين من الطبقة العاملة، تنقلب حياتهما حين تشخص الزوجة بورم في المخ، ويكون الحل المنقذ هو تقنية تحول عقلها إلى خوادم سحابية، لكن باشتراك شهري مكلف، والشركة التي تديره تغير الشروط باستمرار. يضطر الزوج للعمل ساعات إضافية، لإبقاء زوجته حية، وتلك استعارة حزينة ساخرة من الرأسمالية في صورتها الأقسى، إذ تعد السلطة الساحقة للشركات موضوعا رئيسيا في المسلسل. يلجأ الزوج يائسا إلى موقع يسمى 'أغبياء أغبياء' (Dum Dummies)، وهو موقع يدفع المشتركون فيه مالا لليائسين، لفعل أشياء قاسية ومهينة بأنفسهم. إنه مشهد كئيب للغاية، لكن لا علاقة له بالتكنولوجيا، بل بالمرض البشري الذي يجد لذة في عذاب الآخرين. وأما حلقة 'الوحش الأسود'، فتثير فيها زميلة دراسة قديمة تدعى 'فيريتي' ارتياب 'ماريا'، التي تعمل عالمة أغذية، بعد أن تلتحق بوظيفة جديدة، وهي قصة انتقام قاتمة، تلعب على فكرة الأكوان المتوازية. تخيل أن بإمكان 'فيريتي' أن تكون كل ما تحلم به في أي كون تشاء، ومع ذلك نجدها عالقة في حكاية جرحها الحزينة، الذي لم تستطع علاجه، وهو يملؤها بالغضب وبرغبة سوداء في الانتقام من كل تسبب في جرحها. قد تخلق الجراح وحوشا سوداء، والتكنولوجيا تمكّن تلك الوحوش من ابتكار عذابات مبتكرة. مرة أخرى لا علاقة للتكنولوجيا بهذه الرغبات، وإنما هي أداة في يد هذا الانتقام. وسيط للانتقام والتشوه النفسي ربما تكون حلقة 'يولوجي' أكثر الحلقات إيلاما في الموسم، وقد أدى فيها الممثل 'بول جياماتي' أداء استثنائيا يكسر القلب، وهو يجسد دور رجل يستكشف ذكريات حبيبته القديمة برفقة 'مرشد رقمي'، فيجمع المعلومات لذكراها. ما من مفاجآت كبيرة، مجرد رجل يدرك الهوة بين الذكرى والواقع، ثم يقع من جديد في حب المرأة التي اتخذها عدوا، عبر تشوهات ذاكرته غير الواعية. ومن بين جميع حلقات 'المرآة السوداء'، كانت هذه الحلقة الأكثر دفئا وعاطفية، إنها قصة حب نوعا ما. وفي حلقة 'فندق ريفيري' أيضا، نواجه تكنولوجيا حديثة قيد التجريب، فتصبح العوالم الافتراضية مساحة لاكتشاف حقيقة الذات والرغبات. إنها قصة رومانسية تأخذك إلى فضاءات وجودية غريبة. تتكسر مرآة في مقدمة كل حلقة من المسلسل منذ بدايته، وإنما تنكسر حين تفلت الظلال المقموعة -ظلالنا الداخلية- من مكمنها، وهي اللحظة التي تؤطرها كل حلقة من هذا المسلسل. الواقع المزيف وقلق الحقيقة 'لقد فقدنا صلتنا بالواقع، فقدنا الأرض الصلبة التي كنا نقف عليها'. هكذا يرى الفيلسوف الفرنسي 'جان بودريار'، ويرى أننا نعيش في 'محاكاة'، وأننا محاصرون ومعزولون دائما عن الواقع. إن فكرة 'بودريار' عن المحاكاة من أكثر الأفكار الفلسفية إثارة للخوف، فالمحاكاة هي ديستوبيا (المدينة الفاسدة) حاضرنا، وهي عالم الواقع الافتراضي التقني الذي نتصل به جميعا. إن محاكاة 'بودريار' هي أكثر رعبا مما نظن، فلا وجود لواقع فيها، بل لنسخ منه فقط، ومن ثم ينهار الفاصل بين الافتراضي والواقع، فما من مخرج من المحاكاة؛ إنها سجن لا ينفك يعيد اختراع نفسه، ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية. من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي إذن؟ ما تعريف الحقيقي وغير الحقيقي؟ تلك أسئلة تتكرر دائما بتنويعات شتى في المسلسل، وتتجلى واحدة من أكثر اللحظات المرعبة داخل هذا الموسم من المسلسل، عندما تحاول شخصية 'ماري' في حلقة 'الوحش الأسود' التحقق من صحة شيء ما، عبر البحث على الإنترنت، فتكتشف أن الإنترنت قد محا الحقيقة وبدلها، ومن ثم تصبح الحقيقة الزائفة واقعا مصدقا. الأمر المروع للغاية أننا نستعين بغوغل للتحقق من الواقع، ولا تتلاعب 'فيريتي' بعقول معتديها فحسب، بل تعيد تصميم الواقع الذي يعيشون فيه، فهي لا تمارس الحيل في عقولهم فحسب، بل تجعل العالم من حولهم نسخا مشوهة. تيه بين نسخ الواقع المتصارعة أصبحت التكنولوجيا أداة انتقام في يد ملاك مظلم، جاعلة ضحاياها يعيشون في نسخة مشوهة من عالمهم، مصمّمة خصيصا لتعكس ارتباك ذواتهم وهشاشتها. إنها قصة انتقام تستخدم التكنولوجيا لتزييف الواقع والحقيقة، وفي كل مرة تصير الحقيقة المزيفة أمرا واقعا، إنها أكثر اللحظات إثارة للقلق في هذا الموسم، حين تجد أن الواقع كله يتعرض للهجوم. فنحن نعيش في زمن تتنافس فيه نسخ من الواقع، والنسخة المنتصرة ربما لا تكون النسخة الأكثر حقيقية أو صدقا؟ والمسلسل يجعلنا أيضا نطرح أسئلة أخلاقية ووجودية، حول الاحتمالات التي تثيرها التقنيات الجديدة. يواصل مبدع المسلسل 'بروكر' هنا انشغاله بما هو حقيقي وما هو واقعي، وما هي التجربة الأصيلة، وأيضا بما تثيره كائنات رقمية ذات وعي بشري من أسئلة أخلاقية مشكلة، فهو مهتم دائما بعالم الألعاب، وقد عمل صحفيا في مجال الألعاب خلال التسعينيات. من المواضيع الرئيسة في أغلب حلقات المسلسل، وهو أن الكائنات الرقمية إذا كانت ذات وعي بشري، فهل يُقبل السماح بقتل هذه الكائنات الواعية، حتى إذا كانت تعيش في عالم مواز أو افتراضي؟ يمكنك أن تلاحظ ذلك التطرق إلى حد ما في مخلوقات 'ثرونجليتس' في حلقة 'لعبة'، وكذلك في حلقة 'يو إس إس كاليستر: إلى اللانهاية. أخلاقيات العنف ضد التكنولوجيا الواعية نشاهد إنسانا يقتل إنسانا آخر انتقاما لهذه الكائنات، بعد أن ألقى عليها كل تثبيته العاطفي، فأصبحت هاجسه الوحيد، فكرس حياته لمساعدتها على النمو والازدهار. يكشف مشهد من الماضي أن 'لامب' -صاحب الجثة التي تظهر في بداية الحلقة- قد قتل عشرات من مخلوقات 'الثرونجليتس' مرحا، فأثار بذلك غضب 'كاميرون'، فخنقه ثم قطع أوصاله وتخلص من جثته. في حلقة 'يو إس إس كاليستر'، رأينا شخصيات مخلقة بالذكاء الاصطناعي، وقد اكتسبت مستوى الوعي الكافي، لتشعر بالألم والأسى والخوف من الزوال. ويقوم الجوهر العاطفي لهذه الحلقة على تعاطفنا مع هذه الشخصيات، التي تدور سفينتها الفضائية في فلك كوكب افتراضي، ضد بشر يحاولون محوهم تماما لأجل مكاسب مادية. هذا ما يلعب به 'بروكر' هنا، متسائلا عن أخلاقية العنف الممارس على وعي رقمي، وإن كان بشريا. ربما يبدو سؤال كهذا نوعا من الترف، في لحظة نجد فيها من يجد مبررا لعنف مماثل ضد بشر من لحم ودم. جانب التكنولوجيا المشرق لا تدور كل حلقات هذا الموسم في أفق 'ديستوبي' وليست فقط حكاية تحذيرية، فبعض الحكايات تظهر التكنولوجيا ضوءا حقيقيا، كأنها يد ممدودة للمساعدة. ففي حلقة 'تأبين'، ينجح الذكاء الاصطناعي في وضع خاتمة لقصة حب 'فيليب' الحزينة (بول غياماتي)، بل إنه استعاد مشاعر الحب لحبيبته الراحلة، إنها حكاية عن تقبل إنسانيتنا وقت الضعف والخطأ، وأن نكون أكثر تعاطفا مع أنفسنا ومع الآخر. في حلقة 'فندق ريفيري' تعيش 'براندي' (الممثلة إيسا راي) تجربة حب شاذة مع 'كلارا' (الممثلة إيما كورين)، أما 'براندي' فهي ممثلة هوليودية مرموقة، وقد أزهرت قصتها في فضاء فيلمي لكلاسيكية حب قديمة مستعادة بتقنية حديثة. وفي لحظة