أحدث الأخبار مع #عريبالرنتاوي،


أخبارنا
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- أخبارنا
عريب الرنتاوي يكتب : سوريا الجديدة ومسارات التكيّف والتطويع
أخبارنا : كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والإدارة السورية الجديدة، تخضع لواحدة من أبشع حملات الترويض والتطويع والابتزاز وأقساها، متعددة الأطراف والمسارات والأهداف...الإدارة تناور ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، بيد أنه لم يعد خافياً على أحد، أن هذه الحملة بدأت تُعطي أُكلها، ومواقف بعض أركان هذه الإدارة، باتت تثير الشك والريبة. أطراف هذه الحملة، عرب وغربيون، من دون أن ننسى الدور الإسرائيلي المُتصدّر لقيادتها، وبأكثر الأدوات وقاحة ووحشية: احتلال مزيدٍ من الأراضي، وشن مئات الغارات الجوية، وفرض مناطق أمنية بحكم الأمر الواقع، وادعاء حماية "الأقليات"، فضلاً عن إبقاء سيف التهديد مسلطاً على دمشق و"قصر الشعب". تلتقي الأطراف المختلفة عند أهداف ثلاثة تجمعها وتحركها: "كراهية الإسلام السياسي" على اختلاف صنوفه وتلاوينه، ضمان إبقاء إيران وحزب الله خارج المشهد السوري، وحماية "إسرائيل"... وثمة أهداف متفرعة، تحظى بالأولوية عند هذا الفريق أكثر من ذاك... أوروبا على سبيل المثال، تهتم أكثر من غيرها، بإنهاء الوجود الروسي في سوريا، وهذا بخلاف ما ترغب به دول عربية عدة، وتتوسط "إسرائيل" لضمان ديمومته، ولا تمانع به واشنطن وإن كانت لا تقاتل من أجله. "إسرائيل"، لا تريد لـ"قوس عثماني-سنيّ" بزعامة تركيا، أن يحل محل "هلال شيعي" بزعامة إيران، وهي في سباق مع الزمن، وفي الميدان، لتحجيم التمدد التركي في سوريا وعبرها إلى الإقليم... دول عربية، لا ترغب في ذلك أيضاً، وإن كانت تعتمد مقاربة "التعاون" مع تركيا بدل "الصدام" معها في سوريا وحولها... الإدارة الأميركية، ميّالة إلى تلزيم سوريا لتركيا، مع مراعاة "مطالب الحد الأدنى" لمواطنيها الكرد، و"الشروط العقلانية" لـ"إسرائيل"، والتعبير وفقاً لدونالد ترامب. في الحديث عن "أدوات الحملة ووسائلها"، يمكن الجزم أن سلاحها الأمضى هو "سيف العقوبات" و"قانون قيصر"، وهو "سيف مضّاء"، أثبت جدواه زمن نظام الأسد، ويثبت قدرته على فرض التكيف والاستجابة على إدارة الشرع، لقد ثبت لواشنطن، أن استخدام ورقة "المساعدات" و"التعافي المبكر" وإعادة الإعمار"، قد يكون أشد قوة وتأثيراً من فعل الميدان، ثمة دروس من غزة ولبنان، يجري الاستفادة منها في الحالة السورية...فما لم تنجح الذراع العسكرية الإسرائيلية المدججة بأحدث ما أنتجته الترسانة العسكرية الأميركية في تحقيقه، يجري العمل بنجاح ظاهر، على انتزاعه من المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بضغط "المساعدات" و"التعافي" وإعادة الإعمار...هي أسلحة "الدمار الشامل" الجديدة في الجعبة الأميركية المنتفخة بفائض مشاعر السيطرة والإملاء والهيمنة. على أن العقوبات ليست السلاح الوحيد الذي تلجأ إليه الأطراف في الحالة السورية... التركيبة السورية المعقدة، سياسياً وجغرافياً وعرقياً ودينياً، تلعب دور السيف الذي يمكن إخراجه من غمده في أي وقت، من الأقلية الدرزية في الجنوب إلى الأقلية الكردية في الشمال..."