أحدث الأخبار مع #سلطانبنناصرالقاسمي


جريدة الرؤية
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- منوعات
- جريدة الرؤية
عندما يحين الوقت
سلطان بن ناصر القاسمي ليس كل ما نريده يتحقق، حتى لو اجتهدنا وسعينا نحوه بكل قوتنا. كثير من أحلام الإنسان وأهدافه وتطلعاته ترتبط بموعد خفي، توقيت لا يعلمه إلا الله، يُطلق عليه "حين الوقت". هذا المفهوم قد يبدو غامضًا للبعض، لكنه في الواقع مفتاح لفهم كثير من مشاهد الحياة التي نعيشها، وكم من أمر تمنيناه ولم يتحقق، ثم تحقق بعد سنوات في صورة أجمل، أو لم يتحقق إطلاقًا لأنه لم يكن خيرًا لنا. ومن هنا يبدأ الوعي الحقيقي بأن كل ما نسعى إليه لا يتحقق فقط بالرغبة أو الطموح، وإنما عندما يأذن الله له أن يكون. فكم من إنسان وضع خطة دقيقة لحياته، وحدد أهدافه المستقبلية، إلا أن كثيرًا منها تأخر أو تبدّل، لا لقصور في الجهد أو ضعف في الإرادة، ولكن لأن الوقت المناسب لم يحن بعد. فالأشياء لا تأتي إلا حين يكتمل وقتها، ويحين أوانها، ويكتمل نضج الإنسان الداخلي لاستقبالها. وعندما نتمعن في حياتنا نجد أننا كبشر نعيش في سباق مستمر مع الزمن. نحتاج وقتًا للعمل، وقتًا لتناول الطعام، للنوم، للتأمل، ووقتًا لفهم من حولنا، ونحتاج وقتًا لنتعرف على شركاء حياتنا وأبنائنا وأصدقائنا، ووقتًا أعمق لبناء هذه العلاقات وتنميتها. وغالبًا ما نشعر أننا لا نملك الوقت الكافي لكل ذلك، لكن الحقيقة أن الوقت موجود، فقط نحتاج أن نؤمن أنه يحمل لكل منا نصيبه عندما يحين. وقد ربط القرآن الكريم بين السعي الإنساني وبين النتيجة، في قوله تعالى: " وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى " (النجم: 39). هذه الآية تبين أن السعي مطلوب، لكنه ليس وحده كافيًا لتحقيق كل شيء؛ بل هو أحد العوامل، أما تحقيق النتائج فهو مرهون بحكمة الله وتقديره. فكم من مجتهد لم ينل، وكم من إنسان بُسط له الطريق بعد طول انتظار، دون أن يدري أن ذلك التأخير كان في صالحه. ولذلك علينا أن نستوعب أن الوقت والقدر يسيران معًا؛ فمثلًا، نرى شابًا يسعى للزواج، يطرق الأبواب، ويتقدم أكثر من مرة، لكن لا يتم له الأمر، إلى أن يأتي اليوم الذي يشاء الله فيه أن يفتح له بابًا ما كان يتوقعه، فيُرزق بشريكة حياة لم تخطر على باله. وكذلك الأمر مع الفتيات، فبعضهن يظن أن فرص الزواج قد ولّت، وأنهن فاتهن قطار العمر، لكن الله يخبئ لهن موعدًا أجمل مع شخص يقدّر قيمتهن حين يحين الوقت. وفي مواقف كثيرة في حياتنا، نرى أمثلة حية تدعم هذا المعنى. نأخذ مثلًا قصة عالم الفيزياء إسحاق نيوتن، الذي لم يكتشف قانون الجاذبية من أول مرة؛ بل بعد تسع وتسعين محاولة، حتى جاء الوقت