logo
#

أحدث الأخبار مع #حسنالعاصي

القومية العربية في ميزان الانتماء
القومية العربية في ميزان الانتماء

سواليف احمد الزعبي

timeمنذ 16 ساعات

  • سياسة
  • سواليف احمد الزعبي

القومية العربية في ميزان الانتماء

#القومية_العربية في ميزان الانتماء الدكتور #حسن_العاصي أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا تخلى العديد من العرب ـ لأسباب مختلفة ـ عن إيمانهم بالأمة العربية، وأصبحوا يشككون علناً في وجود قومية عربية جماعية. وأخذ البعض يُفضّل اعتبار أنفسهم مسلمين في المقام الأول، وأنهم ينتمون إلى الأمة الإسلامية. وقد تحوّل مصطلح 'العرب' في قاموسهم إلى تسمية مهينة ـ في بعض الأحيان ـ توحي بالإسراف، والسطحية، وعدم الكفاءة، والتبعية. فيما يُفضّل عرب آخرون أن يُعرفوا بوضوح بأنهم مصريون، أو سوريون، أو أردنيون، أو عراقيون. مواطنون في أكثر من إحدى وعشرين دولة مستقلة ـ باستثناء فلسطين المحتلة ـ لكل منها علمها ومصالحها الخاصة. حتى أن بعضهم لجأ إلى وصف أنفسهم بالشرق أوسطيين، تحسباً لسلام عربي إسرائيلي ونظام تعاون إقليمي جديد على غرار أوروبا. ويتمسك قلة من المثقفين على شعلة الحماس العربي والقومية متقدة. وهم غالباً ما يكونون في الخارج، في لندن أو باريس، أو في عواصم غربية أخرى حيث يتشاجرون حول ما إذا كانت العروبة والقومية العربية في حالة ركود، أم أنها في مرحلة التعافي. مقالات ذات صلة الثقافة والجمهور كان الشعور بـ'العروبة' قائماً منذ أن وطأت أقدام العرب مسرح التاريخ، وظلت محل تفاوض من قِبَل كل جيل لما يقرب من ألف عام ونصف. في هذا الجيل، يجب أن يتكيف هذا الشعور 'العروبي' مع ازدياد الولاء للدولة العربية القطرية، وتنامي التيارات الإسلامية، والانتصار العالمي للديمقراطية الليبرالية، وصعود رأسمالية السوق، والاختراقات التي حققتها إسرائيل في عدد من الدول العربية، واحتمال السلام معها. كانت جميعها عوامل أثرت سلباً على القومية العربية في تطورها على مدار معظم القرن الماضي ولغاية اليوم. لا شك أن 'العروبة' قادرة على استيعاب التحديات الجديدة، كما فعلت دائماً. فالقومية العربية ـ وهي إبداع حديث لهذا القرن ـ قد تتلاشى تماماً تحت وطأتها. ولكن مهما كانت آفاق القومية العربية، فإن تاريخها حتى هذه اللحظة يمثل أحد أبرز الأمثلة على سرعة نشوء أي قومية حديثة وصعودها وتراجعها. هذا التاريخ يستحق رواية جديدة، لأنه لم يُستدعَ في النقاش الأوسع حول تنامي عدم الاستقرار. لقد كان هناك وقتٌ حظيت فيه القومية العربية بمكانةٍ بارزةٍ في الدراسات المقارنة للقومية، لكنها أصبحت لاحقاً حكراً على المتخصصين. حاول المؤرخان البريطاني 'أرنولد توينبي' Arnold Toynbee والمؤرخ الأمريكي 'هانز كون' Hans Kohnدمج القومية العربية في إطارٍ مقارن أوسع، أصبحا مناصريها الفعليين بين الحربين العالميتين، على الرغم من تحفظاتهما على القومية في كتابهما 'القومية العربية: هوية خاطئة' Arab Nationalism: Mistaken Identity. لقد قبل ـ توينبي للسياسة البريطانية، وكوهن للصهيونية – أكثر شعارات القومية العربية تطرفاً باعتبارها بيانات عن حقائق اجتماعية أو ادعاءات أخلاقية لا تقبل الجدل، ولم يروا أياً من التناقضات الكامنة وراءها. وعندما نالت الدول العربية استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، برزت هذه التناقضات بكل تعقيداتها، وأبقت المنظرين اللاحقين على مسافة. كتب المحاضر والفيلسوف الأمريكي 'روبرت إيمرسون' Robert Emerson بانزعاجٍ لا يخفيه: 'لا يُمكن لأيّ ملخصٍ موجزٍ للتاريخ الطويل والمعقد للعالم العربي أن يُفكّك القوى التي شكّلت دوله وشعوبه'. وأضاف: 'لإجراء تحليلٍ شامل، من الضروري تقييم السجلّ الكامل للتجربة العربية، بما في ذلك مسائل مثل الانقسامات القبلية والطائفية وغيرها، وآثار الحكم العثماني، ومكائد القوى الأوروبية، ودور الإسلام واللغة والثقافة العربية'. باختصار، كانت هذه مهمةً لشخصٍ آخر يعرفها بشكلٍ أفضل. لكن حتى أولئك المقارنون الذين يعرفون القومية العربية جيداً اختاروا عدم جعلها محور مقارناتهم، ربما خوفاً من إدخال القارئ العام في متاهة. تظل الحالة العربية حالة معقدة للغاية وفقاً للمعايير الأوروبية. يبلغ عدد الناطقين بالعربية اليوم أكثر من أربعمائة وثلاثة وعشرون مليون نسمة، في منطقة تمتد من شواطئ المحيط الأطلسي في المغرب إلى بحر العرب – وهي منطقة تمتد موازية لجميع أنحاء أوروبا من ساحل المحيط الأطلسي في شبه جزيرة أيبيريا إلى جبال الأورال. لم تدّع أي قومية أوروبية وجود جمهور محتمل بهذا الحجم، أو الاتساع، أو التشرذم. لم يكن من السهل أبداً توثيق التطور التاريخي للوعي السياسي في هذه المنطقة، ولا يزال هناك قصور في دراسته. ولم تنشأ القومية العربية كرد فعل مباشر على الحكم الإمبراطوري الغربي، مثل الأنواع المألوفة في أماكن أخرى في آسيا وأفريقيا. فقد شهدت بعض الشعوب العربية أكثر من قرن من الحكم الغربي المباشر، بينما لم تشهد شعوب أخرى أي حكم غربي على الإطلاق. نتيجةً لذلك، سلكت القومية العربية مساراتٍ تطوريةً متمايزةً في الهلال الخصيب، وشبه الجزيرة العربية، ووادي النيل، وساحل شمال إفريقيا. لقد واجهت كلٌّ من هذه المناطق الغربَ بشروطٍ مختلفة، وفي أوقاتٍ مختلفة. تكاثرت أشكال القومية العربية، بل وألهمت أحياناً تصنيفاتٍ منفصلة، مثل الناصرية، والبعثية، وتصنيفاتٍ فرعيةً أكثر غموضاً مثل البعثية الجديدة. وأصبح العديد من هذه التيارات متنافسةً، حتى وصل الأمر إلى إراقة الدماء. هذا جعل من الصعب التعميم بشأن القومية العربية، ومن عدم الأمانة نشر مثل هذه التعميمات في النقاش الأوسع حول القومية. إن تتبع المسار السياسي للقومية العربية الذي رسمه الشعراء عبر مراحلها التاريخية، وتوصيف علاقتها بتلك الأفكار والهويات الأخرى التي جذبت 'ناطقي الضاد' قضية صعبة وشائكة. إنها قصة قومية نشأت بشكل متقطع، وانتشرت بشكل دراماتيكي، ثم تعثرت وفشلت. إنها سردية عشرات الملايين من الناس الذين آمن كثير منهم بالعروبة، ثم زعموا أنهم يحملون هوية خاطئة، وأنهم كانوا أشخاصاً آخرين طوال الوقت. ظهور العروبة ظهرت العروبة لأول مرة في القرن التاسع عشر، ليس كرد فعل مباشر على الحكم الغربي، بل كنقدٍ لحالة الإمبراطورية العثمانية، التي امتد نفوذها ليشمل معظم الشعوب الناطقة بالعربية منذ أوائل القرن السادس عشر. ولما يقرب من أربعمائة عام، كان هؤلاء الناطقون بالعربية متصالحين تماماً مع دورهم في الإمبراطورية. كان مقر الإمبراطورية في إسطنبول، وكانت أراضيها الشاسعة تُدار باللغة التركية العثمانية. لكن العثمانيين كانوا قد اعتنقوا الإسلام، كما فعلت الغالبية العظمى من رعاياهم الناطقين بالعربية. وتطورت دولتهم كخلافة إسلامية تضم جميع رعايا السلطان العثماني المسلمين، أياً كانت لغتهم. واحتفظ المسلمون الناطقون بالعربية باعتزازهم بلغتهم. فقد نُزِّل القرآن الكريم بالعربية إلى نبي عربي في القرن السابع. كما احتفوا بتاريخ الفتوحات العربية المبكرة، التي حملت الإسلام من نهر 'جيحون' ـ الذي عرف قديما باسم 'أوكسوس' ولدى العرب باسم جيحون، يتكون من التقاء نهري 'فخش' و'باندج' الذين ينبعان من جبال 'بامير' في آسيا الوسطى، والذي عبره الفاتح 'قتيبة بن مسلم' بجيشه إبان الفتوحات الإسلامية ـ إلى جبال 'البرانس' وهي سلسلة جبلية تقع جنوب غرب أوروبا، بين فرنسا وإسبانيا وتمثل الحدود الطبيعية بينهما، تمتد لمسافة قدرها 430 كلم من خليج 'بسكاي' بالمحيط الأطلسي في الغرب إلى البحر المتوسط في الشرق. وافتخروا بأنسابهم التي ربطتهم بشبه الجزيرة العربية في فجر الإسلام. إخلاص العرب للإسلام ربطهم بمسلمين يتحدثون لغات أخرى ويفخرون بأنساب أخرى، والذين أضفوا حيوية جديدة على الدفاع عن الإسلام وانتشاره. فمنذ القرن الخامس عشر، أظهر العثمانيون هذه الحيوية بحماسة أوصلت الإسلام إلى أبواب فيينا. ورأى جميع المسلمين التابعين للخلافة العثمانية أنفسهم مشاركين ومستفيدين من هذا المشروع الإسلامي، ولم يُميّزوا بين العرب والترك. ولكن مع التراجع النسبي للقوة العثمانية، وخاصة في القرن التاسع عشر، بدأت أسس هذا التكافل تضعف. كان البساط العثماني العظيم يُطوى من طرفيه: من قِبَل القوى العظمى الأوروبية، المنخرطة في تنافس إمبريالي، ومن قِبَل الرعايا المسيحيين الساخطين من الحكم العثماني في أوروبا، الذين اتخذ نضالهم من أجل الاستقلال طابعاً قومياً. شرع العثمانيون في سلسلة من الإصلاحات الغربية، لكنهم فقدوا في النهاية موطئ قدمهم في البلقان، والقوقاز، وشمال إفريقيا، ومصر. مع تضاؤل الإمبراطورية، تضاءلت ثقة رعاياها المتبقين، بل وظهر بعض السخط في الأقاليم الناطقة بالعربية المتبقية من الإمبراطورية، في شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب. وهو السخط الذي عُرف لاحقًا باسم 'الصحوة' العربية. ولا تزال العديد من الخلافات تدور حول طبيعة ومدى هذا السخط، ولكن من المتفق عليه عموماً أنه استُند إلى مصدرين. أولًا: كانت هناك مجتمعات الأقليات المسيحية الناطقة بالعربية، المتأثرة كثيراً بالتيارات الأوروبية، والتي عملت على تحويل اللغة العربية إلى وسيلة للعمل التبشيري والتعلم الحديث. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، ساهمت جهودهم بشكل كبير في إثارة الاهتمام بالأدب العربي العلماني، من خلال تكييف اللغة العربية مع الأعراف الحديثة للصحافة والرواية والمسرح. ولم يُترجم الإحياء الأدبي العربي، الذي تمركز في بيروت، إلى قومية عربية فوراً، لكنه دافع عن وجود ثقافة عربية علمانية، يُفترض أن المسيحيين والمسلمين ساهموا فيها على قدم المساواة. ومن خلال التركيز على هذا الإرث العربي المشترك، سعت الأقلية المسيحية إلى تقليص تحيز الأغلبية المسلمة ومنح المسيحيين المساواة الكاملة كمواطنين عرب. نشأت العروبة من مصدر ثانٍ أيضاً لطالما استحوذت التنافسات على النخبة المسلمة الناطقة بالعربية، لا سيما في ظل التنافس الشديد على التعيينات في المناصب الحكومية العثمانية والوظائف البيروقراطية. وقد تحولت مظالم أولئك الذين غفل عنهم الولاة العثمانيون مقابل هذه الغنائم أحياناً إلى مطالبة إسطنبول بمنح الولايات الناطقة بالعربية مزيداً من الاستقلالية في إدارة شؤونها. مع بداية القرن العشرين، انتشرت هذه العروبة في جميع المدن الكبرى في الإمبراطورية العثمانية حيث كانت اللغة العربية تُستخدم، لكنها تركزت في دمشق، حيث بدأ أتباعها في تنظيم أنفسهم. وبينما كانت عروبة المسلمين تشبه عروبة المسيحيين في فخرهم باللغة، إلا أنها اختلفت جوهرياً في تعلقها العميق بالإسلام. وقد لاقت استحسان المسلمين من خلال القول بأن عظمة العرب تكمن في فهمهم المتميز للإسلام. لقد أنشأ العرب، باسم الإسلام، إمبراطوريةً وحضارةً عظيمتين، والعرب وحدهم قادرون على إعادة الإسلام إلى عظمته الأصيلة. لم يكن هناك أي طابع علماني في هذا الادعاء بالعبقرية العربية، الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالدفاعيات والإصلاحات الإسلامية. فشلت هذه 'الصحوة العربية'، المسيحية والإسلامية، في إنتاج نقد اجتماعي لاذع أو لغة سياسية حديثة بحق. وفي النهاية هزمت نفسها بدفاعها المُبرر عن التقاليد والدين، لكنها ذهبت بعيداً بما يكفي لزعزعة ثقة بعض الناطقين بالعربية في شرعية الحكم العثماني، حتى أن بعض مُوزعي الكتيبات حاولوا إثارة المخاوف العثمانية (والدعم الأجنبي) بنشر منشورات باسم 'حركة عربية'. ظهرت معظم هذه المنشورات في أوروبا، وبدأت بعض صحف الرأي في عواصم أوروبا بمناقشة 'القضية العربية'. كان النقاش سابقاً لأوانه. في عام 1907 قدمت الرحالة الإنجليزية 'جيرترود بيل' Gertrude Bell التي قضت جزءًا كبيراً من حياتها في استكشاف الشرق الأوسط ورسم خرائطه، وأصبحت مؤثرة للغاية في صنع السياسات الإمبراطورية البريطانية بفضل معرفتها ومعارفها التي بنتها من خلال رحلاتها المكثفة. كانت بيل تعتقد أن زخم القومية العربية لا يمكن إيقافه، وأن على الحكومة البريطانية التحالف مع القوميين بدلاً من الوقوف في وجههم. ودافعت عن استقلال الدول العربية في الشرق الأوسط عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية، ودعمت تنصيب الممالك الهاشمية فيما يُعرف اليوم بالأردن والعراق. قدمت بيل تقييماً شائعاً لهذه التحركات: ما قيمة الجمعيات القومية العربية والمنشورات التحريضية التي تصدرها المطابع الأجنبية؟ الإجابة سهلة: إنهم لا يساوون شيئاً على الإطلاق. لا توجد أمة من العرب؛ التاجر السوري منفصل عن البدو بهاوية أوسع من تلك التي يفصله عنها العثمانيون. فالبلاد السورية يسكنها أعراق ناطقة بالعربية، جميعها متلهفة للتناحر، ولا يمنعها من تحقيق رغباتها الطبيعية إلا الجندي المهلهل الذي يتقاضى أجر السلطان بين الحين والآخر. ومع ذلك، مع حلول عشية الحرب العالمية الأولى، بدأت العروبة تتخذ شكلاً أكثر وضوحاً في مواجهة التحديين المتمثلين في التتريك والصهيونية. فقد هدد التتريك الوضع الثقافي الراهن. لقد تعرض الناطقون باللغة التركية في الإمبراطورية العثمانية للقومية على النمط الأوروبي، إلى حد كبير من خلال اختراقها لمنطقة البلقان. ثم بدأ المسلمون الناطقون بالتركية في بناء هوية جديدة لأنفسهم كأتراك، وهو اتجاه عززه علماء اللغة والرومانسيون الغربيون الذين سعوا إلى ترسيخ عظمة الحضارة 'الطورانية' القديمة. ومع تعثر الإمبراطورية العثمانية، حاولت السلطات العثمانية منح الإمبراطورية متعددة اللغات طابع الدولة القومية الأوروبية من خلال فرض استخدام اللغة التركية على حساب لغات أخرى، بما في ذلك العربية. أثارت هذه السياسة التي لم تُنفَّذ بالكامل، بعض المخاوف في الولايات العربية عشية الحرب العالمية الأولى، وربما ساهمت في حشد أنصار العروبة الثقافية لتحقيق هدف سياسي. كما هدد الاستيطان الصهيوني في فلسطين الوضع السياسي الراهن. تسامحت السلطات العثمانية مع تدفق الهجرة اليهودية، اعتقاداً منها أنها ستصب في مصلحة الإمبراطورية في نهاية المطاف، كما فعلت في موجات متتالية منذ محاكم التفتيش الإسبانية. لكن لم يتفق بذلك جميع رعايا السلطان، إذ رأت هذه الموجة الأخيرة من المهاجرين أن الأرض التي يستقرون عليها ليست مجرد ملجأ، بل دولة في طور الإنشاء. ومع تزايد وتيرة الهجرة والاستيطان الصهيوني، ازداد قلق جيرانهم المباشرين إزاء احتمالية التهجير الوشيكة. ومنذ مطلع القرن العشرين، أصبحت السياسة العثمانية تجاه الصهيونية موضع جدل وانتقادات متزايدة في الصحافة العربية. وهكذا نشأت العروبة من قلق متزايد إزاء وتيرة التغيير واتجاهه. ومع ذلك، فبينما استمرت الإمبراطورية العثمانية، لم تتطور العروبة إلى قومية مكتملة الأركان. نادى أتباعها باللامركزية الإدارية، وليس بالاستقلال العربي، ولم تكن لديهم رؤية لنظام ما بعد العثمانية. تخيلوا حلاً في شكل حكومة مسؤولة، وأبدوا إعجاباً غامضاً بالديمقراطيات الليبرالية في الغرب، وخاصة في فرنسا وإنجلترا، على الرغم من أنهم لم يفهموا تماماً معنى شعار 'الحرية'. وفوق كل ذلك، كانوا عمليين، ولم ينغمسوا في أحلام القوة العربية. كانت مظالمهم، على حد تعبير أحد منتقدي القومية العربية في وقت لاحق، محلية ومحددة؛ كانت تتعلق بجودة الخدمات الحكومية أو بالنطاق المناسب للإدارة المحلية؛ وكان أولئك الذين سعوا إلى الإنصاف من هذه المظالم في الغالب رجالاً معروفين في مجتمعاتهم، قادرين ربما على إجراء معارضة دستورية رصينة، ولكن ليس على الترفيه عن طموحات عظيمة لا حدود لها. في عشية الحرب العالمية الأولى، كان لا يزال عدد قليل من المسلمين والمسيحيين الناطقين بالعربية لم يكن لديهم أي شك في شرعية الدولة العثمانية. الأمة العربية والإمبراطوريات الأوروبية فرضت الحرب العالمية الأولى على أتباع العروبة خياراً. فبعد تردد، دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب الأوروبية إلى جانب ألمانيا، مما دفع بريطانيا وفرنسا إلى تأجيج كل شرارة معارضة في الإمبراطورية. أما الحلفاء، فقد دعوا إلى استقلال ما أسموه 'الأمة العربية'، ووجدوا في النهاية شريكاً في حاكم مكة المكرمة، الشريف حسين. كانت لدى الشريف رؤية طموحة لـ'مملكة عربية' شاسعة لعائلته، وفي عام 1915، حصل على التزامات من بريطانيا بشأن استقلالها المستقبلي وحدودها. وفي عام 1916، رفع أخيراً راية الثورة ضد الحكم العثماني. لم تكن الثورة العربية التي اندلعت في شبه الجزيرة العربية مرتبطة ارتباطاً وثيقا بالفكر العروبي الذي برز في الهلال الخصيب، بل عبرت بأمانة عن طموح الشريف في الحكم، وعن حماس قبائل الصحراء العربية للبنادق والذهب البريطاني. ومع ذلك، أقام ابنا الشريف، الأميران فيصل وعبد الله، اتصالاتٍ مع الجمعيات العربية الموجودة في دمشق، وجنّدت الثورة ضباطاً عرباً منشقين فرّوا من الجيش العثماني. كان هؤلاء الضباط قد التحقوا بالأكاديميات العسكرية العثمانية، حيث تشربوا فكرة الجيش 'مدرسة الأمة' من الضباط الألمان الذين دربوهم وقدّموا لهم المشورة. وهكذا، خلقت الثورة مزيجاً متقلباً، حلم المشاركون فيه، على اختلافهم، بأحلام مختلفة، كالملكية العربية، والفوضى الصحراوية، والدستورية الليبرالية، والديكتاتورية العسكرية. مع استمرار الثورة، علّقوا خلافاتهم في سعيهم نحو الاستقلال. في عام 1918، ومع تراجع العثمانيين أمام القوات البريطانية في فلسطين، بلغت الثورة العربية ذروتها بانتصار قاده فيصل إلى دمشق، وشكّل هناك 'حكومة عربية'. وفي عام 1919، ذهب إلى فرساي، حيث طلب الاعتراف بـ'الشعوب الناطقة بالعربية في آسيا' كـ'شعوب مستقلة ذات سيادة'، وعدم اتخاذ 'أي خطوات تتعارض مع احتمال اتحاد هذه المناطق في نهاية المطاف تحت حكومة ذات سيادة واحدة'. أخيراً، في عام 1920، أعلن 'المؤتمر السوري العام' استقلال 'المملكة السورية المتحدة' التي ضمت بلاد الشام بأكملها، ونصّبَ الأمير فيصل ملكاً. ومن دمشق، أعلن 'المؤتمر العراقي' أيضاً استقلال العراق، تحت حكم الأمير عبد الله. دخلت الأمة عربية لعبة الأمم، ومنذ البداية، قدّم أعضاؤها مطالبات بعيدة المدى اصطدمت بمطالب أخرى. أبرزها، أن بريطانيا تعهدت بالتزامات حربية تجاه فرنسا والحركة الصهيونية. الأولى: ما يُسمى باتفاقية سايكس، بيكو، اعترفت سراً بمعظم شمال بلاد الشام كمنطقة امتياز فرنسي. والثانية: وعد بلفور، حيث دعمت علناً إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين. كما كان لبريطانيا مصالح استراتيجية واقتصادية في الأراضي التي طالب بها الشريف حسين وأبناؤه. حُسمت المطالبات المتناقضة في أبريل/نيسان 1920، في مؤتمر سان ريمو، حيث اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم الأراضي العثمانية المحتلة، والتي خططتا لإدارتها بموجب انتدابات منفصلة تابعة لعصبة الأمم. وبناءً على هذه الاتفاقيات، طردت القوات الفرنسية فيصل وأتباعه من دمشق في معركة قصيرة في يوليو/تموز، وفرضت الحكم الفرنسي على سوريا الذي استمر ربع قرن. وفي الوقت نفسه، بدأت بريطانيا في الوفاء بالتزامها بموجب وعد بلفور بفتح فلسطين أمام هجرة واستيطان صهيونيين أوسع نطاقاً. اندلع العنف العربي ضد اليهود لأول مرة في أبريل، مُنذراً بالصراع بين العرب واليهود الذي أصبح سمةً ثابتةً من سمات الانتداب البريطاني على فلسطين. إعادة تعريف القومية في يونيو، اندلع تمرد واسع النطاق ضد البريطانيين في العراق، والذي قمعته القوات البريطانية بالقوة. واتهم القوميون العرب، على نحو متزايد، بأن الحكم العثماني قد حل محله الإمبريالية البريطانية والفرنسية، وهي حكومة أكثر غرابة من سابقتها الإسلامية. تحركت بريطانيا لتعويض قادة الثورة العربية عام 1921: فعيّنت فيصل ملكاً على العراق في حدود موسعة، وأنشأت إمارة شرق الأردن ضمن الانتداب على فلسطين، ثم أعفتها من الهجرة الصهيونية وسلمتها إلى عبد الله. لكن القوميين العرب كانوا يضمرون الآن ضغينة عميقة تجاه بريطانيا وفرنسا بسبب تقسيم الأراضي التي أرادوها، وحرمانهم من الاستقلال في فلسطين وسوريا، اللذين اعتقدوا أنهما وُعدوا بهما. بدأت القومية العربية، التي كانت مستوحاةً من ليبرالية الغرب، تُعيد تعريف نفسها على أنها نفيٌّ لإمبرياليتها. كان للتقسيم التعسفي للهلال الخصيب صحة كبيرة. لم تكن أي من الدول الجديدة متناسبة مع مجتمع سياسي. سوريا، لبنان، العراق، شرق الأردن، فلسطين، لبنان. هذه الأسماء مستمدة من الجغرافيا أو التاريخ الكلاسيكي، وحدودها تعكس إلى حد كبير التنافس الإمبراطوري على الموقع الاستراتيجي أو النفط. فقط فكرة لبنان كانت لها بعض العمق التاريخي، حيث حافظ المسيحيون الموارنة في جبل لبنان على شعور قوي بهوية منفصلة وحققوا بعض الحكم الذاتي حتى في أواخر العهد العثماني. لكن الموارنة كانوا قلة، وحدود لبنان التي رسمها الفرنسيون عام 1920 (بإصرار الموارنة) شملت أعداداً كبيرة من المسلمين. حاول الموارنة لاحقاً اختلاق فكرة أمة لبنانية، تتميز بتجارة بحرية وثقافة تعود إلى عهد الفينيقيين، قبل ظهور أي من الديانات المعاصرة للبنان. لكن الموارنة فشلوا في إقناع المسلمين في لبنان بأن فكرة 'لبنان الأبدي' لا تعبر إلا عن التضامن الطائفي للموارنة أنفسهم. اعتبر نصف سكان لبنان إدماجهم القسري في لبنان خدعة أخرى من خدع الإمبريالية، لا تقل قسوة عن الخدع الأخرى التي اعتقد القوميون العرب أنها استُخدمت ضدهم عام 1920. لكن فكرة الأمة العربية بدت تعسفيةً بالنسبة لمعظم من يُفترض أنهم أعضاء فيها. وقد أرضت هذه الفكرة صانعي الثورة العربية وداعميها، الذين أعادوا تنظيم صفوفهم في العراق بعد هروبهم من سوريا، وأقاموا هناك دولة قومية عربية أخرى. لكن في مجتمعات الهلال الخصيب المتشرذمة، لم يكن هناك سوى قلة من الناس معتادين على اعتبار أنفسهم عرباً. كما في العهد العثماني، استمر معظمهم في تصنيف أنفسهم حسب الدين والطائفة والنسب. كانوا مسلمين أو مسيحيين، سنة أو شيعة، موارنة أو دروز، أعضاءً في هذه العشيرة، أو تلك، أو العائلة، أو القبيلة، أو القرية، أو الحي الحضري. لم يرغبوا في أن يحكمهم أجانب من وراء البحار. لكنهم لم يرغبوا أيضاً في أن يحكمهم غرباء من وراء الصحراء، حتى لو تحدثوا العربية. خلال الحرب، مارس بعضهم دبلوماسيتهم الخاصة، لضمان استقلالهم المنفصل. بعد الحرب، ثبت أن كسب ولائهم صعب، كما اكتشف القوميون العرب سريعاً. أثبتت الدولة القومية العربية بقيادة فيصل في دمشق أنها فوضوية، واعتمد حكمه اللاحق في العراق على حراب البريطانيين. في المراسلات، أطلق البريطانيون على فيصل لقب 'المفروض العظيم'، غريباً عن رعيته، مُنح نظاماً سياسياً مجزأً بحدود تعسفية. كان القوميون العرب في حاشية فيصل يحلمون بدولة عربية عظيمة، ولكن كل ما استطاعوا فعله هو الحفاظ على وحدة العرب الذين حكموهم. مع انجذاب الجماهير إلى القومية العربية التي لم تختر أن تكون عربية، طوّر القوميون العرب عقيدةً حرمتهم من أي خيار آخر. بين الحربين، تخلّى القوميون العرب تدريجياً عن الفكرة الفرنسية عن الأمة كعقد طوعي، يُشكّله الأفراد لضمان حريتهم. وباتت أمتهم، على نحو متزايد، تُشبه الشعب الألماني، أمةً طبيعيةً فوق كل إرادة بشرية، مُقيّدةً بغموض اللغة والتراث. وحدة هذه الأمة وحدها كفيلٌ باستعادة عظمتها، حتى لو كان ثمن الوحدة التنازل عن الحرية. كان لا بد من خوض هذا النضال ليس فقط ضد الإمبريالية، بل أيضاً ضد من يُريدون أن يكونوا عرباً أنفسهم. لم يكن جميعهم راغبين في أن يكونوا عرباً، بل أعلن بعضهم صراحةً أنهم شيء آخر. في مثل هذه الحالات، أوكلت القومية العربية إلى نفسها مهمة تثقيفهم على الهوية العربية، ويفضل أن يكون ذلك بالإقناع، وإن لزم بالإكراه. يقول 'ساطع الحصري' في كتابه 'ما هي القومية' أول منظّر حقيقي للقومية العربية ومؤتمن على أسرار فيصل: 'كل من يتكلم العربية فهو عربي. وكل من ينتمي إلى هؤلاء فهو عربي. فإن لم يكن يعلم ذلك أو لم يكن عزيزاً على عروبته، فعلينا أن ندرس أسباب موقفه. قد يكون ذلك نتيجة جهل، فعلينا أن نعلمه الحقيقة. وقد يكون ذلك بسبب جهله أو خداعه، فعلينا أن نوقظه ونطمئنه'. قد يكون ذلك نتيجة الأنانية؟ إذًا يجب أن نعمل على الحد من أنانيته. أنذر هذا المقطع بانحراف القومية العربية بعيداً عن النموذج الليبرالي للمجتمع الطوعي. كتب الحصري عام 1930: 'يمكننا القول إن النظام الذي يجب أن نوجه إليه آمالنا وتطلعاتنا هو نظام فاشي'، رافعًا شعار 'التضامن والطاعة والتضحية'. وقد لاقت فكرة الأمة كجيش مطيع استحساناً فورياً لدى الجيش نفسه، وخاصةً لدى ضباطه. ترافق ذلك مع تنامي النزعة العسكرية، والاعتقاد بأن القوات المسلحة وحدها القادرة على تجاوز 'أنانية' الطائفة والعشيرة، وفرض الانضباط على الأمة. وكان العراق رائداً في هذا التوجه. فقد نال استقلاله عام 1930وانضم إلى عصبة الأمم عام 1932. وبعد أقل من عام، ارتكب الجيش مذبحة بحق الأقلية الآشورية (النسطورية المسيحية)، المتهمة بالكفر. وفي عام 1936، أسس انقلاب عسكري ديكتاتورية عسكرية مكشوفة، باسم الوحدة الوطنية. أخيراً في عام 1941 قادت طغمة من العقداء العراق إلى حرب 'تحرير' مع بريطانيا، والتي خسرها على الفور، والتي أشعل خلالها القوميون مذبحة ضد يهود بغداد. أقليات يُساء معاملتها، وعسكريون أقوياء، ومعارك خاسرة. بالنظر إلى الماضي، توقعت تجربة العراق المبكرة في الاستقلال عصراً كاملاً من القومية العربية. ومع ذلك، اكتسبت هذه القومية، وامتدادها المُبالغ فيه، أي القومية العربية، شعبية هائلة منذ ثلاثينيات القرن العشرين. بدأت الهجرة المتسارعة من مخيمات الصحراء إلى المدن المستقرة، ومن القرى إلى المدن، في فكّ الروابط الأصيلة، مما قلّل من مقاومة الأيديولوجية القومية. ومع اتساع نطاق التعليم، قام المعلمون القوميون العرب بتلقين جماهير من الشباب، من المرحلة الابتدائية إلى الجامعة. وأدى انتشار محو الأمية ونمو الصحافة العربية إلى نشر رسالة القومية العربية في كل فصل دراسي ونادٍ ومقهى. في النقاشات العامة، سيطرت القومية العربية تدريجياً على الخطاب السياسي، وأصبحت جميع الولاءات الأخرى غير قابلة للوصف. كما بدأت تنتشر خارج الهلال الخصيب، لتشمل مصر أولاً، ثم شمال إفريقيا. خضعت إفريقيا الناطقة بالعربية للحكم الأجنبي قبل آسيا الناطقة بالعربية. بدأت فرنسا استعمار الجزائر عام 1830 واحتلت تونس عام 1881، بينما احتلت بريطانيا مصر عام 1882. في كل مرة، كانت هناك مقاومة للحكم الأجنبي. لكنها صيغت كوطنية محلية، وفي معظم الحالات، مشوبة بصبغة إسلامية قوية. وحتى ثلاثينيات القرن العشرين، لم يعتبر سوى قلة من المصريين أنفسهم عرباً، ولم يُدرج القوميون العرب الأوائل مصر في رؤيتهم. وفي شمال إفريقيا، كانت نسبة كبيرة من السكان تتحدث اللغة الأمازيغية، واتخذت مقاومة الحكم الأجنبي شكلًا إسلامياً، لأن الإسلام وحده هو الذي وحد سكانها. لكن تعريفاً للأمة العربية قائماً على اللغة لم يستطع أن يستبعد لفترة طويلة أفريقيا الناطقة بالعربية، وقد خلقت جغرافية الإمبريالية نفسها رابطاً محتملاً للتضامن بين الجزائري والسوري، والمصري والعراقي. بمرور الوقت، بدأ عدد متزايد من المصريين وشمال إفريقيا يعتبرون أنفسهم عرباً. ومن المفارقات أن إمبراطوريتا بريطانيا وفرنسا ربطت الدول الناطقة بالعربية، والتي لم تكن تتمتع بروابط عضوية تُذكر في العصر العثماني، مما ألهم لأول مرة فكرة عالم عربي يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج. في ذلك الوقت، لم يكن تقسيم هذا العالم قد بدا دائماً، ولم تكن رسالة القومية العربية، الداعية إلى الاستقلال التام ووحدة جميع العرب في كل مكان، تبدو مُفتعلة تماماً