إسرائيل" أوّل من فكّر في استخدام هذا السلاح، لكنها ليست آخر من يلوّح به...هنا، تبدو وحدة سوريا، وحدة الجغرافيا والشعب، دائماً على المحك، وفي القلب من مشاريع الاستهداف، فإن تعثر التقسيم، كان "تقاسم النفوذ" بديلاً، وإن استعصى التقاسم، فلا سبيل من تحريك خيار التقسيم...القيادة السورية الجديدة، كما القديمة، ستظل تسير على هذا الحبل المشدود حتى إشعار آخر، وأي خطأ في السياسة والحساب، سيصب القمح صافياً في طاحونة "المتربصين"، وهذا ما يحدث بين حين وآخر على أي حال. بعض من آيات التكيف ثمة نجاحات ملموسة، أنجزتها حملات الترويض والتطويع التي تحدثنا عن مراميها وأطرافها وأولوياتها... والأرجح أننا سنرى المزيد منها – النجاحات- في قادمات الأيام، ومن آيات هذه النجاحات، نختار بعضاً منها: لا تكفّ الإدارة الجديدة عن توجيه رسائل الطمأنينة والاطمئنان إلى الغرب و"إسرائيل" (وبعض العرب كذلك)، بأنها لا تنوي تهديد جيرانها، بمن فيهم "إسرائيل"، ودائماً يأتي التشديد على "إسرائيل" من قبل الناطقين باسم الحكومة والإدارة، حتى في الوقت الذي تستبيح فيه "تل أبيب" سماء سوريا وأرضها ومياهها، وتحتل مساحات استراتيجية واسعة جديدة من أراضيها (دع عنك الجولان المحتل)، من أعلى قمم جبل الشيخ إلى مساقط المياه في حوض اليرموك، وعلى مشارف دمشق... ردود أفعال النظام الجديد على العربدة الإسرائيلية، أدنى بكثير من ردود أفعال النظام القديم، والتي كانت موضع سخرية كثير من أنصار النظام الجديد في حينه...التزام الصمت، أو الإدانة الخجولة غير المتربطة بأي إجراء دبلوماسي أو سياسي أو حقوقي (لا نتوقع ولا نطالب بإجراء عسكري من منطلق براغماتي وليس من منطلق مبدئي)، هما سمة ردود الأفعال الرسمية السورية، برغم الغضب والرفض الشعبيين للعدوان الإسرائيلي المتمادي على السيادة السورية، وتحديداً في الجنوب. تُبدي الإدارة الجديدة استعداداً لجعل دمشق محطة تالية لقطار التطبيع الإبراهيمي، إرضاء لـ"إسرائيل" وإدارة ترامب، راعية الإبراهيميات، وسط تقارير عن قيام عاصمة إبراهيمية نشطة، بدور الوسيط بين الإدارة الجديدة وكل من "تل أبيب" وواشنطن، على اعتبار أن الطريق لتفكيك العقوبات والحصار ورفع سيف قيصر، يمر حكماً بـ"إسرائيل"...ثمة تقارير أخرى، تربط مساعي هذه العاصمة، بإقدام أحمد العودة على تفكيك فيلقه الثامن، والالتحاق بالجيش السوري الجديد، كجائزة ترضية، ودفعة على الحساب الإبراهيمي. يفتح الرئيس السوري الانتقالي ذراعيه للرئيس الفلسطيني محمود عباس، والسلطة في أرذل العمر والمواقف حيال قضية الاحتلال والمقاومة وغزة، ويتردد في استقبال وفد من قيادة حماس، بحجج وذرائع شتى، فيما تُقدم إدارته الانتقالية، على تشكيل لجنة لمراقبة أداء الفصائل، وتغلق معسكراتها وتصادر أسلحتها (مع الإبقاء على الفردي منها لغايات حراسة المكاتب والشخصيات المتبقية)، وتعمد إلى اعتقال اثنين من قادة الجهاد الإسلامي في سوريا، ربطاً بهدف منع إيران من العودة إلى سوريا، ومعاقبة "المحسوبين" عليها. يحرص النظام الجديد "متطوعاً" على تقديم كل الضمانات، بالأفعال لا بالأقوال فحسب، على ضمان منع إيران من العودة إلى سوريا، وتقطيع شرايين دعم حزب الله، استمراراً لمنهج سياسي وعقائدي ضاربة جذوره في عمق الأيديولوجيا ويوميات الأزمة السورية، علّه بذلك يسترضي خصوم طهران وأعداءها الكثر... وفي هذا السياق أيضاً، يحرص النظام على إبقاء مسافة أمان بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، التي وإن كانت لا تقيم علاقات متميزة مع إيران والحزب،بيد أنها في عموم فروعها، لا تستعديهما... وهذا ما يفسر إلى حد ما، رفضه فتح مكاتب للجماعة السورية، وحرصه على تجريدها من السلاح، فيما فصائل عديدة أخرى، ما زالت تحتفظ بسلاحها ومسلحيها. هذا الموقف يلتقي مع موجة عربية ضد الإخوان، بوصفها الوعاء الأكبر الحاضن لحماس، ويبدو أن الشرع وصحبه، ماضون في تمييز "سلفيّتهم غير الجهادية" عن المدرسة الإخوانية...فالسلفية وجدت لنفسها مطرحاً في التحالف العربي والدولي ضد إيران وحلفائها، تحت عنوان "إعادة توجيه" الحركة من مواجهة "الخطر الشيوعي" في ثمانينيات القرن الفائت وتسعينياته، إلى الصدام مع "الخطر الشيعي" منذ مفتتح القرن العشرين...تلكم المدرسة في التفكير الرسمي العربي والغربي، هي ذاتها التي أجازت التعاون مع سلفيي اليمن ضد إخوانه وحوثييه. وفي سياق التكييف والتطويع، يأتي الموقف من "يهود سوريا"، وحقهم في العودة والزيارة وتفقد الممتلكات والديار... لا غبار على هذا الموقف إن صدر عن جهة متشبّعةً بفكرة "المواطنة المتساوية"، وحياد الدولة ووقوفها على مسافة واحدة من مواطنيها ومواطنتها، كياناتها ومكوناتها، لكن أن يصدر عن إدارة نعرف تاريخها وحاضرها (لا نريد أن نرجم بغيب مستقبلها)، فهذا أقرب إلى المهزلة... فالنوايا مفضوحة، وهي لا تخرج عن "أوراق اعتماد" إضافية تقدم للغرب و"إسرائيل" على مذبح البحث عن "شرعية" و"اعتراف"، ودائماً تحت الضغط المركب...لا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه آخرون، من مقارنات بين موقف الإدارة الجديدة حيال يهود سوريا، ومواقفها من اللاجئين الفلسطينيين، فتلكم قضية ما زالت فصولها لم تكتمل بعد، سواء بالنسبة إلى فلسطينيي سوريا ومخيماتهم، أو لعموم اللاجئين وقضية عودتهم وتقرير مصيرهم. وثمة "إشارات أولية" بأن الإدارة الجديدة قد تكون بصدد إرسال رسائل للقول بأنها ليست "ألعوبة" بيد أنقرة وإردوغان، مع أن القاصي والداني، يدرك أن النظام و"هيئة تحرير الشام" وإمارة إدلب، كانت جميعها "منتوجاً" تركياً، وأنه لولا دعم أنقرة ورعايتها وحمايتها، لما كان لـ"أبو محمد الجولاني" أن يتربع على كرسي الرئاسة في قصر الشعب، وأن يصبح الرئيس أحمد الشرع...