المناسب، وحلت اللحظة التي تتجمع فيها المعطيات وتنكشف الحقيقة. وهذا ينطبق علينا نحن أيضًا، فكم من مشروع بدأناه وفشل، ثم أعدنا المحاولة مرة بعد مرة، حتى نجح، لا لأننا أصبحنا أذكى فجأة، بل لأن "الوقت قد حان". وفي الحديث الشريف الذي رواه ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يُصيبه، ولا يردُّ القدرَ إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البِر". هذا الحديث يرسم مشهدًا دقيقًا بين القدر والدعاء والعمل. فالدعاء وسيلة لتسريع تحقق الأمور، والبر -وخاصة بر الوالدين- سبب في بركة العمر وزيادة الخير. إننا نخطط ونطمح ونسعى، وهذا أمر محمود ومطلوب، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نزرع في قلوبنا الرضا بأن الأمور لا تأتي كلها في الوقت الذي نريده، بل في الوقت الذي يناسبنا من حيث لا ندري. وكلما تعلمنا الانتظار الجميل دون استعجال، كلما رأينا الأمور تأتي بتوقيت عجيب يدهشنا. ولعل من أجمل القصص التي تجسّد هذا المعنى، قصة شاب كان يحلم منذ صغره بالالتحاق بمجال مرموق يخدم من خلاله وطنه، فاختار تخصصًا دقيقًا يحتاج إلى شروط خاصة. تقدم أكثر من مرة لتحقيق هذا الهدف، لكن لم يُكتب له التوفيق، فشعر بالحزن، إلا أن عزيمته لم تخبُ. أعاد توجيه مساره نحو مجال قريب من حلمه الأصلي، واستمر في السعي، حتى جاءته فرصة مميزة في مؤسسة وطنية رائدة، حقق من خلالها جزءًا كبيرًا من طموحه. هذه القصة تؤكد أن الطريق إلى الهدف ليس دائمًا مستقيمًا، وأن الأقدار تعرف موعد الوصول أكثر مما نعرف نحن. وبالمثل، تأتينا أحيانًا قصص لفتيات يئسن من فكرة الزواج، ثم يأتي في وقت غير متوقع شخص كريم يطرق الباب، وتبدأ قصة جديدة تُنسينا الانتظار كله، وتبين لنا أن كل تأخير كان في الحقيقة تجهيزًا لاختيار أنسب. إن الأقدار حين تأتي لا تستأذن، ولكنها تأتي بحكمة. وربما نتمنى شيئًا الآن، ونبكي لعدم حصوله، ثم بعد سنوات نحمد الله أنه لم يتحقق حين تمنيناه. ولهذا، فإن الإيمان بارتباط الوقت بالقدر، والتسليم لحكمة الله، لا يعني الاستسلام؛ بل يعني أن نستمر في العمل والسعي والدعاء، ولكن دون أن نحمل هم التوقيت. ولذلك، فلنحرص على العمل، ونحرص على تحسين أنفسنا، وعلى الدعاء المتواصل، دون يأس أو استعجال. ولنعلم أن ما نطلبه من خير سيتحقق، متى ما شاء الله له أن يتحقق. فقط علينا أن نكون على الموعد من حيث لا ندري، أن نكون مستعدين عند لحظة الوصول، فقد يحين الوقت، ونحن في غفلة. ختامًا، تذكّر دومًا أن ما تأخر عنك، لم يكن شرًا لك، وأن ما لم تحصل عليه الآن، قد يكون في طريقه إليك، فقط اصبر، واسعَ، وأدعو، وتمسك بالأمل.. فكل شيء جميل يتحقق حين يحين الوقت.


