أحدث الأخبار مع #جورجأورويل


عرب هاردوير
منذ 6 أيام
- ترفيه
- عرب هاردوير
الإنترنت في الأنظمة المغلقة: روسيا والصين وكوريا الشمالية
وجدتُ الرواية صدفةً خلال زيارتي الأخيرة لمعرض الكتاب، وسط الزحام والرفوف المتراصة، جذبني غلافها وعنوانها المألوف: 1984. كنت قد سمعت بها من قبل، لكنني لم أتوقع أن تحمل كل هذا الثقل. أمسكت بها بدافع الفضول، وبدأت قراءتها في ليلة هادئة. ما إن تعمقت في صفحاتها حتى وجدت نفسي أغوص في عالم كئيب من المراقبة والرقابة والسيطرة على العقول. الرواية التي كتبها جورج أورويل في منتصف القرن العشرين، لم تكن مجرد خيال سياسي، بل كانت نقدًا صارخًا للأنظمة القمعية، وخصوصًا تلك التي نشأت في عهد ستالين في الاتحاد السوفييتي. عبارة "الأخ الأكبر يراقبك" لم تكن فقط سطرًا روائيًا مكررًا، بل تحولت إلى رمز عالمي لهيمنة الدولة على حياة الأفراد. فكرة "الأخ الأكبر" الذي يراقب الجميع، دون أن يعرف أحد من هو أو أين يقف، لم تعد محض خيال. في دول مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية، تحوّلت هذه الفكرة إلى واقع رقمي. فالإنترنت هناك ليس أداة للتعبير أو الاكتشاف، بل مساحة مراقَبة، يتم فيها التحكم بما ترى، وتوجيه ما تعتقد، ومحاسبتك على ما تفكر فيه، حتى لو لم تنطق به. في 1984، كان الناس يخافون من التفكير، واليوم، هناك من يخاف حتى من كتابة تعليق أو مشاركة منشور. ومع أن التكنولوجيا تطورت بما يفوق خيال أورويل، إلا أن أدوات السيطرة أصبحت أكثر دقة، وأقل وضوحًا. وهذا ما دفعني للغوص أكثر في واقع الإنترنت داخل هذه الأنظمة المغلقة، وفهم كيف تُبنى الأسوار الرقمية في عالم يُفترض أن يكون بلا حدود. الصين: الجدار الناري العظيم في قلب دولة عملاقة تقود العالم في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا، يقف "ا لجدار الناري العظيم" كواحد من أعقد أنظمة الرقابة على الإنترنت في التاريخ. الصين لا تمنع الإنترنت، لكنها تُعيد تشكيله على طريقتها الخاصة. المواطن الصيني لا يستخدم جوجل، ولا يشاهد يوتيوب، ولا يتواصل عبر واتساب أو فيسبوك. كل تلك الأسماء الكبيرة التي نعدها من أساسيات الحياة الرقمية، إما محجوبة تمامًا أو خاضعة لرقابة شديدة. بدلًا منها، تقدم الدولة بدائل محلية، وفقًا لـ " Statista" تأتي برامج مثل محرك البحث "Baidu"، وتطبيق التواصل "WeChat"، ومنصة الفيديو "Youku" في المقدمة، وكلها تخضع لمراقبة حكومية دقيقة. تُلزَم شركات التكنولوجيا الصينية قانونًا بالتعاون مع السلطات، والتقارير تشير إلى أن آلاف الموظفين يعملون في مراقبة المحتوى وحذف المنشورات، والتبليغ عن "السلوك المشبوه". لكن الرقابة لا تقف عند حدود المنصات. فالصين تُوظف تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجوه لتتبع الأفراد حتى في العالم الواقعي. الإنترنت هناك ليس فقط ما تتصفحه، بل ما تقوله، ومن تتابعه، وحتى كيف تتصرف في الأماكن العامة. وكل ذلك مرتبط بنظام "النقاط الاجتماعية" الذي يكافئ ويعاقب بناءً على سلوك المواطن، الرقمي وغير الرقمي. النظام الاجتماعي القائم على النقاط من أبرز أدوات الرقابة الرقمية في الصين، نظام " النقاط الاجتماعية"، وهو نظام رقمي يُراقب سلوك الأفراد في الحياة اليومية —سواء عبر الإنترنت أو خارجه— ويمنحهم نقاطًا بناءً على مدى "انضباطهم" وفقًا لمعايير الدولة. فالتصرفات التي تُعتبر إيجابية، مثل دفع الفواتير في موعدها أو مشاركة محتوى داعم للدولة، قد ترفع من رصيدك. أما نشر آراء معارضة، أو حتى مجرد الارتباط بأشخاص "مشبوهين"، قد يؤدي إلى خفض تقييمك. لا يعتمد هذا النظام فقط على الأنشطة الرقمية، بل يغزز باستخدام شبكة كاميرات مراقبة منتشرة في المدن الكبرى، ومزودة بتقنيات التعرف على الوجه. تُسهم هذه الكاميرات في تتبع الأشخاص في الأماكن العامة، مثل الشوارع والمحطات العامة، وتُسجل مخالفات بسيطة كعبور الشارع في مكان غير مخصص، كما تسجل السلوكيات التي لا تتماشى مع معايير الدولة. وفي بعض الحالات، تربط هذه الملاحظات بنظام النقاط، حيث يخفض تصنيف الأشخاص الذين يُعتبرون مخالفين للقوانين أو المعايير الاجتماعية. ما يجعل هذا النظام أكثر تعقيدًا هو تأثيره العملي: من يُعاقَب بنقص النقاط قد يُمنع من السفر، أو من الحصول على قروض، أو حتى من دخول مدارس معينة. وهكذا يتحول الإنترنت إلى أداة ليست للمراقبة فقط، بل لتقييم وتشكيل سلوك الأفراد بناءً على سجل رقمي يمكن أن يُقرر حياتهم اليومية. روسيا: الإنترنت السيادي في روسيا، تُظهر الحكومة نهجًا مشابهًا لما تقوم به الصين، لكنها تعتمد على أدوات وأطر قانونية مختلفة لفرض الرقابة على الإنترنت. منذ أن بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعزيز قبضته على السلطة في العقدين الأخيرين، أصبح الإنترنت أحد الساحات الأساسية للرقابة السياسية. ففي عام 2019، أُقر قانون " الإنترنت السيادي"، الذي يُمكّن الدولة من فرض رقابة أشد على الشبكة العنكبوتية داخل حدودها، ويجعل من الممكن قطع الاتصال بالإنترنت الدولي إذا لزم الأمر. إحدى أبرز الأدوات التي تستخدمها روسيا لمراقبة