القومية العربية في ميزان الانتماء
القومية العربية في ميزان الانتماء

كواليس اليوم

timeمنذ يوم واحد

  • سياسة
  • كواليس اليوم

القومية العربية في ميزان الانتماء

الدكتور حسن العاصي أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا تخلى العديد من العرب ـ لأسباب مختلفة ـ عن إيمانهم بالأمة العربية، وأصبحوا يشككون علناً في وجود قومية عربية جماعية. وأخذ البعض يُفضّل اعتبار أنفسهم مسلمين في المقام الأول، وأنهم ينتمون إلى الأمة الإسلامية. وقد تحوّل مصطلح 'العرب' في قاموسهم إلى تسمية مهينة ـ في بعض الأحيان ـ توحي بالإسراف، والسطحية، وعدم الكفاءة، والتبعية. فيما يُفضّل عرب آخرون أن يُعرفوا بوضوح بأنهم مصريون، أو سوريون، أو أردنيون، أو عراقيون. مواطنون في أكثر من إحدى وعشرين دولة مستقلة ـ باستثناء فلسطين المحتلة ـ لكل منها علمها ومصالحها الخاصة. حتى أن بعضهم لجأ إلى وصف أنفسهم بالشرق أوسطيين، تحسباً لسلام عربي إسرائيلي ونظام تعاون إقليمي جديد على غرار أوروبا. ويتمسك قلة من المثقفين على شعلة الحماس العربي والقومية متقدة. وهم غالباً ما يكونون في الخارج، في لندن أو باريس، أو في عواصم غربية أخرى حيث يتشاجرون حول ما إذا كانت العروبة والقومية العربية في حالة ركود، أم أنها في مرحلة التعافي. كان الشعور بـ'العروبة' قائماً منذ أن وطأت أقدام العرب مسرح التاريخ، وظلت محل تفاوض من قِبَل كل جيل لما يقرب من ألف عام ونصف. في هذا الجيل، يجب أن يتكيف هذا الشعور 'العروبي' مع ازدياد الولاء للدولة العربية القطرية، وتنامي التيارات الإسلامية، والانتصار العالمي للديمقراطية الليبرالية، وصعود رأسمالية السوق، والاختراقات التي حققتها إسرائيل في عدد من الدول العربية، واحتمال السلام معها. كانت جميعها عوامل أثرت سلباً على القومية العربية في تطورها على مدار معظم القرن الماضي ولغاية اليوم. لا شك أن 'العروبة' قادرة على استيعاب التحديات الجديدة، كما فعلت دائماً. فالقومية العربية ـ وهي إبداع حديث لهذا القرن ـ قد تتلاشى تماماً تحت وطأتها. ولكن مهما كانت آفاق القومية العربية، فإن تاريخها حتى هذه اللحظة يمثل أحد أبرز الأمثلة على سرعة نشوء أي قومية حديثة وصعودها وتراجعها. هذا التاريخ يستحق رواية جديدة، لأنه لم يُستدعَ في النقاش الأوسع حول تنامي عدم الاستقرار. لقد كان هناك وقتٌ حظيت فيه القومية العربية بمكانةٍ بارزةٍ في الدراسات المقارنة للقومية، لكنها أصبحت لاحقاً حكراً على المتخصصين. حاول المؤرخان البريطاني 'أرنولد توينبي' Arnold Toynbee والمؤرخ الأمريكي 'هانز كون' Hans Kohnدمج القومية العربية في إطارٍ مقارن أوسع، أصبحا مناصريها الفعليين بين الحربين العالميتين، على الرغم من تحفظاتهما على القومية في كتابهما 'القومية العربية: هوية خاطئة' Arab Nationalism: Mistaken Identity. لقد قبل ـ توينبي للسياسة البريطانية، وكوهن للصهيونية – أكثر شعارات القومية العربية تطرفاً باعتبارها بيانات عن حقائق اجتماعية أو ادعاءات أخلاقية لا تقبل الجدل، ولم يروا أياً من التناقضات الكامنة وراءها. وعندما نالت الدول العربية استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، برزت هذه التناقضات بكل تعقيداتها، وأبقت المنظرين اللاحقين على مسافة. كتب المحاضر والفيلسوف الأمريكي 'روبرت إيمرسون' Robert Emerson بانزعاجٍ لا يخفيه: 'لا يُمكن لأيّ ملخصٍ موجزٍ للتاريخ الطويل والمعقد للعالم العربي أن يُفكّك القوى التي شكّلت دوله وشعوبه'. وأضاف: 'لإجراء تحليلٍ شامل، من الضروري تقييم السجلّ الكامل للتجربة العربية، بما في ذلك مسائل مثل الانقسامات القبلية والطائفية وغيرها، وآثار الحكم العثماني، ومكائد القوى الأوروبية، ودور الإسلام واللغة والثقافة العربية'. باختصار، كانت هذه مهمةً لشخصٍ آخر يعرفها بشكلٍ أفضل. لكن حتى أولئك المقارنون الذين يعرفون القومية العربية جيداً اختاروا عدم جعلها محور مقارناتهم، ربما خوفاً من إدخال القارئ العام في متاهة. تظل الحالة العربية حالة معقدة للغاية وفقاً للمعايير الأوروبية. يبلغ عدد الناطقين بالعربية اليوم أكثر من أربعمائة وثلاثة وعشرون مليون نسمة، في منطقة تمتد من شواطئ المحيط الأطلسي في المغرب إلى بحر العرب – وهي منطقة تمتد موازية لجميع أنحاء أوروبا من ساحل المحيط الأطلسي في شبه جزيرة أيبيريا إلى جبال الأورال. لم تدّع أي قومية أوروبية وجود جمهور محتمل بهذا الحجم، أو الاتساع، أو التشرذم. لم يكن من السهل أبداً توثيق التطور التاريخي للوعي السياسي في هذه المنطقة، ولا يزال هناك قصور في دراسته. ولم تنشأ القومية العربية كرد فعل مباشر على الحكم الإمبراطوري الغربي، مثل الأنواع المألوفة في أماكن أخرى في آسيا وأفريقيا. فقد شهدت بعض الشعوب العربية أكثر من قرن من الحكم الغربي المباشر، بينما لم تشهد شعوب أخرى أي حكم غربي على الإطلاق. نتيجةً لذلك، سلكت القومية العربية مساراتٍ تطوريةً متمايزةً في الهلال الخصيب، وشبه الجزيرة العربية، ووادي النيل، وساحل شمال إفريقيا. لقد واجهت كلٌّ من هذه المناطق الغربَ بشروطٍ مختلفة، وفي أوقاتٍ مختلفة. تكاثرت أشكال القومية العربية، بل وألهمت أحياناً تصنيفاتٍ منفصلة، مثل الناصرية، والبعثية، وتصنيفاتٍ فرعيةً أكثر غموضاً مثل البعثية الجديدة. وأصبح العديد من هذه التيارات متنافسةً، حتى وصل الأمر إلى إراقة الدماء. هذا جعل من الصعب التعميم بشأن القومية العربية، ومن عدم الأمانة نشر مثل هذه التعميمات في النقاش الأوسع حول القومية. إن تتبع المسار السياسي للقومية العربية الذي رسمه الشعراء عبر مراحلها التاريخية، وتوصيف علاقتها بتلك الأفكار والهويات الأخرى التي جذبت 'ناطقي الضاد' قضية صعبة وشائكة. إنها قصة قومية نشأت بشكل متقطع، وانتشرت بشكل دراماتيكي، ثم تعثرت وفشلت. إنها سردية عشرات الملايين من الناس الذين آمن كثير منهم بالعروبة، ثم زعموا أنهم يحملون هوية خاطئة، وأنهم كانوا أشخاصاً آخرين طوال الوقت. ظهور العروبة ظهرت العروبة لأول مرة في القرن التاسع عشر، ليس كرد فعل مباشر على الحكم الغربي، بل كنقدٍ لحالة الإمبراطورية العثمانية، التي امتد نفوذها ليشمل معظم الشعوب الناطقة بالعربية منذ أوائل القرن السادس عشر. ولما يقرب من أربعمائة عام، كان هؤلاء الناطقون بالعربية متصالحين تماماً مع دورهم في الإمبراطورية. كان مقر الإمبراطورية في إسطنبول، وكانت أراضيها الشاسعة تُدار باللغة التركية العثمانية. لكن العثمانيين كانوا قد اعتنقوا الإسلام، كما فعلت الغالبية العظمى من رعاياهم الناطقين بالعربية. وتطورت دولتهم كخلافة إسلامية تضم جميع رعايا السلطان العثماني المسلمين، أياً كانت لغتهم. واحتفظ المسلمون الناطقون بالعربية باعتزازهم بلغتهم. فقد نُزِّل القرآن الكريم بالعربية إلى نبي عربي في القرن السابع. كما احتفوا بتاريخ الفتوحات العربية المبكرة، التي حملت الإسلام من نهر 'جيحون' ـ الذي عرف قديما باسم 'أوكسوس' ولدى العرب باسم جيحون، يتكون من التقاء نهري 'فخش' و'باندج' الذين ينبعان من جبال 'بامير' في آسيا الوسطى، والذي عبره الفاتح 'قتيبة بن مسلم' بجيشه إبان الفتوحات الإسلامية ـ إلى جبال 'البرانس' وهي سلسلة جبلية تقع جنوب غرب أوروبا، بين فرنسا وإسبانيا وتمثل الحدود الطبيعية بينهما، تمتد لمسافة قدرها 430 كلم من خليج 'بسكاي' بالمحيط الأطلسي في الغرب إلى البحر المتوسط في الشرق. وافتخروا بأنسابهم التي ربطتهم بشبه الجزيرة العربية في فجر الإسلام. إخلاص العرب للإسلام ربطهم بمسلمين يتحدثون لغات أخرى ويفخرون بأنساب أخرى، والذين أضفوا حيوية جديدة على الدفاع عن الإسلام وانتشاره. فمنذ القرن الخامس عشر، أظهر العثمانيون هذه الحيوية بحماسة أوصلت الإسلام إلى أبواب فيينا. ورأى جميع المسلمين التابعين للخلافة العثمانية أنفسهم مشاركين ومستفيدين من هذا المشروع الإسلامي، ولم يُميّزوا بين العرب والترك. ولكن مع التراجع النسبي للقوة العثمانية، وخاصة في القرن التاسع عشر، بدأت أسس هذا التكافل تضعف. كان البساط العثماني العظيم يُطوى من طرفيه: من قِبَل القوى العظمى الأوروبية، المنخرطة في تنافس إمبريالي، ومن قِبَل الرعايا المسيحيين الساخطين من الحكم العثماني في أوروبا، الذين اتخذ نضالهم من أجل الاستقلال طابعاً قومياً. شرع العثمانيون في سلسلة من الإصلاحات الغربية، لكنهم فقدوا في النهاية موطئ قدمهم في البلقان، والقوقاز، وشمال إفريقيا، ومصر. مع تضاؤل الإمبراطورية، تضاءلت ثقة رعاياها المتبقين، بل وظهر بعض السخط في الأقاليم الناطقة بالعربية المتبقية من الإمبراطورية، في شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب. وهو السخط الذي عُرف لاحقًا باسم 'الصحوة' العربية. ولا تزال العديد من الخلافات تدور حول طبيعة ومدى هذا السخط، ولكن من المتفق عليه عموماً أنه استُند إلى مصدرين. أولًا: كانت هناك مجتمعات الأقليات المسيحية الناطقة بالعربية، المتأثرة كثيراً بالتيارات الأوروبية، والتي عملت على تحويل اللغة العربية إلى وسيلة للعمل التبشيري والتعلم الحديث. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، ساهمت جهودهم بشكل كبير في إثارة الاهتمام بالأدب العربي العلماني، من خلال تكييف اللغة العربية مع الأعراف الحديثة للصحافة والرواية والمسرح. ولم يُترجم الإحياء الأدبي العربي، الذي تمركز في بيروت، إلى قومية عربية فوراً، لكنه دافع عن وجود ثقافة عربية علمانية، يُفترض أن المسيحيين والمسلمين ساهموا فيها على قدم المساواة. ومن خلال التركيز على هذا الإرث العربي المشترك، سعت الأقلية المسيحية إلى تقليص تحيز الأغلبية المسلمة ومنح المسيحيين المساواة الكاملة كمواطنين عرب. نشأت العروبة من مصدر ثانٍ أيضاً لطالما استحوذت التنافسات على النخبة المسلمة الناطقة بالعربية، لا سيما في ظل التنافس الشديد على التعيينات في المناصب الحكومية العثمانية والوظائف البيروقراطية. وقد تحولت مظالم أولئك الذين غفل عنهم الولاة العثمانيون مقابل هذه الغنائم أحياناً إلى مطالبة إسطنبول بمنح الولايات الناطقة بالعربية مزيداً من الاستقلالية في إدارة شؤونها. مع بداية القرن العشرين، انتشرت هذه العروبة في جميع المدن الكبرى في الإمبراطورية العثمانية حيث كانت اللغة العربية تُستخدم، لكنها تركزت في دمشق، حيث بدأ أتباعها في تنظيم أنفسهم. وبينما كانت عروبة المسلمين تشبه عروبة المسيحيين في فخرهم باللغة، إلا أنها اختلفت جوهرياً في تعلقها العميق بالإسلام. وقد لاقت استحسان المسلمين من خلال القول بأن عظمة العرب تكمن في فهمهم المتميز للإسلام. لقد أنشأ العرب، باسم الإسلام، إمبراطوريةً وحضارةً عظيمتين، والعرب وحدهم قادرون على إعادة الإسلام إلى عظمته الأصيلة. لم يكن هناك أي طابع علماني في هذا الادعاء بالعبقرية العربية، الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالدفاعيات والإصلاحات الإسلامية. فشلت هذه 'الصحوة العربية'، المسيحية والإسلامية، في إنتاج نقد اجتماعي لاذع أو لغة سياسية حديثة بحق. وفي النهاية هزمت نفسها بدفاعها المُبرر عن التقاليد والدين، لكنها ذهبت بعيداً بما يكفي لزعزعة ثقة بعض الناطقين بالعربية في شرعية الحكم العثماني، حتى أن بعض مُوزعي الكتيبات حاولوا إثارة المخاوف العثمانية (والدعم الأجنبي) بنشر منشورات باسم 'حركة عربية'. ظهرت معظم هذه المنشورات في أوروبا، وبدأت بعض صحف الرأي في عواصم أوروبا بمناقشة 'القضية العربية'. كان النقاش سابقاً لأوانه. في عام 1907 قدمت الرحالة الإنجليزية 'جيرترود بيل' Gertrude Bell التي قضت جزءًا كبيراً من حياتها في استكشاف الشرق الأوسط ورسم خرائطه، وأصبحت مؤثرة للغاية في صنع السياسات الإمبراطورية البريطانية بفضل معرفتها ومعارفها التي بنتها من خلال رحلاتها المكثفة. كانت بيل تعتقد أن زخم القومية العربية لا يمكن إيقافه، وأن على الحكومة البريطانية التحالف مع القوميين بدلاً من الوقوف في وجههم. ودافعت عن استقلال الدول العربية في الشرق الأوسط عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية، ودعمت تنصيب الممالك الهاشمية فيما يُعرف اليوم بالأردن والعراق. قدمت بيل تقييماً شائعاً لهذه التحركات: ما قيمة الجمعيات القومية العربية والمنشورات التحريضية التي تصدرها المطابع الأجنبية؟ الإجابة سهلة: إنهم لا يساوون شيئاً على الإطلاق. لا توجد أمة من العرب؛ التاجر السوري منفصل عن البدو بهاوية أوسع من تلك التي يفصله عنها العثمانيون. فالبلاد السورية يسكنها أعراق ناطقة بالعربية، جميعها متلهفة للتناحر، ولا يمنعها من تحقيق رغباتها الطبيعية إلا الجندي المهلهل الذي يتقاضى أجر السلطان بين الحين والآخر. ومع ذلك، مع حلول عشية الحرب العالمية الأولى، بدأت العروبة تتخذ شكلاً أكثر وضوحاً في مواجهة التحديين المتمثلين في التتريك والصهيونية. فقد هدد التتريك الوضع الثقافي الراهن. لقد تعرض الناطقون باللغة التركية في الإمبراطورية العثمانية للقومية على النمط الأوروبي، إلى حد كبير من خلال اختراقها لمنطقة البلقان. ثم بدأ المسلمون الناطقون بالتركية في بناء هوية جديدة لأنفسهم كأتراك، وهو اتجاه عززه علماء اللغة والرومانسيون الغربيون الذين سعوا إلى ترسيخ عظمة الحضارة 'الطورانية' القديمة. ومع تعثر الإمبراطورية العثمانية، حاولت السلطات العثمانية منح الإمبراطورية متعددة اللغات طابع الدولة القومية الأوروبية من خلال فرض استخدام اللغة التركية على حساب لغات أخرى، بما في ذلك العربية. أثارت هذه السياسة التي لم تُنفَّذ بالكامل، بعض المخاوف في الولايات العربية عشية الحرب العالمية الأولى، وربما ساهمت في حشد أنصار العروبة الثقافية لتحقيق هدف سياسي. كما هدد الاستيطان الصهيوني في فلسطين الوضع السياسي الراهن. تسامحت السلطات العثمانية مع تدفق الهجرة اليهودية، اعتقاداً منها أنها ستصب في مصلحة الإمبراطورية في نهاية المطاف، كما فعلت في موجات متتالية منذ محاكم التفتيش الإسبانية. لكن لم يتفق بذلك جميع رعايا السلطان، إذ رأت هذه الموجة الأخيرة من المهاجرين أن الأرض التي يستقرون عليها ليست مجرد ملجأ، بل دولة في طور الإنشاء. ومع تزايد وتيرة الهجرة والاستيطان الصهيوني، ازداد قلق جيرانهم المباشرين إزاء احتمالية التهجير الوشيكة. ومنذ مطلع القرن العشرين، أصبحت السياسة العثمانية تجاه الصهيونية موضع جدل وانتقادات متزايدة في الصحافة العربية. وهكذا نشأت العروبة من قلق متزايد إزاء وتيرة التغيير واتجاهه. ومع ذلك، فبينما استمرت الإمبراطورية العثمانية، لم تتطور العروبة إلى قومية مكتملة الأركان. نادى أتباعها باللامركزية الإدارية، وليس بالاستقلال العربي، ولم تكن لديهم رؤية لنظام ما بعد العثمانية. تخيلوا حلاً في شكل حكومة مسؤولة، وأبدوا إعجاباً غامضاً بالديمقراطيات الليبرالية في الغرب، وخاصة في فرنسا وإنجلترا، على الرغم من أنهم لم يفهموا تماماً معنى شعار 'الحرية'. وفوق كل ذلك، كانوا عمليين، ولم ينغمسوا في أحلام القوة العربية. كانت مظالمهم، على حد تعبير أحد منتقدي القومية العربية في وقت لاحق، محلية ومحددة؛ كانت تتعلق بجودة الخدمات الحكومية أو بالنطاق المناسب للإدارة المحلية؛ وكان أولئك الذين سعوا إلى الإنصاف من هذه المظالم في الغالب رجالاً معروفين في مجتمعاتهم، قادرين ربما على إجراء معارضة دستورية رصينة، ولكن ليس على الترفيه عن طموحات عظيمة لا حدود لها. في عشية الحرب العالمية الأولى، كان لا يزال عدد قليل من المسلمين والمسيحيين الناطقين بالعربية لم يكن لديهم أي شك في شرعية الدولة العثمانية. الأمة العربية والإمبراطوريات الأوروبية فرضت الحرب العالمية الأولى على أتباع العروبة خياراً. فبعد تردد، دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب الأوروبية إلى جانب ألمانيا، مما دفع بريطانيا وفرنسا إلى تأجيج كل شرارة معارضة في الإمبراطورية. أما الحلفاء، فقد دعوا إلى استقلال ما أسموه 'الأمة العربية'، ووجدوا في النهاية شريكاً في حاكم مكة المكرمة، الشريف حسين. كانت لدى الشريف رؤية طموحة لـ'مملكة عربية' شاسعة لعائلته، وفي عام 1915، حصل على التزامات من بريطانيا بشأن استقلالها المستقبلي وحدودها. وفي عام 1916، رفع أخيراً راية الثورة ضد الحكم العثماني. لم تكن الثورة العربية التي اندلعت في شبه الجزيرة العربية مرتبطة ارتباطاً وثيقا بالفكر العروبي الذي برز في الهلال الخصيب، بل عبرت بأمانة عن طموح الشريف في الحكم، وعن حماس قبائل الصحراء العربية للبنادق والذهب البريطاني. ومع ذلك، أقام ابنا الشريف، الأميران فيصل وعبد الله، اتصالاتٍ مع الجمعيات العربية الموجودة في دمشق، وجنّدت الثورة ضباطاً عرباً منشقين فرّوا من الجيش العثماني. كان هؤلاء الضباط قد التحقوا بالأكاديميات العسكرية العثمانية، حيث تشربوا فكرة الجيش 'مدرسة الأمة' من الضباط الألمان الذين دربوهم وقدّموا لهم المشورة. وهكذا، خلقت الثورة مزيجاً متقلباً، حلم المشاركون فيه، على اختلافهم، بأحلام مختلفة، كالملكية العربية، والفوضى الصحراوية، والدستورية الليبرالية، والديكتاتورية العسكرية. مع استمرار الثورة، علّقوا خلافاتهم في سعيهم نحو الاستقلال. في عام 1918، ومع تراجع العثمانيين أمام القوات البريطانية في فلسطين، بلغت الثورة العربية ذروتها بانتصار قاده فيصل إلى دمشق، وشكّل هناك 'حكومة عربية'. وفي عام 1919، ذهب إلى فرساي، حيث طلب الاعتراف بـ'الشعوب الناطقة بالعربية في آسيا' كـ'شعوب مستقلة ذات سيادة'، وعدم اتخاذ 'أي خطوات تتعارض مع احتمال اتحاد هذه المناطق في نهاية المطاف تحت حكومة ذات سيادة واحدة'. أخيراً، في عام 1920، أعلن 'المؤتمر السوري العام' استقلال 'المملكة السورية المتحدة' التي ضمت بلاد الشام بأكملها، ونصّبَ الأمير فيصل ملكاً. ومن دمشق، أعلن 'المؤتمر العراقي' أيضاً استقلال العراق، تحت حكم الأمير عبد الله. دخلت الأمة عربية لعبة الأمم، ومنذ البداية، قدّم أعضاؤها مطالبات بعيدة المدى اصطدمت بمطالب أخرى. أبرزها، أن بريطانيا تعهدت بالتزامات حربية تجاه فرنسا والحركة الصهيونية. الأولى: ما يُسمى باتفاقية سايكس، بيكو، اعترفت سراً بمعظم شمال بلاد الشام كمنطقة امتياز فرنسي. والثانية: وعد بلفور، حيث دعمت علناً إنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين. كما كان لبريطانيا مصالح استراتيجية واقتصادية في الأراضي التي طالب بها الشريف حسين وأبناؤه. حُسمت المطالبات المتناقضة في أبريل/نيسان 1920، في مؤتمر سان ريمو، حيث اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم الأراضي العثمانية المحتلة، والتي خططتا لإدارتها بموجب انتدابات منفصلة تابعة لعصبة الأمم. وبناءً على هذه الاتفاقيات، طردت القوات الفرنسية فيصل وأتباعه من دمشق في معركة قصيرة في يوليو/تموز، وفرضت الحكم الفرنسي على سوريا الذي استمر ربع قرن. وفي الوقت نفسه، بدأت بريطانيا في الوفاء بالتزامها بموجب وعد بلفور بفتح فلسطين أمام هجرة واستيطان صهيونيين أوسع نطاقاً. اندلع العنف العربي ضد اليهود لأول مرة في أبريل، مُنذراً بالصراع بين العرب واليهود الذي أصبح سمةً ثابتةً من سمات الانتداب البريطاني على فلسطين. إعادة تعريف القومية في يونيو، اندلع تمرد واسع النطاق ضد البريطانيين في العراق، والذي قمعته القوات البريطانية بالقوة. واتهم القوميون العرب، على نحو متزايد، بأن الحكم العثماني قد حل محله الإمبريالية البريطانية والفرنسية، وهي حكومة أكثر غرابة من سابقتها الإسلامية. تحركت بريطانيا لتعويض قادة الثورة العربية عام 1921: فعيّنت فيصل ملكاً على العراق في حدود موسعة، وأنشأت إمارة شرق الأردن ضمن الانتداب على فلسطين، ثم أعفتها من الهجرة الصهيونية وسلمتها إلى عبد الله. لكن القوميين العرب كانوا يضمرون الآن ضغينة عميقة تجاه بريطانيا وفرنسا بسبب تقسيم الأراضي التي أرادوها، وحرمانهم من الاستقلال في فلسطين وسوريا، اللذين اعتقدوا أنهما وُعدوا بهما. بدأت القومية العربية، التي كانت مستوحاةً من ليبرالية الغرب، تُعيد تعريف نفسها على أنها نفيٌّ لإمبرياليتها. كان للتقسيم التعسفي للهلال الخصيب صحة كبيرة. لم تكن أي من الدول الجديدة متناسبة مع مجتمع سياسي. سوريا، لبنان، العراق، شرق الأردن، فلسطين، لبنان. هذه الأسماء مستمدة من الجغرافيا أو التاريخ الكلاسيكي، وحدودها تعكس إلى حد كبير التنافس الإمبراطوري على الموقع الاستراتيجي أو النفط. فقط فكرة لبنان كانت لها بعض العمق التاريخي، حيث حافظ المسيحيون الموارنة في جبل لبنان على شعور قوي بهوية منفصلة وحققوا بعض الحكم الذاتي حتى في أواخر العهد العثماني. لكن الموارنة كانوا قلة، وحدود لبنان التي رسمها الفرنسيون عام 1920 (بإصرار الموارنة) شملت أعداداً كبيرة من المسلمين. حاول الموارنة لاحقاً اختلاق فكرة أمة لبنانية، تتميز بتجارة بحرية وثقافة تعود إلى عهد الفينيقيين، قبل ظهور أي من الديانات المعاصرة للبنان. لكن الموارنة فشلوا في إقناع المسلمين في لبنان بأن فكرة 'لبنان الأبدي' لا تعبر إلا عن التضامن الطائفي للموارنة أنفسهم. اعتبر نصف سكان لبنان إدماجهم القسري في لبنان خدعة أخرى من خدع الإمبريالية، لا تقل قسوة عن الخدع الأخرى التي اعتقد القوميون العرب أنها استُخدمت ضدهم عام 1920. لكن فكرة الأمة العربية بدت تعسفيةً بالنسبة لمعظم من يُفترض أنهم أعضاء فيها. وقد أرضت هذه الفكرة صانعي الثورة العربية وداعميها، الذين أعادوا تنظيم صفوفهم في العراق بعد هروبهم من سوريا، وأقاموا هناك دولة قومية عربية أخرى. لكن في مجتمعات الهلال الخصيب المتشرذمة، لم يكن هناك سوى قلة من الناس معتادين على اعتبار أنفسهم عرباً. كما في العهد العثماني، استمر معظمهم في تصنيف أنفسهم حسب الدين والطائفة والنسب. كانوا مسلمين أو مسيحيين، سنة أو شيعة، موارنة أو دروز، أعضاءً في هذه العشيرة، أو تلك، أو العائلة، أو القبيلة، أو القرية، أو الحي الحضري. لم يرغبوا في أن يحكمهم أجانب من وراء البحار. لكنهم لم يرغبوا أيضاً في أن يحكمهم غرباء من وراء الصحراء، حتى لو تحدثوا العربية. خلال الحرب، مارس بعضهم دبلوماسيتهم الخاصة، لضمان استقلالهم المنفصل. بعد الحرب، ثبت أن كسب ولائهم صعب، كما اكتشف القوميون العرب سريعاً. أثبتت الدولة القومية العربية بقيادة فيصل في دمشق أنها فوضوية، واعتمد حكمه اللاحق في العراق على حراب البريطانيين. في المراسلات، أطلق البريطانيون على فيصل لقب 'المفروض العظيم'، غريباً عن رعيته، مُنح نظاماً سياسياً مجزأً بحدود تعسفية. كان القوميون العرب في حاشية فيصل يحلمون بدولة عربية عظيمة، ولكن كل ما استطاعوا فعله هو الحفاظ على وحدة العرب الذين حكموهم. مع انجذاب الجماهير إلى القومية العربية التي لم تختر أن تكون عربية، طوّر القوميون العرب عقيدةً حرمتهم من أي خيار آخر. بين الحربين، تخلّى القوميون العرب تدريجياً عن الفكرة الفرنسية عن الأمة كعقد طوعي، يُشكّله الأفراد لضمان حريتهم. وباتت أمتهم، على نحو متزايد، تُشبه الشعب الألماني، أمةً طبيعيةً فوق كل إرادة بشرية، مُقيّدةً بغموض اللغة والتراث. وحدة هذه الأمة وحدها كفيلٌ باستعادة عظمتها، حتى لو كان ثمن الوحدة التنازل عن الحرية. كان لا بد من خوض هذا النضال ليس فقط ضد الإمبريالية، بل أيضاً ضد من يُريدون أن يكونوا عرباً أنفسهم. لم يكن جميعهم راغبين في أن يكونوا عرباً، بل أعلن بعضهم صراحةً أنهم شيء آخر. في مثل هذه الحالات، أوكلت القومية العربية إلى نفسها مهمة تثقيفهم على الهوية العربية، ويفضل أن يكون ذلك بالإقناع، وإن لزم بالإكراه. يقول 'ساطع الحصري' في كتابه 'ما هي القومية' أول منظّر حقيقي للقومية العربية ومؤتمن على أسرار فيصل: 'كل من يتكلم العربية فهو عربي. وكل من ينتمي إلى هؤلاء فهو عربي. فإن لم يكن يعلم ذلك أو لم يكن عزيزاً على عروبته، فعلينا أن ندرس أسباب موقفه. قد يكون ذلك نتيجة جهل، فعلينا أن نعلمه الحقيقة. وقد يكون ذلك بسبب جهله أو خداعه، فعلينا أن نوقظه ونطمئنه'. قد يكون ذلك نتيجة الأنانية؟ إذًا يجب أن نعمل على الحد من أنانيته. أنذر هذا المقطع بانحراف القومية العربية بعيداً عن النموذج الليبرالي للمجتمع الطوعي. كتب الحصري عام 1930: 'يمكننا القول إن النظام الذي يجب أن نوجه إليه آمالنا وتطلعاتنا هو نظام فاشي'، رافعًا شعار 'التضامن والطاعة والتضحية'. وقد لاقت فكرة الأمة كجيش مطيع استحساناً فورياً لدى الجيش نفسه، وخاصةً لدى ضباطه. ترافق ذلك مع تنامي النزعة العسكرية، والاعتقاد بأن القوات المسلحة وحدها القادرة على تجاوز 'أنانية' الطائفة والعشيرة، وفرض الانضباط على الأمة. وكان العراق رائداً في هذا التوجه. فقد نال استقلاله عام 1930وانضم إلى عصبة الأمم عام 1932. وبعد أقل من عام، ارتكب الجيش مذبحة بحق الأقلية الآشورية (النسطورية المسيحية)، المتهمة بالكفر. وفي عام 1936، أسس انقلاب عسكري ديكتاتورية عسكرية مكشوفة، باسم الوحدة الوطنية. أخيراً في عام 1941 قادت طغمة من العقداء العراق إلى حرب 'تحرير' مع بريطانيا، والتي خسرها على الفور، والتي أشعل خلالها القوميون مذبحة ضد يهود بغداد. أقليات يُساء معاملتها، وعسكريون أقوياء، ومعارك خاسرة. بالنظر إلى الماضي، توقعت تجربة العراق المبكرة في الاستقلال عصراً كاملاً من القومية العربية. ومع ذلك، اكتسبت هذه القومية، وامتدادها المُبالغ فيه، أي القومية العربية، شعبية هائلة منذ ثلاثينيات القرن العشرين. بدأت الهجرة المتسارعة من مخيمات الصحراء إلى المدن المستقرة، ومن القرى إلى المدن، في فكّ الروابط الأصيلة، مما قلّل من مقاومة الأيديولوجية القومية. ومع اتساع نطاق التعليم، قام المعلمون القوميون العرب بتلقين جماهير من الشباب، من المرحلة الابتدائية إلى الجامعة. وأدى انتشار محو الأمية ونمو الصحافة العربية إلى نشر رسالة القومية العربية في كل فصل دراسي ونادٍ ومقهى. في النقاشات العامة، سيطرت القومية العربية تدريجياً على الخطاب السياسي، وأصبحت جميع الولاءات الأخرى غير قابلة للوصف. كما بدأت تنتشر خارج الهلال الخصيب، لتشمل مصر أولاً، ثم شمال إفريقيا. خضعت إفريقيا الناطقة بالعربية للحكم الأجنبي قبل آسيا الناطقة بالعربية. بدأت فرنسا استعمار الجزائر عام 1830 واحتلت تونس عام 1881، بينما احتلت بريطانيا مصر عام 1882. في كل مرة، كانت هناك مقاومة للحكم الأجنبي. لكنها صيغت كوطنية محلية، وفي معظم الحالات، مشوبة بصبغة إسلامية قوية. وحتى ثلاثينيات القرن العشرين، لم يعتبر سوى قلة من المصريين أنفسهم عرباً، ولم يُدرج القوميون العرب الأوائل مصر في رؤيتهم. وفي شمال إفريقيا، كانت نسبة كبيرة من السكان تتحدث اللغة الأمازيغية، واتخذت مقاومة الحكم الأجنبي شكلًا إسلامياً، لأن الإسلام وحده هو الذي وحد سكانها. لكن تعريفاً للأمة العربية قائماً على اللغة لم يستطع أن يستبعد لفترة طويلة أفريقيا الناطقة بالعربية، وقد خلقت جغرافية الإمبريالية نفسها رابطاً محتملاً للتضامن بين الجزائري والسوري، والمصري والعراقي. بمرور الوقت، بدأ عدد متزايد من المصريين وشمال إفريقيا يعتبرون أنفسهم عرباً. ومن المفارقات أن إمبراطوريتا بريطانيا وفرنسا ربطت الدول الناطقة بالعربية، والتي لم تكن تتمتع بروابط عضوية تُذكر في العصر العثماني، مما ألهم لأول مرة فكرة عالم عربي يمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج. في ذلك الوقت، لم يكن تقسيم هذا العالم قد بدا دائماً، ولم تكن رسالة القومية العربية، الداعية إلى الاستقلال التام ووحدة جميع العرب في كل مكان، تبدو مُفتعلة تماماً

الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي
الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

سواليف احمد الزعبي

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • سواليف احمد الزعبي

الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

#الأيديولوجية_الدينية في #الصراع_الفلسطيني ـ #الإسرائيلي الدكتور #حسن_العاصي أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا تمثل القومية ـ باعتبارها مرجعاً قوياً للهوية ـ عنصراً مهماً في تطور وتصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. علاوة على ذلك، وضمن السرديات الأوسع للقومية، تلعب القومية الدينية خاصة، والتي تتمثل في دمج الدين في السرد القومي، دوراً رئيسياً أيضاً، لأنها تضيف الشرعية الأخلاقية إلى القومية وافتراضها المرتبط بالقيمة العليا والمقدسة للدولة القومية. إن دور الدين في السياسات الوطنية أخذ في التصاعد منذ تسعينيات القرن الماضي. لقد انتقل دور الدين في الشرق الأوسط ـ بصورة عامة ـ بشكل متزايد إلى صدارة التاريخ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001. وقد أثيرت أسئلة مهمة بشأن الدور الذي يلعبه الدين في تعزيز فرص السلام أو إدامة وتصعيد الصراع. بلا شك إن الديانات التوحيدية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحية عززت تاريخياً الصراع والسلام، مما يجعلها متناقضة. فحين تعكس كل هذه الديانات سرداً وقيماً للسلام، إلا أنها أصبحت أيضاً طرفاً في العديد من الصراعات عبر التاريخ. وكانت الكراهية القائمة على الاختلافات العرقية والدينية في جذر العديد من الحروب عبر التاريخ، بما في ذلك الحروب الصليبية في العصور الوسطى (المسيحيون الأوروبيون مقابل المسلمين العرب)، وحرب الثلاثين عاماً (الكاثوليك مقابل البروتستانت)، والتي دمرت أوروبا في القرن السابع عشر. لقد أصبح الدين متشابكاً مع تكثيف الصراع والعنف في مختلف أنحاء الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وينعكس هذا الاتجاه أيضاً في جوانب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يمكن بوضوح الإشارة إلى اليهود الأرثوذكس والصهاينة المتدينون المتشددون كمجموعة أدرجت الدين في هويتها الوطنية ورؤيتها للصراع بما يتجاوز الأطر القومية التي جعلت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد. بحيث أصبح فيها الدين محفزاً للصراع، وأداة إضافية للتحريض على قتل وإبادة الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم وطردهم من وطنهم. مراجعة الأدبيات إن فهم دور الدين في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتطلب فهماً للصراع القومي الأوسع الذي يدور حول العرق بين الجانبين. ويوفر هذا الأخير السياق للبحث في الطرق المختلفة التي يتعامل بها أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية على التوالي مع وظيفة دينهم في الصراع. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه في حين أن القومية ونهجها العرقي تجاه الدولة يشكلان محركاً مركزياً في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن القومية ليست فريدة من نوعها بالنسبة للجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني، حيث إن القومية هي سرد رئيسي يربطه العلماء بالتطور التاريخي للحداثة وظهور الدول القومية. ولهذا السبب، من الضروري مراجعة الأدبيات حول الخصائص الأساسية للقومية كحجر أساس للتركيز على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووظيفة الدين في داخله. إن موسوعة الهوية تعد أحدث مجموعة من الأعمال العلمية حول هذا الموضوع، تسلط الضوء على القومية باعتبارها أحد المراجع المركزية للهوية. وتشير الموسوعة إلى مجموعة واسعة من المراجع المتعلقة بالهوية، من الطبقة إلى العرق إلى الجنس، إلخ. ومع ذلك، باعتبارها سرداً حداثياً لتكوين الهوية، فإن القومية لها دور بارز في الصراع من خلال ارتباطها بالدولة القومية. وسواء كانت في الرؤى العلمانية أو الدينية، ينظر العلماء إلى القومية باعتبارها واحدة من أقوى القوى في العالم الحديث. فما هي الخصائص الرئيسية لهذه السرد القوي؟ إن مفهوم القومية متأصل في الحياة اليومية لمواطني الدول القومية الحديثة. إن الفخر الذي يشعر به الناس تجاه الإنجازات الوطنية، والتعبيرات التي يبديها السياسيون عن 'المصالح الوطنية' في تبرير السياسات، والرموز التي تستخدمها الدول للتعريف بالذات (مثل الأعلام، والأناشيد الوطنية، والآثار) هي إشارات سائدة للقومية باعتبارها هوية جماعية، وتساعد في خلق وعي وطني بين الأفراد المختلفين. وفي حين كانت القومية ضرورية لبنية الدول القومية الحديثة ويمكنها أن تلعب دوراً حتمياً عندما تواجه المجتمعات أوقات الأزمات، فإنها يمكن أن تدفع الناس وقادتهم أيضاً إلى النظر إلى دولتهم على أنها معصومة عن الخطأ ولا تشوبها شائبة، مما يبرر استخدام القوة والعنف للتعامل مع الخصوم الحقيقيين أو المفتعلين. وقد تضاعف الاهتمام البحثي بمفهوم القومية بشكل كبير خلال الثمانينات واستمر حتى يومنا هذا. ركزت الدراسات السابقة على القومية الأوروبية باعتبارها القوة الدافعة التي أدت إلى الحربين العالميتين، ولكن في الآونة الأخيرة كان هناك المزيد من التركيز على الأمثلة غير الغربية، وخاصة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. في الشكل الكلاسيكي للقومية، والذي ينطوي على إنشاء الدول ذات السيادة والحفاظ عليها، فإن الولاء للأمة له الأسبقية على جميع الولاءات الأخرى، مثل الروابط الإقليمية أو المحلية أو القرابة. وعلى النقيض من القومية الكلاسيكية، من المرجح أن تثير الدول ما بعد القومية حقوق الفرد والإبداع وتنوع المجتمعات داخل الأمة باعتبارها أساسية للديمقراطية. في القومية، تتمتع فكرة الأمة بالسيطرة على الناس والتي ربما يمكن فهمها بشكل أفضل على أنها نتيجة للخصائص المبالغ فيها التي يروج لها العقل القومي ويمنحها للدولة القومية. وبصرف النظر عما إذا كانوا يرون القومية كقوة إيجابية أو سلبية، فإن العلماء عادة ما يعترفون بأن الأمة في القومية تحتل أعلى مرتبة، وتُنظر إليها باعتبارها الوكالة العليا للأهمية والهوية الجماعية والتبرير الأخلاقي. لقد لاحظ المفكر اليساري البريطاني 'إريك هوبسباوم' Eric Hobsbawm بشكل نقدي أن إحدى الطرق القوية التي تكتسب بها القومية صفة الإثبات التاريخي هي من خلال افتراضها أن الأمة مقدسة. فيما ذهب البعض إلى اعتبارها بديلاً للدين. ويمكن تطبيق هذا التصريح على القوميات التي جسدت الدين التقليدي كجزء من بنيتها العقلية للقيم (على سبيل المثال، القوميات الصربية واليونانية والهندوسية والإسلامية والأيرلندية البروتستانتية والأيرلندية الكاثوليكية) وكذلك على القوميات العلمانية التي تهدف إلى إلغاء الدين التقليدي من هياكل قيمها للهوية الوطنية (على سبيل المثال، القوميات التركية والفرنسية والمصرية والسورية). وفيما يتصل بالنهج القومي للتاريخ، فقد تم إضفاء طابع طقوسي على إسناد القداسة إلى فكرة الأمة في تمثيل الزعماء الوطنيين، وفي الاحتفالات العامة ذات التوجه العرقي، وفي السرديات الرئيسية للأعمال الشجاعة الوطنية التي تركز على الإنجازات غير العادية، والتي تسلط الضوء عليها الثورات والحروب وقصص الأعمال البطولية. وتدمج هذه السرديات القومية للتاريخ حقائق تاريخية مختارة في أساطير المجد الوطني والعظمة والمصير الملزم والعظمة، وتربط بين هذه الأساطير والحكايات. إن القومية، من خلال تصور مبالغ فيه للأمة، تبرز صورة مجيدة للأمة، وتضعها في ماضٍ بدائي فائق، تحول بالضرورة إلى حاضر مقنع ملزم بالواجب، ومستقبل لا نهائي وعظيم. بكل هذه الطرق، تُطور القومية مفهوماً أحادي المركز ونرجسياً لعالم حياة الأمة، وتصمم صورة لتاريخ الأمة تحدد 'الخير' بأمتها و'الشر' بـ 'الآخر'، وتحديداً 'العدو الآخر'. كان الجانب الأكثر إشكالية في القومية على المستويين الوطني والدولي هو قدرتها على ربط التفكير الأخلاقي واستخدام القوة / العنف، وخاصة في وقت الصراع. بطريقة فريدة من نوعها. لقد أسست القومية تاريخياً الحق في استخدام القوة/العنف في المنطق الأخلاقي القائل بأن الأمة هي القيمة الجماعية النهائية والأساس الضروري للمجتمع، والهوية، والأمن، والرفاهية. وقد جعل هذا التكوين من المعتقدات والأفعال القومية مُشرعاً قوياً لاستخدام القوة والعنف طوال التاريخ الحديث ومعظم تاريخ ما بعد الحداثة. تكشف أبرز رموز القومية، بدءًا من الأناشيد الوطنية والأعلام الوطنية والآثار والتأريخ، عن رموز وتتضمن سرديات الحرب والثورة والبطولات وسفك الدماء كمراجع عليا للهوية الوطنية والمجد والشرف. تعمل القومية على افتراض أن بنية الهوية هي عرقية أحادية البعد بشكل حصري وأساسي. ويوضح المؤرخ الكندي 'مايكل إغناتييف' Michael Ignatieff وهو باحث مشهور في القومية العرقية، أن: 'القومية، باعتبارها مثالاً ثقافياً، هي الادعاء بأن الرجال والنساء لديهم هويات عديدة، ولكن الأمة هي التي تزودهم بالشكل الأساسي للانتماء'. ويشير إغناتييف كذلك إلى أن القومية هي أقوى حافز وشرعية للعنف المميت واستخدام القوة المميتة. كما يؤكد أنه على عكس المراجع الأخرى للهوية والانتماء، مثل الأسرة أو المهنة، تقدم القومية سردًا يمكنه اللجوء بسهولة إلى مبررات للعنف. ويشير إلى أنه ليس من الواضح 'لماذا يجب أن تكون الهوية الوطنية عنصراً أكثر أهمية للهوية الشخصية من أي عنصر آخر؛ ولا من الواضح أيضاً لماذا يبرر الدفاع عن الأمة استخدام العنف'. وهذا يعني ضمناً أنه على عكس جوانب أخرى من الهوية، تفسر القومية الهوية الوطنية على أنها عليا ومقدسة، وبالتالي تستحق التضحية البشرية. عند النظر إلى الحروب والعنف الذي اجتاح الشرق الأوسط في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، باعتبارها السياق الأوسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتكشف، نلاحظ تكثيف القوميات المتنافسة داخل المجتمعات وبينها. وقد شكل انتكاس القومية في المنطقة، وبشكل أكثر تحديداً صعود القومية الدينية والتشدد، تحديات جديدة خاصة في مواجهة الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وفي بعض الأحيان في التحالف معها. عند الحديث عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على وجه التحديد، تدور صراعات الهوية حول تكوينات الهوية الوطنية للمجموعات المعنية. نؤكد على فكرة أن الصراعات القائمة على الهوية تحتوي على عناصر أساسية تستند إلى الرفض المتبادل لشرعية الجانب الآخر خوفاً من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تقويض شرعية المرء وقيمه ومطالباته. في الماضي غير البعيد، كان الإسرائيليون يخشون أن يؤدي اعتبار المطالبات الفلسطينية مشروعة أو تؤخذ على محمل الجد إلى تقويض المطالبات الإسرائيلية. وكان لدى الفلسطينيين نفس المخاوف بشأن الإسرائيليين. وبالتالي، كان يُنظر إلى الوضع والتنازل عن الموارد والأراضي على أنهما محصلتهما صفر، وذلك في المقام الأول بسبب المخاوف والشكوك المتبادلة بشأن الاعتراف بالهوية. لكن الإسرائيليون يتناسون أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الأصليين، وأن الصراع بينهم وبين الفلسطينيين ليس على أشياء مُتنازع عليها، إنما هو صراع بين مُستعمر مُحتل، يُحاول أن يبني سرديته فوق الأرض التي يحاول أن يدفن تحتها الرواية الحقيقية لمظلومية الشعب الفلسطيني. أن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو صراع على أصول مادية حقيقية، مثل الأراضي والمياه والحدود والأمن وما شابه ذلك. وفيما يتعلق بكون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صراعاً على الهوية، فإن هذا الصراع هو صراع يرى فيه كل جانب الهوية الوطنية للجانب الآخر كتهديد، أو كترجمة لهذه الهوية إلى المجال السياسي – أي إلى 'دولة قومية' – كخطر على هويتها الوطنية المستقلة. وبالتالي فإن أحد الجانبين يرفض بالتالي التعريف إذا كان الجانب الآخر كأمة، أو على الأقل، ينكر حقه في تحقيق هذه الهوية في سياق الدولة الوطنية. إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ في جوهره ـ ليس فقط صراع على الهوية لأن أصله وسبب استمراره متجذران في إنكار كل جانب لقومية الجانب الآخر، ومطالبة كل جانب بالحق في إنشاء دولته القومية العرقية، بل هو صراع سببه قيام إسرائيل باحتلال وسرقة الأراضي الفلسطينية وطرد السكان الأصليين ومصادرة ممتلكاتهم بغير وجه حق. وبشكل أكثر تحديداً يتم وضع دور ووظيفة الدين في سياق الإطار المذكور أعلاه للصراع القومي الإسرائيلي الفلسطيني، لذلك من الطبيعي أن يتخذ دين الجانبين علاقة معينة بالقومية. هناك نوعين رئيسيين من القوميين الدينيين: العرقي والأيديولوجي. يهاجم القوميون الدينيون العرقيون الأعراق المنافسة، بينما يهاجم القوميون الدينيون الإيديولوجيون العلمانية داخل بلدهم (الحكومة والمؤيدين) أو الأديان المنافسة. فإذا كان النهج العرقي للقومية الدينية يسيّس الدين من خلال استخدام الهويات الدينية لأغراض سياسية، فإن النهج الإيديولوجي للقومية الدينية يفعل العكس: إنه يضفي طابعًا دينياً على السياسة. ومن الضروري فهم هذا الأمر لأنه يشير إلى الطريقتين الأساسيتين اللتين يتم بهما دمج الدين في السياسة الوطنية، وتشكيلات الهوية الوطنية. الهجرة الدينية والاتجاهات الصاعدة يحاول بعض الباحثين إقناع الجمهور في أن الإيديولوجيات الدينية في كل من القوى الدينية الفلسطينية واليهود الأرثوذكس تمثل عنصراً رئيسياً في كيفية نظرهم إلى سياساتهم فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. والتأكيد بشكل متكرر على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتعلق بشعبين يتقاتلان على نفس قطعة الأرض، وبالتالي فقد تم اعتباره أيضًا صراعاً جيوسياسياً دينياً ووطنياً. لكن الحقيقة التي يتم تجاهلها أن فلسطين كانت تسكنها تاريخياً اغلبية عربية مطلقة، ويعيش بجوارها اقلية قليلة من اليهود. وبسيطرة بريطانيا على فلسطين بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تحكم هذا الجزء من الشرق الأوسط، في الحرب العالمية الأولى وفي نفس العام أي في 1917 أرسل 'آرثر جيمس بلفور' Arthur James Balfour وزير الخارجية البريطاني رسالة إلى البارون 'ليونيب وولتر دي روتشيلد' Lionel Walter Rothschild وفي هذه الرسالة قدم بلفور تعهداً بدعم بريطاني لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، أي أن بريطانيا قدمت فلسطين التي لا تملكها إلى الحركة الصهيونية التي أعلنت قيام دولة إسرائيل عام 1948 وطرد مليون فلسطيني من منازلهم ومصادرة ممتلكاتهم بما يعرف بالنكبة. ولكن الدين في تلك الفترة لعب دوراً ثانوياً نسبياً قبل أن يصبح أكثر حضوراً بعد حرب 1967. وسيكون من الخطأ القول إن الدين كان غائباً تماماً عن الصراع لأن عدداً من اليهود انتقلوا إلى فلسطين لأسباب دينية. بعد الهزيمة التي مني بها العرب عام 1967 بدأ اليهود المتدينون يعتقدون أن انتصاراتهم كانت علامة من الله على أن المسيح في طريقه. لقد اعتقدوا أن انتصارهم كان علامة من الله لمضاعفة جهودهم في استيطان كل الأراضي لإقامة دولة إسرائيل الكبرى. وجد العديد من اليهود المتدينين المعروفين بالصهاينة اليمينيين تمثيلهم أثناء تشكيل حركة 'غوش إيمونيم' Gush Emunim وهي حركة ناشطة إسرائيلية يمينية ملتزمة بإنشاء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. نشأت حركة غوش إيمونيم بعد هزيمة عام 1967، وشجعت الاستيطان اليهودي في الأرض على أساس الاعتقاد بأن الله أعطاها للشعب اليهودي وفقًا للتوراة' لم تعد حركة غوش إيمونيم موجودة رسمياً، لكن آثار نفوذها لا تزال قائمة في المجتمع الإسرائيلي. تسببت هزيمة حرب عام 1967 موجات صدمة في العالم العربي، وأُجبر الفلسطينيون على ترك منازلهم دون أي استحقاق للعودة. لقد أدرك الفلسطينيون أنهم لم يعد بإمكانهم الاعتماد على جامعة الدول العربية، ولجأوا في النهاية إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) عام 1964. ووضع الشعب الفلسطيني كل آماله على منظمة التحرير في محاولته لاستعادة أرضه. لكن التحرير بدا أمراً معقداً تدريجيًا في الزقت الذي بدأ فيه المستوطنون الإسرائيليون يبنون المزيد من المستوطنات في غزة والضفة الغربية. ولقد ازداد عدد المستوطنين بسرعة على مر السنين، من أقل من 1200 مستوطن في الضفة الغربية في عام 1972، إلى أكثر من 44 ألف بحلول عام 1985. أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية غير فعّالة في نظر جزء من الشعب الفلسطيني، فبدأوا تدريجياً في البحث عن قيادة أقوى. ثم انطلقوا بحثاً عن حركة جديدة تعالج حاجتهم إلى استعادة ما اعتبروه وطنهم الشرعي. وهكذا تحول جزء من الفلسطينيين إلى الإسلام السياسي. وفي شكل القومية الدينية، انفجر الإسلام السياسي في طليعة التاريخ مع الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أعقاب الإطاحة بالشاه في عام 1979. مما أدى إلى ترسيخ القومية الإسلامية الشيعية التي حفزت المسلمين المتدينين في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك عدد كبير من الفلسطينيين على الرغم من حقيقة أنهم كانوا من المسلمين السنة. تم تشكيل حركة الجهاد الإسلامي في الفترة ما بين عامي 1985 و1986وتأسست حركة حماس (التي تعني اختصاراً 'حركة المقاومة الإسلامية') في عام 1988، وكانت فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين، ونمت نتيجة رد الفعل على الاحتلال الإسرائيلي القمعي وعنف المستوطنين اليهود في الضفة الغربية. نمت حماس واشتدت بشكل مطرد بحيث فازت بالانتخابات الفلسطينية في عام 2006 بحصولها على 76 مقعداً في المجلس التشريعي البالغة من أصل 132 بينما حصلت حركة فتح على 43 مقعداً، والجبهة الشعبية على ثلاثة مقاعد. يعود فوز حركة حماس إلى عدة أساب أبرزها: أولاً: ضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم فعاليتها في تخفيف ظلم الاحتلال الإسرائيلي، وفشلها في بذل أي جهد لوقف نمو المستوطنات. بحلول عام 2006، زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى ما يزيد عن 260 ألف. وعلى النقيض من منظمة التحرير الفلسطينية، كان يُنظر إلى حماس باعتبارها قوة ضد المستوطنين وباعتبارها أثرت على القرار الإسرائيلي بالانسحاب من غزة في عام 2005. ثانياً: خلقت السلطة الفلسطينية سمعة سلبية لنفسها بسبب الفساد والمحسوبية، وعلى النقيض من حماس التي طورت سمعة من الصدق والنزاهة. ثالثاً: قيام حماس ببناء أساس متين من الثقة المتبادلة بينها وبين فئات عديدة من الشعب الفلسطيني. لقد كان من الممكن أن يؤدي هذا إلى إحداث تغييرات إيجابية في حياة الفلسطينيين من خلال تشغيل برامج اجتماعية مثل المساجد، والمدارس، ومطاعم الحساء، والعيادات. وبحلول الوقت الذي نشطت فيه حماس، كانت الصهيونية الدينية اليمينية حاضرة بقوة وبشكل كامل على الجانب الإسرائيلي، ترتكب أشنع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى إبادته. كان الصهاينة المتدينون المتطرفون ينظرون إلى اللجوء إلى العنف على أنه مبرر أخلاقياً. ويعتقد قادتهم أن الله يؤيد أجندتهم الوطنية، وأن الله أعطاهم كل أراضي المنطقة، وأن الله يريد أن يؤمنوا الأرض ودولتهم من خلال جميع الوسائل بما في ذلك القوة المميتة والعنف. مثل هذه الافتراضات في السرديات القومية الصهيونية جعلت من السهل نزع الصفة الإنسانية عن 'الآخر' وتبرير قتله. دور الدين في إسرائيل ـ الأيديولوجية الصهيونية الدينية يعتبر الفصيل اليهودي الأرثوذكسي الجماعة الدينية الأصولية في إسرائيل. وداخل مجموعة اليهود الأرثوذكس، هناك ما يسمى بالصهاينة. لا تمتلك الصهيونية أيديولوجية موحدة، ولكنها تطورت من خلال التفاعل بين عدد كبير من الأيديولوجيات، إحداها الصهيونية الدينية. فقبل تأسيس دولة إسرائيل، كان الصهاينة الدينيون في الأساس يهوداً ملتزمين (يهود يلتزمون بقواعد وأهداف التوراة) الذين دعموا الجهود الصهيونية لبناء دولة يهودية في فلسطين. تركزت هذه الأهداف أولاً على إنشاء دولة يهودية في عام 1948 تم استخدام الحجج التاريخية واللاهوتية والوطنية والوجودية والسياسية والمجتمعية والثقافية لتبرير هذه الأهداف، وتبرير احتلالها لفلسطين وطرد سكانها العرب الأصليين. الأرض كانت ولا زالت هي محور الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهي قضية مهمة للغاية لدرجة أن الهيئات الدولية تناولتها. حيث يعتبر المجتمع الدولي المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي التي تحتلها إسرائيل غير قانونية بموجب القانون الدولي، وذلك بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وبموجب الشرعية الدولية أيضاً. ومع ذلك، ففي نظر القوميين المتدينين الصهاينة، فإن التفسيرات الدينية تتجاوز القانون الدولي. إن وجهات النظر من المنظور الصهيوني الديني تلعب دوراً هاماً في التعامل مع الحقوق الإقليمية في المنطقة، وخاصة من جانب الشخصيات الصهيونية السياسية. ومن الأمثلة على ذلك 'مائير كاهانا' Meir Kahane الحاخام الإسرائيلي الأمريكي الأرثوذكسي، والسياسي القومي المتطرف، ومؤسس حزب «كاخ» اليميني المتطرف الذي طالب برنامجه بضم جميع الأراضي المحتلة وتهجير الفلسطينيين قسراً. وكان كاهانا أيضاً حاخاماً أرثوذكسياً مُرسَماً، دعا إلى تفجير المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل الثالث. وشغل أيضاً منصب عضو في الكنيست الإسرائيلي. وكان جزء كبير من أيديولوجية كاهانا هو أن إسرائيل لا ينبغي لها أبداً أن تبدأ حرباً من أجل الأراضي، ولكن إذا شُنت حرب ضد إسرائيل، فيجب ضم الأراضي التوراتية. كما عرّف كاهانا الأراضي التوراتية بأنها الحدود الجنوبية التي تصل إلى العريش (أكبر مدينة في شبه جزيرة سيناء)، والتي تضم كل شمال سيناء. وإلى الشرق، تمتد الحدود على طول الجزء الغربي من الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومن ثم فهي جزء مما يُعرف الآن بالأردن. كما تشمل أرض إسرائيل جزءًا من لبنان وأجزاء معينة من سوريا وجزءًا من العراق، وصولاً إلى نهر دجلة. كما ذكر كاهانا أن 'المعجزات لا تحدث من تلقاء نفسها'. لقد شعر أن الطريقة الوحيدة لعودة المسيح هي عندما يخلق اليهود الظروف السياسية المناسبة. مثال آخر يمثله الصهيوني المتطرف 'بتسلئيل سموتريتش' Bezalel Smotrich الذي يحفل سجله بالتصريحات المتطرفة والعنصرية التي يتماهى فيها مع الإرهاب اليهودي وأعمال العنف التي تقوم بها عصابات المستوطنين المتطرفين مثل 'شبيبة التلال' و'تدفيع الثمن'. سموتريتش من أصل أوكراني ترعرع في المستوطنات وفضل تعلم التوراة على الخدمة في الجيش، الذي التحق به في سن متأخرة وخدم فيه مدة 16 شهرا فقط. مواقف سموتريتش وتصريحاته العنصرية كثيرة جداً، ولكن ربما من أبرزها اعتباره في العام 2015 أن إحراق ثلاثة أشخاص من عائلة دوابشة حتى الموت من قبل مستوطنين يهود 'لا يعد عملا إرهابيا' وأن الإرهاب هو 'العنف الذي يوجه إلى اليهود من قبل العرب فقط'، وهي تصريحات تكررت عند قيام ميليشيات من المستوطنين بإحراق عشرات المنازل والمركبات والمحال التجارية في قرية حوارة التي دعا إلى 'محوها'. ومنذ أن أصبح وزيراً للمالية في حكومة 'بنيامين نتنياهو' شنّ حرب الاستيطان على الشعب الفلسطيني. فقد شرع بتنفيذ خطط ابتلاع 60% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، تنفيذًا لوعده بالقضاء على حل الدولتين وتوافقاً مع عقيدة 'إسرائيل الكبرى' التوسعية، كما يُطلَق عليها. وفي أكثر من مناسبة، لوّح سموتريتش بتوسيع الاستيطان، حتى إنّه رسم معادلة قوامها إقامة مستوطنة جديدة باسم كل دولة تعترف بشكل أحادي بالدولة الفلسطينية، بل إنّه يقول إنّ مهمّة حياته هي 'إحباط إقامة دولة فلسطينية'. وهناك مثال آخر على هو وزير الأمن القومي الصهيوني المتطرف 'إيتمار بن غفير' Itamar Ben-Gvir الذي أوعز لأجهزة الجيش والشرطة بكف يدها عن عنف المستوطنين الذين شنوا مئات الهجمات ضد الفلسطينيين للاستيلاء على أراضيهم ومزارعهم. أسس حركة 'العظمة اليهودية' (عوتسما يهودت)، وأصبح عضوًا في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي عام 2021. وينحدر بن غفيرلوالدين من جذور عراقية كردية. ويستمد أفكاره المتشددة من الحاخام مائير كاهانا، مؤسس حركة 'كاخ' الذي فاز بمقعد في الكنيست الإسرائيلي عام 1984، قبل أن تُصنف حركته 'إرهابية وفاشية. وصفت صحيفة هآرتس العبرية فوزه مع حزبه في انتخابات الكنيست عام 2022 بأنه 'اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل'. ينتمي بن غفير لليمين المتطرف، الذي يرى أن إسرائيل دولة يهودية قومية وصهيونية، ويناهض تأسيس دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ويدعم عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ويدعو إلى الطرد القسري للمواطنين العرب 'غير الموالين' من البلاد، وفق 'تايمز أوف إسرائيل'، مما جعله صاحب شعبية كاسحة. أما أدبيات حزب الليكود الإسرائيلي فتتضمن 'إن حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل أبدي ولا جدال فيه ويرتبط بالحق في الأمن والسلام؛ وبالتالي، لن يتم تسليم يهودا والسامرة إلى أي إدارة أجنبية. وبين البحر والأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية'. تغلغل التطرف الديني وفقًا للمنظور الصهيوني الديني، فقد عهد الله بالأرض (الأرض التوراتية) إلى الشعب اليهودي وأنه لم تكن هناك دولة فلسطينية قط. وبدلاً من ذلك، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يعيشون على أرض ليست لهم. ويتمثل طموح القوميين المتدينين في تحقيق إقامة 'إسرائيل الكبرى'. ويتطلب تفسيرهم الديني توسيع الحدود الحالية لإسرائيل أكثر فأكثر. وينضم عدد متزايد من اليهود المتدينين إلى جيش الدفاع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، بحيث أن التغيير الأكثر أهمية الذي شهده جيش الاحتلال الإسرائيلي هو عمل الدين داخل ثقافته المؤسسية. إن الزعماء والقادة الدينيين الصهاينة المتطرفين قد أدخلوا أنفسهم في الجيش كلاعبين رئيسيين. وقد احتل هؤلاء محل القادة العلمانيين في الجيش، وينتقلون إلى مناصب أعلى وأكثر قوة. وكلما ارتفعت أصواتهم، كلما كان تأثير الدين على جيش الدفاع الإسرائيلي أكبر. وهذا يعني ضمناً أن الجيش الإسرائيلي يعمل كشريك للتأثيرات الدينية في استخدامه للقوة والعنف في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. لقد نشأت القومية الدينية الصهيونية من عدم الرضا عن هيمنة الثقافة الغربية الحديثة، والتي يبدو أنها تسير بالتوازي مع القومية العلمانية الإسرائيلية. وما اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي 'إسحاق رابين' Yitzhak Rabin عام 1995إلا مثال مهم على قوة هذه الجماعات. فقد اغتيل رابين على يد طالب لاهوتي يهودي شاب يدعى 'ييجال أمير' Yigal Amir الذي ادعى أنه تصرف بناءً على أوامر الله. وقال: 'كل ما فعلته، فعلته لمجد الله'. ادعى أمير أنه كان في سلام وأنه شعر بأنه طبيعي. زعم أمير أن مقتل رابين كان أمراً يستحق الثناء وفقاً لقراءات الشريعة الدينية. وقد زعم أن أحد هذه القوانين يسمح بقتل أولئك الذين يمكنهم تدمير الأمة.

الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي
الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