جريدة الرؤية
١٥-٠٤-٢٠٢٥
- منوعات
- جريدة الرؤية
بيوت تزهر بالمودة
سلطان بن ناصر القاسمي حينما نتأمل في تطور الأمم ورقي المجتمعات، نجد أن للمرأة دورًا محوريًا لا يُمكن تجاهله، فهي قلب الأسرة النابض، ومصدر الاستقرار والنماء في البيت والمجتمع على حد سواء. فالحديث عن المرأة ليس حديثًا عن نصف المجتمع فحسب؛ بل عن كل المجتمع، لأنها التي تربي، وتُعدّ، وتؤسس الأجيال. هي الأم والزوجة والأخت، وهي اليد التي تُمسك بخيوط التنشئة والتوجيه، لذا فإنَّ مكانتها ليست محل تكريم اجتماعي فقط، بل تشريف إلهي، ارتقى بها منذ أول لحظة خُوطب فيها الإنسان، رجلًا وامرأة، بتكليف إلهي واحد، لتبدأ حكاية الاستخلاف من الزوجين معًا، في مشهد رباني عظيم من المساواة والتكامل. ولهذا، شدني وأنا أتصفح أحد مواقع التواصل لقاء لعائلة من إحدى الدول العربية، كان فحوى محتوى اللقاء سؤال المذيع للزوج: من الأفضل طبخ الوالدة أم الزوجة؟ وتوقف الزوج لبرهةٍ من الوقت للتفكير في الجواب، وإذا بمداخلة الزوجة بالرد على السؤال بأنَّ طهي عمتها أفضل، أكيد! هذه المرأة الصالحة تعي أنَّ التوفيق والنجاح برضى الابن لوالدته، وأن احترامها ومحبتها لأم زوجها يفتح الله لهما باب الخير والرزق. ومن هنا، عزيزتي الزوجة الصالحة، إذا أردت أن تمسكي قلب زوجك، أكرمي أمه. وأنت أيُّها الرجل، إذا أردت أن تملك قلب زوجتك، فأكرم أمها. هذه مُعادلة، وإن حدثت التنافسية بهذه المعادلة، فيصبح المجتمع فاضلا. فعند الحديث عن الكنة والحماة، فهي في الغالب مصيبة المصائب، والتغلب عليها في التقوى، أن تتقي كل واحدة منهن الله في الأخرى، وأن لا تحاول كل واحدة أن تشوه صورة الأخرى في نظر الابن أو الزوج، أن يعي الابن أو الزوج مكانة كل واحدة منهن، وأن يعمل الزوج منذ بداية زواجه على زرع الاحترام والمحبة في قلب الزوجة للأم، والعكس صحيح. أن تعي كل من الطرفين حدود الله في تعاملهن مع بعضهن، وأن سعادة الأسرة وصلاح المجتمع في معرفة ووعي الجميع حقوق وواجبات الوالدين وكذلك الزوجة. هنا يصلح المجتمع بصلاح الأسرة. فكثير من المشاهد والمواقف الجميلة المفعمة بالاحترام والتقدير من أم الزوج لكناتها، في تعاملها معهن كبناتها، مما زاد في محل احترامها، وكثير من تقدير الزوجات العاقلات ممن تعامل أمهات أزواجهن كأمهاتهن، وهنا تسود المودة والمحبة بين أفراد الأسرة الواحدة. وهنا يستحضرني موقف، حيث قامت الأم في إحدى الأسر بتوزيع جزء من نصيبها من أملاكها بين بناتها وزوجات أولادها بالتساوي، محبة في زوجات أبنائها، لتتحقق الألفة والمحبة لتلك الأم العظيمة من الجميع، مما جعلنا نأخذ موقفها كأحد الدروس المستفادة من هذه الحياة، المليئة بالمتناقضات الأسرية والتدخلات في الحياة الزوجية للأبناء، مما يجعل تلك العلاقات مشدودة، بحيث ينتظر كل طرف الخطأ من الآخر في بعض الأسر، للأسف، متناسين أهمية المودة والمحبة بينهما، لوجود أبناء لدى الزوجة هم أحفاد لأم الزوج، التي من الأكيد بأنها تختزن من الحب العظيم لأبناء الزوجة. وكذلك المقولة التي تتحدث بأن كل ما يحدث من قبل الزوجة أو الابن تجاه أمهاتهم وآبائهم هو دين سيقضى عاجلا أم آجلا. ونسأل الله تعالى أن يصلح أبناءنا وبناتنا من شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح مجتمعاتنا الإسلامية من تلك الفتن، والعياذ بالله. ورسالتي لكل زوجة: اتقِ الله في أم الزوج، لأنك تقحمين نفسك في معركة خاسرة، خصمك فيها باب الجنة للابن. فالابن البار سيرى خطأ أمه صوابًا لأنها أمه، لذلك، أيتها الزوجة الصالحة، لا تقحمي نفسك في تلك المعركة، واعملي منذ بداية زواجك أن تجعلي أم زوجك هي جنتك أنت، واعملي على برها لأنها أم زوجك، وهي أمك أنت أيضًا. وهذه هي رسالتي كذلك للزوج. فيا أيتها المرأة الصالحة، إن كان تعامل زوجك واحترامه وتقديره لك، ويحاول دائما إسعادك وإرضاءك، وإرضاء والديه، فهذا رجل صالح ومكانه عز الرأس، وبالتالي لا تحاولي إفساد حياتك الأسرية وإقحامها في فوضى المشاكل الأسرية حتى ترضي غيرتك ومزاجيتك. ورسالتي الأخرى للأم: يجب أن تعي أن ابنك الآن لديه أسرة وحياة جديدة، يتطلب منك أن تسهلي وتيسري مسير تلك الأسرة، وأن تضفي على من دخل حياة ابنك الجديدة الحب والتقدير والرضا، حتى تستمر نجاحات أسرتك من خلال نجاحات أسر أبنائك وبناتك. ومن جميل المواقف التي تسطر بالفخر، أن إحدى الزوجات ذكرت كيف أن أم زوجها كانت ترسل لها رسائل دعاء في كل صباح، وتدعو لها بيوم سعيد وصدر رحب وذرية صالحة، مما جعلها تتعلق بها كأم ثانية، وتبادلها نفس المحبة والاهتمام. هذه التفاصيل الصغيرة تصنع المعجزات في العلاقات، وتجعل لكل بيت طعما مختلفا من الحب الصادق والصفاء الأسري. ومن جهة أخرى، لا ننسى أن الزوجة الحكيمة هي من تعلم أن الاحترام المتبادل لا ينتزع بالقوة، بل يزرع بالحكمة والرفق. فالحياة الأسرية كحديقة، كلما سقيناها بالمودة والتفهم، أزهرت، وإن تركناها للغضب والغيرة، ذبلت. والأم الواعية كذلك تدرك أن احتواء الزوجة ودعمها لا يقلل من قيمتها، بل يزيد من هيبتها واحترامها في قلب ابنها وأحفادها. ولهذا، فإننا حين ندرك أن الأسرة هي اللبنة الأولى لبناء المجتمع، نعي تماما أن حسن العلاقة بين الزوجة وأم الزوج، وبين الزوج وأم الزوجة، ليست مجرد تفاصيل هامشية، بل هي جوهر الاستقرار وأساس المودة. فحين تبنى البيوت على الاحترام، وتروى بالعطاء، وتزينها النية الطيبة، يصبح كل فرد فيها سببا في صلاح المجتمع، لا عبئا عليه. إن الترفع عن الصغائر، وتقديم حسن الظن، وغض الطرف عن الهفوات، هي مفاتيح الحياة الأسرية الراقية التي نرجوها لأجيالنا. فلتكن كل زوجة حاملة لرسالة مودة، وكل أم عنوانا للعطاء، وكل زوج جسرا للسلام بين من يحب، فبهذا وحده، تزهر البيوت وتستقيم الحياة، ويبارك الله في الأعمار والذرية والرزق. وصدق الله العظيم إذ قال: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا )، فكم من كلمة طيبة أطفأت نارا، وكم من موقف رحيم أبقى بيتا عامرا بالحب والخير.


جريدة الرؤية
١٩-٠٢-٢٠٢٥
- منوعات
- جريدة الرؤية
حين يكون الأخ عضيدًا والأخت رحمة