من مسار هذه التجربة، تتمنى 'براندي' أن يظل وعيها المسقط حرا داخل هذا الفيلم، حتى لو كان معنى ذلك موتها في عالم الواقع. ومع أن هذه العلاقة وقعت في بعد افتراضي، فإنه من الممكن القول إن هذا كان حبا حقيقيا، شعرت به 'براندي' على نحو لم تعشه من قبل. تثير كل حلقة من حلقات هذا المسلسل أسئلة يظل صداها ممتدا بعد المشاهدة بكثير، أسئلة تقول الكثير عنا وعن واقعنا المعيش في هذا اللحظة القائمة، عن العنف المتفجر والوحدة الصاخبة، وعن الجراح الأبدية في روح الإنسان، وقد جرحتها شظايا التكنولوجيا الحديثة مرة أخرى.


صحيفة سبق
منذ يوم واحد
- منوعات
- صحيفة سبق
كن قدوة واجعل رحلتك حضارية.. "الحج" تدعو إلى حفظ النعمة وتقليل الهدر تعزيزًا لقيم الإسلام
أكدت وزارة الحج والعمرة على أهمية الالتزام بقيم الإسلام خلال موسم الحج، لا سيما ما يتعلق بالاعتدال في الاستهلاك وحفظ النعمة والابتعاد عن مظاهر التبذير والإسراف في الطعام. وأوضحت في منشور توعوي اليوم أن موسم الحج يمثل فرصة مثالية لتجسيد السلوكيات الإيجابية التي تحث عليها الشريعة الإسلامية، مشيرة إلى أن تقليل الهدر الغذائي لا يقتصر على كونه سلوكًا حضاريًا فقط، بل يعكس أيضًا وعيًا اجتماعيًا يعزز من كفاءة الخدمات ويحقق الاستدامة. وقدمت الوزارة عدة نصائح قائلة: "خطط لوجباتك قبل أن تطلب ولا تجعل الكمية أكثر من حاجتك وتجنب تخزين الأكل في الغرفة أو المخيم وتخلص من البقايا بطريقة لائقة". ودعت الوزارة جميع الحجاج والجهات العاملة إلى التعاون في هذا الجانب، والعمل على نشر ثقافة الترشيد والوعي البيئي، بما يليق بمكانة الحج كركن عظيم من أركان الإسلام. ونصحت الوزارة بقولها: "في الحج كن واعيًا والطعام نعمة نصونها ولا نهدرها.. كن قدوة واجعل رحلتك حضارية". في الحج، نُعلي قيم الإسلام التي تنهانا عن التبذير والإسراف، فنحافظ على النعمة، ونقلل هدر الطعام! #يسر_وطمأنينة — وزارة الحج والعمرة (@HajMinistry) May 19, 2025


رؤيا نيوز
منذ 3 أيام
- سياسة
- رؤيا نيوز
المومني: الأردن يدرك تماماً أن بعض الإعلام أدوات سياسية بأيدي قوى تريد النيل من استقراره
قال وزير الاتصال الحكومي محمد المومني خلال جلسة حوارية بعنوان 'تعزيز وعي الرأي العام في مواجهة الإشاعة وخطاب الكراهية' بتنظيم مؤسسة شابات لتمكين المرأة سياسيا أكد وزير الاتصال الحكومي الناطق الرسمي باسم الحكومة الدكتور محمد المومني أن الاردن سيبقى عصياً على كل محاولات إثارة الفتنة الإعلامية. وأضاف المومني : الأردن يدرك تماماً أن بعض الإعلام أدوات سياسية بأيدي قوى تريد النيل من استقراره وهي تستخدم الحريات كغطاء لتنفيذ أهدافها ،وعلى الإعلام تغليب قيم الوعي، والصدق، و المسؤولية في كل كلمة ننشرها، وكل موقف نتبناه. وقال المومني أن رسالتنا الإعلامية والسياسية والاجتماعية واضحة فلا مكان للإشاعة، ولا بيئة خصبة لخطاب الكراهية في مجتمعنا الذي تأسس على التسامح والتآخي ،ولإشاعة ليست فقط معلومة مضللة، بل قد تكون أداة لهدم الثقة بين المواطن والدولة. وشدد أن الاردن سيبقى حصناً منيعاً في وجه كل ما يمس نسيجه الاجتماعي ووحدته الوطنية. واضاف المومني:أن الأردن بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني يرفع راية الاعتدال، وينتهج خطاباً يقوم على العقلانية، والانفتاح، واحترام التعددية وأن وعي المواطن وإيمانه بوطنه هي الرصيد الحقيقي للدولة.


