logo
#

أحدث الأخبار مع #دارالآداب

روايات الشمال
روايات الشمال

المغرب اليوم

time٢٦-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • المغرب اليوم

روايات الشمال

إشتهرت بعض القرى في شمال لبنان بتاريخ طويل من العنف والثأر والموت. وأبرز هذه القرى زغرتا، وبشري، ومزيارة. جميعها تعادت وتعافت وتصالحت، وأعطت أعمالاً روائية جميلة كان موضوعها الرئيسي قصص القتل والانتقام، وارتداء ثوب الحداد الأسود، عاماً بعد آخر. كتّاب هذه القرى جمعت بين أعمالهم رنة المأساة ودقة الواقعية. وكان القاسم الآخر الغربة إلى باريس، والعيش في حياتها الأدبية؛ حيث تماهت لغة الحزن مع لغة العبث. ومن بين هذه المجموعة البارزة الروائية هدى بركات، التي مُنحت أخيراً جائزة، على عملها المؤثر: «هند أو أجمل امرأة في العالم» (دار الآداب). تتبارى الكاتبة مع نفسها، كالعادة، في البحث عن هشاشة الضعف البشري ومرارته. ويبدو أبطالها غالباً وكأنهم شركاء لها، أو شريكة لهم، وليسوا مجرد أشخاص يعبرون من فصل إلى فصل، لغرض روائي أو فني مجرد. يُخيّل إليّ أن هدى عندما تجلس إلى روايتها، تضع أمامها أنها سوف تفوز بجائزة ما. فإن كل هذا الجهد لا يجوز إلاّ أن يُقابل بمكافأة القارئ العادي. واضح أنها تكتب من أجل الآخر، ومن أجل تسجيل النقاط الإبداعية. ليست مسؤولية عادية أن تكون مواطناً شمالياً من بشري، بلدة جبران خليل جبران. والمسؤولية الأخرى أنك من عرب باريس التي هي امتداد للشغف الأدبي بالفرنسية، الذي يبدأ عادة على المقاعد المدرسية، هنا أو هناك. حاصدة جوائز، هدى بركات. من «البوكر» إلى جائزة الشيخ زايد على «هند أو أجمل امرأة في العالم». على أن أعمالها لم تقتصر على الرواية، بل تجاوزتها إلى شتى الحقول في النقد والبحث. جميع أدباء الشمال، إذا صح التعبير، تركوا عملاً روائياً واحداً على الأقل عن المآسي الذاتية التي ضربت أرضهم. من أشهرها «مطر حزيران» للراحل جبور الدويهي، وهي سيناريو كامل عما يُعرف بالمجزرة التي وقعت في إحدى كنائس مزيارة عام 1957.

روايات الشمال
روايات الشمال

الشرق الأوسط

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الشرق الأوسط

روايات الشمال

اشتهرت بعض القرى في شمال لبنان بتاريخ طويل من العنف والثأر والموت. وأبرز هذه القرى زغرتا، وبشري، ومزيارة. جميعها تعادت وتعافت وتصالحت، وأعطت أعمالاً روائية جميلة كان موضوعها الرئيسي قصص القتل والانتقام، وارتداء ثوب الحداد الأسود، عاماً بعد آخر. كتّاب هذه القرى جمعت بين أعمالهم رنة المأساة ودقة الواقعية. وكان القاسم الآخر الغربة إلى باريس، والعيش في حياتها الأدبية؛ حيث تماهت لغة الحزن مع لغة العبث. ومن بين هذه المجموعة البارزة الروائية هدى بركات، التي مُنحت أخيراً جائزة، على عملها المؤثر: «هند أو أجمل امرأة في العالم» (دار الآداب). تتبارى الكاتبة مع نفسها، كالعادة، في البحث عن هشاشة الضعف البشري ومرارته. ويبدو أبطالها غالباً وكأنهم شركاء لها، أو شريكة لهم، وليسوا مجرد أشخاص يعبرون من فصل إلى فصل، لغرض روائي أو فني مجرد. يُخيّل إليّ أن هدى عندما تجلس إلى روايتها، تضع أمامها أنها سوف تفوز بجائزة ما. فإن كل هذا الجهد لا يجوز إلاّ أن يُقابل بمكافأة القارئ العادي. واضح أنها تكتب من أجل الآخر، ومن أجل تسجيل النقاط الإبداعية. ليست مسؤولية عادية أن تكون مواطناً شمالياً من بشري، بلدة جبران خليل جبران. والمسؤولية الأخرى أنك من عرب باريس التي هي امتداد للشغف الأدبي بالفرنسية، الذي يبدأ عادة على المقاعد المدرسية، هنا أو هناك. حاصدة جوائز، هدى بركات. من «البوكر» إلى جائزة الشيخ زايد على «هند أو أجمل امرأة في العالم». على أن أعمالها لم تقتصر على الرواية، بل تجاوزتها إلى شتى الحقول في النقد والبحث. جميع أدباء الشمال، إذا صح التعبير، تركوا عملاً روائياً واحداً على الأقل عن المآسي الذاتية التي ضربت أرضهم. من أشهرها «مطر حزيران» للراحل جبور الدويهي، وهي سيناريو كامل عما يُعرف بالمجزرة التي وقعت في إحدى كنائس مزيارة عام 1957. بالمناسبة، اشتهر أهل الشمال بالكتابات الدرامية، بينما عُرف عن أهل الجنوب (قبل الحرب) السخرية. الآن، وحدت المآسي جميع الجهات.