الإنترنت هي قانون البيانات الشخصية، الذي يُلزم الشركات العالمية مثل جوجل وفيسبوك بتخزين بيانات المستخدمين الروس داخل أراضي البلاد. إذ يُمكن هذا النظام الدولة من تتبع أنشطة المواطنين على الإنترنت بشكل أكبر، كما يجعل لها صلاحيات لا تتوقف عند التصفح فقط، بل تشمل أيضًا مراقبة الرسائل والمحتوى المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا كانت الصين تُحارب المحتوى الخارجي، فإن روسيا تعتمد على أساليب متعددة، تشمل تقييد الوصول إلى مواقع إخبارية أو اجتماعية تُعتبر "مناهضة" للنظام، إضافة إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للكشف عن المنشورات ذات الطابع المعارض للحكومة. من بين أبرز الأمثلة على ذلك هو الهجوم الذي تعرضت له منصات إعلامية كبيرة مثل " إيكو موسكفي"، التي تم حجبها جزئيًا بسبب تغطيتها السياسية المستقلة. وبالإضافة إلى ذلك، يُعد نظام المراقبة الجماعية في روسيا أكثر انتشارًا في المدن الكبرى مثل موسكو، حيث توجد كاميرات مراقبة في كل زاوية، مما يُمكّن السلطات من تحديد تحركات الأشخاص وتفاعلهم داخل الفضاء العام. منصات التواصل الاجتماعي في روسيا في روسيا، يعتمد المواطنون بقدر كبير على أدوات محلية للبحث والتواصل بسبب الرقابة الحكومية المشددة على الإنترنت. يُعد Yandex المحرك الرئيسي للبحث في البلاد، وهو يعتبر البديل الروسي لجوجل. أما منصات التواصل الاجتماعي، فيُهيمن عليها VK (فكونتاكتي) وOdnoklassniki، التي تُستخدم بشكل رئيسي للتواصل الاجتماعي بين الأفراد، بينما يحقق Telegram شهرة واسعة بفضل تركيزه على الخصوصية والمراسلة المشفرة. كما تستخدم روسيا أيضًا تطبيقات محلية مثل وGosuslugi لتقديم خدمات البريد الإلكتروني والمعاملات الحكومية. وبسبب تقييد الوصول إلى منصات تواصل اجتماعي مثل Facebook وX، تظل الأدوات المحلية جزءًا أساسيًا من الحياة الرقمية اليومية للمواطنين الروس. كوريا الشمالية: إنترنت منغلق بالكامل بينما تُبقي الصين وروسيا على درجة من الانفتاح المنضبط نحو العالم الرقمي، تتجه كوريا الشمالية نحو نموذج أكثر انغلاقًا وتحكمًا، حتى يمكن وصفه بالعزلة الرقمية الكاملة. فلا يوجد في البلاد إنترنت عالمي متاح للمواطنين، بل تقتصر الشبكة على نظام داخلي يُعرف باسم " كوانغميونغ"، وهو شبكة محلية مغلقة تقدم محتوى صممته الدولة بالكامل، يشمل الأخبار، المواد التعليمية، وبعض الموارد الثقافية التي عُدلت لتتوافق مع الخطاب الرسمي للنظام. لا يستطيع المواطن العادي في كوريا الشمالية استخدام جوجل أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي العالمية، كما أن امتلاك هاتف ذكي لا يعني بالضرورة حرية الوصول إلى الإنترنت. أجهزة الهواتف في البلاد تكون مزوّدة بنظام تشغيل محلي يخضع للمراقبة الشديدة، ولا يمكن استخدامها سوى لإجراء مكالمات داخلية أو الوصول إلى محتوى مصرح به فقط. أما أجهزة الحواسيب، فهي غالبًا مخصصة للمؤسسات الحكومية أو فئات النخبة، وتخضع أيضًا لتفتيش دوري صارم. كل حركة رقمية في كوريا الشمالية مراقبة، بدءًا من فتح الملفات ووصولًا إلى التنقل بين الصفحات. تُستخدم أدوات مراقبة مدمجة في الأجهزة نفسها، وقد يتعرض من يحاول الوصول إلى معلومات من الخارج لعقوبات قاسية، قد تصل إلى السجن أو الأعمال القسرية. رغم هذا الانغلاق، تُجري الدولة بعض محاولات لاستخدام التكنولوجيا الحديثة في المجالات العسكرية والدعائية، فإن هذه التقنيات تبقى حكرًا على القيادة والنخبة، في حين يُمنع عامة الشعب من أبسط صور الاتصال بالعالم الخارجي. كما تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد وسائل تواصل اجتماعي حقيقية في كوريا الشمالية، بل أدوات محلية محكومة ومراقبة. ويهدف النظام من هذه الرقابة الرقمية الشاملة إلى منع تسرب الثقافة الغربية، وحصر المعلومات داخل الإطار الذي يرسمه الحزب الحاكم. التأثيرات العميقة للانغلاق الرقمي لا يقتصر الانغلاق الرقمي في الأنظمة المغلقة على التحكم في المعلومات فقط ، بل يمتد ليترك آثارًا عميقة على النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لتلك الدول. اجتماعيًا، يؤدي غياب التفاعل مع العالم الخارجي إلى تشكيل مجتمعات منغلقة فكريًا، يصعب فيها تبادل الآراء بحرية أو تكوين وعي جماعي مستقل. في كوريا الشمالية، يظهر ذلك بوضوح في ضعف مفاهيم التعبير الشخصي وتقييد العلاقات مع العالم خارج حدود الدولة. أما في روسيا والصين، فعلى الرغم من توفر أدوات بديلة، فإن الرقابة المستمرة تزرع حالة من الرقابة الذاتية والخوف من التعبير، خصوصًا في القضايا السياسية أو الحقوقية. ثقافيًا، يُحرم المواطنون في هذه الأنظمة من الاطلاع على الإنتاجات الثقافية العالمية، مما يخلق فجوة معرفية وحضارية تزداد اتساعًا بمرور الوقت. تتحول الثقافة إلى أداة في يد السلطة، تُستخدم لنشر الرسائل الرسمية وتعزيز الرواية الحكومية، بينما يُحاصر الفن، وتُقيد حرية الإبداع. ورغم بعض الانفتاح النسبي في الصين، فإن المحتوى الثقافي يظل خاضعًا لرقابة شديدة تفرغه من جوهره الحر. اقتصاديًا، يؤثر الانغلاق الرقمي على الابتكار وريادة الأعمال، خاصة في بيئة تُقيد فيها المعلومات ويُفرض على القطاع التكنولوجي الانسجام مع أهداف النظام السياسي. صحيح أن الصين طورت اقتصادًا رقمياً عملاقًا داخليًا، لكنها ما زالت تعاني من قيود على حرية تدفق البيانات، مما يحد من قدرتها على التعاون الكامل مع الأسواق العالمية. وفي روسيا، زادت العزلة التقنية بعد العقوبات الغربية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، مما أثر على الشركات المحلية التي تعتمد على أدوات وبرمجيات أجنبية. أما كوريا الشمالية، فاقتصادها شبه معزول بالكامل، وتكاد تنعدم فيها البنية الرقمية التي تسمح بالتجارة أو الابتكار الحقيقي. هل يشعر المواطنون بالسعادة في هذه الدول؟ في قلب الأنظمة المغلقة، حيث تُفرض الرقابة الصارمة على المعلومات والتواصل، تتباين مشاعر المواطنين بين الرضا الظاهري والضغوط الخفية. في كوريا الشمالية ، تُظهر التقارير أن المواطنين يعيشون حياة مليئة بالتحديات، مع نقص في الموارد الأساسية وقيود شديدة على الحريات الشخصية. ورغم ذلك، يُلاحظ أن الناس هناك يبتسمون ويشاركون في الأنشطة اليومية، مما يعكس قدرتهم على التكيف مع الواقع المفروض عليهم. أما في الصين، فقد أظهرت الدراسات أن مستوى الرضا عن الحياة مرتبط بشكل كبير بالثقة في الحكومة. فكلما زادت هذه الثقة، ارتفع مستوى الرضا الشخصي. ومع ذلك، فإن الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، مثل ثقافة العمل المكثفة، تؤثر سلبًا على رفاهية المواطنين، خاصة بين الشباب. وفي روسيا ، تشير الاستطلاعات إلى أن نسبة كبيرة من المواطنين يعبرون عن شعورهم بالسعادة، حيث أفاد 79% بأنهم سعداء، بما في ذلك 31% قالوا إنهم "سعداء جدًا". ومع ذلك، فإن التحديات الاقتصادية والسياسية، مثل العقوبات الغربية والصراع في أوكرانيا، تؤثر على جودة الحياة وتزيد من الضغوط اليومية. تُظهر هذه الأمثلة أن الحياة في الأنظمة المغلقة ليست سوداء بالكامل، لكنها مليئة بالتحديات والتناقضات. فبينما يسعى المواطنون للعيش بكرامة وسعادة، تظل القيود المفروضة عليهم عائقًا أمام تحقيق رفاهية حقيقية ومستدامة. الوجه الآخر للانفتاح الغربي بينما تنتقد الدول الغربية الأنظمة المغلقة في روسيا والصين وكوريا الشمالية، وتقدم نفسها كحامية لحرية التعبير وحقوق الإنسان، تكشف الأزمات الكبرى عن وجه آخر لتلك "الحرية" المعلنة. فخلال العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، ظهرت بوضوح معالم هذا التناقض، حين فرضت شركات كبرى مثل " ميتا" قيودًا واسعة على المحتوى المتعلق بفلسطين، فحُذفت المنشورات، وقُيّدت الحسابات، وتعرّض المستخدمون للعقاب الرقمي لمجرد توثيقهم للواقع أو تعبيرهم عن رفض الإبادة الجماعية أو تضامنهم مع المدنيين الأبرياء. فجأة، أصبحت خوارزميات الحرية أدوات صامتة للرقابة، لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تُنتقد في الأنظمة الأخرى، بل ربما تفوقها خداعًا لأنها ترتدي قناع الحياد والانفتاح. لا يفضح هذا النوع من الانحياز فقط حدود حرية التعبير في الغرب، بل يطرح تساؤلات جوهرية عن المتحكم الفعلي في "الحقيقة" داخل الفضاء الرقمي. فحين تُكمم الأفواه دفاعًا عن "المعايير المجتمعية"، وتُقمع الروايات غير المرغوب بها باسم "الأمن والسياسات"، تصبح حرية الإنترنت سلعة تخضع للهوى السياسي والضغط الإعلامي، وليس مبدأ إنسانيًا عالميًا. لم تعد الرقابة حكرًا على الأنظمة الاستبدادية، بل تسللت إلى قلب العالم الحر، مغلفةً بالشعارات، ومدعومة بالتقنيات المتقدمة التي تُملي على المستخدم ما يُقال وما لا يُقال. وهكذا، تُعيدنا المنصات الغربية إلى معضلة قديمة بثوب عصري: من يملك الصوت، يملك السرد. أيهما أفضل: الحرية أم الإنغلاق؟ يُظهر لنا الواقع الرقمي في الأنظمة المغلقة أن الرقابة والسيطرة ليست حكراً على تلك الأنظمة فقط، بل هي ظاهرة عالمية لها وجه آخر في الغرب أيضًا، وإن كان أكثر خفية. فالغرب، الذي يرفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان، لا يتوانى عن ممارسة نوع من الرقابة الشديدة، تحت لافتة "حماية المجتمعات" أو "مكافحة الكراهية". وما يحدث في قضايا مثل معاداة السامية، يكشف عن نفاق واضح وازدواجية في المعايير. فالحرية في الغرب تصبح مقيدة عندما يتعلق الأمر بالمواقف التي لا تتوافق مع الرواية الرسمية أو المصالح السياسية الكبرى. وفي رأيي، رغم أهمية الحرية الرقمية في عصرنا الحالي، فإنه يجب أن تكون هناك رقابة منظمة على الإنترنت، خاصة للحفاظ على النظام العام والآداب العامة. فمن دون رقابة حقيقية، سنجد أنفسنا في عالم فوضوي، يصبح فيه كل فرد قادرًا على إيذاء الآخرين تحت شعار "الحرية". كما أن هذه الفوضى قد تؤدي إلى انتهاكات قانونية وأخلاقية، تضر بالمجتمعات. وهنا يأتي دور الرقابة التي تضمن توازنًا بين الحرية والمسؤولية. وكما نرى في الغرب، حيث يُعتبر النموذج الأمثل للحرية، إلا أن غياب الرقابة على الإنترنت أدى إلى تزايد الجرائم والانتهاكات عبر منصات التواصل، مما يبرز الحاجة الماسة لإيجاد ضوابط تضمن عدم تَجاوز الحدود.