الشرق الأوسط
منذ 4 أيام
- علوم
- الشرق الأوسط
الدين وأخلاق العمل والخير العام
رغم آلاف الاستطلاعات والبحوث لا يزال «الوعي» الإنساني وفيما بين سيغموند فرويد وعجائب الذكاء الاصطناعي حافلاً بالغوامض والأسرار: لماذا يعلق بالذاكرة هذا الأمر أو ذاك وتستثار التداعيات، في حين يغمر النسيان عشرات المسائل التي كانت تبدو شديدة الأهمية قبل سنوات عدة. وما أقصده من وراء عجائب الوعي والتعالقات خبرٌ ذكرته وسائل الإعلام الأميركية قبل أيام أنّ الملياردير الأميركي بيل غيتس مؤسس «مايكروسوفت» أعلن عن تبرعه بكل ثروته الهائلة تقريباً على مدى العشرين عاماً المقبلة لأعمال الخير في عشرات المجالات التي تمسُّ كلّها عوالم الفقر والحاجة والتعليم والصحة والزراعة والتغذية والتكنولوجيا المتقدمة. قال غيتس: «من الممكن إنجاز الكثير خلال عشرين سنة؛ لأنني أريد أن أتأكد أنَّ العالم يتقدم خلال هذه الفترة... وارين بافيت يظل النموذج المثالي للكرم... وآمل أن يدرك الأثرياء الآخرون مدى قدرتهم على تحسين حياة أفقر الناس في العالم عبر زيادة تبرعاتهم...». مبادرة بيل غيتس ذكّرتْني على الفور بأمرين آخرين: كتاب السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864 - 1920) بعنوان: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، وأنني قابلت وارين بافيت عام 1997. في شتاء عام 1972 - 1973 وعندما كنت أفكّر في موضوعٍ للدكتوراه في دراسات الدين بجامعة توبنغن بألمانيا الغربية، نصحني أستاذي بقراءة بعض أعمال ماكس فيبر في سوسيولوجيا الديانات الكبرى، وكيف تظهر الفِرَق والانشقاقات عن الأرثوذكسيات. سرعان ما تنبهتُ إلى عملٍ مشهورٍ لفيبر ليست له علاقة مباشرة بما كنت أبحث عنه وهو كتابه: الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية. وفيه يذهب فيبر إلى أنّ للفرق البروتستانتية المتشددة (الكالفينية على سبيل المثال) دوراً في نشوء الرأسمالية أو تطورها في بعض النواحي في ألمانيا والولايات المتحدة. وملخص ذلك أنّ الخلاص في الكاثوليكية لا يكون إلا عن طريق الكنيسة. لكنّ مارتن لوثر والآخرين المنشقين في النصف الأول من القرن السادس عشر وما بعد تنكروا لهذه العقيدة الخلاصية، وقالوا بالعلاقة المباشرة بالله من طريق الكتاب المقدس. إنما كيف يمكن استنطاق الإرادة الإلهية والقَدَر الإلهي من دون الكنيسة؟ من طريق العمل الجادّ والمتفاني في هذه الدنيا، وكلما ازداد النجاح وتراكمت الثروات من طريق «أخلاق العمل» هذه، كان ذلك دليلاً على الرضا الإلهي. وبسبب سيطرة هذه الذهنية لعب ذلك دوراً بارزاً في الثورة الصناعية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وفي الأقاليم البروتستانتية بالذات، أكثر من النواحي الكاثوليكية. وقد درس فيبر، كما سبق القول، أو راقب حالات في فكر وعمل وكتابات عاملين في أميركا وألمانيا وسويسرا. وهكذا، فالأفكار العليا أو الاعتقادات أو هذه الفلسفة وقعت في أصل التطور الرأسمالي، وليس البنى والترتيبات في أدوات الإنتاج ووسائله فقط، كما ذهب لذلك كارل ماركس! جرت ردود كثيرة من جانب الكاثوليك والماركسيين على استطلاعات ماكس فيبر؛ إنما المهمُّ هنا النتائج فما دامت الثروة إلهيةً أو ناجمةً عن اقتران الإرادتين؛ فإنّ المتمول المؤمن لا يعدُّها ثروته الخاصة، فيتبرع كثيراً في وجوه العمل الإنساني – ولذلك شاعت في المجتمعات البروتستانتية على وجه الخصوص. المؤسسات الوقفية التي تتناول بالمساعدة الاحتياجات المجتمعية الملحاحة، وتشجعها الدول بإعفائها من الضرائب والرسوم. لا نعرف الكثير عن دوافع التبرعات الكبرى في أميركا في العقود الماضية، وبخاصةٍ أنّ المتبرعين ليسوا جميعاً من الإنجيليين. ومن النقاد من يرى أنّ هذه التعليلات هدفُها إعطاء الرأسمالية أصلاً أخلاقياً لا تستحقه. لكن أودُّ هنا أن أعرض أسباب مقابلتي لوارن بافيت الذي عدّه بيل غيتس قدوةً للمحسنين. كنت أستاذاً زائراً بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد عام 1997. وقتها أخبرني الصديق الراحل روي متحدة، رئيس المركز، أنه يعمل جولة سنوية لجمع التبرعات ويصطحب معه بعض الأساتذة وهو يريد زيارة بافيت كالعادة، ويومها عرفت منه أن بافيت هو من كبار تجار الورق في العالم فمضيتُ معه بناءً على طلبه. وأذكر أنّ بافيت كان قد تبرَّع ذاك العام أو قبله بمليار دولار للتعليم الابتدائي بالولايات المتحدة. بدأ روي المقابلة بالثناء على هذا العمل الخيري الوطني وشاركتُ في الحديث بموجزٍ عن الوقف في الإسلام، وأنّ نظام التعليم كان في العصور الوسطى قائماً عليه وليس من تمويل الدولة. وجدتُه يعرف نظرية فيبر، وتبسّم ولم يجب عندما سألته عن دوافعه، وأخبرني روي عندما خرجنا من عنده أنّ الشيك الذي أعطاه إياه كان بمائتي ألف دولار وليس بمائة ألف كما كان يتبرع للمركز عادةً!


عكاظ
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- عكاظ
كارثية الترميز وحشد الأتباع: دروس من الصحوة !