نجوى بركات تروي تراجيديا الشيخوخة في مرآة الذات المعطوبة
نجوى بركات تروي تراجيديا الشيخوخة في مرآة الذات المعطوبة

Independent عربية

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • Independent عربية

نجوى بركات تروي تراجيديا الشيخوخة في مرآة الذات المعطوبة

في مستهل الفصل الأول من رواية نجوى بركات الجديدة "غيبة مي" (دار الآداب 2025) يسقط على "البطلة" صوت يناديها باسمها، مي، بينما كانت في سريرها بين نوم ويقظة. ترتجف بعد أن يتكرر النداء وتنهض، وفي ظنها أن الصوت يرجع لشخص ولج البيت، فتتصل خائفة بناطور البناية يوسف، فيأتي ويدخل مستخدماً مفتاحه، فيجوب الغرف ويُطمئن السيدة مي، ابنة الرابعة والثمانين، بأن ما من أحد سواهما في الشقة. ظلت مي بعدما استجمعت قواها، تشعر أن ثمة امرأة في صالونها تجلس على الكنبة "ناظرة إليّ وكأنني أنا الكائن الدخيل الغريب الذي لا يفهم سبب وجوده هنا". الرواية الجديدة (دار الآداب) في مثل هذه اللحظات الهاذية تعرب السيدة مي عن حال انفصام غير مرضي في المعنى السيكولوجي، بل يمكن تسميته حال انقسام، بين نفسها ونفسها، أو بحسب عبارة الشاعر رامبو بين "الأنا والآخر" الكامنين فيها، بين مي الماضي ومي الحاضر، مي العجوز ومي الشابة، مي العجوز التي تعيش وحيدة أو شبه وحيدة في شقتها في الطابق التاسع والتي تسميها "الجزيرة المرتفعة"، ومنها ترى العالم الحاضرة فيه والغائبة عنه في آن واحد، وهذا العالم هو بيروت، بمرفأها الذي دمره الانفجار وسطوحها التي استحالت مدينة بائسة بأشكالها النافلة، ومي الشابة التي كانت ممثلة مسرح. عزلة الشيخوخة طيف مي، بل أطيافها الطالعة من ماضييها، القريب والبعيد، أو ذواتها الأخرى، لن تفارقها، تعيش معها في عزلة الشيخوخة هذه، وتخيفها أحياناً، خصوصاً عندما تنبثق الكوابيس. لكنها تبدو بحاجة ماسة إليها، وتحديداً إلى طيف مي الذي لا عمر له هنا، بل له أعمارها السابقة، منذ الطفولة حتى المراهقة والنضج والدخول إلى كلية الفنون والتمثيل والمساكنة البائسة والزواج الذي انتهى إلى بؤس أيضاً. عمدت الروائية نجوى بركات إلى جعل الرواية تدور على لسان البطلة في نوع متفرد من المونولوغ الداخلي الذي يتحول في أحيان إلى ديالوغ متقطع، بين مي الحقيقية ومي الطيف التي تتوجه إليها وفي ظنها أنها تسمع وترد عليها، كأن تناديها مثلاً "مي"، ثم تتحدث معها وكأنها امرأة أخرى. هذا الديالوغ الداخلي المتوهم يتكرر في صفحات عدة من الراوية، انطلاقاً من كونه مونولوغاً داخلياً مقنّعاً يصب في صميم ما يسمى "تيار الوعي الداخلي" الذي تجلى في رواية "أوليس" لجيمس جويس و"السيدة دالوي" لفيرجينيا وولف وسواهما. نجوى بركات توقع إحدى رواياتها (دار الآداب) تسمي مي المرأة التي ترى طيفها "المخلوقة الغريبة" التي لا تدري "من أين نبتت ولا ماذا تريد؟"، لكنها تقرر الرد على نداءاتها التي تتكرر، وفي مثل هذا القرار تختلط مي الحقيقية ومي المتخيلة حتى تصبحا امرأة واحدة تعيش حاضرها وماضيها، بل حتى لتغدو الواحدة قرين الثانية. وتعترف مي الحقيقية أن في زاوية من عقلها تسكن طفلة ساذجة تخلط آثار كوابيسها الليلية بنهاراتها. ولعل أثر الممثلة المسرحية التي كانتها مي في شبابها لا يزال فاعلاً في وجدانها، وهو ما تكشفه نجوى بركات في الفصل او "الشريط" الثاني. ففي شيخوختها تتصرف مي كأنها ممثلة مندمجة في الدور، فتحدث نفسها وتجيبها "كمن يؤدي دوري شخصيتين في آن واحد". وفي مثل هذا اللعب الهاذي، وليس الهذياني المرضي تماماً، تخاطب مي نفسها "أهكذا نسيتني يا مي؟"، أو "كم جميل أن تدخلي في جلد آخر يا مي". وفي أوج العلاقة بينهما تسألها مي: "هل غفوت يا مي؟ منذ ساعات وأنا أحكي...". كائنات الماضي تعي مي أن من تتوهم مشاهدتهم في الصالون هم "من كائنات الماضي التي لا يُومن لها" أو "زوار افتراضيون"، فهي على رغم هلوساتها التي تزداد لاحقاً تخشى من الخرف الذي أصاب جدتها أُمّ أبيها، فصارت "أخرى" بعدما محت ماضيها كله. وتقول: "أتراني بدأت أسمع أصواتاً وأرى أطيافاً مثل مرضى..."