لكن ثمة دوائر عربية وغربية، والأهم إسرائيلية، قلقة من التمدد التركي، وربما آن الأوان لبعث بعض الرسائل التي تشي بخلاف ذلك... حكاية التعامل بالمثل مع شركات طيران تركية تستخدم الأجواء والمطارات السورية، ليست سوى أول غيث هذا المسار... وفي تاريخ الحركات السلفية والجهادية، ثمة فصول عن تقلبات هذه الحركات، وسعيها لاستبدال حلفاء جدد بحلفاء قدامى، بل ومناصبتهم العداء حين يصبح ذلك ضرورياً. في سوريا بعد التغيير، انتشر مصطلح "التكويع" في وصف حال كثيرين ممن كانوا من أنصار النظام القديم، وسارعوا إلى نقل بندقيتهم من كتف إلى كتف... ينسى مطلقو هذا المصطلح وناشروه، أن الإدارة ذاتها، هي أول "المكوعين" وأبرزهم، بانقلاباتها المتتالية على مواقف وحلفاء الأمس، وفي تبدل أشكال قادتها ومضامين خطاباتهم وأنماط عيشهم. تنكر وقليل من الحمد في المقابل، "إسرائيل" لا تثق بالنظام حتى وهو يمد يداً إبراهيمية إليها، وتتنكر لتحولاته... وواشنطن لديها "دفتر شروط" سيجعل من سوريا رديفاً لمشروع الهيمنة في الإقليم إن تم الأخذ بها...والاتحاد الأوروبي معني بإعادة بناء مؤسسات إنفاذ القانون لضبط الحدود مع لبنان والعراق، وضبط الهجرة ومكافحة التهريب...والعرب ما زالوا على مقاربة "الخطوة مقابل خطوة"، التي اعتمدوها مع النظام القديم، مع تعديل وتطوير لمواجهة أولويات جديدة... ومشوار سوريا للخروج من شرنقة العقوبات الدولية والاستباحة الإسرائيلية، ما زال طويلاً، ومن دون أوهام بقطاف سريع. وأخيراً، أتمنى لو أن قادة الإدارة الجديدة قد شكلوا من بينهم فريق عمل، لدراسة مآلات الوعود الزائفة التي تغدقها واشنطن وحلفاؤها الغربيون، على من تريد "جرجرتهم" إلى خنادقها...وأن يتأملوا في تجارب غيرهم، ممن ساروا بعيداً على درب التكيف والتطويع والتكويع والترويض...أتمنى لو أتيحت الفرصة لأحمد الشرع لسؤال الرئيس محمود عباس كيف صار مُنبَتّاً: لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، لا حقوقاً استرد ولا سلاماً أنجز، برغم كل "التقدِيمات" التي وضعها على طبق من فضة بين يدي الاحتلال، مرغماً حيناً وطائعاً أحياناً...أتمنى لو أن فريق الرئاسة يتوقف أمام تجربة السلام والتطبيع، الإبراهيمي وغير الإبراهيمي، وما الذي جاء به للدول المطبعة ذاتها، وليس لفلسطين والفلسطينيين. كما أتمنى لو أن "تقلبات" السيد الشرع، تقف به عند حدود تجربة الإسلام السياسي التركي، فذلكم أهون البلاء، حتى وإن كره قوميونا ويساريونا العرب والسوريين... فما هو معروض عليكم أيها السادة، ليست دولة مدنية – ديمقراطية كما حلمتم، ودمشق ليست معدّة لأن تصبح "هانوي" والقنيطرة لن تكون "سايغون"، في ظل الحكم الجديد...واحرصوا على ألا يتحول بلدكم إلى نمط جديد في تجربة الحكم والسلطة، هو مزيج من سلفية محلية، متساوقة مع أرذل السياسات والاستراتيجيات الغربية والعربية التطبيعية، فلن تخرجوا من مولد كهذا، إلا بالقليل الأقل من الحمص. لا أحد يريد لسوريا أن تكون مدنية وبالأخص ديمقراطية، لا العرب ولا الغرب ولا "إسرائيل" بالطبع، ولا أحد يريد سوريا بـ"طبعة إسلامية مقاومة"، سنيّة كانت أم شيعية، ولا أحد معني بحقوق نساء وأقليات أو بحقوق مدنية، تلكم ذرائع تتخذ لابتزاز النظام الجديد، لكسب الوقت وذر الرماد في العيون، وبالأخص، لتدوير الزوايا الحادة القديمة في مواقفه وسياسته، ومنعه من الانخراط في علاقات طبيعية مع جواره العربي وغير العربي، لتبقى سوريا عارية من كل عناصر القوة وأوراقها، وليبقى نظامها خرقة بالية، تحركها رياح الحلف الغربي الصهيوني كيفما اشتهت سفنه وأينما اتجهت.