سلطان بن ناصر القاسمي لا شيء يضاهي الشعور بالأمان حين يكون هناك من يسند دون طلب، ويقف بجوار الآخرين دون انتظار. فهناك روابط إنسانية لا تُشترى ولا تُعوَّض؛ بل تُولد مع الإنسان وتكبر معه، فتكون الملجأ عند الحاجة، والعزاء في الأوقات الصعبة. ومن بين تلك الروابط، تأتي رابطة الأخوة في المقدمة، فهي ليست مجرد علاقة دم؛ بل هي ارتباط روحي يتجاوز المصالح والزمان، ويظل متينًا رغم كل الظروف. الأخ ليس مجرد فرد في العائلة؛ بل هو السند الحقيقي والجدار الذي يُرتكز عليه في الأوقات العصيبة. أما الأخت، فهي النسمة اللطيفة التي تملأ الحياة دفئًا، والقلب الذي ينبض بالرحمة بلا شروط. وقد قال رب العزة في كتابه الكريم: "سنشد عضدك بأخيك"، أي سنقوي الأمر ونشد الأزر بالأخ ليكون دعمًا وسندًا في الحياة. فلا عجب أن يكون الأخ هو الجبل الذي يُستند إليه حين تعصف الأيام، وهو الوحيد الذي يقف بجوار إخوته دون تردد، يشاطرهم الأوقات العصيبة كما يشاركهم الأفراح. إنه حائط الصد الذي يحتمي به الإنسان عندما تشتد العواصف، وهو القلب الواسع الذي يتلقى هموم الآخرين بصمت واحتواء، دون أن يشكو أو يبتعد. ولطالما رأينا في الحياة أمثلة حيّة على هذه الرابطة، كالأخ الذي يكون أول من يحمل همّ شقيقه في لحظات المحنة، أو الأخت التي تواسي إخوتها حتى قبل أن ينطقوا بحاجتهم إليها. مثل هذه العلاقات لا تُقدر بثمن، وهي هبة عظيمة تستحق أن نحافظ عليها بكل حب ووفاء. لكن، ورغم قداسة هذه الرابطة، نجد في المجتمعات اليوم تزايدًا في الخلافات بين الإخوة بسبب نزاعات دنيوية زائلة، سواء كانت بسبب فتن أسرية أو مجتمعية أو سلوكيات فردية سلبية. هذه الخلافات قد تمزق أواصر الأخوة وتجعل العلاقة متوترة أو حتى مقطوعة. إلا أن ما يميز الأخوة الحقيقية هو أن تلك المشاعر العميقة تبقى راسخة، مهما عصفت بها رياح النزاع، وغالبًا ما تُختبر هذه العلاقة في اللحظات الحرجة، حيث يظهر معدن الأخ الحقيقي حين تحيط بالصعاب. وهنا يحضرني موقف مؤثر لا تزال ذكراه تؤلمني كلما تذكرته. فقد كنت في أحد المساجد، حين سأل أحد الزملاء قريبًا له قائلًا: "هل زرت أخاك في المستشفى؟"، فأجابه ذلك الرجل بكلمة واحدة قاسية: "لا". شعرت بصدمة داخلية، فتدخلت وسألته: "لماذا لم تطمئن عليه ولو باتصال هاتفي؟"، فأجابني بكل برود: "لا أملك رقم هاتفه". يا الله! كيف يمكن لأخوين أن يعيشا هذه القطيعة العميقة؟ غادر ذلك الأخ المستشفى عائدًا إلى البلد الذي يقيم فيه، وبعد فترة قصيرة، تلقينا نبأ وفاته. حينها شعرت بحزن عميق، وراودني تساؤل مؤلم: كيف يمكن لإنسان أن يسمح للزمن بأن يمضي وهو في خصام مع أقرب الناس إليه؟ ما الذي يستحق أن يضيع العمر في خلافات لا تسمن ولا تغني من جوع؟ كم من أشخاص رحلوا قبل أن ندرك قيمة وجودهم في حياتنا؟ وقد تكررت عبر الزمن مواقف مؤثرة تعكس هذه العلاقة العظيمة، حيث يتجلى عمق الأخوة في الأوقات الحرجة. كم من إخوة فرقتهم الحياة لسنوات، ولكن حين اشتدت المحن وجدوا أنفسهم أول من يساند بعضهم البعض! وكم من قصص روت تفاصيل الإخوة الذين رغم الخلافات العابرة، كان الأخ أول من يقف بجانب أخيه في وقت الضيق دون أن يُطلب منه ذلك. من هنا، تظهر أهمية التمسك بهذه العلاقة وتجاوز ما قد يشوبها من مشكلات عابرة، لأن رابطة الأخوة لا تُعوَّض. لكن، في المقابل، هناك من يتمسكون بهذه الرابطة رغم كل شيء، يتجاوزون الخلافات، يتناسون الجراح، ويصرّون على إبقاء الأواصر قوية، لأنهم يدركون أن الأخ هو السند الحقيقي، هو السيف الذي يحمي الظهر حين تشتد المحن، وهو الوحيد الذي لن يتردد