أخبار مصر
منذ 6 أيام
- ترفيه
- أخبار مصر
الإنترنت في الأنظمة المغلقة: روسيا والصين وكوريا الشمالية
وجدتُ الرواية صدفةً خلال زيارتي الأخيرة لمعرض الكتاب، وسط الزحام والرفوف المتراصة، جذبني غلافها وعنوانها المألوف: 1984. كنت قد سمعت بها من قبل، لكنني لم أتوقع أن تحمل كل هذا الثقل. أمسكت بها بدافع الفضول، وبدأت قراءتها في ليلة هادئة. ما إن تعمقت في صفحاتها حتى وجدت نفسي أغوص في عالم كئيب من المراقبة والرقابة والسيطرة على العقول.الرواية التي كتبها جورج أورويل في منتصف القرن العشرين، لم تكن مجرد خيال سياسي، بل كانت نقدًا صارخًا للأنظمة القمعية، وخصوصًا تلك التي نشأت في عهد ستالين في الاتحاد السوفييتي. عبارة 'الأخ الأكبر يراقبك' لم تكن فقط سطرًا روائيًا مكررًا، بل تحولت إلى رمز عالمي لهيمنة الدولة على حياة الأفراد. فكرة 'الأخ الأكبر' الذي يراقب الجميع، دون أن يعرف أحد من هو أو أين يقف، لم تعد محض خيال. في دول مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية، تحوّلت هذه الفكرة إلى واقع رقمي. فالإنترنت هناك ليس أداة للتعبير أو الاكتشاف، بل مساحة مراقَبة، يتم فيها التحكم بما ترى، وتوجيه ما تعتقد، ومحاسبتك على ما تفكر فيه، حتى لو لم تنطق به.في 1984، كان الناس يخافون من التفكير، واليوم، هناك من يخاف حتى من كتابة تعليق أو مشاركة منشور. ومع أن التكنولوجيا تطورت بما يفوق خيال أورويل، إلا أن أدوات السيطرة أصبحت أكثر دقة، وأقل وضوحًا.وهذا ما دفعني للغوص أكثر في واقع الإنترنت داخل هذه الأنظمة المغلقة، وفهم كيف تُبنى الأسوار الرقمية في عالم يُفترض أن يكون بلا حدود.الصين: الجدار الناري العظيم في قلب دولة عملاقة تقود العالم في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا، يقف 'الجدار الناري العظيم' كواحد من أعقد أنظمة الرقابة على الإنترنت في التاريخ. الصين لا تمنع الإنترنت، لكنها تُعيد تشكيله على طريقتها الخاصة. المواطن الصيني لا يستخدم جوجل، ولا يشاهد يوتيوب، ولا يتواصل عبر واتساب أو فيسبوك. كل تلك الأسماء الكبيرة التي نعدها من أساسيات الحياة الرقمية، إما محجوبة تمامًا أو خاضعة لرقابة شديدة.بدلًا منها، تقدم الدولة بدائل محلية، وفقًا لـ 'Statista' تأتي برامج مثل محرك البحث 'Baidu'، وتطبيق التواصل 'WeChat'، ومنصة الفيديو 'Youku' في المقدمة، وكلها تخضع لمراقبة حكومية دقيقة. تُلزَم شركات التكنولوجيا الصينية قانونًا بالتعاون مع السلطات، والتقارير تشير إلى أن آلاف الموظفين يعملون في مراقبة المحتوى وحذف المنشورات، والتبليغ عن 'السلوك المشبوه'.لكن الرقابة لا تقف عند حدود المنصات. فالصين تُوظف تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجوه لتتبع الأفراد حتى في العالم الواقعي. الإنترنت هناك ليس فقط ما تتصفحه، بل ما تقوله، ومن تتابعه، وحتى كيف تتصرف في الأماكن العامة. وكل ذلك مرتبط بنظام 'النقاط الاجتماعية' الذي يكافئ ويعاقب بناءً على سلوك المواطن، الرقمي وغير الرقمي.النظام الاجتماعي القائم على النقاط من أبرز أدوات الرقابة الرقمية في الصين، نظام 'النقاط الاجتماعية'، وهو نظام رقمي يُراقب سلوك الأفراد في الحياة اليومية سواء عبر الإنترنت أو خارجه ويمنحهم نقاطًا بناءً على مدى 'انضباطهم' وفقًا لمعايير الدولة. فالتصرفات التي تُعتبر إيجابية، مثل دفع الفواتير في موعدها أو مشاركة محتوى داعم للدولة، قد ترفع من رصيدك. أما نشر آراء معارضة، أو حتى مجرد الارتباط بأشخاص 'مشبوهين'، قد يؤدي إلى خفض تقييمك.لا يعتمد هذا النظام فقط على الأنشطة الرقمية، بل يغزز باستخدام شبكة كاميرات مراقبة منتشرة في المدن الكبرى، ومزودة بتقنيات التعرف على الوجه. تُسهم هذه الكاميرات في تتبع الأشخاص في الأماكن العامة، مثل الشوارع والمحطات العامة، وتُسجل مخالفات بسيطة كعبور الشارع في مكان غير مخصص، كما تسجل السلوكيات التي لا تتماشى مع معايير الدولة. وفي بعض الحالات، تربط هذه الملاحظات بنظام النقاط، حيث يخفض تصنيف الأشخاص الذين يُعتبرون مخالفين للقوانين أو المعايير الاجتماعية.ما يجعل هذا النظام أكثر تعقيدًا هو تأثيره العملي: من يُعاقَب بنقص النقاط قد يُمنع من السفر، أو من الحصول على قروض، أو حتى من دخول مدارس معينة. وهكذا يتحول الإنترنت إلى أداة ليست للمراقبة فقط، بل لتقييم وتشكيل سلوك الأفراد بناءً على سجل رقمي يمكن أن يُقرر حياتهم اليومية.روسيا: الإنترنت السيادي في روسيا، تُظهر الحكومة نهجًا مشابهًا لما تقوم به الصين، لكنها تعتمد على أدوات وأطر قانونية مختلفة لفرض الرقابة على الإنترنت. منذ أن بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تعزيز قبضته على السلطة في العقدين الأخيرين، أصبح الإنترنت أحد الساحات الأساسية للرقابة السياسية. ففي عام 2019، أُقر قانون 'الإنترنت السيادي'، الذي يُمكّن الدولة من فرض رقابة أشد على الشبكة العنكبوتية داخل حدودها، ويجعل من الممكن قطع الاتصال بالإنترنت الدولي إذا لزم الأمر.إحدى أبرز الأدوات التي تستخدمها روسيا لمراقبة الإنترنت هي قانون البيانات الشخصية، الذي يُلزم الشركات العالمية مثل جوجل وفيسبوك بتخزين بيانات المستخدمين الروس داخل أراضي البلاد. إذ يُمكن هذا النظام الدولة من تتبع أنشطة المواطنين على الإنترنت بشكل أكبر، كما يجعل لها صلاحيات لا تتوقف عند التصفح فقط، بل تشمل أيضًا مراقبة الرسائل والمحتوى المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي.وإذا كانت الصين تُحارب المحتوى الخارجي، فإن روسيا تعتمد على أساليب متعددة، تشمل تقييد الوصول إلى مواقع إخبارية أو اجتماعية تُعتبر 'مناهضة' للنظام، إضافة إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي للكشف عن المنشورات ذات الطابع المعارض للحكومة. من بين أبرز الأمثلة على ذلك هو الهجوم الذي تعرضت له منصات إعلامية كبيرة مثل 'إيكو موسكفي'، التي تم حجبها جزئيًا بسبب تغطيتها السياسية المستقلة.وبالإضافة إلى ذلك، يُعد نظام المراقبة الجماعية في روسيا أكثر انتشارًا في المدن الكبرى مثل موسكو، حيث توجد كاميرات مراقبة في كل زاوية، مما يُمكّن السلطات من تحديد تحركات الأشخاص وتفاعلهم داخل الفضاء العام.منصات التواصل الاجتماعي في روسيافي روسيا، يعتمد المواطنون بقدر كبير على أدوات محلية للبحث والتواصل بسبب الرقابة الحكومية المشددة على الإنترنت. يُعد Yandex المحرك الرئيسي للبحث في البلاد، وهو يعتبر البديل الروسي لجوجل. أما منصات التواصل الاجتماعي، فيُهيمن عليها VK (فكونتاكتي) وOdnoklassniki، التي تُستخدم بشكل رئيسي للتواصل الاجتماعي بين الأفراد، بينما يحقق Telegram شهرة واسعة بفضل تركيزه على الخصوصية والمراسلة المشفرة.كما تستخدم روسيا أيضًا تطبيقات محلية مثل وGosuslugi لتقديم خدمات البريد الإلكتروني والمعاملات الحكومية. وبسبب تقييد الوصول إلى منصات تواصل اجتماعي مثل Facebook وX، تظل الأدوات المحلية جزءًا أساسيًا من الحياة الرقمية اليومية للمواطنين الروس.كوريا الشمالية: إنترنت منغلق بالكامل بينما تُبقي الصين وروسيا على درجة من الانفتاح المنضبط نحو العالم الرقمي، تتجه كوريا الشمالية نحو نموذج أكثر انغلاقًا وتحكمًا، حتى يمكن وصفه بالعزلة الرقمية الكاملة. فلا يوجد في البلاد إنترنت عالمي متاح للمواطنين، بل تقتصر الشبكة على نظام داخلي يُعرف باسم 'كوانغميونغ'، وهو شبكة محلية مغلقة تقدم محتوى صممته الدولة بالكامل، يشمل الأخبار، المواد التعليمية، وبعض الموارد الثقافية التي عُدلت لتتوافق مع الخطاب الرسمي للنظام.لا يستطيع المواطن العادي في كوريا الشمالية استخدام جوجل أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي العالمية، كما أن امتلاك هاتف ذكي لا يعني بالضرورة حرية الوصول إلى الإنترنت. أجهزة الهواتف في البلاد تكون مزوّدة بنظام تشغيل محلي يخضع للمراقبة…..لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر 'إقرأ على الموقع الرسمي' أدناه


Independent عربية
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- Independent عربية
ماذا بين المحققين في رواية "اللجنة" و"الأخ الأكبر" في "1984"؟
تؤسس رواية "الديستوبيا"، على نحو ما، أحد اتجاهات أدب اللامعقول، إذ تمثل إيماناً بلا معقولية الشكل ولا معقولية الوجود معاً، عبر اقتراح علاقات بديلة للعلاقات المألوفة في العالم، وعبر وجود معاكس للمأمول الذي تحركه القيم المطلقة: الحق والخير والجمال، فيبلغ التمرد في رواية "الديستوبيا" حد قلب نظام العلاقات إلى ما أساسه الجور، والشر، والقبح، وليس ذلك بهدف فهم اللامعنى، بل لمضاهاة لا معناه، ولتحديه بتأكيده. تعود جذور هذا الاتجاه إلى القرن الـ19، حيث هاجمت كثير من الأعمال المعقول، عبر قصص الرعب والفزع، المزدحمة بعالم الأشباح والأساطير، كقصص إدغار آلان بو. الفنان الفرنسي توماس أزويلوس يحوّل سرد صنع الله إبراهيم في رواية "اللجنة" إلى رواية مصوّرة تكشف ملامح المجتمع المصري عبر العقود (مواقع التواصل) لكن أبطال هذا النوع من القصص لم ينتموا إلى عالم البشر أو أنهم بشر لم يتمتعوا بقوى الإنسان العاقل كلها، فهم على حافة الجنون أو اللاشعور، في حين نجد معظم أبطال الديستوبيا عاديين، لكنهم يعيشون في عالم غير عادي بالنسبة إلينا، بوصفنا متلقين، ويأتي عدم عاديته من شذوذ قيمه، واختلال خريطة العلاقات بين عناصره، مما يؤدي إلى اختلاف منطق الحدث الروائي ومغايرة سيرورته للمألوف. في حين غالباً ما نجد المكان باسمه المألوف وبتفاصيله ذاتها، مقدماً بعين القبح، وليس المكان هنا قلاعاً موحشة، وقصوراً عتيقة بأثاث مهمل رطب، كما في قصص الرعب التي تحدثنا عنها، كما يتجاور في هذا الفضاء الناس العاديون والمشوهين، والأشباح، والضواري، متقبلين جميعاً تجاورهم هذا، مما يجعلنا نتقبله أيضاً. التحليق بالخيال الأسود هرباً من الأنظمة الشمولية لقد كان لانتشار نصوص التشيكي فرانز كافكا، والبريطاني جورج أورويل في الثقافة العربية أثر كبير في التوجه لكتابة رواية "الديستوبيا"، لا سيما في النصف الثاني من القرن الـ20، في حين بقي انتشار رواية "نحن" للروسي يفغيني زامياتين محدوداً، التي كتبها في عام 1923، نتيجة منعها، وعدم ظهورها كاملة بالروسية إلى عام 1988، وتأخر وصول ترجمتها إلى اللغات الأخرى، حتى إن جورج أورويل نفسه قرأها بالفرنسية وكتب نقداً عنها في عام 1946، لقد صار اسم كافكا دالاً على فظائع المدينة في القرن الـ20، لكنه لم ينتشر في أوروبا إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تراخت قبضة النازية من جهة، وابتدأ المتحدثون بالألمانية من الجيل الجديد يسمعون عنه، ويتعرفون إليه من تقارير الأجانب من جهة ثانية. رواية جورج أورويل