كواليس اليوم

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • كواليس اليوم

الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

الدكتور حسن العاصي أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا تمثل القومية ـ باعتبارها مرجعاً قوياً للهوية ـ عنصراً مهماً في تطور وتصاعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. علاوة على ذلك، وضمن السرديات الأوسع للقومية، تلعب القومية الدينية خاصة، والتي تتمثل في دمج الدين في السرد القومي، دوراً رئيسياً أيضاً، لأنها تضيف الشرعية الأخلاقية إلى القومية وافتراضها المرتبط بالقيمة العليا والمقدسة للدولة القومية. إن دور الدين في السياسات الوطنية أخذ في التصاعد منذ تسعينيات القرن الماضي. لقد انتقل دور الدين في الشرق الأوسط ـ بصورة عامة ـ بشكل متزايد إلى صدارة التاريخ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001. وقد أثيرت أسئلة مهمة بشأن الدور الذي يلعبه الدين في تعزيز فرص السلام أو إدامة وتصعيد الصراع. بلا شك إن الديانات التوحيدية الثلاثة: الإسلام واليهودية والمسيحية عززت تاريخياً الصراع والسلام، مما يجعلها متناقضة. فحين تعكس كل هذه الديانات سرداً وقيماً للسلام، إلا أنها أصبحت أيضاً طرفاً في العديد من الصراعات عبر التاريخ. وكانت الكراهية القائمة على الاختلافات العرقية والدينية في جذر العديد من الحروب عبر التاريخ، بما في ذلك الحروب الصليبية في العصور الوسطى (المسيحيون الأوروبيون مقابل المسلمين العرب)، وحرب الثلاثين عاماً (الكاثوليك مقابل البروتستانت)، والتي دمرت أوروبا في القرن السابع عشر. لقد أصبح الدين متشابكاً مع تكثيف الصراع والعنف في مختلف أنحاء الشرق الأوسط على وجه الخصوص. وينعكس هذا الاتجاه أيضاً في جوانب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. يمكن بوضوح الإشارة إلى اليهود الأرثوذكس والصهاينة المتدينون المتشددون كمجموعة أدرجت الدين في هويتها الوطنية ورؤيتها للصراع بما يتجاوز الأطر القومية التي جعلت الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد. بحيث أصبح فيها الدين محفزاً للصراع، وأداة إضافية للتحريض على قتل وإبادة الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم وطردهم من وطنهم. مراجعة الأدبيات إن فهم دور الدين في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتطلب فهماً للصراع القومي الأوسع الذي يدور حول العرق بين الجانبين. ويوفر هذا الأخير السياق للبحث في الطرق المختلفة التي يتعامل بها أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية على التوالي مع وظيفة دينهم في الصراع. ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أنه في حين أن القومية ونهجها العرقي تجاه الدولة يشكلان محركاً مركزياً في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن القومية ليست فريدة من نوعها بالنسبة للجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني، حيث إن القومية هي سرد رئيسي يربطه العلماء بالتطور التاريخي للحداثة وظهور الدول القومية. ولهذا السبب، من الضروري مراجعة الأدبيات حول الخصائص الأساسية للقومية كحجر أساس للتركيز على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووظيفة الدين في داخله. إن موسوعة الهوية تعد أحدث مجموعة من الأعمال العلمية حول هذا الموضوع، تسلط الضوء على القومية باعتبارها أحد المراجع المركزية للهوية. وتشير الموسوعة إلى مجموعة واسعة من المراجع المتعلقة بالهوية، من الطبقة إلى العرق إلى الجنس، إلخ. ومع ذلك، باعتبارها سرداً حداثياً لتكوين الهوية، فإن القومية لها دور بارز في الصراع من خلال ارتباطها بالدولة القومية. وسواء كانت في الرؤى العلمانية أو الدينية، ينظر العلماء إلى القومية باعتبارها واحدة من أقوى القوى في العالم الحديث. فما هي الخصائص الرئيسية لهذه السرد القوي؟ إن مفهوم القومية متأصل في الحياة اليومية لمواطني الدول القومية الحديثة. إن الفخر الذي يشعر به الناس تجاه الإنجازات الوطنية، والتعبيرات التي يبديها السياسيون عن 'المصالح الوطنية' في تبرير السياسات، والرموز التي تستخدمها الدول للتعريف بالذات (مثل الأعلام، والأناشيد الوطنية، والآثار) هي إشارات سائدة للقومية باعتبارها هوية جماعية، وتساعد في خلق وعي وطني بين الأفراد المختلفين. وفي حين كانت القومية ضرورية لبنية الدول القومية الحديثة ويمكنها أن تلعب دوراً حتمياً عندما تواجه المجتمعات أوقات الأزمات، فإنها يمكن أن تدفع الناس وقادتهم أيضاً إلى النظر إلى دولتهم على أنها معصومة عن الخطأ ولا تشوبها شائبة، مما يبرر استخدام القوة والعنف للتعامل مع الخصوم الحقيقيين أو المفتعلين. وقد تضاعف الاهتمام البحثي بمفهوم القومية بشكل كبير خلال الثمانينات واستمر حتى يومنا هذا. ركزت الدراسات السابقة على القومية الأوروبية باعتبارها القوة الدافعة التي أدت إلى الحربين العالميتين، ولكن في الآونة الأخيرة كان هناك المزيد من التركيز على الأمثلة غير الغربية، وخاصة في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. في الشكل الكلاسيكي للقومية، والذي ينطوي على إنشاء الدول ذات السيادة والحفاظ عليها، فإن الولاء للأمة له الأسبقية على جميع الولاءات الأخرى، مثل الروابط الإقليمية أو المحلية أو القرابة. وعلى النقيض من القومية الكلاسيكية، من المرجح أن تثير الدول ما بعد القومية حقوق الفرد والإبداع وتنوع المجتمعات داخل الأمة باعتبارها أساسية للديمقراطية. في القومية، تتمتع فكرة الأمة بالسيطرة على الناس والتي ربما يمكن فهمها بشكل أفضل على أنها نتيجة للخصائص المبالغ فيها التي يروج لها العقل القومي ويمنحها للدولة القومية. وبصرف النظر عما إذا كانوا يرون القومية كقوة إيجابية أو سلبية، فإن العلماء عادة ما يعترفون بأن الأمة في القومية تحتل أعلى مرتبة، وتُنظر إليها باعتبارها الوكالة العليا للأهمية والهوية الجماعية والتبرير الأخلاقي. لقد لاحظ المفكر اليساري البريطاني 'إريك هوبسباوم' Eric Hobsbawm بشكل نقدي أن إحدى الطرق القوية التي تكتسب بها القومية صفة الإثبات التاريخي هي من خلال افتراضها أن الأمة مقدسة. فيما ذهب البعض إلى اعتبارها بديلاً للدين. ويمكن تطبيق هذا التصريح على القوميات التي جسدت الدين التقليدي كجزء من بنيتها العقلية للقيم (على سبيل المثال، القوميات الصربية واليونانية والهندوسية والإسلامية والأيرلندية البروتستانتية والأيرلندية الكاثوليكية) وكذلك على القوميات العلمانية التي تهدف إلى إلغاء الدين التقليدي من هياكل قيمها للهوية الوطنية (على سبيل المثال، القوميات التركية والفرنسية والمصرية والسورية). وفيما يتصل بالنهج القومي للتاريخ، فقد تم إضفاء طابع طقوسي على إسناد القداسة إلى فكرة الأمة في تمثيل الزعماء الوطنيين، وفي الاحتفالات العامة ذات التوجه العرقي، وفي السرديات الرئيسية للأعمال الشجاعة الوطنية التي تركز على الإنجازات غير العادية، والتي تسلط الضوء عليها الثورات والحروب وقصص الأعمال البطولية. وتدمج هذه السرديات القومية للتاريخ حقائق تاريخية مختارة في أساطير المجد الوطني والعظمة والمصير الملزم والعظمة، وتربط بين هذه الأساطير والحكايات. إن القومية، من خلال تصور مبالغ فيه للأمة، تبرز صورة مجيدة للأمة، وتضعها في ماضٍ بدائي فائق، تحول بالضرورة إلى حاضر مقنع ملزم بالواجب، ومستقبل لا نهائي وعظيم. بكل هذه الطرق، تُطور القومية مفهوماً أحادي المركز ونرجسياً لعالم حياة الأمة، وتصمم صورة لتاريخ الأمة تحدد 'الخير' بأمتها و'الشر' بـ 'الآخر'، وتحديداً 'العدو الآخر'. كان الجانب الأكثر إشكالية في القومية على المستويين الوطني والدولي هو قدرتها على ربط التفكير الأخلاقي واستخدام القوة / العنف، وخاصة في وقت الصراع. بطريقة فريدة من نوعها. لقد أسست القومية تاريخياً الحق في استخدام القوة/العنف في المنطق الأخلاقي القائل بأن الأمة هي القيمة الجماعية النهائية والأساس الضروري للمجتمع، والهوية، والأمن، والرفاهية. وقد جعل هذا التكوين من المعتقدات والأفعال القومية مُشرعاً قوياً لاستخدام القوة والعنف طوال التاريخ الحديث ومعظم تاريخ ما بعد الحداثة. تكشف أبرز رموز القومية، بدءًا من الأناشيد الوطنية والأعلام الوطنية والآثار والتأريخ، عن رموز وتتضمن سرديات الحرب والثورة والبطولات وسفك الدماء كمراجع عليا للهوية الوطنية والمجد والشرف. تعمل القومية على افتراض أن بنية الهوية هي عرقية أحادية البعد بشكل حصري وأساسي. ويوضح المؤرخ الكندي 'مايكل إغناتييف' Michael Ignatieff وهو باحث مشهور في القومية العرقية، أن: 'القومية، باعتبارها مثالاً ثقافياً، هي الادعاء بأن الرجال والنساء لديهم هويات عديدة، ولكن الأمة هي التي تزودهم بالشكل الأساسي للانتماء'. ويشير إغناتييف كذلك إلى أن القومية هي أقوى حافز وشرعية للعنف المميت واستخدام القوة المميتة. كما يؤكد أنه على عكس المراجع الأخرى للهوية والانتماء، مثل الأسرة أو المهنة، تقدم القومية سردًا يمكنه اللجوء بسهولة إلى مبررات للعنف. ويشير إلى أنه ليس من الواضح 'لماذا يجب أن تكون الهوية الوطنية عنصراً أكثر أهمية للهوية الشخصية من أي عنصر آخر؛ ولا من الواضح أيضاً لماذا يبرر الدفاع عن الأمة استخدام العنف'. وهذا يعني ضمناً أنه على عكس جوانب أخرى من الهوية، تفسر القومية الهوية الوطنية على أنها عليا ومقدسة، وبالتالي تستحق التضحية البشرية. عند النظر إلى الحروب والعنف الذي اجتاح الشرق الأوسط في حقبة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، باعتبارها السياق الأوسع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني المتكشف، نلاحظ تكثيف القوميات المتنافسة داخل المجتمعات وبينها. وقد شكل انتكاس القومية في المنطقة، وبشكل أكثر تحديداً صعود القومية الدينية والتشدد، تحديات جديدة خاصة في مواجهة الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وفي بعض الأحيان في التحالف معها. عند الحديث عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على وجه التحديد، تدور صراعات الهوية حول تكوينات الهوية الوطنية للمجموعات المعنية. نؤكد على فكرة أن الصراعات القائمة على الهوية تحتوي على عناصر أساسية تستند إلى الرفض المتبادل لشرعية الجانب الآخر خوفاً من أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تقويض شرعية المرء وقيمه ومطالباته. في الماضي غير البعيد، كان الإسرائيليون يخشون أن يؤدي اعتبار المطالبات الفلسطينية مشروعة أو تؤخذ على محمل الجد إلى تقويض المطالبات الإسرائيلية. وكان لدى الفلسطينيين نفس المخاوف بشأن الإسرائيليين. وبالتالي، كان يُنظر إلى الوضع والتنازل عن الموارد والأراضي على أنهما محصلتهما صفر، وذلك في المقام الأول بسبب المخاوف والشكوك المتبادلة بشأن الاعتراف بالهوية. لكن الإسرائيليون يتناسون أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض الأصليين، وأن الصراع بينهم وبين الفلسطينيين ليس على أشياء مُتنازع عليها، إنما هو صراع بين مُستعمر مُحتل، يُحاول أن يبني سرديته فوق الأرض التي يحاول أن يدفن تحتها الرواية الحقيقية لمظلومية الشعب الفلسطيني. أن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي هو صراع على أصول مادية حقيقية، مثل الأراضي والمياه والحدود والأمن وما شابه ذلك. وفيما يتعلق بكون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني صراعاً على الهوية، فإن هذا الصراع هو صراع يرى فيه كل جانب الهوية الوطنية للجانب الآخر كتهديد، أو كترجمة لهذه الهوية إلى المجال السياسي – أي إلى 'دولة قومية' – كخطر على هويتها الوطنية المستقلة. وبالتالي فإن أحد الجانبين يرفض بالتالي التعريف إذا كان الجانب الآخر كأمة، أو على الأقل، ينكر حقه في تحقيق هذه الهوية في سياق الدولة الوطنية. إن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ في جوهره ـ ليس فقط صراع على الهوية لأن أصله وسبب استمراره متجذران في إنكار كل جانب لقومية الجانب الآخر، ومطالبة كل جانب بالحق في إنشاء دولته القومية العرقية، بل هو صراع سببه قيام إسرائيل باحتلال وسرقة الأراضي الفلسطينية وطرد السكان الأصليين ومصادرة ممتلكاتهم بغير وجه حق. وبشكل أكثر تحديداً يتم وضع دور ووظيفة الدين في سياق الإطار المذكور أعلاه للصراع القومي الإسرائيلي الفلسطيني، لذلك من الطبيعي أن يتخذ دين الجانبين علاقة معينة بالقومية. هناك نوعين رئيسيين من القوميين الدينيين: العرقي والأيديولوجي. يهاجم القوميون الدينيون العرقيون الأعراق المنافسة، بينما يهاجم القوميون الدينيون الإيديولوجيون العلمانية داخل بلدهم (الحكومة والمؤيدين) أو الأديان المنافسة. فإذا كان النهج العرقي للقومية الدينية يسيّس الدين من خلال استخدام الهويات الدينية لأغراض سياسية، فإن النهج الإيديولوجي للقومية الدينية يفعل العكس: إنه يضفي طابعًا دينياً على السياسة. ومن الضروري فهم هذا الأمر لأنه يشير إلى الطريقتين الأساسيتين اللتين يتم بهما دمج الدين في السياسة الوطنية، وتشكيلات الهوية الوطنية. الهجرة الدينية والاتجاهات الصاعدة يحاول بعض الباحثين إقناع الجمهور في أن الإيديولوجيات الدينية في كل من القوى الدينية الفلسطينية واليهود الأرثوذكس تمثل عنصراً رئيسياً في كيفية نظرهم إلى سياساتهم فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. والتأكيد بشكل متكرر على أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتعلق بشعبين يتقاتلان على نفس قطعة الأرض، وبالتالي فقد تم اعتباره أيضًا صراعاً جيوسياسياً دينياً ووطنياً. لكن الحقيقة التي يتم تجاهلها أن فلسطين كانت تسكنها تاريخياً اغلبية عربية مطلقة، ويعيش بجوارها اقلية قليلة من اليهود. وبسيطرة بريطانيا على فلسطين بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تحكم هذا الجزء من الشرق الأوسط، في الحرب العالمية الأولى وفي نفس العام أي في 1917 أرسل 'آرثر جيمس بلفور' Arthur James Balfour وزير الخارجية البريطاني رسالة إلى البارون 'ليونيب وولتر دي روتشيلد' Lionel Walter Rothschild وفي هذه الرسالة قدم بلفور تعهداً بدعم بريطاني لإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، أي أن بريطانيا قدمت فلسطين التي لا تملكها إلى الحركة الصهيونية التي أعلنت قيام دولة إسرائيل عام 1948 وطرد مليون فلسطيني من منازلهم ومصادرة ممتلكاتهم بما يعرف بالنكبة. ولكن الدين في تلك الفترة لعب دوراً ثانوياً نسبياً قبل أن يصبح أكثر حضوراً بعد حرب 1967. وسيكون من الخطأ القول إن الدين كان غائباً تماماً عن الصراع لأن عدداً من اليهود انتقلوا إلى فلسطين لأسباب دينية. بعد الهزيمة التي مني بها العرب عام 1967 بدأ اليهود المتدينون يعتقدون أن انتصاراتهم كانت علامة من الله على أن المسيح في طريقه. لقد اعتقدوا أن انتصارهم كان علامة من الله لمضاعفة جهودهم في استيطان كل الأراضي لإقامة دولة إسرائيل الكبرى. وجد العديد من اليهود المتدينين المعروفين بالصهاينة اليمينيين تمثيلهم أثناء تشكيل حركة 'غوش إيمونيم' Gush Emunim وهي حركة ناشطة إسرائيلية يمينية ملتزمة بإنشاء مستوطنات يهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. نشأت حركة غوش إيمونيم بعد هزيمة عام 1967، وشجعت الاستيطان اليهودي في الأرض على أساس الاعتقاد بأن الله أعطاها للشعب اليهودي وفقًا للتوراة' لم تعد حركة غوش إيمونيم موجودة رسمياً، لكن آثار نفوذها لا تزال قائمة في المجتمع الإسرائيلي. تسببت هزيمة حرب عام 1967 موجات صدمة في العالم العربي، وأُجبر الفلسطينيون على ترك منازلهم دون أي استحقاق للعودة. لقد أدرك الفلسطينيون أنهم لم يعد بإمكانهم الاعتماد على جامعة الدول العربية، ولجأوا في النهاية إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (PLO) عام 1964. ووضع الشعب الفلسطيني كل آماله على منظمة التحرير في محاولته لاستعادة أرضه. لكن التحرير بدا أمراً معقداً تدريجيًا في الزقت الذي بدأ فيه المستوطنون الإسرائيليون يبنون المزيد من المستوطنات في غزة والضفة الغربية. ولقد ازداد عدد المستوطنين بسرعة على مر السنين، من أقل من 1200 مستوطن في الضفة الغربية في عام 1972، إلى أكثر من 44 ألف بحلول عام 1985. أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية غير فعّالة في نظر جزء من الشعب الفلسطيني، فبدأوا تدريجياً في البحث عن قيادة أقوى. ثم انطلقوا بحثاً عن حركة جديدة تعالج حاجتهم إلى استعادة ما اعتبروه وطنهم الشرعي. وهكذا تحول جزء من الفلسطينيين إلى الإسلام السياسي. وفي شكل القومية الدينية، انفجر الإسلام السياسي في طليعة التاريخ مع الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في أعقاب الإطاحة بالشاه في عام 1979. مما أدى إلى ترسيخ القومية الإسلامية الشيعية التي حفزت المسلمين المتدينين في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك عدد كبير من الفلسطينيين على الرغم من حقيقة أنهم كانوا من المسلمين السنة. تم تشكيل حركة الجهاد الإسلامي في الفترة ما بين عامي 1985 و1986وتأسست حركة حماس (التي تعني اختصاراً 'حركة المقاومة الإسلامية') في عام 1988، وكانت فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين، ونمت نتيجة رد الفعل على الاحتلال الإسرائيلي القمعي وعنف المستوطنين اليهود في الضفة الغربية. نمت حماس واشتدت بشكل مطرد بحيث فازت بالانتخابات الفلسطينية في عام 2006 بحصولها على 76 مقعداً في المجلس التشريعي البالغة من أصل 132 بينما حصلت حركة فتح على 43 مقعداً، والجبهة الشعبية على ثلاثة مقاعد. يعود فوز حركة حماس إلى عدة أساب أبرزها: أولاً: ضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وعدم فعاليتها في تخفيف ظلم الاحتلال الإسرائيلي، وفشلها في بذل أي جهد لوقف نمو المستوطنات. بحلول عام 2006، زاد عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى ما يزيد عن 260 ألف. وعلى النقيض من منظمة التحرير الفلسطينية، كان يُنظر إلى حماس باعتبارها قوة ضد المستوطنين وباعتبارها أثرت على القرار الإسرائيلي بالانسحاب من غزة في عام 2005. ثانياً: خلقت السلطة الفلسطينية سمعة سلبية لنفسها بسبب الفساد والمحسوبية، وعلى النقيض من حماس التي طورت سمعة من الصدق والنزاهة. ثالثاً: قيام حماس ببناء أساس متين من الثقة المتبادلة بينها وبين فئات عديدة من الشعب الفلسطيني. لقد كان من الممكن أن يؤدي هذا إلى إحداث تغييرات إيجابية في حياة الفلسطينيين من خلال تشغيل برامج اجتماعية مثل المساجد، والمدارس، ومطاعم الحساء، والعيادات. وبحلول الوقت الذي نشطت فيه حماس، كانت الصهيونية الدينية اليمينية حاضرة بقوة وبشكل كامل على الجانب الإسرائيلي، ترتكب أشنع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وتدعو إلى إبادته. كان الصهاينة المتدينون المتطرفون ينظرون إلى اللجوء إلى العنف على أنه مبرر أخلاقياً. ويعتقد قادتهم أن الله يؤيد أجندتهم الوطنية، وأن الله أعطاهم كل أراضي المنطقة، وأن الله يريد أن يؤمنوا الأرض ودولتهم من خلال جميع الوسائل بما في ذلك القوة المميتة والعنف. مثل هذه الافتراضات في السرديات القومية الصهيونية جعلت من السهل نزع الصفة الإنسانية عن 'الآخر' وتبرير قتله. دور الدين في إسرائيل ـ الأيديولوجية الصهيونية الدينية يعتبر الفصيل اليهودي الأرثوذكسي الجماعة الدينية الأصولية في إسرائيل. وداخل مجموعة اليهود الأرثوذكس، هناك ما يسمى بالصهاينة. لا تمتلك الصهيونية أيديولوجية موحدة، ولكنها تطورت من خلال التفاعل بين عدد كبير من الأيديولوجيات، إحداها الصهيونية الدينية. فقبل تأسيس دولة إسرائيل، كان الصهاينة الدينيون في الأساس يهوداً ملتزمين (يهود يلتزمون بقواعد وأهداف التوراة) الذين دعموا الجهود الصهيونية لبناء دولة يهودية في فلسطين. تركزت هذه الأهداف أولاً على إنشاء دولة يهودية في عام 1948 تم استخدام الحجج التاريخية واللاهوتية والوطنية والوجودية والسياسية والمجتمعية والثقافية لتبرير هذه الأهداف، وتبرير احتلالها لفلسطين وطرد سكانها العرب الأصليين. الأرض كانت ولا زالت هي محور الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهي قضية مهمة للغاية لدرجة أن الهيئات الدولية تناولتها. حيث يعتبر المجتمع الدولي المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي التي تحتلها إسرائيل غير قانونية بموجب القانون الدولي، وذلك بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وبموجب الشرعية الدولية أيضاً. ومع ذلك، ففي نظر القوميين المتدينين الصهاينة، فإن التفسيرات الدينية تتجاوز القانون الدولي. إن وجهات النظر من المنظور الصهيوني الديني تلعب دوراً هاماً في التعامل مع الحقوق الإقليمية في المنطقة، وخاصة من جانب الشخصيات الصهيونية السياسية. ومن الأمثلة على ذلك 'مائير كاهانا' Meir Kahane الحاخام الإسرائيلي الأمريكي الأرثوذكسي، والسياسي القومي المتطرف، ومؤسس حزب «كاخ» اليميني المتطرف الذي طالب برنامجه بضم جميع الأراضي المحتلة وتهجير الفلسطينيين قسراً. وكان كاهانا أيضاً حاخاماً أرثوذكسياً مُرسَماً، دعا إلى تفجير المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل الثالث. وشغل أيضاً منصب عضو في الكنيست الإسرائيلي. وكان جزء كبير من أيديولوجية كاهانا هو أن إسرائيل لا ينبغي لها أبداً أن تبدأ حرباً من أجل الأراضي، ولكن إذا شُنت حرب ضد إسرائيل، فيجب ضم الأراضي التوراتية. كما عرّف كاهانا الأراضي التوراتية بأنها الحدود الجنوبية التي تصل إلى العريش (أكبر مدينة في شبه جزيرة سيناء)، والتي تضم كل شمال سيناء. وإلى الشرق، تمتد الحدود على طول الجزء الغربي من الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومن ثم فهي جزء مما يُعرف الآن بالأردن. كما تشمل أرض إسرائيل جزءًا من لبنان وأجزاء معينة من سوريا وجزءًا من العراق، وصولاً إلى نهر دجلة. كما ذكر كاهانا أن 'المعجزات لا تحدث من تلقاء نفسها'. لقد شعر أن الطريقة الوحيدة لعودة المسيح هي عندما يخلق اليهود الظروف السياسية المناسبة. مثال آخر يمثله الصهيوني المتطرف 'بتسلئيل سموتريتش' Bezalel Smotrich الذي يحفل سجله بالتصريحات المتطرفة والعنصرية التي يتماهى فيها مع الإرهاب اليهودي وأعمال العنف التي تقوم بها عصابات المستوطنين المتطرفين مثل 'شبيبة التلال' و'تدفيع الثمن'. سموتريتش من أصل أوكراني ترعرع في المستوطنات وفضل تعلم التوراة على الخدمة في الجيش، الذي التحق به في سن متأخرة وخدم فيه مدة 16 شهرا فقط. مواقف سموتريتش وتصريحاته العنصرية كثيرة جداً، ولكن ربما من أبرزها اعتباره في العام 2015 أن إحراق ثلاثة أشخاص من عائلة دوابشة حتى الموت من قبل مستوطنين يهود 'لا يعد عملا إرهابيا' وأن الإرهاب هو 'العنف الذي يوجه إلى اليهود من قبل العرب فقط'، وهي تصريحات تكررت عند قيام ميليشيات من المستوطنين بإحراق عشرات المنازل والمركبات والمحال التجارية في قرية حوارة التي دعا إلى 'محوها'. ومنذ أن أصبح وزيراً للمالية في حكومة 'بنيامين نتنياهو' شنّ حرب الاستيطان على الشعب الفلسطيني. فقد شرع بتنفيذ خطط ابتلاع 60% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، تنفيذًا لوعده بالقضاء على حل الدولتين وتوافقاً مع عقيدة 'إسرائيل الكبرى' التوسعية، كما يُطلَق عليها. وفي أكثر من مناسبة، لوّح سموتريتش بتوسيع الاستيطان، حتى إنّه رسم معادلة قوامها إقامة مستوطنة جديدة باسم كل دولة تعترف بشكل أحادي بالدولة الفلسطينية، بل إنّه يقول إنّ مهمّة حياته هي 'إحباط إقامة دولة فلسطينية'. وهناك مثال آخر على هو وزير الأمن القومي الصهيوني المتطرف 'إيتمار بن غفير' Itamar Ben-Gvir الذي أوعز لأجهزة الجيش والشرطة بكف يدها عن عنف المستوطنين الذين شنوا مئات الهجمات ضد الفلسطينيين للاستيلاء على أراضيهم ومزارعهم. أسس حركة 'العظمة اليهودية' (عوتسما يهودت)، وأصبح عضوًا في الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي عام 2021. وينحدر بن غفيرلوالدين من جذور عراقية كردية. ويستمد أفكاره المتشددة من الحاخام مائير كاهانا، مؤسس حركة 'كاخ' الذي فاز بمقعد في الكنيست الإسرائيلي عام 1984، قبل أن تُصنف حركته 'إرهابية وفاشية. وصفت صحيفة هآرتس العبرية فوزه مع حزبه في انتخابات الكنيست عام 2022 بأنه 'اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل'. ينتمي بن غفير لليمين المتطرف، الذي يرى أن إسرائيل دولة يهودية قومية وصهيونية، ويناهض تأسيس دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ويدعم عنف المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، ويدعو إلى الطرد القسري للمواطنين العرب 'غير الموالين' من البلاد، وفق 'تايمز أوف إسرائيل'، مما جعله صاحب شعبية كاسحة. أما أدبيات حزب الليكود الإسرائيلي فتتضمن 'إن حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل أبدي ولا جدال فيه ويرتبط بالحق في الأمن والسلام؛ وبالتالي، لن يتم تسليم يهودا والسامرة إلى أي إدارة أجنبية. وبين البحر والأردن لن تكون هناك سوى السيادة الإسرائيلية'. تغلغل التطرف الديني وفقًا للمنظور الصهيوني الديني، فقد عهد الله بالأرض (الأرض التوراتية) إلى الشعب اليهودي وأنه لم تكن هناك دولة فلسطينية قط. وبدلاً من ذلك، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يعيشون على أرض ليست لهم. ويتمثل طموح القوميين المتدينين في تحقيق إقامة 'إسرائيل الكبرى'. ويتطلب تفسيرهم الديني توسيع الحدود الحالية لإسرائيل أكثر فأكثر. وينضم عدد متزايد من اليهود المتدينين إلى جيش الدفاع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة، بحيث أن التغيير الأكثر أهمية الذي شهده جيش الاحتلال الإسرائيلي هو عمل الدين داخل ثقافته المؤسسية. إن الزعماء والقادة الدينيين الصهاينة المتطرفين قد أدخلوا أنفسهم في الجيش كلاعبين رئيسيين. وقد احتل هؤلاء محل القادة العلمانيين في الجيش، وينتقلون إلى مناصب أعلى وأكثر قوة. وكلما ارتفعت أصواتهم، كلما كان تأثير الدين على جيش الدفاع الإسرائيلي أكبر. وهذا يعني ضمناً أن الجيش الإسرائيلي يعمل كشريك للتأثيرات الدينية في استخدامه للقوة والعنف في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. لقد نشأت القومية الدينية الصهيونية من عدم الرضا عن هيمنة الثقافة الغربية الحديثة، والتي يبدو أنها تسير بالتوازي مع القومية العلمانية الإسرائيلية. وما اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي 'إسحاق رابين' Yitzhak Rabin عام 1995إلا مثال مهم على قوة هذه الجماعات. فقد اغتيل رابين على يد طالب لاهوتي يهودي شاب يدعى 'ييجال أمير' Yigal Amir الذي ادعى أنه تصرف بناءً على أوامر الله. وقال: 'كل ما فعلته، فعلته لمجد الله'. ادعى أمير أنه كان في سلام وأنه شعر بأنه طبيعي. زعم أمير أن مقتل رابين كان أمراً يستحق الثناء وفقاً لقراءات الشريعة الدينية. وقد زعم أن أحد هذه القوانين يسمح بقتل أولئك الذين يمكنهم تدمير الأمة.