وطنا نيوز
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- وطنا نيوز
سوريا الجديدة ومسارات التكيّف والتطويع
كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية منذ الثامن من كانون الأول/ديسمبر الفائت، والإدارة السورية الجديدة، تخضع لواحدة من أبشع حملات الترويض والتطويع والابتزاز وأقساها، متعددة الأطراف والمسارات والأهداف…الإدارة تناور ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، بيد أنه لم يعد خافياً على أحد، أن هذه الحملة بدأت تُعطي أُكلها، ومواقف بعض أركان هذه الإدارة، باتت تثير الشك والريبة. أطراف هذه الحملة، عرب وغربيون، من دون أن ننسى الدور الإسرائيلي المُتصدّر لقيادتها، وبأكثر الأدوات وقاحة ووحشية: احتلال مزيدٍ من الأراضي، وشن مئات الغارات الجوية، وفرض مناطق أمنية بحكم الأمر الواقع، وادعاء حماية 'الأقليات'، فضلاً عن إبقاء سيف التهديد مسلطاً على دمشق و'قصر الشعب'. تلتقي الأطراف المختلفة عند أهداف ثلاثة تجمعها وتحركها: 'كراهية الإسلام السياسي' على اختلاف صنوفه وتلاوينه، ضمان إبقاء إيران وحزب الله خارج المشهد السوري، وحماية 'إسرائيل'… وثمة أهداف متفرعة، تحظى بالأولوية عند هذا الفريق أكثر من ذاك… أوروبا على سبيل المثال، تهتم أكثر من غيرها، بإنهاء الوجود الروسي في سوريا، وهذا بخلاف ما ترغب به دول عربية عدة، وتتوسط 'إسرائيل' لضمان ديمومته، ولا تمانع به واشنطن وإن كانت لا تقاتل من أجله. 'إسرائيل'، لا تريد لـ'قوس عثماني-سنيّ' بزعامة تركيا، أن يحل محل 'هلال شيعي' بزعامة إيران، وهي في سباق مع الزمن، وفي الميدان، لتحجيم التمدد التركي في سوريا وعبرها إلى الإقليم… دول عربية، لا ترغب في ذلك أيضاً، وإن كانت تعتمد مقاربة 'التعاون' مع تركيا بدل 'الصدام' معها في سوريا وحولها… الإدارة الأميركية، ميّالة إلى تلزيم سوريا لتركيا، مع مراعاة 'مطالب الحد الأدنى' لمواطنيها الكرد، و'الشروط العقلانية' لـ'إسرائيل'، والتعبير وفقاً لدونالد ترامب. في الحديث عن 'أدوات الحملة ووسائلها'، يمكن الجزم أن سلاحها الأمضى هو 'سيف العقوبات' و'قانون قيصر'، وهو 'سيف مضّاء'، أثبت جدواه زمن نظام الأسد، ويثبت قدرته على فرض التكيف والاستجابة على إدارة الشرع، لقد ثبت لواشنطن، أن استخدام ورقة 'المساعدات' و'التعافي المبكر' وإعادة الإعمار'، قد يكون أشد قوة وتأثيراً من فعل الميدان، ثمة دروس من غزة ولبنان، يجري الاستفادة منها في الحالة السورية…فما لم تنجح الذراع العسكرية الإسرائيلية المدججة بأحدث ما أنتجته الترسانة العسكرية الأميركية في تحقيقه، يجري العمل بنجاح ظاهر، على انتزاعه من المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، بضغط 'المساعدات' و'التعافي' وإعادة الإعمار…هي أسلحة 'الدمار الشامل' الجديدة في الجعبة الأميركية المنتفخة بفائض مشاعر السيطرة والإملاء والهيمنة. على أن العقوبات ليست السلاح الوحيد الذي تلجأ إليه الأطراف في الحالة السورية… التركيبة السورية المعقدة، سياسياً وجغرافياً وعرقياً ودينياً، تلعب دور السيف الذي يمكن إخراجه من غمده في أي وقت، من الأقلية الدرزية في الجنوب إلى الأقلية الكردية في الشمال…'إسرائيل' أوّل من فكّر في استخدام هذا السلاح، لكنها ليست آخر من يلوّح به…هنا، تبدو وحدة سوريا، وحدة الجغرافيا والشعب، دائماً على المحك، وفي