في الوقوف إلى جانب إخوته مهما حدث. لذا، ينبغي الحفاظ على روابط الأخوة، وعدم السماح للخلافات الدنيوية بأن تفسد علاقة لا تعوض، لأن الحاجة إلى السند في الحياة لا توازيها حاجة. وكما أن الأخ هو العضيد والسند، فإن الأخت هي نبع الرحمة الذي يغمر الحياة بالعطف والدفء. الأخت ليست مجرد فرد في العائلة؛ بل هي أم ثانية، الصديقة الأولى، والحضن الدافئ الذي يلجأ إليه الإخوة في لحظات الضعف والحزن. إنها هدية عظيمة من الله، تملأ البيت سعادة ومرحًا، وتمنح الحياة لونًا مختلفًا. إنها الأمان وسط العواصف، والبسمة التي تبدد الحزن، والقلب الذي ينبض بالحب بلا مقابل. وقد جسدت الأخت دورها العظيم في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى في سورة القصص عن موقف أخت موسى عليه السلام: " وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " (القصص: 11)؛ فالأخت هنا لم تكن مجرد شاهدة؛ بل كانت الحارسة، الراعية، والقلقة على مصير أخيها. وهذا الموقف يعكس مدى الحب العميق والارتباط الفطري الذي يجعل الأخت تسهر على راحة إخوتها، وتحرص على سعادتهم، لأنها تدرك أن وجودهم جزء لا يتجزأ من سعادتها. وحين تتجلى الرحمة في الأخت، تصبح الحياة أكثر دفئًا؛ فهي من تفهم دون أن تتحدث، وهي من تسعى لإضفاء السعادة على البيت، وتكون العون في الأوقات الصعبة. هي تلك اليد التي تمتد لتربت على الكتف حين تخذل الحياة، وهي التي تفرح بفرح الإخوة وكأنه فرحها. إنها السند حين يضيق الحال، وهي التي تسعى لتكون نورًا يضيء درب إخوتها، هي التي تبكي بصمت حين يصيبهم الحزن، وتدعو لهم في ظهر الغيب دون أن يُطلب منها ذلك. وقد يرى البعض أن روابط الأخوة تبقى قوية مهما حدث، ولكن الحقيقة أن هذه العلاقة تحتاج إلى رعاية وتقدير دائم. فمن غير المعقول أن يُظن أن الحب وحده يكفي لجعلها تستمر؛ بل يجب أن تكون هناك مواقف تؤكد هذا الارتباط، تصرفات تعكس التقدير، وكلمات تعبر عن الامتنان. الأخ الذي لا يسأل عن أخيه، والأخت التي تبتعد عن إخوتها، كلاهما يخسر جزءًا من روحه دون أن يدرك. فكم من أخ أو أخت ندم على لحظات الجفاء بعدما فات الأوان؟ وكم من شخص أدرك قيمة هذه النعمة حين فقدها؟ لذا، فلنحرص على أن يكون التواصل حاضرًا، والكلمة الطيبة هي الأساس، والاعتذار هو الجسر الذي نعبر به فوق خلافاتنا، حتى تبقى علاقات الأخوة قوية ومتينة مهما مر الزمن. لذلك.. من المهم الحفاظ على الأخت، وإسعادها، وعدم السماح للحزن بأن يسكن قلبها. الوقوف بجانبها كما تقف هي دائمًا إلى جانب إخوتها، لأن الأخت هي النور الذي يضيء العائلة، وهي الرحمة المتدفقة التي لا تنضب. ومن الجدير بالذكر أن الدعاء للأخوة والأخوات بالخير والتوفيق هو من أسمى مظاهر الحب الحقيقي، فإن كانت الأخت هي الرحمة، فالأخ هو السند، وكلاهما يشكلان دعامة أساسية في حياة أي إنسان. إنَّ علاقة الأخوة ليست مجرد روابط دم؛ بل هي روابط قلوب وأرواح، هي الأمان في هذه الدنيا، وهي الأثر الباقي بعد أن يرحل الجميع. لذا، ينبغي المحافظة عليها، وإصلاح ما انكسر، وزرع الحب؛ حيث وجدت الخلافات، فما أجمل أن يظل الأخ أخًا، والأخت أختًا، حتى آخر العمر، وأن تظل تلك المشاعر الطاهرة هي العزاء والملاذ في كل حين.