ويليام دو بوا.. إعادة بناء الهوية الاجتماعية للأمريكيين الأفارقة
ويليام دو بوا.. إعادة بناء الهوية الاجتماعية للأمريكيين الأفارقة

سواليف احمد الزعبي

time٢٠-٠٣-٢٠٢٥

  • سياسة
  • سواليف احمد الزعبي

ويليام دو بوا.. إعادة بناء الهوية الاجتماعية للأمريكيين الأفارقة

#ويليام_دو_بوا.. إعادة بناء #الهوية_الاجتماعية للأمريكيين الأفارقة الدكتور #حسن_العاصي أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا كانت الفترة الممتدة من عام 1918 إلى عام 1928 فترة أزمات واضطرابات اجتماعية مفاجئة في الولايات المتحدة، حيث لم يتمكن سوى القليل من الهروب من المفارقات المؤلمة التي رافقت العصر الجديد. لا شك أن هذه السنوات من المعاناة التي عاشها البيض والأميركيون من أصل أفريقي على حد سواء كانت أشد وطأة على الأميركيين السود. وعلى أية حال، لم يدخر زعيمها 'ويليام إدوارد بورغاردت دو بوا' William Edward Burghardt Du Boisأي جهد في اقتراح رؤية جديدة للعالم على شعبه، والتي كانت تتمثل في الالتزام دون تحفظ بإعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي لفترة ما بعد الحرب. وُلِد وليام دو بوا في 23 فبراير 1868 في 'جريت بارينغتون' Great Barrington,وهي بلدة صغيرة في غرب 'ماساتشوستس' Massachusetts ولذلك لم يشهد دو بوا أهوال العبودية. كان جده لأبيه هوغونوتيًا' huguenot من أصل 'فلاندرز،' Flandres هاجر إلى أمريكا الشمالية عبر هولندا وجزر الأنتيل في بداية القرن الثامن عشر. لا يقدم دو بوا الكثير من التفاصيل حول هذا الفرع من شجرة عائلته. ومن ناحية أخرى، فإنه يعطينا الكثير من المعلومات عن الفرع الأمومي، عائلة 'بورغاردت' Burghardt. وصل هؤلاء إلى غريت بارينغتون في القرن الثامن عشر، ومثل البيض، اندمجوا مع تقاليد المدينة وتاريخها. وفي الأمور الدينية، كانوا أحياناً من الأسقفيين، وأحياناً أخرى من الطائفة الكنسية. لم يكن آل بورغاردت أغنياء جداً. ومع ذلك، كانوا يمتلكون منازلهم وبعض الأفدنة من الأراضي الصالحة للزراعة. لقد عرفوا الحياة المنزلية والفقر أحياناً. وكان الجد، ' أوتو بول بورغاردت' Otto Paul Burghardt قد حصل على حريته وحريه نسله كمكافأة على شجاعته خلال حرب الاستقلال. باختصار، نشأ ويليام الصغير على الجانب المشرق من الفقر. لقد نشأ في مجتمع متسامح ومتكامل نسبياً. بعد إكماله للدراسات العليا في جامعة فريدريش فيلهلم Friedrich Wilhelm University في برلين وجامعة هارفارد Harvard University، حيث كان أول أمريكي من أصل أفريقي يحصل على درجة الدكتوراه، برز دو بوا على المستوى الوطني كزعيم لحركة نياجرا، وهي مجموعة من نشطاء الحقوق المدنية السود الذين يسعون إلى المساواة في الحقوق. عارض دو بوا وأنصاره تسوية أتلانتا. وبدلاً من ذلك، أصر دو بوا على الحقوق المدنية الكاملة والتمثيل السياسي المتزايد، والذي كان يعتقد أنه سيتم تحقيقه من قبل النخبة الفكرية الأمريكية من أصل أفريقي. وأشار إلى هذه المجموعة باسم العُشر الموهوب، وهو مفهوم تحت مظلة الارتقاء العنصري، وكان يعتقد أن الأمريكيين من أصل أفريقي يحتاجون إلى فرص التعليم المتقدم لتطوير قيادتهم. كان دو بوا أحد مؤسسي الجمعية الوطنية لتقدم الملونين (NAACP) في عام 1909. استخدم دو بوا منصبه في NAACP للرد على الحوادث العنصرية. بعد الحرب العالمية الأولى، حضر مؤتمرات عموم إفريقيا، واعتنق الاشتراكية وأصبح أستاذاً في جامعة أتلانتا. بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انخرط في نشاط السلام واستهدفه مكتب التحقيقات الفيدرالي. أمضى السنوات الأخيرة من حياته في غانا وتوفي في أكرا في 27 أغسطس 1963. كان دو بوا مؤلفاً غزير الإنتاج. استهدف دو بوا في المقام الأول العنصرية بكتاباته، التي احتجت بشدة على الإعدام خارج نطاق القانون وقوانين جيم كرو والتمييز العنصري في المؤسسات الاجتماعية المهمة. شملت قضيته الأشخاص الملونين في كل مكان، وخاصة الأفارقة والآسيويين في المستعمرات. كان من دعاة الوحدة الأفريقية وساعد في تنظيم العديد من اجتماعات المؤتمر الوطني الأفريقي للقتال من أجل استقلال المستعمرات الأفريقية عن القوى الأوروبية. قام دو بوا بعدة رحلات إلى أوروبا وأفريقيا وآسيا. تعد مجموعة مقالاته، أرواح السود، عملاً رائداً في الأدب الأفريقي الأمريكي؛ وتحدى عمله الضخم عام 1935، إعادة الإعمار الأسود في أمريكا، العقيدة السائدة القائلة بأن السود مسؤولون عن إخفاقات عصر إعادة الإعمار. استعار دو بوا عبارة من الأكاديمي والناشط الأمريكي من أصل أفريقي 'فريدريك دوغلاس' Frederick Douglass وروج لاستخدام مصطلح خط اللون لتمثيل الظلم المتمثل في مبدأ الفصل، ولكن المساواة السائد في الحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية. تعتبر سيرته الذاتية عام 1940 ' شفق الفجر' Dusk of Dawn جزئياً واحدة من أولى الرسائل العلمية في مجال علم الاجتماع الأمريكي. بصفته محرراً لمجلة ' الأزمة' The Crisis، نشر العديد من المقالات المؤثرة. كان دو بوا يعتقد أن الرأسمالية كانت السبب الرئيسي للعنصرية وكان متعاطفًا مع القضايا الاشتراكية. نشأ في ظل تقاليد وعادات القرن التاسع عشر. ومن غير الضروري أن نقول، إذن، إنه وفقاً للأخلاق البروتستانتية، لم يكن التركيز فقط على العمل، مصدر الثروة وعدو الرذيلة، بل أيضاً على الاقتصاد والاستقامة الأخلاقية. ولهذا السبب ظل دو بوا متمسكاً بأخلاقيات العمل هذه، وبفضلها حصل على تعليم رائع من مدرسة غريت بارينغتون الثانوية إلى جامعات فيسك وبرلين وهارفارد، حيث تخرج منها بدرجة الدكتوراه في علم الاجتماع. كان بإمكان دو بوا أن ينغمس في السعي وراء روعة مادية معينة ويحظى بتصفيق الأقوياء في عصره. وعلى الرغم من أنه كان يشعر بأنه سيحصل على عائد كبير من بيع عبقريته، إلا أنه اختار الاستقرار في الجنوب حيث تعيش الغالبية العظمى من السود، حيث يتعرضون للمضايقات والإذلال اليومي. وعلى النقيض من البرجوازية السوداء التي انفصلت عن الجماهير على أمل الاندماج مع البيض، مهما كان الثمن، كان دو بوا ينوي الذهاب ضد التيار. كان يعتقد أن 'العُشر الموهوبين'، النخبة السوداء، يجب أن تستخدم مزاياها (المكانة الاجتماعية، والهيبة الفكرية، وما إلى ذلك) من أجل تقدم الجماهير من ناحية، ومن ناحية أخرى، تقديم دليل، في نظر البيض، على ما كان الأميركيون من أصل أفريقي قادرين على فعله، إذا أتيحت لهم الفرصة فقط. وبالإضافة إلى ذلك، قبل أن يصبح علم الاجتماع علما حقيقياً، كان قد بدأ بالفعل في تطهير مجال الدراسات الاجتماعية حول السود. ويشكل عمله بشأن صحتهم، وتعليمهم، ومهنهم، وظروفهم الحضرية، ودينهم مرجعاً لا يقدر بثمن. إطلاق حركة نياغرا كرّس دو بوا حياته كلها لخدمة زملائه الأمريكيين من أصل أفريقي. لقد دافع عنهم ضد منتجي الأساطير حول السود، وسعى إلى الحقائق الأساسية من خلال أبحاثه، ولكن أيضاً وقبل كل شيء، لم يتوقف أبداً عن المطالبة بالحقوق المستحقة لهذا الشعب. لكن البحث العلمي، حتى الأقل إثارة للجدل، يتقدم دائماً ببطء. فماذا يمكننا أن نقول إذن عن تأثيرها على عامة الناس! كلما شاهد عاجزاً الفظائع التي ترتكب ضد السود، زاد شكه في دوره كباحث. ورغم أنه استند إلى الضمير المسيحي لدى البيض، فإن القوى المؤيدة للفصل العنصري ظلت عنيدة. وبعد أن سئم من التسول، قرر دو بوا انتزاع هذه الحقوق. ولتحقيق هذه الغاية، أطلق 'حركة نياغرا' Niagara Movement لإعادة إطلاق مطالبه بلا هوادة، حتى لو كان ذلك يعني إهانة الضمير الأمريكي. في عام 1910، انضم دبليو إي بي إلى البيض الليبراليين، ورثة إلغاء العبودية في الماضي، لتأسيس الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين (NAACP)، وهي جمعية صديقة للإعلام وقانونية، وفوق كل ذلك تحظى بشعبية كبيرة، لأن التغيرات الاجتماعية لا يمكن أن تحدث إلا تحت ضغط حركة جماهيرية كبيرة. وناشد السلطات العسكرية استدعاء الأمريكيين من أصل أفريقي للخدمة العسكرية. كل هذا يتعارض مع قناعاته الشخصية، وهي معاداة العسكرة والسلمية. ولكن في حرب يقال إنها يجب أن تحافظ على المثل الديمقراطية في العالم، يرى دو بوا أنه من المناسب السماح للشباب السود بالذهاب والقتال إلى جانب البيض، لأنه بعد ذلك لن يكون شيء كما كان، وسوف يحصل الأميركيون من أصل أفريقي بالتأكيد على عوائد وطنيتهم. مع الهدنة يأتي الإحباط بالنسبة للبعض، واللجوء الحتمي إلى العمل بالنسبة للآخرين. خلال العقد 1918-1928، حاول العالم أجمع التعافي من كارثة الحرب. ولا تبتعد أميركا كثيراً عن الركب، فهي تسعى إلى استعادة الرخاء، وأحياناً إلى إعادة اكتشاف قيم نفس النوع من العالم الذي كاد أن يغرق نفسه بنفسه. لكن الكارثة أكبر وأعمق مما يظن البعض. ومن المهم، قبل كل شيء، إعادة النظر في الأسس الاقتصادية للحضارة، وإعادة بناء ملاذ جديد للحرية والإبداع للإنسان. إن الركود الذي حدث في نهاية هذه السنوات المضطربة لا يؤكد إلا مدى الضيق الاجتماعي. تغيير أساليب النضال وبعيداً عن هذه الاعتبارات العامة، أصبح دو بوا الزعيم الوحيد المعترف به للسود منذ وفاة خصمه الأيديولوجي، 'بوكر تي واشنطن' Booker T. Washington في عام 1915. تقع عليه مسؤولية مسح الأفق، واستكشاف التضاريس من أجل اكتشاف مسار جديد. الملاحظة واضحة: 'يتعين علينا أن نأخذ زمام المبادرة ونضع الأهداف بما يتفق مع الظروف الجديدة التي يفرضها العالم الناشئ'. بالنسبة له، لم يعد الأمر يتعلق بالشعارات القديمة للديمقراطية في عالم 'أوليغاركي' Oligarchyـ أي حكم الأقلية. المشكلة اقتصادية أكثر منها سياسية. لذلك فإن الأمر لا يتعلق بتغيير الهدف، بل بتغيير أسلوب النضال. ولكن في حين تكافح أميركا لإعادة اقتصادها إلى مساره الصحيح، وفي حين ينشغل الصناعيون في الاستجابة للتحديات الجديدة، وفي حين يخرج النقابيون من أدراجهم المظالم التي لم يجرؤوا على تقديمها أثناء الحرب، وفي حين يستعد الساسة أخيراً لبدء الحملة الرئاسية لعام 1920، فإن الزعماء السود، بقيادة دو بوا، لا يبقون سلبيين. ولا ينوون العودة إلى الوضع الذي كان سائدا في بداية القرن. في الواقع، إذا كانت أمريكا قد خاضت الحرب لإنقاذ الديمقراطية على هذا الكوكب، فإن السود يعتزمون في النهاية أن يعيشوا ديمقراطياً. لم يعد لديهم الرغبة في الاكتفاء بالفتات بينما يستمتع الآخرون بالطعام. في مقالته الافتتاحية في مجلة أزمة مايو/أيار 1919، جعل دو بوا نفسه بالفعل المتحدث باسم الجنود السود، وبالتالي باسم أميركا السوداء ككل. وإذا كان دو بوا يكرر من خلال هذه العبارات سعيه الحثيث للحصول على 'جزء بسيط من الكعكة الوطنية' لشعبه، فإنه مع ذلك يثير بعض المخاوف، ومن السهل أن نستنتج السبب وراء هذه المخاوف. هناك قوى كثيرة، كلها معادية لتقدم الزنجي الأمريكي، تعمل على حرمانه من فوائد الديمقراطية. وكان من المعروف أنه بمجرد عودة السلام، فإن المواطن الأمريكي من أصل أفريقي سوف يجد صعوبة في قبول مكانه السابق: مواطن من الدرجة الثانية. لكن قوى العنصرية نظمت نفسها لإجباره على القيام بذلك. يتضح هذا من خلال عمليات الإعدام خارج نطاق القانون العديدة، والتي كان معظمها من تدبير جماعة 'كو كلوكس كلان' Ku Klux Klan. تم إعدام سبعة وسبعين من السود، من بينهم اثنا عشر مقاتلاً كانوا لا يزالون يرتدون ملابسهم العسكرية. تمت تسمية صيف عام 1919 في الكتب باسم 'الصيف الأحمر'. 'في ذلك الصيف، كانت هناك العديد من أعمال الشغب العنصرية الدموية، وكان أعنفها في إلينوي ونبراسكا وتكساس وأركنساس ومدينة نيويورك وحتى واشنطن العاصمة. كل هذا العنف الذي ميز فترة ما بعد الحرب كان سبباً في صدمة الأميركيين السود. تراكمت لديهم مشاعر التمرد والكراهية أيضاً. أصبح الأميركيون من أصل أفريقي يشعرون بالاستياء بشكل متزايد بسبب الحكم عليهم بأنهم لا يستحقون أميركا التي شعروا أنهم بنوها بعرقهم ودمائهم. إن كل الجهود التي بذلوها طوعاً أو كرهاً أثناء الصراع العالمي لم تحقق لهم حتى بداية المكافأة المتوقعة. بالنسبة لهم، كانت كلمة الديمقراطية تحمل صدى كاذباً، وطعماً مرا، لأن الحلم الذي طالما راودهم، والذي كانوا يأملون بشدة أن يتحقق، تحول بشكل لا رجعة فيه إلى كابوس. يستحضر الشاعر والروائي الأمريكي الأسود 'لانغستون هيوز' Langston Hughes هذا الحلم في سلسلة من القصائد التي كتبها عن 'هارلم' Haarlem وسكانها خلال عصر النهضة السوداء. في البداية، كان الأمر أشبه بالنشوة التي تتناسب مع الأمل الذي حرك السود عندما وصلوا بأعداد كبيرة إلى هارلم، وكانوا جميعا يحلمون بغد أفضل. كان هذا الحلم مشابهًا للحلم الذي جعل السود يتجاوزون أنفسهم في ساحات القتال. لقد كان الإحباط هائلا. وفقاً لـ 'دو بوا' إن الضباط البيض قضوا وقتاً أطول في مضايقة الجنود السود مقارنة بقتال الألمان. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ومن المنطقي أن تكون نهاية الحرب في أوروبا إيذاناً ببداية أعمال عدائية جديدة، وهذه المرة أميركية-أميركية. اكتفى بعضهم بالحرب الفكرية، وخاض آخرون حرباً جسدية، بل إن بعضهم انخرط في الحربين في نفس الوقت. من جانبه، حاول لانغستون هيوز أن يفهم أسباب كل هذا الاضطراب: فسأل: ماذا يحدث للحلم الذي يتم تأجيله؟ هل يجف مثل الزبيب في الشمس أم ينفجر مثل الحمل الثقيل؟ بالنسبة للعديد من الأميركيين السود، فإن هذا الحلم المؤجل قد جف تماماً. لقد فقدوا الثقة في بلدهم، ومن استطاعوا فضلوا طريق المنفى. بالنسبة للغالبية العظمى من الأميركيين من أصل أفريقي، تفكك هذا الحلم المخيب للآمال بعنف، لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل الظلم تلو الظلم. لم يعد بإمكانهم الانتظار، خاصة وأن لديهم هم أيضاً فكرتهم الخاصة عن الحلم الأمريكي. لقد أدركوا أن أميركا تتمتع بسمعة طيبة باعتبارها مهد الحرية، وأن علمها لا يرمز إلى المساواة للجميع فحسب، بل كان من المفترض أن يضمن الحماية والازدهار وحرية التعبير للجميع. ولذلك كان السود حريصين على معرفة أسباب استبعادهم. نجحت الصحافة الأمريكية خلال تلك الفترة المضطربة، في إعطاء الزنجي صورة المحرض المثير للفتنة، وحتى المهدِّد. وكان لهذه الدعاية الضارة أثرها في الحفاظ على شعور قوي بعدم الثقة والعداء بين الرجال الأبيض. ومن ناحية أخرى، كانت المنافسة الاقتصادية بمثابة حافز قوي. أثناء الحرب، تمكن العديد من السود من الحصول على وظائف في مصانع الصلب في الشمال. وعندما عاد المقاتلون البيض من الجبهة، كانوا ينوون العودة إلى مواقعهم بأي وسيلة، بما في ذلك العنف، وبالتالي خلقوا التوترات. وعلاوة على ذلك، لم يكن الجنوب يتقبل على الإطلاق حقيقة أن قوته العاملة الرخيصة والقابلة للاستغلال كانت تتخلى عنه. كان عليه، بطريقة ما، أن يلاحق 'الهاربين' وينتقم منهم. وأخيراً، عاد الجندي الأبيض من أوروبا وانقلب على نظيره الأسود، ويرجع ذلك جزئياً إلى شجاعة الأخير في القتال، ولكن الأهم من ذلك بسبب الحرية النسبية التي تمتع بها في فرنسا. وقد اعتنق العديد من السود على الفور نظرية الدفاع عن النفس، ولا سيما الآلاف من المقاتلين الذين تم تسريحهم مؤخراً. لقد أطلقت الحرب في نفوسهم غرائز العنف والانتقام الكامنة. أولئك الذين ربما لم يلمسوا سلاحاً نارياً قط قبل الصراع، أصبحوا الآن يعرفون كيفية استخدامه. لكن كانت هناك فرص كثيرة للجوء إلى العنف في ظل حالة التوتر السائدة في تلك اللحظة. ولهذه الأسباب كلها، لم يعد السود يرغبون في المعاناة. لقد أصبح الأمر مسألة شرف بقدر ما أصبح مسألة بقاء. في الواقع، وكما زعم دو بوا، لا يمكن لأي شعب أن ينخرط إلى ما لا نهاية في المقاومة السلبية؛ إنها مسألة تتعلق بتقدير الذات. لقد فهم العديد من الأمريكيين من أصل أفريقي هذا الأمر. وانضم صوت دو بوا المدافع عن الدفاع عن النفس إلى صوت مثقفين آخرين في عشرينيات القرن العشرين. وربما كان الأكثر شهرة هو 'كلود ماكاي' Claude McKay أحد الممثلين البارزين لنهضة هارلم. كان كلود ماكاي شاعراً وروائياً من أصل جامايكي، وكان مهتماً في المقام الأول بالتحرر الروحي للسود. ولكنه لم يفلت من المزاج الكئيب والانتقامي الذي ساد في فترة ما بعد الحرب. وفي قصيدة بعنوان 'إذا كان لا بد لنا من الموت'، عبّر بشكل دراماتيكي عن عذابه، ودعا إلى العنف كملاذ أخير. ونصح السود بأن يكونوا شجعاناً، وأن يبيعوا جلودهم بأبخس الأثمان، وإذا كان لا بد أن يموتوا، فليموتوا بنبل، حتى يضطر قاتلوهم إلى الانحناء أمام رفاتهم. الوحدة السوداء العالمية حول إفريقيا القوية كيف يمكننا أن نتحدث عن العقد 1918-1928 دون أن نذكر هذا الجامايكي الآخر 'ماركوس غارفي' Marcus Garvey الأسود والفخور بوضوح بذلك، والذي حاول بطريقته الخاصة مساعدة السود على تجاوز هذا العقد المضطرب. وصل إلى الولايات المتحدة في عام 1915، وفي وقت قياسي، قام بقياس درجة حرارة الأحياء الفقيرة لإنشاء 'حركة العودة إلى أفريقيا' Back to Africa Movement. وبهذا استغل غارفي بمهارة الهشاشة النفسية للسود في أميركا الناجمة عن فشل التطلعات المشروعة. لا شك أن هذا الفشل كان بمثابة السماد الأساسي لازدهار القومية الأيديولوجية والأسطورية التي زرعها غارفي. كان يحلم بتعزيز الوحدة السوداء العالمية حول إفريقيا القوية، القوية إلى الحد الذي يجعل الشتات الأسود فخوراً بها ولا يشعر بالخجل من المطالبة بها. وفي هذا الصدد، يتداخل تفكيره مع تفكير دو بوا: 'إن أفريقيا الموحدة، وبالتالي القوية، سوف تشكل حماية ونقطة مرجعية للشتات، أينما كان، في العالم الأبيض'. لكن هذا التقارب في وجهات النظر ينتهي به الأمر إلى التلاشي في مواجهة الاختلاف في أساليبهم. لقد استخدم غارفي خطاباً مباشراً وبسيطًا وشعبوياً، ولكنه كان أكثر تطرفاً من خطاب دو بوا. لقد أجاب، دون أي التفاف، على الأسئلة العديدة التي طرحها ملايين السود من ذوي التعليم الضعيف، والذين، نتيجة لذلك، لم يتمكنوا من متابعة الخطاب الفكري الذي طرحه دو بوا المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع. وكان العديد من الحشود المتعطشة للكرامة تحب أن تسمع غارفي وهو يوبخ الغرب. وفي بحثهم عن زعيم في متناول أيديهم، أشادوا به بشكل خاص عندما أعلن نفسه 'رئيساً أفريقياً في المنفى'، و'تنين النيل' Nile Dragon، و'دوق النيجر' Duke of Niger، والعديد من المصطلحات الفخمة الأخرى التي أذهلت عامة الناس، لكنها أساءت إليهم. ومن الواضح أن جارفي ودو بوا كانا يقدمان نفس المقترحات إلى السود في أميركا الشمالية: بما أن أميركا البيضاء تضطهدكم، اتحدوا لتكونوا أقوى؛ كونوا شعباً حقيقياً، واعتمدوا على أنفسكم، ولا تخجلوا من أصولكم الأفريقية. لم تختلف إلا الأساليب. كان دو بوا يعتمد على منظمة قانونية، وهي الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، والتي كان هدفها استخدام كل الوسائل القانونية الممكنة لضمان اندماج الأميركيين السود في الأسرة الأميركية الكبرى. ولذلك لم يكن بوسعه أن يدافع عن الانفصالية مثل غارفي، ولا أن يستخدم أساليب كاريكاتورية تتعارض مع مزاجه. ومع ذلك، في الفترة ما بين عامي 1918 و1928 كان دو بوا في قرارة نفسه انفصالياً أكثر منه قانونياً. ولكنه كان يدرك أيضاً أن منظمته فازت في معارك عديدة ضد الفصل العنصري في المحاكم. وكان هناك أمل، حتى وإن كانت هذه الانتصارات رمزية في نظر الجماهير السوداء قبل كل شيء، وبالتالي لم تغير حياتهم اليومية بأي شكل من الأشكال. لكن غارفي تحدث بشكل مباشر عن الاحتياجات الحقيقية للشعب. أخبرهم بما يجب أن يفعلوه للهروب من التمييز والفقر والمواطنة من الدرجة الثانية. لذلك كان يعرف كيف يخبرهم بما يريدون سماعه. علاوة على ذلك، كان يمارس الخطابة الرنانة، ولم يكن يميل إلى الانغماس في الخطابات المجردة حول الحرية أو العدالة الاجتماعية. إلى أي مدى كان غارفي ليذهب في أحلامه المجنونة وشعبويته؟ لا أحد يستطيع أن يقول ذلك، خاصة أنه تمت إدانته في عام 1924 بتهمة الاحتيال في استخدام مؤسسة البريد. وفي عام 1927 صدر عفو عنه ثم رُحِّل إلى جامايكا، وبذلك تخلى عن الجماهير السوداء في أميركا، تاركاً خلفه وعوداً لم يكن من الممكن أن تتحقق. الوعي بالمشكلة العنصرية كان ظهور جارفي مجرد حلقة واحدة في تلك السنوات المضطربة. تميز العقد 1918-1928 أيضًا بوفرة فنية، كانت مكثفة ومعبرة للغاية إلى درجة أن المرء قد ينسى طوعاً كل العنف، وكل المذابح، وكل عمليات الإعدام بدون محاكمة، ليتذكر فقط عصر النهضة السوداء. ولأول مرة، تحدث السود عن أنفسهم. لقد أصبحت أميركا، بفضل كتاب بيض مثل 'فرانك تانينباوم' Frank Tannenbaum و'يوجين أونيل' Eugene O'Neill وكثيرين غيرهم، على وعي حقيقي بالمشكلة العنصرية. لقد كانت مستعدة، إذا صح التعبير، لسماع ما سيقوله السود عن هذا الأمر. ولم يتردد هؤلاء، بفضل قوة تراثهم الثقافي، في محاربة العنصريين. وفي الواقع، ظلت الولايات المتحدة بلداً مخصصاً تماماً للبيض. ولم تنجح تنازلات بوكر تي واشنطن ولا احتجاجات دبليو إي بي دو بوا في جعل الرجل الأسود أميركياً كامل الحقوق. إن تراكم المحاولات المتعددة الفاشلة تحول بالتالي إلى فائض من التمرد وحتى من الكبرياء 'المتغطرس' الذي دفع الفنانين السود في العشرينيات إلى التعبير عن مشاعرهم العميقة، دون الأخذ بعين الاعتبار رد فعل البيض، ولا رد فعل عرقهم. وهكذا أصبح حي هارلم بمثابة 'مكة السود'، المكان الذي استيقظت فيه الثقافة السوداء فجأة بكل روعتها، بعد أن كانت خاملة في السابق. إذا كان حي هارلم اليوم يوحي بالعنف والجريمة والبؤس والمخدرات، فإنه كان في عشرينيات القرن العشرين مصدر النضال الأسود، وهو مصدر واضح وشفاف كان الشعراء يشربون منه. هارلم هو الحي السكني في نيويورك الذي أطلق عليه الروائي الأبيض 'كارل فان فيشتن' Carl Van Vechten اسم جنة الزنوج. لقد كان مكان الحلم لكل شاب أسود، غير سعيد بمصيره، يشعر بالمرارة تجاه البيض، ولكن الأهم من ذلك أنه كان راغبًا في الانغماس في تراثه الثقافي دون خوف أو تردد. طوال عقد كامل، كان كل شيء في هارلم إيجابياً. كيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ أليس الصورة الذاتية الإيجابية هي ضمانة جيدة للحصول على فرصة أفضل في الحياة؟ كانت الاهتمامات الرئيسية خلال عصر النهضة السوداء اجتماعية واقتصادية، لكن الاهتمام الاجتماعي كان أكثر أهمية. كان الأمر في الواقع يتعلق بإظهار للناس البيض أن أمريكا السوداء مليئة بالمثقفين ورجال العمل؛ أن أمريكا كانت جميلة، وقبيحة أيضاً. لقد أهملت النهضة كل الاعتبارات الاقتصادية تقريباً، وركزت أنظارها على الثقافة التي كان الرجل الأسود يعتزم من خلالها تأكيد حريته والدفاع عن حقوقه، والتعبير عن نفسه كما هو، وكما كان دائماً. كان هناك عدد كبير من الأشخاص الذين ساعدوا في صعود نهضة الفن والأدب الأسود، وكان ويليام دو بوا أحد شيوخ حركة 'الزنجي الجديد' The New Negro. كان موجوداً على الساحة السياسية والثقافية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فقد شارك بحماس في هذا التخمر للأفكار. كان هو الذي اكتشف معظم أبطال عصر النهضة، وقدم أعمالهم، في لمحة عامة، لقراء مجلته الشهرية 'الأزمة' The crisis. بفضل خبرته وموهبته النقدية، ساعد العديد من الفنانين على تحسين إنتاجهم. حاول أن يشاركنا رؤيته الخاصة للفن باعتباره وسيطاً ثقافياً وعاملاً موحداً. وبدا أن 'الزنجي الجديد' نفسه بعيون جديدة، أراد أن يفرض صورته الجديدة على الرجل الأبيض. وبعبارة أخرى، فقد عبر للتو الفجوة النفسية التي كانت تمنعه في السابق من قبول ثقافته، وماضيه كعبد، وأصوله الأفريقية. استيقظ وكأنه استيقظ من نوم طويل حجري، ليدرك أن ماضيه لم يكن يستحق الاهتمام فحسب، بل كان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً أيضاً بماضي الأنجلو ساكسوني. وفي حين كان يشجع الجيل الأصغر سنا على التعبير عن أنفسهم، كان دو بوا يشدد باستمرار على ضرورة تحديد الأهداف وتحقيقها. وفي جوهر الأمر، نصح الجيل الشاب بالدفاع عن التعددية الثقافية بشكل أكثر وضوحا، بدلا من جعل التكامل هو الدواء الشافي. إن التكامل، في حالة الضرورة، للعب دور معترف به ومفيد، قد يكون هدفاً قابلاً للتطبيق. لكن التكامل بأي ثمن مع خطر البقاء كمواطن أميركي من الدرجة الثانية هو الخطأ الذي حذر منه دو بوا الجيل الجديد. لقد كان واضحاً بالنسبة لي أن التحريض ضد التحيز العنصري والاقتصاد المخطط لتحسين الحالة الاقتصادية للزنجي الأمريكي لم يكن قيم متعارضة، بل جزءًا من مثال واحد. لقد كان الفصل العنصري موجوداً وسيبقى لسنوات عديدة. ولكنه أقترح أنه في الولايات المتحدة الاقتصادية، وكما هو الحال في مجالات الأدب والدين، ينبغي التخطيط لعمل موحد وتنظيمه والتفكير فيه بعناية. لن تؤدي هذه الخطة إلى إنشاء نظام فصل عنصري جديد؛ ولم يكن يدعو إلى الفصل العنصري باعتباره الحل النهائي لمشكلة العرق. كان الجيل الجديد من الأمريكيين الأفارقة يشعرون بأنهم أمريكيين بطبيعتهم. لم يتمرد كتاب عصر النهضة على النظام. بل كانوا يحتجون على استغلالها بشكل غير عادل. في حين شعر دو بوا بأنه أمريكي من أصل أفريقي. وكان دو بوا متقدما على عصره. حيث لم يزعم السود في أمريكا الشمالية أنهم أمريكيون من أصل أفريقي حتى ستينيات القرن العشرين، مع إضافة المكون الاقتصادي. الجذر الاقتصادي لقد أصر دو بوا منذ عشرينيات القرن العشرين على أهمية الجانب الاقتصادي في نضاله. ومن الصحيح أنه حتى ذلك الحين كان يركز جهوده فقط على الحقوق المدنية. ولكن بين عامي 1918 و1928 بدأ يصر على ضرورة تطبيق برنامج اقتصادي، كما لو كان ذلك ينذر بكارثة ما. بعد صراع طويل مع بوكر تي واشنطن، الذي كان يعتقد أن قطعة خبز على المائدة أفضل من ورقة اقتراع في اليد، اضطر دو بوا إلى الاعتراف في عشرينيات القرن العشرين بأن مشاكل شعبه لها جذور اقتصادية عميقة. بمجرد أن يتمكن هؤلاء الأشخاص من توفير احتياجاتهم اقتصادياً، فإن عذاباتهم ستنتهي. ومن هنا تأتي الحاجة إلى اقتصاد أمريكي خاص بالسود، ليس بهدف الفصل، ولكن من أجل التكامل بشكل أفضل مع أمريكا البيضاء. كيف يمكن نقل هذه الرؤية الجديدة إلى المثقفين في نهضة هارلم؟ وأوضح دو بوا أن الاقتصاد الأسود الذي يعمل بشكل جيد من شأنه أن يشكل سلاحاً مفضلاً لتحقيق هذا التكامل الشهير على وجه التحديد. ولكنه لم يستطع إقناع أحد. لقد بدأ الزنجي الجديد حملته على أساس تكاملي، وكانت فكرة الاقتصاد الأمريكي الأسود، الذي يعمل على هامش الاقتصاد الأبيض، مساوية للانفصالية. ولم يكن دو بوا انفصالياً في عشرينيات القرن العشرين. في نهاية المطاف، رفض فنانو عصر النهضة الاشتراك في فكرته حول الاقتصاد الأفريقي الأميركي، والذي كان نموذجاً فضفاضاً لـ 'الكولخوزات' kolkhozes و'السوفخوزات' sovkhozes. واليوم، فإن الفحص الهادئ للحركة يسمح لنا بتأكيد أنها كانت رغم ذلك نجاحاً عظيماً. لقد سمح أسلوبه الثوري للسود بإيصال صرخة الألم الخاصة بهم إلى جميع أنحاء العالم. كانت الإشارات إلى الصراع الطبقي والعرقي، معايير أدت إلى توسيع نطاق جمهور النهضة في هارلم. وأدت إلى توليد مشاعر جديدة وإيجابية للغاية بين السود تجاه أنفسهم. كان ويليام إدوارد بورغاردت دو بوا، الزعيم الأميركي الأفريقي المتناقض، المثقف الأسود الوحيد، بين عامي 1918 و1928، الذي أدرك أن أسس العنصرية في الولايات المتحدة كانت متينة للغاية بحيث لا يمكن مهاجمتها بشكل مباشر. لقد كان من الضروري للغاية اتخاذ طريق بديل اقتصادياً. لقد أثبتت الأزمة الاقتصادية التي حدثت عام 1929 أن ويليام دو بوا كان على حق عندما حذر شعبه من أخطار غياب نظام اقتصادي محدد. لكن دو بوا وشعبه كانوا قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة. لقد كانت نهاية حقبة في تاريخ الأمريكيين الأفارقة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store