القلب من مشاريع الاستهداف، فإن تعثر التقسيم، كان 'تقاسم النفوذ' بديلاً، وإن استعصى التقاسم، فلا سبيل من تحريك خيار التقسيم…القيادة السورية الجديدة، كما القديمة، ستظل تسير على هذا الحبل المشدود حتى إشعار آخر، وأي خطأ في السياسة والحساب، سيصب القمح صافياً في طاحونة 'المتربصين'، وهذا ما يحدث بين حين وآخر على أي حال. بعض من آيات التكيف ثمة نجاحات ملموسة، أنجزتها حملات الترويض والتطويع التي تحدثنا عن مراميها وأطرافها وأولوياتها… والأرجح أننا سنرى المزيد منها – النجاحات- في قادمات الأيام، ومن آيات هذه النجاحات، نختار بعضاً منها: لا تكفّ الإدارة الجديدة عن توجيه رسائل الطمأنينة والاطمئنان إلى الغرب و'إسرائيل' (وبعض العرب كذلك)، بأنها لا تنوي تهديد جيرانها، بمن فيهم 'إسرائيل'، ودائماً يأتي التشديد على 'إسرائيل' من قبل الناطقين باسم الحكومة والإدارة، حتى في الوقت الذي تستبيح فيه 'تل أبيب' سماء سوريا وأرضها ومياهها، وتحتل مساحات استراتيجية واسعة جديدة من أراضيها (دع عنك الجولان المحتل)، من أعلى قمم جبل الشيخ إلى مساقط المياه في حوض اليرموك، وعلى مشارف دمشق… ردود أفعال النظام الجديد على العربدة الإسرائيلية، أدنى بكثير من ردود أفعال النظام القديم، والتي كانت موضع سخرية كثير من أنصار النظام الجديد في حينه…التزام الصمت، أو الإدانة الخجولة غير المتربطة بأي إجراء دبلوماسي أو سياسي أو حقوقي (لا نتوقع ولا نطالب بإجراء عسكري من منطلق براغماتي وليس من منطلق مبدئي)، هما سمة ردود الأفعال الرسمية السورية، برغم الغضب والرفض الشعبيين للعدوان الإسرائيلي المتمادي على السيادة السورية، وتحديداً في الجنوب. تُبدي الإدارة الجديدة استعداداً لجعل دمشق محطة تالية لقطار التطبيع الإبراهيمي، إرضاء لـ'إسرائيل' وإدارة ترامب، راعية الإبراهيميات، وسط تقارير عن قيام عاصمة إبراهيمية نشطة، بدور الوسيط بين الإدارة الجديدة وكل من 'تل أبيب' وواشنطن، على اعتبار أن الطريق لتفكيك العقوبات والحصار ورفع سيف قيصر، يمر حكماً بـ'إسرائيل'…ثمة تقارير أخرى، تربط مساعي هذه العاصمة، بإقدام أحمد العودة على تفكيك فيلقه الثامن، والالتحاق بالجيش السوري الجديد، كجائزة ترضية، ودفعة على الحساب الإبراهيمي. يفتح الرئيس السوري الانتقالي ذراعيه للرئيس الفلسطيني محمود عباس، والسلطة في أرذل العمر والمواقف حيال قضية الاحتلال والمقاومة وغزة، ويتردد في استقبال وفد من قيادة حماس، بحجج وذرائع شتى، فيما تُقدم إدارته الانتقالية، على تشكيل لجنة لمراقبة أداء الفصائل، وتغلق معسكراتها وتصادر أسلحتها (مع الإبقاء على الفردي منها لغايات حراسة المكاتب والشخصيات المتبقية)، وتعمد إلى اعتقال اثنين من قادة الجهاد الإسلامي في سوريا، ربطاً بهدف منع إيران من العودة إلى سوريا، ومعاقبة 'المحسوبين' عليها. يحرص النظام الجديد 'متطوعاً' على تقديم كل الضمانات، بالأفعال لا بالأقوال فحسب، على ضمان منع إيران من العودة إلى سوريا، وتقطيع شرايين دعم حزب الله، استمراراً لمنهج سياسي وعقائدي ضاربة جذوره في عمق الأيديولوجيا ويوميات الأزمة السورية، علّه بذلك يسترضي خصوم طهران وأعداءها الكثر… وفي هذا السياق أيضاً، يحرص النظام على إبقاء مسافة أمان بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين، التي وإن كانت لا تقيم علاقات متميزة مع