جريدة الرؤية
١١-٠٢-٢٠٢٥
- منوعات
- جريدة الرؤية
الحياة بين الاختيار والقرار
سلطان بن ناصر القاسمي حين تتأمل حياتك، ستجد أنها مليئة بالخيارات، ولكن السؤال الأهم: هل كان الاختيار وحده كافيًا لتحقيق السعادة؟ هنا تكمن الحقيقة التي يغفل عنها الكثيرون، وهي أن السعادة ليست مجرد نتيجة للاختيارات، بل هي قرار يُتخذ بإرادة قوية ووعي عميق. نعم، قد تبدأ حياتك وأنت تبحث عن الاختيار الصحيح، سواء في مسارك الأكاديمي، أو قراراتك العملية، أو حتى في بناء علاقاتك، لكنك لن تصل إلى السعادة ما لم تتخذ القرار الواعي الذي يضمن لك تحقيق ما تطمح إليه. فالاختيارات وحدها ليست كافية، بل يجب أن يرافقها قرار حاسم يمكّن الإنسان من المضي قدمًا نحو تحقيق أهدافه بسعادة وثقة. وهنا، يتجلى مفهوم الاختيار والقرار منذ مرحلة الطفولة، فالطالب في المدرسة قد يختار النجاح، لكنه لن يحققه إلا إذا قرر التفوق والاجتهاد. وهنا نلحظ أن الدعم الأسري عامل مساعد، لكنه ليس الحاسم، إذ نجد في بعض العائلات المفككة أبناءً استطاعوا اتخاذ قرار النجاح والتفوق رغم الظروف، بينما في عائلات أخرى، رغم توافر الدعم، يتخذ الأبناء قرارات غير موفقة تودي بهم إلى الفشل. لذا، لا يمكننا اختزال النجاح في مجرد اختيار، بل هو نتاج قرارات حاسمة يتخذها الإنسان في حياته. وفي كثير من الأحيان، نجد أن البيئة ليست العامل الأساسي، بل ما يقرره الإنسان بنفسه ليحقق النجاح. فمنهم من يتحدى ظروفه، ومنهم من يستسلم لها، والفرق بين الاثنين يكمن في القرار الذي يتخذه كل منهما حيال حياته ومستقبله. وعند التأمل في أقدارنا، نجد أن بعض الاختيارات لا يد لنا فيها، مثل العائلة التي ننتمي إليها، المدينة التي ولدنا فيها، أو لون بشرتنا وصفاتنا الشخصية، فكلها أمور خاضعة للقدر، ولكن حتى في هذه الجوانب، يظل القرار هو الفارق الحقيقي. فمن يرضى بقدره ويسعى لاستثماره بشكل إيجابي، يكون قد اتخذ القرار الصحيح، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى" (متفق عليه). بل حتى النجاح أو الفشل، النشاط أو الكسل، كلها أمور تجري بقدر، لكننا مسؤولون عن قراراتنا في التعامل معها. فالتعامل مع الواقع بقبول وحكمة يجعل الإنسان أكثر قدرة على الاستفادة من الفرص، بدلًا من تضييعها في الحسرة والتذمر. ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يعيش حياته راضيًا سعيدًا ما لم يتخذ القرار بأن يكون كذلك. فالنجاح في العمل اختيار، لكن السعي لتحقيقه قرار. والتفوق في الدراسة اختيار، لكن الاجتهاد لتحقيقه قرار. بل حتى الالتزام بالصلاة والطاعات هو اختيار متاح للجميع، لكن القرار بممارستها والتقرب بها إلى الله هو ما يحدد طبيعة حياة الإنسان. وفي المقابل، فإن اختيار التهاون والتكاسل ناتج عن قرار سيء، يحمل الإنسان تبعاته لاحقًا. فالفرق بين شخص وآخر ليس في توفر الفرص، بل في القرار الذي يتخذه كل منهما إزاء الفرص المتاحة. فمنهم من يستثمرها ويستفيد منها، ومنهم من يهدرها ويتذمر من حياته. وعندما يتعلق الأمر بالسعادة، نجد أنها لا تأتي من فراغ، بل تحتاج إلى قرار واعٍ يجعل الإنسان يعمل لتحقيقها في جميع جوانب حياته. فقرار التفوق والسعي للمراكز الأولى، وقرار تحديد الأهداف والسير نحوها بخطوات ثابتة، وقرار عدم الاستسلام للعقبات، كلها عوامل تؤدي إلى تحقيق السعادة الحقيقية. فالإنسان الذي يتخذ القرار بالعمل الجاد والتطور المستمر، هو الذي يجني ثمار السعادة ويحقق