، وهي لا تسمي المرض هنا، لكنها تعرفه وهو الخرف. وبعد انتقالها من الأدوية المنبهة، عقب المرض الذي أصابها في ما بعد زواجها، و جعلها تقبع في غيبة دامت سبعة أعوام، إلى المهدئات الطبيعية مثل البابونج واليانسون والقصعين، باتت تدرك أن أضغاث ذكريات قديمة تنبثق من رأسها وتحتل حياتها الضئيلة المحصورة بين بيتها أوشقتها التي تسميها "الجزيرة المرتفعة" في الطابق التاسع، وبين الشرفة التي تشرع أمامها فسحة من الحرية، ومنها تطل على العالم، الحاضرة فيه والغائبة عنه في آن واحد. وهذا العالم هو بيروت بمرفأها الذي دمره الانفجار وسطوحها التي استحالت مدينة بائسة بأشكالها النافلة. شخصية فيدرا في مسرحية فرنسية (صفحة فيسبوك) تدرك مي ما يدور حولها على رغم توهماتها وهذيانها الخفيف المتقطع، الذي يتحول مرضياً لاحقاً، وترى في الصباح العمال الآسيويين القاصدين المدينة الصناعية التي "تهرس عظامهم"، وتسأل ما الذي أتى بهؤلاء إلى هذه البلاد. بل هي على وعي تام بحال الأمن المتفلت وتصر على أنّ لا بد من "أقفال تحمي أقفالاً وبوابات تحمي أبواباً". وتعلم بما يجري من سرقات وأفعال قتل، و"لو من أجل سلسال ذهبي". وذات مرة، عقب انفجار مرفأ بيروت، تخرج برفقة الناطور يوسف، السوري اللاجئ إلى لبنان، إلى منطقة الجميزة لتتفقد آثار انفجار المرفأ فتتأثر، وتصيبها وعكة عابرة لا تلبث أن تنهض منها. تدخل نجوى بركات عالم الشيخوخة من باب شخصيتها مي لتروي المآسي الصغيرة التي تواجهها المرأة في هذا العمر الملتبس، خصوصاً عندما تعيش في شبه عزلة وشبه اضطراب. لكن حضور ناطور البناية يخفف حدة العزلة، فهو يطل عليها ويلبي مطالبها القليلة، عطفاً على الخادمة السيريلانكية شاميلي التي تقصدها كل نهار سبت، وتصفها بـ "الدخيلة الوحيدة"، فتنظف البيت وتعتني بأمورها العادية وتحممها، على رغم أنها لا تحب الاستحمام كما تعبر. فالتعري يكشف خراب أعضائها ويفضح عجزها عن استخدام أطرافها، وبلهجة تهكمية "سينيكية" رهيبة تقول: "الأوساخ تتكاثر مع الشيخوخة وتنتشر في الأنف والشرايين وتحت الأظافر وما بين الأصابع، في زوايا العينين وداخل الأذنين وما خلفهما"، وتتحدث عن "القشرة القميئة التي تغطي الجلد". تكشف مي أعطاب الجسد الذي شاخ، والذي كان له ماض جميل عندما كانت شابة وممثلة، ولا توفر نفسها من السخرية غير الخالية من الشماتة الذاتية، فتتحدث عن بطنها "المدلوق"، عدوها "اللدود" الذي يحجب عنها رؤية ما يوجد أسفله. وكان يحلو لها أحياناً أن تدخل بيت الخلاء فلا تشعل ضوءاً وتغلق الباب لتنعم "بظلمة تامة" وتفرغ ما في أحشائها ورأسها معاً، كما تقول. وتضيف "أغمض عيني ثم أفتحهما، الأمر سيان، لا أرى شيئاً، لا أسمع شيئاً، أنا في مركبة فضائية بحجمي، سابحة في نقاء السواد، في صفاء العدم"، وهذه لقطة متفردة بقسوتها الحقيقية والجارحة والساخرة التي تبلغ عمق الجسد العجوز، ولا توفر أيضاً أذنيها من سخريتها كأن تقول "أذناي كبيرتان كأذني حمار". وتقول في مقطع آخر: "جل أمنيتي أن أحيا كفجلة أو كلب". أما يداها فتتهكم منهما بأسى ولوعة، فهما سبقتاها إلى الشيخوخة كما تقول، "حين جعلتا تتقلصان وتبرزان جلداً جافاً وخطوطاً نافرة زرقاء"، وتضيف: "كأنهما كانتا تكبران وحيدتين". وتعترف أن يديها شاختا بعدما أفلتتهما يدا أمها قبل الأوان، فراح والدها يفركهما بصابون الزيت والمراهم عله يشفيهما من "بقع اليتم الزرقاء". وهنا تفتح مي صفحة اليمة من ماضيها، صفحة غياب الأم الذي ترك فيها ربما أثراً، بصفتها أما لاحقة، غريبة الأطوار. القطة الغريبة غير أن قطة غريبة تقتحم عزلتها عنوة فتفتح لها الباب بعد موائها أمامه، تدخلها البيت رغماً عنها، ثم تحاول أن تتخلص منها وتعجز. لم تحب مي هذه القطة ولم تعمد إلى منحها اسماً فهي ليست قطتها، لكنها تمضي معها وقتاً لا يخلو من اللعب والتواطؤ.