حين يُرفع الشخص فوق الفكرة، ويرسّخ الولاء والتبعية لاسم ورسم، نكون أمام أخطر معضلات الوعي وهي ترميز الشخص وحشد الأتباع حوله، وتحريك الغوغاء وهذه الظاهرة كانت حكرًا على مرحلة «الصحوة» الدينية التي عصفت بمجتمعاتنا العربية في نهاية القرن العشرين، حتى أصبحت نموذجًا كاشفًا لانهيار البنية العقلية للمجتمع حين تتحول الفكرة إلى شخص، والرمز إلى وصي على العقول، وطمس أي فكرة أخرى عندما تَشَكّل حول هؤلاء «الرموز» جيلٌ كامل لم يُعطِ نفسه فرصة التفكير خارج أطر ما يقدمه «الواعظ»، وتم ربط كل نقد له أو لهم بـ«عداء للدين» أو «خروج عن الثوابت» وفسق وزندقة إلخ، فتحول النقد إلى جريمة فكرية، والرأي إلى ارتياب وتشكيك في جوهر الدين وثوابته ! الشخصنة في الفكر داءٌ خبيث اكتوينا به، والتعبئة ضد المخالف بالرأي معضلة تؤجج الكراهية ومخرجات بغيضة تصيب العقول بالشلل النقدي فتتحول الفكرة إلى وجه، والموقف إلى نبرة صوت، والنص إلى فتوى والرأي إلى مشادة، ومع الوقت، تنشأ طبقات من الأتباع لا يتبعون الفكر، بل يتبعون الأشخاص، فيختلط الولاء العقائدي بالولاء الشخصي، وتفقد المبادئ مرونتها وواقعيتها ويتحول الحوار إلى معارك فكرية تتفرع إلى معارك أخرى (عنصرية، طائفية إلخ). نشهد جميعاً حراكاً غوغائياً على منصات التواصل وبالأخص في مساحات (x) من مهاترات وسجالات هزيلة تعتمد بشكل كلي على الشخصنة والتحريض وإسقاط المخالف وتشويهه، وهذا ليس بالأمر الجديد ولكن التطور الذي لاحظته -وربما لاحظه غيري- هو ترميز بعض الأسماء ليس دينياً أو سياسياً أو أو ... لا لا بل ترميز بلا أية معايير فكرية سوى الأذية والتراشقات وتبادل الاتهامات فيرتفع اسم فلان (الكفو) الذي أسقط فلاناً أو فلانة ونشر تفاصيلهم الشخصية أو فضحهم بما فيهم أو ما ليس فيهم، أما قواميس اللغة في هذه المهاترات فحدث ولا حرج، فالترميز يفوز به صاحب أقذع المفردات وأدنى الألفاظ ليعتلي المنصة ويحشد الغوغاء ليصبح أبو فلان أو أم فلان الكفو الذي ألجم فلاناً وفلانة وألقمهما حجراً... ألا يذكركم هذا بمرحلة ما...؟! هنا؛ يتحتم علينا قراءة التاريخ بوعي ثم تجاوز ظاهرة الترميز، فالمجتمعات الحرة لا تُبنى على الأتباع، بل على المواطن المخلص، ولا على المريدين، بل على تجارب وإرث المفكرين، وحين نعي أن الصحوة -مثلاً- لم تكن مجرد حركة دينية وعظية، بل كانت مشروعاً سياسياً مقنّعاً بغلاف ديني، سعى دهاقنتها المُرمزون إلى إعادة تشكيل هوية المجتمع وتوجيه ولائه نحو أهدافهم التي في ظاهرها فكرية وفي جوهرها سياسية إخوانية معاصرة وكانت الجماهير الصحوية تسير خلف «الرمز» وهي مستعدة للدفاع عن رأيه حتى لو خالف النص، وتبرر سقطاته حتى لو خالفت الأخلاق؛ حينها سوف تستقر في العقول ثقافة نبذ التبعية واستنتاج مآلاتها (اللا أخلاقية) والاتكاء على المنطق ومخرجات الواقع الحقيقي دون أي تغييب للوعي ودون أي إحلال للعاطفة مكان (العقل) حتى وإن سلمنا بأن الحالة الآنية فوضوية ودون أجندات، فالمجتمعات المتوازنة هي من يُعلي من قيمة المؤسسات لا الأفراد، والأفكار لا الوجوه، والحوار لا التلقين، وهي التي تحتفي بالمبادئ لا بالأصوات، وبالعقل لا بالهالة، وتعرف جيداً أن القدوة ليست معصومة، وأن الفكر لا يُختزل في شيخ ولا مفكر ولا غوغائي يعتلي منصة، فالرموز زائلة، والوعي وحده هو الباقي. نعم، ترميز الأشخاص ليست ظاهرة جديدة، لكنها انتشرت في عصرنا بسب تأثير الإعلام ووسائل التواصل، حيث تُصنع «الرموز» بسرعة وتُهدم أيضاً بسرعة. الدرس الأهم هو أن الأفكار يجب أن تقاس بقيمتها، لا بمن يقولها وأن النقد الموضوعي ليس عدواناً، بل ضرورة لاستمرار أي نهضة حقيقية، وأن الصوت والحجة والكاريزما ليست بالضرورة قوة، بل قد تكون غطاء لعقل عارٍ من الأخلاق أو شخصية منبوذة. أخبار ذات صلة