أهدافه. والسعادة ليست في تحقيق الأهداف فحسب، بل في الشعور بالرضا خلال الرحلة نحو تحقيقها. فالإنسان الذي يعيش وفق قرارات صحيحة لا ينتظر السعادة تأتي إليه، بل يصنعها بنفسه من خلال خطواته اليومية وإصراره على تحقيق الأفضل. وحين يصل الإنسان إلى مرحلة اختيار شريك الحياة، فإنه يكون قد انتقل إلى مستوى آخر من القرارات التي تؤثر بشكل مباشر على حياته المستقبلية. وهنا، يتجلى الفارق بين الاختيار والقرار بوضوح، فاختيار شريك الحياة قد يكون سهلاً، لكن استمرار العلاقة الزوجية بسعادة يحتاج إلى قرارات صائبة. ولضمان حياة زوجية سعيدة ومستقرة، هناك ثلاثة مبادئ رئيسية يجب الالتزام بها: أولًا: تعلم كيف تصمت عند الغضب، فالردود السريعة والعفوية أثناء الانفعال قد تكون خاطئة وتؤدي إلى خسائر لا تُعوض، بينما يمنحك الصمت لحظة للتفكير قبل اتخاذ أي موقف. فكم من خلاف صغير تحول إلى مشكلة كبيرة بسبب كلمة قيلت في لحظة غضب، وكم من مشكلة عولجت بالحكمة والتروي. ثانيًا: عند وقوع الخلاف، ابحث أولًا عن دورك في المشكلة بدلًا من إلقاء اللوم على الطرف الآخر. فالنظر إلى الذات وتحليل الأخطاء الشخصية يجعل الحلول أكثر منطقية وواقعية. فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، والبحث عن الحل بدلاً من تبادل الاتهامات هو مفتاح العلاقات الناجحة. ثالثًا: ابحث عن دورك في الحل، وليس عن أخطاء الطرف الآخر. فالكثير من الخلافات تظل قائمة بسبب إصرار كل طرف على تحميل المسؤولية للطرف الآخر، في حين أن الحل يبدأ عندما يسأل الإنسان نفسه: "ما الذي يمكنني فعله لحل المشكلة؟" بدلاً من البحث عن أخطاء الشريك. رابعًا: احتفظ دائمًا بذكريات المواقف الإيجابية لشريكك، ولا تجعل الذكريات السلبية تسيطر على تفكيرك. فتراكم المواقف الجيدة هو ما يحافظ على استقرار العلاقة ويمنحها القدرة على الاستمرار. فالتركيز على العيوب فقط يجعل العلاقة مهددة بالتوتر المستمر، بينما التقدير والتسامح يعززان من استمراريتها. وإذا التزم الإنسان بهذه الأسس، فإنه سيتخذ قراره الصحيح بالسعادة في حياته الزوجية، بدلاً من تركها للظروف والمتغيرات. فالزواج لا يُبنى على الحب فقط، بل على القرارات الحكيمة التي يتخذها الطرفان لإنجاحه، وجعل كل يوم فيه فرصة جديدة للسعادة والتفاهم. وعلى نطاق أوسع، يتحمل كل فرد مسؤولية قراراته، فلا ينبغي لأحد أن يُلقي بؤسه على الآخرين أو يحمّل القدر تبعات أخطائه. فالإنسان، بعقله وإرادته، هو الذي يحدد مسار حياته، وقد يكون اختياره صحيحًا لكنه يواجه ظروفًا صعبة، وهنا يكون القرار هو العنصر الحاسم: إما الاستمرار في المعاناة، أو إعادة النظر في الاختيار السابق واتخاذ قرار جديد أكثر صوابًا. فالاستمرار في الألم والمعاناة ليس مفروضًا على أحد، بل هو خيار شخصي ناتج عن قرار يُمكن تغييره في أي لحظة. وفي نهاية الأمر، لا بد أن يدرك الإنسان أن السعادة ليست حدثًا عابرًا، بل هي موقف ذهني وقرار داخلي. فكل فرد يستطيع أن يخلق السعادة لنفسه، ليس بانتظار الظروف المثالية، بل بصنعها من خلال قرارات واعية وإيجابية. وحين يدرك الإنسان هذه الحقيقة، فإنه لن يكون مجرد متلقٍّ للأحداث، بل صانعًا لحياته كما يريد، وساعيًا خلف أهدافه دون تردد أو خوف. فالحياة مليئة بالاختيارات، ولكن ما يصنع الفارق هو قراراتنا تجاهها، وقرارك اليوم هو الذي يحدد سعادتك غدًا. فاجعل قراراتك واعية ومدروسة، واستثمر كل لحظة في بناء حياة سعيدة ومليئة بالإنجازات.