، وعندما مرضت بعد فترة، تشفق عليها وتأخذها مع يوسف، إلى بيطري، فيفاجأ أنّ لا اسم لها وأنها لقيطة، ويكتشف أنها مصابة بالسرطان. وفي اللحظات التي كانت تنطفئ القطة خلالها، كانت مي تجلسها في حضنها وتلاطفها متذكرة أمها التي ماتت بالسرطان. لا تغيب حال الأمومة عن مي في شيخوختها بتاتاً، فأمها التي توفيت شابة تحضر بطيفها، وابناها التوأمان المقيمان في أميركا يحضران أيضاً، مذكرين إياها بأمومتها التي أضحت بعيدة. تعترف مي أنها لم تشبع من أمها لأنها توفيت قبل الأوان، وقد عاشت أيامها الأخيرة تتخبط في مرض السرطان، وتعترف أيضاً أنها لم تشبع من حنان أمها حتى قبل مرضها، فهي كانت يتيمة ولم يعلمها أحد أصول الحب الأمومي والعناق، ولعلها تدينها وتحاكمها مثلما تدين وتحاكم نفسها، لأن أمومتها منقوصة أيضاً ومرجأة. تقول: "كنت أماً معطوبة امتنعت أمومتها منها". لكن أباها كان حاضراً بشدة، في أيام الطفولة والفتوة، وهي تستعيد ملامحه بسهولة على عكس ملامح أمها، ولعلها لا تذكر منها سوى طيف امرأة تستند إلى ذراع أبيها وتخرج معه. أما صورة الأم المعلقة في البرواز فلم تكن ترى فيها أماً تعرفها، إذ تمكن الأب من الحلول محل الأم الميتة وقام بتربية الابنة والسهر عليها، يطبخ لها ويحممها و يدرّسها ويصطحبها في نزهات ويغني ويرقص معها. وقد رفض أن تقوم أمه وشقيقاته الثلاث بتربيتها، مثلما رفض أن يتزوج ثانية. وتذكر مي حركة يديه اللطيفتين عندما كان يحممها ويدلق الماء عليها. ولا تنسى مي العجوز كذلك، جدتها لأبيها وعماتها الثلاث اللواتي عاشت معهن وكأنهن عائلتها، وقد مات والدها قبلهن مع أنه الأصغر، فأمسين موئلها الدافئ. هنا تمضي نجوى بركات في رسم ملامح العمات وطبائعهن ومسالكهن كما لو كن شخصيات في مسرحية أو فيلم. فوداد الصغرى هي الأقرب إلى قلبها، ونبيهة الكبرى أرملة أجهضت الجنين الوحيد وعادت إلى بيت أهلها وهي التي تتولى الإنفاق على العائلة، وزكية الوسطى التي تمتهن التطريز وحبك الكروشيه وحوك الصوف، لا تزال تعيش "تحت نصيبها"، وقد جهزت حقيبة العرس منتظرة مجيء العريس. الأمومة الناقصة أما مي، بوصفها أماً، فتدرك أن أمومتها كانت ناقصة، فلم يتسن لها جراء الغيبة التي وقعت فيها سبعة أعوام، أن تربي توأميها وتعتني بهما، و"كأن امرأة أخرى هي من حملت بهما وأنجبتهما". فالسبعة أعوام هذه ضاعت منها من دون أن تدري كيف، وكأنها كانت سكيناً اقتطعتها من عمرها. ولما استفاقت من غيبوبتها السريرية ورجعت إلى الحياة "في حدها الأدنى"، وجدت أن التوأمين خرجا إليها من دونها. وعندما عادت إلى لحياة وجدت أيضاً أن زوجها الطبيب مصاب بالسرطان وأنه مقبل على الموت، وكان هو من أنقذها من حياتها البائسة عاطفياً أيام الشباب، وتزوجا وأنجبا. وعندما مات ووضع في التابوت أصرت على تقبيل قدميه. ولمّا عزم التوأمان على السفر إلى اميركا بعد شفائها ورحيل زوجها، وافقت بلا تردد، وفي يقينها أن ساعة الفراق حلت، مثلما حلاّ هما في حياتها بالإيجار كما تعبّر، وقد "انتهت مدة العقد بيننا وآن أوان انتقالهما". أما حياة مي الشابة والممثلة التي تستعيدها مي العجوز في ما يشبه التواطؤ بين الشخصيتين اللتين هما هي، فتبدأ باسترجاع لحظة دخولها إلى معهد الفنون في بيروت خلال الستينيات، وأدائها في مباراة الدخول إلى المعهد، دور سيدة في جنازة، تدخل الصالون لتقديم التعازي إلى أهل الميت. وليس مستغرباً، بحسب طبائع مي، أن تبدأ حياتها كممثلة في جنازة تسم حياتها لاحقاً. وبعدما التحقت بالمعهد تتعرف إلى حبيبها الأول، كاتب يساري درس المسرح في روسيا، هو في الثلاثين وهي في العشرين. وحينذاك كانت فتاة ضجرة ومتحررة وشبه بورجوازية وشبه وجودية، على غرار بطلة سيمون دو بوفوار في "مذكرات فتاة"، كأن تقول: "كنت مستلقية في غرفتي، حدقتاي معلقتان في السقف، أتحسس دبيب حشرات الضجر فوق جلدي". وكانت أدت للتو في المعهد دور العاشقة المتوترة في المسرحية المونودرامية "الصوت البشري" للكاتب جان كوكتو، حاملة سماعة التلفون تتكلم مع عشيقها وتصمت. أعجب الكاتب بها في هذا الدور ودخل حياتها عبر ادعاء كتابة نص مسرحي تمثله هي ويخرجه هو. تقع في حبه، وتوافق وتتولى هي بنفسها تأليف النص الذي اقترحه، مرتجلة الكلام أو المونولوغ. أما الفكرة التي ارتآها، فهي عن امرأة فقدت جزءاً من حياتها، وهذا الجزء المفقود موجود في هوة أمامها، ولعلها إشارة حدسية ذكية إلى الغيبة التي وقعت فيها مي لاحقاً. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) تنجح المسرحية ويتصرف الكاتب اليساري وكأنه السيد البارع وإليه يعود سبب النجاح، لكنه الحب الذي تورطت به "كحمارة" كما تقول ساخرة، وتعترف: "كنت كلبه المطيع وهو صاحبي المطلق السيادة علي". وتقول أيضاً: "أتقدم سعيدة وأنا أحرك ذنبي مثل كلب طائع، لاهثة متدلية اللسان". هل عاشت مي معه حالاً من المازوشية، من التعذيب الذاتي، ساحقة نفسها وكأنها تكفر عن ذنب ما؟ ومرة تتوجه إليه بسخريتها أيضا قائلة: "أحبك، أحبك، ألم تفهم بعد يا بغل"، وهو سيغدو بغلاً في حبها واستغلالها لاحقاً بعدما سقط قناعه وبرز منه وجه الرجل الذكوري والمتسلط والمتقلب المزاج، والمقامر الذي عندما يخسر يعرضها لـ "الإيجار" أمام رفاق اللعب، وكان أخذ به السكر مأخذاً، وقد استولى سابقاً على مالها ثم ساعة يدها للرهن على طاولة القمار. كانت منجذبة إليه جسداً، تزداد عطاء أمامه ونكراناً لذاتها. لكنه ما لبث أن راح يدمن حياة السهر ومعاشرة النساء، ويهجرها بضع ليال. ولكن يستيقظ فيها على حين غرة، قرار المواجهة، فراحت تسهر، ألى أن تقرر مرة العودة إلى بيت أهلها، مغادرة الشاليه الذي كان استأجره على شاطئ عمشيت ليكون بيتهما الموقت. كان والدها في البيت يعيش أيام احتضاره، ثم يموت، فتدرك أنها لن تشفى من الألم الذي سببته له في هجرها العائلة. انتقام فيدرا أما الرد على خيبة الأب فكانت في عودتها إلى المسرح بقوة، مؤدية شخصية "فيدرا" في نص الكاتب الفرنسي راسين الذي اقتبسه عن الأصل الإغريقي الذي وضعه يوريبدس، وحققت المسرحية نجاحاً كبيراً في بيروت "الستينيات". ولم يكن اختيارها شخصية فيدرا إلا حافزاً على التخلص من الحب الخائب والانتقام لنفسها: "ساعدتني فيدرا، أخرجت بصوتها وكلامها ما اهترأ في داخلي، أبرأتني من غضبي الدفين على نفسي وعليه". لكن العاشق يعود خلال تقديمها المسرحية وتعود العلاقة وترجع إلى حضنه رغماً عنها، ويستعيدان حياتهما السابقة، وفي نيتها إنجاب طفل منه. وبعد نجاح مسرحية "فيدرا" تقرر أن تؤدي دور الرسامة فريدا كاهلو التي وقعت ضحية زوجها القاسي دييغو ريفييرا، وتحديداً في الوقت الذي كانت تُنقل فيه إلى المستشفى لبتر ساقها. ليس اختيار هذه المسرحية مجرد مصادفة، فالممثلة مي تقع حبلى، لكن الكاتب القاسي والرافض للأبوة يقوم بضربها بعنف فتسقط الجنين. غير أن فيدرا اليقظة فيها تهب وتنتقم، فتعمد مي إلى حرق الكاتب داخل الشاليه، مضرمة النار في الأثاث من حوله، لكنه ينجو ولا يتقدم بدعوى ضدها. أما قدرها فأن تساق إلى مستشفى المرضى النفسيين بعدما أُنزلت بها تهمة الجنون، وهناك تتعرف إلى الطبيب الذي سيصبح زوجها ووالد التوأمين. وخكذا دواليك، بحسب البنية السردية المميزة التي اختارتها نجوى بركات، راسمة مسار مي، بين شيخوخة وفتوة وشباب، في حال من التداخل والتواصل والتقطع. هذه الوقائع هي بمثابة الحوافز التي يفترضها السرد في حبكة تناميه، عبر ذاكرة العجوز مي، شبه المثقوبة، التي أوكلت إليها نجوى بركات مهمة الراوية التي تستعيد ماضيها وحياتها أيضاً، واضعة إياهما على طاولة تشبه طاولة التشريح الروائي الاستعادي. ففعل السرد الحاضر هو نفسه فعل السرد الماضي في ذكريات مي التي ستنتهي مريضة "بسيكو سوماتيكية"، والتي تحملها في الختام سيارة الإسعاف، إلى قدرها المجهول. اما ميزة السرد هنا فتتجلى ايضا في لغة بركات، التي تنساب انسيابا، محفوفة بالتوهج الشعري حيناً، وقسوة اللهجة الواقعية حيناً آخر، التي لا تخلو من السخرية الوجودية والطابع السينيكي والهجائي في وقت واحد.