بالترجمة العربية (نيل وفرات) كان طه حسين قد عرف الثقافة العربية إلى كافكا، إذ كتب في عام 1946 مقالة عنه بعنوان "الأدب المظلم"، ونشر الدسوقي فهمي في صحيفة "المساء" عام 1968 ترجمته عن الإنجليزية لنصي "التحول" و"الدودة الهائلة". أما رواية أورويل "1984" التي نشرها في عام 1949 فقد ترجمها إلى العربية أول مرة أحمد عجيل عام 1984 في بغداد، ونشرتها الدار العالمية للنشر، والتي يشير صاحبها إلى أنه قرأها أول مرة بالعربية في عام 1957، إذ ظهرت في مكتبات مصر لفترة قصيرة ثم سحبت. ولم تنتشر في العالم العربي على الوجه المستحق، كما يبدو لي، نتيجة القبضة الأمنية المستحكمة على الفكر والمنشورات، نظراً إلى أن جمهورية الخوف التي تعريها الرواية تتطابق مع البلدان العربية ذات الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، التي استمدت بنيتها الحديثة من النهج الستاليني الذي فككه أورويل برؤية تهكمية. فظائع الانفتاح الرأسمالي في القرن الـ20 لا نستطيع استثناء المقاربة بين أعضاء "لجنة" صنع الله إبراهيم، و"الأخ الأكبر الذي يراقبك" في "1984"، أو بين شخصية السارد/ البطل في اللجنة، ووينستون سميث السارد/ البطل في رواية أورويل، ولا بين اللغة الجديدة التي تكلم عليها بطل "اللجنة"، و"نيوسبيك"، وهي اللغة الجديدة التي ابتكرتها حكومة "أوقيانيا". ظهرت رواية "اللجنة" للكاتب المصري صنع الله إبراهيم في عام 1981، عن دار الكلمة في بيروت. ويمكن أن أعدها أول نص ديستوبي عربي متكامل، ويمثل تجربة فريدة في تلك المرحلة، فهي تقدم بلا احتجاج من السارد/ البطل خريطة العلاقات المضادة للمألوف في المجتمع على أنها المألوفة، والتي يحركها ثالوث بديل للقيم المطلقة المعروفة منذ أفلاطون (الحق، الخير، الجمال)، حيث سيصير النموذج الجمالي السائد هو القبيح، والأخلاقي هو السيئ، والسياسي هو الجبان، والاقتصادي هو الفاسد. رواية "المحاكمة" بالترجمة العربية (دار تكوين) ولا بد من الحديث عن السياق التاريخي للنص، إذ تولد عن سياسة الانفتاح الاقتصادي السياسي المصرية، التي أنتجت كلاً من الخصخصة، وتغول الرأسمالية، وضرب الإنتاج الوطني، فعاثت القطط السمان في السوق واستشرى الفساد، وقد حدث ذلك كله بعد "كامب ديفيد" 1978، إذ انكسر الحلم بالدولة الوطنية المستقلة ذات اقتصاد الاكتفاء الذاتي، وتحكم كومبرادورات الاقتصاد، أصحاب التوكيلات العالمية، في خريطة السوق وحركة النقد، الذين يمثلون دور العملاء لطبقة أخطر، وهي طبقة الشركات متعددة الجنسيات، المرتبطة بأفراد ذوي سطوة ينتمون إلى محفل ما، كالماسونية أو الصهيونية، ويتحكمون باقتصاد العالم، وقد تمثل "اللجنة" ظلهم في مصر، ويشير محمود أمين العالم قائلاً، "ومن المقارنة بين مرحلتي الستينيات والسبعينيات أن هذا الذي يجري هو الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ مع منتصف السبعينيات، وما يتعلق بهذا الانفتاح من سلوك وقيم ومواقف". تقدم الرواية تصويراً أليغورياً للمجتمع، مؤسساً، حسب العالم، على "مسح نقدي ساخر للتضاريس الاجتماعية، والأيديولوجية لمصر السبعينيات... بل تمتد بإشارات عامة إلى بقية البلاد العربية". ويشير مصلح النجار إلى أن "الرواية تلج عالم المثقف المنتهك في العالم الثالث، تقدمه وهو مسحوق بأحلامه في أن يكون شيئاً. وهو عندما يسلك السبل المتاحة أمامه لا يجد سوى اللجنة التي من شروطها أن يكون متفوقاً في الرقص، وعلى رغم ذلك لم تكتف بأن يكون راقصاً، وإنما أصرت على أن يعطيها كل نفسه من الداخل، وكل جسده وفكره، وعندما لاحت فيه إشارة تمرد واحدة كان قرارها أن يأكل نفسه، وبدأ الأكل من ذراعه المعطوبة التي لم يجد من يعالجها له جيداً"، وذلك نتيجة استشراء الفساد في مفاصل المجتمع. يدين نص "اللجنة" الفئات الاجتماعية كافة: الكتاب، والقضاة، والصحافيين، وزعماء العمال، ونواب الشعب، والأطباء، والمهندسين، والمغنين، والمدرسين، وأساتذة الجامعات... فهم جميعاً مشغولون بجمع الثروات، وبحسب محمود أمين العالم مرة أخرى: "إنه يدينهم جميعاً لأنهم يقفون موقفاً سلبياً أو متواطئاً لما يجري، أي إنهم يستسلمون كما استسلم هو... إدانة للواقع السائد". يبحث السارد/ البطل عن "ألمع شخصية عربية معاصرة"، وسيكون معيار اللمعان هو الفاعلية في صياغة الحاضر والمستقبل، وهذا الحاضر هو حاضر الانفتاح، حاضر السماسرة، والكومسيونجية، والمقاولين وعملاء الشركات الأجنبية والأميركية بخاصة، والفئات الطفيلية من الرأسماليين. يتواكب بل يتناسج كشف مظاهر لمعان الشخصية- القيمة السائدة، مع كشف مظاهر التبعية الاقتصادية، فضلاً عن صور الفساد والخراب والانحدار المستشرية في المجتمع مادياً ومعنوياً، مثل صعوبة المواصلات، وانقطاع الكهرباء والمياه وتعطل التلفونات واستيراد السلع المصنعة والسجائر الأجنبية على حساب إنتاج الصناعات المصرية، وتحايل المالكين على القوانين، وخلع الأشجار العامة لمصلحة تجار الأخشاب الذين يتلاعبون بالسوق السوداء، وتفاقم الفساد والاستغلال وسيادة روح المتاجرة بكل شيء، والاستسلام لإغراء البحث عن الثروة، وتحول مياه الحنفيات إلى اللون الأسود تمهيداً لظهور تجارة المياه المعدنية المستوردة، واختفاء المشروبات المصرية لمصلحة المشروبات المستوردة، وبخاصة الكوكا كولا، مما يرمز إلى التبعية الشاملة للشركات الاحتكارية العالمية، وانتشار أساليب التعذيب