هدى بركات.. 'أجمل' روائيّة لبنانيّة في العالم
هدى بركات.. 'أجمل' روائيّة لبنانيّة في العالم

الشرق الجزائرية

time١٧-٠٤-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الشرق الجزائرية

هدى بركات.. 'أجمل' روائيّة لبنانيّة في العالم

«أساس ميديا» فازت الروائية اللبنانية الفرنسية هدى بركات بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها التاسعة عشرة في فرع الآداب، عن روايتها 'هند أو أجمل امرأة في العالم'، الصادرة عن دار الآداب عام 2024. لئن كانت الأحداث والتواريخ والمحطّات المفصليّة في تاريخ لبنان وحاضره مصدر قلق وخطر ولاسْتِقْرار للّبنانيّين المقيمين في لبنان، ودافعاً للهجرة، فهي مصدر إلهام وإبداع للّبنانيّين المقيمين خارجه، وربّما دافع للعودة إليه وإن عبر الورق، وكأنّ المعادلة اللبنانية قد تكرّست على النحو التالي: قسم من اللبنانيين يعاني في لبنان، وقسم آخر منهم يكتب ما يعانيه القسم الأوّل، خارج لبنان، فينقل معاناة المقيمين إلى لغات العالم وأصقاعه كافّة، مساهماً في بناء لبنان الأدب والإبداع، لبنةً لبنةً، وروايةً رواية. وطنان… واحد يُعاني وآخر يُبدع وكأنّنا ننتمي إلى وطنَين، واحد مقيم وآخر مهاجر، واحد يعاني وآخر يبدع، وفي الحالين كلّ من الوطنَين يعاني: الأوّل على الطرقات وبين الجدران وفوق الربوع وخلف التلال والقمم، أي في رحاب الوطن، والأخير يعاني خلف الورق أو الشاشات وبين الأخبار، أي في رحاب المهجر. هدى بركات استثناء ممّا سبق، فهي في الوطنَين تعاني باللحم الحيّ هنا، وبالحبر الحيّ هناك. ففي هذا السياق، بل في صلبه، تقع رواية هدى بركات الفائزة أخيراً بجائزة الشيخ زايد. كما يوجد لبنانان أو بطلان خارج الرواية، توجد فيها بطلتان: هند أو أجمل امرأة في العالم، وشقيقتها هنادي. الأولى غائبة بسبب موتها بُعيد ولادتها، والثانية غائبة خارج الوطن بسبب موت من نوع آخر، موت الجمال. كان يمكن أن تحمل الرواية عنوان 'هنادي أبشع امرأة في العالم'، لكنّ بركات جعلت الغائب بطلاً والحاضر أيضاً. أبعد من هذا، قد تكون الرواية مستمدّةً من سيرة بركات نفسها، وقد تكون مستمدّةً من سيرة الوطن، لبنان: الجميل مات، والبشع هاجر ليعاني بعيداً. وأمّا الأسباب فتبدأ من الحرب الأهليّة اللبنانية، وربّما لا تنتهي في انفجار المرفأ، مروراً بما حدث بينهما من وجود فلسطيني مسلّح، واجتياح إسرائيلي، إلى سلم أهليّ مهدّد، فحروب إسرائيلية لا تنتهي، واغتيالات، ونزوح سوري، وثورات… أبرزها ثورة تشرين. في رواية بركات 'هند أو أجمل امرأة في العالم'، لا يغيب تفصيل مهما بدا صغيراً وهامشيّاً في تاريخ لبنان في آخر نصف قرن إلّا ويحضر تلميحاً أو تصريحاً. مرض 'الأكروميغالي' الذي يصيب البطلة هنادي، والذي يشوّه وجهها وجسمها بسبب تضخّم العظام والمفاصل والأطراف، ويجعلها أكثر قبحاً، هو هو المرض الذي أصاب الوطن، لبنان، في مفاصله وعند أطرافه، وشوّه وجهه. أحداث الرّواية تدور الرواية حول سيرة هنادي، شقيقة هند، التي تلدها أمّها للتعويض عن وفاة ابنتها الجميلة هند. لكنّ هنادي هذه على نقيض شقيقتها، فهي وُلدت جميلةً مثلها لكنّها أصيبت بمرض 'الأكروميغالي'، في سنّ المراهقة، وأدّى إلى تشوّه وجهها وجسمها بسبب تضخّم أطرافها وعظامها ومفاصلها. تحجبها أمّها عن الناس زاعمةً أنّها سفّرتها لتتابع دراستها خارج البلاد بينما تسجنها فعليّاً في سقيفة المطبخ. تهرب هنادي إلى بيت عمّتها في الجبل، والأخيرة ترسلها إلى فرنسا حيث تتعرّف إلى رشيد، المغاربيّ الأعرج، وتنشأ بينهما علاقة حبّ تنتهي بهروب هنادي منه بسبب سوء معاملته إيّاها. ينتهي المطاف بهنادي، بعد رحلة طويلة تسردها بركات بالتفصيل واصفةً شخوصها، إلى العودة إلى لبنان، حيث تقضي في انفجار مرفأ بيروت عام 2000. تحضر بقوّة ثنائية الجمال والقبح في الرواية، وإن كان حضور القباحة طاغياً من البطلة نفسها إلى نهر بيروت الملوّث الذي يعجّ بالنفايات. فالجميلة هند غائبة، والقبيحة هنادي حاضرة، ولبنان الجميل ولّى ربّما إلى غير رجعة، بينما لبنان البشاعة حاضر بقوّة في الرواية بأحداثه القبيحة كلّها. إلى ذلك، يُسجّل غياب اللغة الشعريّة في الرواية، على عكس سابقاتها، وهو أسلوب اتّسمت به بركات في مختلف أعمالها، لكنّها تتخلّى عنه هنا من أجل اللغة الصحافية المتقشّفة والخالية من الألعاب البلاغية، وهذا تمرّد من بركات على أسلوبها المعروفة به منذ روايتها الأولى. فارسة في الأدب والفنون قد لا يكون مصادفةً أن تفوز بركات بجائزة الشيخ زايد، عشيّة إحياء الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهليّة اللبنانية. فبركات تناولت هذه الحرب في جلّ أعمالها الأدبية، منذ باكورتها 'حجر الضحك' عام 1990، حتّى روايتها الأخيرة هذه. هدى بركات روائية لبنانية وُلدت في بشرّي في لبنان، مطلع عام 1952، وانتقلت إلى بيروت حيث تابعت دراستها متخصّصة في الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية. وبعد تخرّجها عام 1975، سافرت إلى فرنسا من أجل إكمال دراساتها العليا، لكنّها سرعان ما عادت عام 1976 بعد نشوب الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وعملت في مجال التدريس والصحافة والترجمة، ثمّ عادت من جديد إلى باريس في عام 1989 واستقرّت هناك. كتبت العديد من الروايات والمجموعات القصصية، وعاشت فترةً طويلةً في فرنسا. وعلى الرغم من إتقانها الفرنسية والإنكليزية، رفضت الكتابة بغير اللغة العربية، وتُرجمت مؤلّفاتها إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والتركية. أبرز رواياتها 'حجر الضحك' (1990)، 'أهل الهوى' (1993)، 'حارث المياه' (2001)، 'رسائل الغريبة' (2004)، 'سيّدي وحبيبي' (2004)، 'ملكوت هذه السماء' (2012)، و'بريد الليل' (2017). ليست جائزة الشيخ زايد في فرع الآداب هي الجائزة الأولى التي تحصل عليها هدى بركات، إذ سبق أن فازت روايتها 'بريد الليل' بجائزة البوكر عام 2019، وروايتها 'حارث المياه' بجائزة نجيب محفوظ للأدب. هذا ومنحتها الحكومة الفرنسية عام 2002 رتبة الفارسة في الأدب والفنون، وعام 2008 وسام الاستحقاق.

حكاية فتاة فلسطينية "وحيدة كغرفة مزدحمة"
حكاية فتاة فلسطينية "وحيدة كغرفة مزدحمة"

Independent عربية

time٢٥-٠٣-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • Independent عربية

حكاية فتاة فلسطينية "وحيدة كغرفة مزدحمة"

من المتعارف عليه في زمننا اليوم أن التقدم لنيل منحة أو وظيفة في أية جامعة أو مؤسسة مهمة يجري عبر إرسال رسائل شخصية وسير ذاتية عملية تمثل المرء أفضل تمثيل أمام لجنة التحكيم، إلا أنه يبدو أن الأمور قد التبست على بطلة الكاتبة والمحررة الفلسطينية بدار سالم، ففي روايتها الأولى "وحيدة كغرفة مزدحمة" (دار الآداب - 2024) تختار سالم أن تبني سردها بأكمله على مجموعة رسائل ترسلها بطلتها مجدل كريم إلى البعثات والجامعات والمؤسسات العالمية، طالبة منها نيل المنح المعروضة إنما بطريقة مضحكة ظريفة خفيفة، تفضح شيئاً من العبثية المبطنة ومشاعر الانهزام والوجع الوجودي. الرواية الفلسطينية الجديدة (دار الآداب) وبأغرب الطرق وأظرفها، وبشكل ساخر لا يخلو من الفكاهة السوداء، ترسل مجدل كريم رسائل التقدم لنيل منح ووظائف معربة فيها عن أعمق مشاعرها وأحلك أفكارها، وعلى رغم ما يظهر من ظُرف وخفة فإن رسائل مجدل كريم تفضح حميميات حياتها العائلية والعاطفية والنفسية، وتفضح تفاصيل عبثية العيش في رام الله ومأساة فقدان الأم وألم العيش في وحدة لا تُكسر، مما يخلق بينها وبين القارئ شعور تحالف وتآزر، فلا يستطيع المتلقي الامتناع من التعاطف مع هذه الراوية الغريبة العاجزة عن الإمساك بحبال الحياة، وهي التي تقول بنفسها عن نفسها "مجنونة أنا، ربما هذه هي الحقيقة، ولا منحة في العالم يمكن أن تغير ذلك" (ص:82) ويلاحظ القارئ أن ثيمة الوحدة موجودة في نص بدار سالم منذ عنوان الرواية، وهي وحدة عفوية قصرية حتمية لا مفر منها، فتقول الراوية عندما تتحدث عن أصدقائها وهم "صديقة واحدة" فرضت نفسها عليها، "لم أتمكن من تكوين علاقات ناجحة "سوى غصب عني" في حياتي الشخصية" (ص:97) الوحدة والإزدحام ويظهر كذلك تناقض واضح في العنوان بين كلمتي "وحدة" و"مزدحمة"، وهو تناقض مقصود ويعكس ما في شخصية البطلة من تعارضات، وهي التي تقول في أحد مواضع السرد عن زملائها في الجامعة "هم مثلي متناقضون ومشوشون" (ص:23) 29 رسالة مضحكة خفيفة ظريفة عفوية يستشعر فيها القارئ مشاعر العبثية والغربة، رسائل طلب نيل منح ووظائف من جامعات أو مؤسسات أو بعثات تظهر كلها فكهة جذابة مليئة بنواقص البطلة ومثالبها، وليس مناقبها ومآثرها كما هو متوقع، في صراحة وعفوية وظُرف تجتذب القارئ وتجعله حليف الراوية، وهي التي تصف نفسها بأنها "عنيدة، باردة، غريبة الأطوار،" (ص:80) الروائية الفلسطينية بدار سالم (دار الآداب) يستغرب القارئ أن تكتب فتاة فلسطينية إلى جهات رسمية بهذه الحميمية والأريحية من دون أن تسلم رسائلها من سخرية سوداء لاسعة تجاه الواقع، فتخبر مجدل قصة حياتها وقصة عائلتها بطريقة ساخرة، لتقول مثلاً في رسالتها إلى أعضاء لجنة زمالة الصحافة في مؤسسة "رويترز"، "والدي في حال نفسية سيئة، فزوجته الأولى ماتت جراء أزمة ربو حادة، وزوجته الثانية انتحرت، في وقت هناك فيه ألف طريقة للموت في فلسطين" (ص:66)، ثم تضيف في آخر الرسالة نفسها عن علاقتها السيئة بزوجة والدها "لحسن الحظ أننا نعيش في بلد محتل، ليست فيه رفاهية أن تفكر البنات بقتل زوجات أبائهن" (ص:68) وتتجلى بطلة هذه الرواية فتاة غريبة عن نفسها ومحيطها وعائلتها، فهي منذ ولادتها لا تتأقلم وتعجز عن إيجاد مكانها، فتكتب في إحدى رسائلها "لم أتمكن من عيش الحياة الجامعية والتي ربما كانت فرصتي الأخيرة لأكون شخصاً طبيعياً، ولكن كيف لفتاة اسمها مجدل أن تكون طبيعية أصلاً، بينما تحمل اسم قرية ووطن لم يعودا موجودين؟ لماذا كان علي أن أحمل هذا العبء طوال الوقت؟ لماذا لم يفكر والدي بتسميتي أمل أو فرح أو حتى ليلي؟" (ص:21) تمزج الراوية بين مأساة العيش وروح النكتة في مخاتلة أحزانها، فيكتشف القارئ فتاة تكره أن تحتفل بعيد ميلادها وتكره المرايا وتشعر بأنها تخيب أمل عائلتها بها وأنها دون الآخرين شكلاً ومضموناً، حتى إنها تقول في موضع من رسائلها "لم أر نفسي أبداً شخصاً جميلاً" (ص:120)، لتعود وتقول في موضع آخر "سيخيب أمل أبي في للمرة المئة" (ص:35) الوجودية واللامتوقع أزمات وجودية إنسانية تواجهها الراوية بشيء من الظرف الذي تتسلح به لتنكر الواقع وتحجبه وتتملص منه عبر توظيف الفكاهة والعفوية وإدراج كلمات بالإنجليزية والعامية وتوظيف اللامتوقع، فتخلق مجدل جوا من إنكار وجعها والاختباء منه أو ما يُسمى بالـ denial، إذ تعري الراوية نفسها في ما يناهز 159 صفحة في ما يظهر بأنه ظرف وفكاهة، لكنه في الواقع وجع من العيش، لتكتب مجدل عن نفسها قائلة "رأيت نفسي كشيء، لا أختلف عن الكرسي سوى بأنني يمكنني أن أتحرك وحدي" (ص:121) وقد تبرر هذه الجملة بحد ذاتها صورة الغلاف التي تُظهر كرسياً مرمياً أرضاً في غرفة فارغة، ليصبح الكرسي هو الراوية بانكساراتها وأوجاعها ومآزقها الداخلية، لكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد بل تمعن الراوية في وصف دواخلها قائلة "الحياة لم تناسبني يوماً، لم أفهمها، وعندما وجدتُ نفسي أفكر برد فعل الآخرين لم أعد كرسياً، لكنني تحولت إلى قفص" (ص:122) اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وقد يظن القارئ أن الراوية تؤثر الأشياء على البشر، فهي التي تشبه نفسها بالكرسي حيناً والقفص حيناً آخر، لكن الأشياء نفسها ترفض هذه الفتاة وتحديداً المرايا والأبواب، ولمجدل قصتها مع المرايا والأبواب فهي تكره المرايا وتقول إن "المرايا أسوأ ما حدث للنفس البشرية" (ص:81) أما الأبواب فمصيبتها أكبر، فالأبواب التي تفتح بشكل أوتوماتيكي كلما استشعرت حركة لا تفتح أمام مجدل وكأنها ليست بشراً، فتكتب الراوية عن مأزقها هذا قائلة "وحدها تلك الأبواب الزجاجية التي تفتح تلقائيا تعلم أنني لستُ حقيقية، هذه الأبواب تصيبني بأزمة وجودية" (ص:82) لتتحول بطلة بدار سالم إلى شيء، إلى كرسي أو قفص أو شيء لا تعكسه المرايا ولا تُفتح له الأبواب ولا يجد مكانته في الواقع. "وحيدة كغرفة مزدحمة" رواية مقتضبة بديعة غريبة غير متوقعة وجميلة بكل ما فيها من جمل ومعان وأساليب وابتكار، فهي رواية الواقع الشبابي الفلسطيني ورواية النفس البشرية الحزينة التي تضحك لمأساتها، ورواية الواقع الفلسطيني المكبل الذي فقد الأم وزوجة الأب والشقيقة والصديقة والحبيب، لكنه ما يزال يجد في نفسه القدرة على الضحك والسخرية ونقد الذات، لتكتب بدار سالم بأجمل وأبسط وأحدّ ما في اللغة "لو كان باستطاعتي أن أنسى، لو كان باستطاعتي أن أكون أخرى" (ص:158) ويلاحظ متتبع الرواية الفلسطينية المعاصرة أن رواية "وحيدة كغرفة مزدحمة" جزء من موجة أصوات روائية فلسطينية جديدة مبدعة تنقل الواقع الفلسطيني بسردية جديدة وتقنيات وفضاءات وأبطال يختلفون عما كان موجوداً في السردية الفلسطينية سابقاً خلال القرن الـ 20، فبعيداً مما عرفه الأدب مع غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، تظهر اليوم أصوات جديدة بتقنيات ووجهات نظر جديدة كمثل ابتسام عزام في روايتها "سفر الاختفاء" التي بلغت "بوكر" العالمية بترجمتها الإنجليزية التي قام بها العراقي سنان أنطون، وعمر خليفة الأستاذ الجامعي والباحث في "جامعة جورج تاون قطر" في روايته "قابض الرمل" التي يرفض فيها الفلسطيني أن يعيد سرد النكبة كما هو متعارف عليه، أو كذلك مع شذى مصطفى في "ما تركتُ خلفي" والتي تطرح فيها أسئلة ما كانت موجودة في أدب القضية خلال العقود السابقة، وما كان كاتب يجرؤ أن يطرحها، لتكون الرواية الفلسطينية اليوم عند منعطف جديد من تاريخها وفي طريقها إلى العالمية بحلة سردية حديثة ومشرقة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store