والتصفيات الجسدية في السجون وتعطش الزعماء العرب للدم، فضلاً عن خيانة المصالح الوطنية والقومية والتعاون والتواطؤ مع الأعداء من صهاينة وأميركان إلى جانب انتشار مرض الاكتئاب النفسي والعنة الجنسية، وفتور الهمة واللامبالاة والتعصب الديني، وظهور كلمات منحوتة ليس لها سابقة ولكنها تعبر عن الأوضاع الجديدة السائدة مثل: التهليب والتطنيش والتطبيع والتنويع، وتدني الصحف الرسمية التي أصبح المكان الملائم لقراءتها، كما يقول الأنا السارد في سخرية مرة، هو مكان قضاء الحاجة. حيونة الإنسان بتفريغه من الحلم تنتهي تلك الديستوبيا بأن يبدأ السارد بأكل يده المعطوبة نتيجة علاج طبيب فاسد، وذلك تنفيذاً لحكم اللجنة، وهي ديستوبيا مناسبة للمرحلة التي عاشها المجتمع العربي بعامة، إذ بدت التحولات في منتهى الفداحة آنذاك، وقد مثلت الرواية تجاوزاً معرفياً جمالياً شاسعاً لقيم مجتمعها باتجاه القبيح. لقد كان سقوط اليوتوبيا الاشتراكية العربية مدوياً في تلك المرحلة، إذ انكسرت أحلام اليسار العربي في الاستقلال منذ كامب ديفيد، وفي التحرر الاقتصادي، واكتفاء الفرد والدولة، وإقامة مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية، وتحقيق الكرامة الإنسانية، وهي تلك الأحلام التي ظهرت بظهور الدولة القومية، أي قبل ما يقارب قرن من الزمان على ظهور رواية "اللجنة". قد نبطل اليوم عما حدث وصف الكارثة، فهي أقل بكثير مما شهدناه بعدها من الحروب والموت والدمار، وما ذلك إلا بسبب الاعتياد على الهزيمة، أو المضي في عملية "الحيونة"، أي عملية الانحطاط والتقزيم والتشويه التي تعرض لها الإنسان منذ فقد الجنة، والذي يشير إليها ممدوح عدوان بقوله، "تصور حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما يجري حولنا". تعقد جلسات اللجنة في المحكمة، والتي تشبه "قلعة" كافكا، وتشبه مقر وزارة الحقيقة حيث يعمل وينستون سميث بطل أورويل، حيث يراجع التاريخ، كما يفعل بطل اللجنة في بحثه التاريخي. يمكن القول إن رواية "اللجنة" هي ديستوبيا القتل النفسي، والتمثيل بالفرد، والكرامة الإنسانية، استعداداً للقتل الجسدي العبثي في الروايات التالية، التي ستظهر في بنى ديستوبية دامغة، وستبقى "اللجنة" لصنع الله إبراهيم عتبة ثابتة لتاريخ المجزرة.


الشرق الأوسط
٠٤-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الشرق الأوسط
إعادة قراءة لتواريخ بعيون فاحصة
لا تحتاج إلى لندن جورج أورويل في روايته «1984» لتتعرف على عالم أصابته جائحة القُبح، التي كانت خيالاً روائياً عندما نُشرت عام 1949، متوقِّعةً عالم الأخ الأكبر والشمولية، والتي راح ضحيتها بطل الرواية بعد انهيار نفسي في بحثه عن مخرج. لا تحتاج إلى الخيال عندما تتعرف على عام 1979 في الشرق الأوسط الكبير؛ من أفغانستان إلى مصر. ففي هذا العام تعرضت المنطقة لفيض من التقلبات والأحداث والجوائح التي غيَّرت المنطقة. لا يحتاج الأمر إلى دارس مثلي كي يلخص هذه الأحداث الواضحة، وإنما إلى متابع عاديٍّ حصيف. ولكن ربما يكمن دوري في تتبع خريطة الدم التي سالت في المنطقة منذ عام 1979. بدأ العام بالثورة الإيرانية في فبراير (شباط) 1979 التي غيَّرت وجه إيران ونقلتها آيديولوجياً لتصديرها خارج الحدود. بعد ذلك بشهر واحد وقَّع الرئيس المصري أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد في مارس (آذار) 1979، والتي أدَّت إلى عزلة مصر عربياً وقبولها في العالم الغربي، وما زال الحديث مستمراً عمَّا إذا كان الاتفاق قزَّم الدور المصري إقليمياً أم وسَّعه عالمياً؟ وهل جنت مصر ثمار السلام أم دفعت ثمناً أكبر بالخروج من صراع بدأ محسوماً لمصلحتها بعد نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973؟ صراع امتد حتى ثورة 2011 وما بعدها عن الهوية وطبيعة النظام السياسي وغيرهما. ثم في نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 اقتحمت الحرم المكي مجموعة إرهابية قادها جهيمان العتيبي. وما هو إلا شهر آخر حتى غزا السوفيات أفغانستان في ديسمبر (كانون الأول) 1979 ليُنتج هذا الغزو مشروعاً بلغ ذروته في أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001 التي سقطت فيها أبراج نيويورك، وضُرب فيها «البنتاغون»، واهتزت معها قوة أميركا الاقتصادية والعسكرية، والتي حولت أميركا إلى أسد جريح يحتاج إلى استعادة هيبته بغزو العراق وأفغانستان. دماء كثيرة سالت. ينابيع من الدم تفجَّرت عام 1979. هذا هو الملخص باختصار. فهل كل ما نراه من حولنا هو مجرد سيل من دماء عام واحد هو 1979 أم أن في ذلك مبالغة؟ وهل حدثٌ مثل «طوفان الأقصى» 2023 هو أيضاً من تبعات 1979 أم أنه تأسيس لمرحلة جديدة ربما بتبعات أكبر؟ تبعات هذا العام الذي أدى إلى اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ومن بعدها إلى مقتل الرئيس السادات أمام جنوده في السادس من أكتوبر 1981، غيَّرت سياسات وتوجهات بلد كبير مثل مصر، وأدخلتها في مواجهات مع التطرف حتى قضت عليه في آخر أيام الرئيس الراحل حسني مبارك، ومع ذلك لم يُشفَ البلد من اشتباك التصورات الدينية مع السياسة. أما المملكة العربية السعودية فقد اتخذت سياسات مختلفة منذ ذلك العام حتى وصلت إلى ما نراه اليوم، بلد لم يعد للتطرف مكان فيه، وصاغ مكانته بين الدول بشكل لافت. وقد تحدث ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عن عام 1979 في أول لقاءاته التلفزيونية، مما يوحي بإدراك تام لخطورة ما جرى، وأن طريق الازدهار هو السير بعيداً عن طريق 1979. أما أفغانستان فما زالت تخوض في المنعطف نفسه، مما يجعل موضوع استشفاء هذا البلد المسلم القديم أمراً يحتاج إلى سنين طويلة من العلاج. عدم فهم اللحظة هو الذي جعل أفغانستان مأوى الجماعات المتطرفة، وجعل كل أعوام ذلك البلد هو 1979؛ يدور فيه كأن الزمن لا يتحرك، يذهب فيه إلى نيويورك وواشنطن من خلال بن لادن وصحبه فيأتي إليه بالاحتلال الأميركي بعدها ليستمر عشرين عاماً. أما إيران فما زالت متمسكة بذلك التاريخ، تاريخ بالنسبة إليها كالبحر فيه لحظات مد وجزر، وأن حديث الاستشفاء يبدو بعيداً. السابع من أكتوبر 2023، هل سيكون تاريخاً يشبه 1979؟ وإلى أين يأخذ المنطقة والعالم؟ وفي أي اتجاه؛ هل سيكون في اتجاه الوعي العالمي بالإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة والتطهير العرقي، وبذلك يضع قضية أهل فلسطين على قمة الأجندة العالمية على أنها آخر احتلال ومشروع فصل عنصري بقي في العالم الحديث، أم أنه سيكون لحظة يلوم فيها بعض العرب أنفسهم بأنه يومٌ زادَ من تفاقم كارثة الشعب الفلسطيني وأدخلَ القضية الفلسطينية في نفق الثأر والغضب مما سيؤدي إلى زوالها بأيدي أصحابها؟ هذه أسئلة تحتاج إلى تفكير عميق، فقد تحدث الفلسطينيون كثيراً عن عام النكبة في 1948 الذي كان شبيهاً بعام 1979، ولكن لم تُتخذ التدابير التي تجعل تكراره أمراً مستحيلاً، أو اتخاذ انحناءة سياسية تأخذه بعيداً عن طريق ومسار يؤدي إلى النتيجة نفسها. إعادة قراءة 1979 بعيون جديدة ورؤية نقدية، ضرورة. وهذا ليس ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة سياسية لفهم ما جرى وما يجري. وكذلك الأمر بالنسبة إلى 7 أكتوبر 2023. فالسنوات مثل البشر؛ حين تنزف تترك خرائط من الدم لا يمكن تجاهلها.


شبكة أنباء شفا
٠٣-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- شبكة أنباء شفا
في اليوم العالمي لحرية الصحافة ، الكلمة رصاصةُ حق، والصمت خيانة ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في اليوم العالمي لحرية الصحافة: الكلمة رصاصةُ حق، والصمت خيانة ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات في الثالث من أيار / مايو من كل عام، يتوقف العالم لحظة تأمل، ويصمت ضجيج الأخبار ليُفسح المجال لأصوات الحقيقة المكبلة، لأقلام لم تجفّ حبراً رغم الرصاص، ولصور التقطت الضوء في لحظة موت. إنه اليوم العالمي لحرية الصحافة، اليوم الذي يعرّي وجوه الزيف، ويعلي راية الكلمة في وجه الطغيان. وكما قال الروائي البريطاني جورج أورويل: «في زمن الخداع العالمي، يصبح قول الحقيقة عملاً ثورياً». فأن تكون صحفياً حراً في زمن القمع هو بحد ذاته بطولة، وأن تدافع عن المظلومين بحبرك هو أعظم أشكال المقاومة. لقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا اليوم في عام 1993، بناءً على توصية مؤتمر اليونسكو العام في عام 1991، التي جاءت استجابة لنداء أطلقه الصحفيون الأفارقة في إعلان ويندهوك، ليصبح هذا اليوم شاهداً سنوياً على نضال الصحافة في وجه القمع، وتذكرة للعالم أجمع بأن الكلمة الحرة لا تموت، وإن اغتيل صاحبها. ففي هذا اليوم، نقف احتراماً لأولئك الذين ضحوا بحياتهم لأجل أن نبقى مطلعين، لأجل أن لا تُطمس الحقائق، ولأجل أن تبقى الصحافة صوت من لا صوت له، ومرآة الشعوب في مواجهة كل أشكال الاستبداد. وفي هذا السياق، لا بدّ من تسليط الضوء على أكثر الصحافات التي دفعت الثمن دماً وحصاراً وقتلاً: الصحافة الفلسطينية. ففلسطين، منذ أن عرفت القيد والاحتلال، كانت مسرحاً لأبشع الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين. من شريف جردات إلى ياسر مرتجى، من أحمد أبو حسين إلى غفران وراسنة، ومن شيرين أبو عاقلة إلى آخر شهيد التقط عدسته قبل أن تلتقطه قذيفة الاحتلال. في غزة والضفة الغربية، لا يحمل الصحفي كاميرا فقط، بل يحمل وصيته، يعرف أن خروجه لتغطية العدوان قد يكون الرحيل الأخير، لكنه يذهب لأن صوته وصورة الحقيقة أهم من الخوف، وأبقى من رعب القنابل. الصحافة الفلسطينية لم تكن يوماً محايدة أمام دم الأطفال، ولم تكن صامتة أمام قصف البيوت فوق ساكنيها. لقد كانت على الدوام شهيدة على المجازر، شاهدة على تفاصيل الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق أهل غزة والضفة. تغلبت على الجوع والقصف ونقص الكهرباء لتروي للعالم قصة شعب يُذبح على مرأى الجميع، بينما يحاول الإعلام المأجور طمس الحقيقة بلغة باردة لا تنصف الضحايا ولا تفضح الجلاد. في هذا اليوم، لا نكتفي بالاحتفال ولا بالبكاء على من رحلوا، بل نجدد العهد بأن تبقى الكلمة حرة، والعدسة يقظة، والصحافة الفلسطينية في طليعة من يدافع عن الحقيقة مهما بلغ الثمن. هي ليست فقط مهنة المتاعب، بل مهنة الدماء، مهنة الدفاع عن الوجود، مهنة من لا يملك إلا الكلمة في وجه دبابات المحتل. كل عامٍ وأحرار الصحافة بخير، وكل عامٍ وقضيتنا التي آمنت بها الكاميرات والميكروفونات لا تزال تنبض، رغم محاولات طمسها. كل عامٍ وأقلامنا أقوى من الرصاص، وأصواتنا أرفع من جدران الفصل العنصري. وللشهداء من الصحفيين: أنتم حكايتنا التي لا تموت. أنتم بصمتنا التي لا تُمحى. أنتم العنوان الأوضح لحرية الصحافة في زمن الاحتلال والخذلان.