إيران والحزب،بيد أنها في عموم فروعها، لا تستعديهما… وهذا ما يفسر إلى حد ما، رفضه فتح مكاتب للجماعة السورية، وحرصه على تجريدها من السلاح، فيما فصائل عديدة أخرى، ما زالت تحتفظ بسلاحها ومسلحيها. هذا الموقف يلتقي مع موجة عربية ضد الإخوان، بوصفها الوعاء الأكبر الحاضن لحماس، ويبدو أن الشرع وصحبه، ماضون في تمييز 'سلفيّتهم غير الجهادية' عن المدرسة الإخوانية…فالسلفية وجدت لنفسها مطرحاً في التحالف العربي والدولي ضد إيران وحلفائها، تحت عنوان 'إعادة توجيه' الحركة من مواجهة 'الخطر الشيوعي' في ثمانينيات القرن الفائت وتسعينياته، إلى الصدام مع 'الخطر الشيعي' منذ مفتتح القرن العشرين…تلكم المدرسة في التفكير الرسمي العربي والغربي، هي ذاتها التي أجازت التعاون مع سلفيي اليمن ضد إخوانه وحوثييه. وفي سياق التكييف والتطويع، يأتي الموقف من 'يهود سوريا'، وحقهم في العودة والزيارة وتفقد الممتلكات والديار… لا غبار على هذا الموقف إن صدر عن جهة متشبّعةً بفكرة 'المواطنة المتساوية'، وحياد الدولة ووقوفها على مسافة واحدة من مواطنيها ومواطنتها، كياناتها ومكوناتها، لكن أن يصدر عن إدارة نعرف تاريخها وحاضرها (لا نريد أن نرجم بغيب مستقبلها)، فهذا أقرب إلى المهزلة… فالنوايا مفضوحة، وهي لا تخرج عن 'أوراق اعتماد' إضافية تقدم للغرب و'إسرائيل' على مذبح البحث عن 'شرعية' و'اعتراف'، ودائماً تحت الضغط المركب…لا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه آخرون، من مقارنات بين موقف الإدارة الجديدة حيال يهود سوريا، ومواقفها من اللاجئين الفلسطينيين، فتلكم قضية ما زالت فصولها لم تكتمل بعد، سواء بالنسبة إلى فلسطينيي سوريا ومخيماتهم، أو لعموم اللاجئين وقضية عودتهم وتقرير مصيرهم. وثمة 'إشارات أولية' بأن الإدارة الجديدة قد تكون بصدد إرسال رسائل للقول بأنها ليست 'ألعوبة' بيد أنقرة وإردوغان، مع أن القاصي والداني، يدرك أن النظام و'هيئة تحرير الشام' وإمارة إدلب، كانت جميعها 'منتوجاً' تركياً، وأنه لولا دعم أنقرة ورعايتها وحمايتها، لما كان لـ'أبو محمد الجولاني' أن يتربع على كرسي الرئاسة في قصر الشعب، وأن يصبح الرئيس أحمد الشرع…لكن ثمة دوائر عربية وغربية، والأهم إسرائيلية، قلقة من التمدد التركي، وربما آن الأوان لبعث بعض الرسائل التي تشي بخلاف ذلك… حكاية التعامل بالمثل مع شركات طيران تركية تستخدم الأجواء والمطارات السورية، ليست سوى أول غيث هذا المسار… وفي تاريخ الحركات السلفية والجهادية، ثمة فصول عن تقلبات هذه الحركات، وسعيها لاستبدال حلفاء جدد بحلفاء قدامى، بل ومناصبتهم العداء حين يصبح ذلك ضرورياً. في سوريا بعد التغيير، انتشر مصطلح 'التكويع' في وصف حال كثيرين ممن كانوا من أنصار النظام القديم، وسارعوا إلى نقل بندقيتهم من كتف إلى كتف… ينسى مطلقو هذا المصطلح وناشروه، أن الإدارة ذاتها، هي أول 'المكوعين' وأبرزهم، بانقلاباتها المتتالية على مواقف وحلفاء الأمس، وفي تبدل أشكال قادتها ومضامين خطاباتهم وأنماط عيشهم. تنكر وقليل من الحمد في المقابل، 'إسرائيل' لا تثق بالنظام حتى وهو يمد يداً إبراهيمية إليها، وتتنكر لتحولاته… وواشنطن لديها 'دفتر شروط' سيجعل من سوريا رديفاً لمشروع الهيمنة في الإقليم إن تم الأخذ بها…والاتحاد الأوروبي معني بإعادة بناء مؤسسات إنفاذ القانون لضبط الحدود مع لبنان والعراق، وضبط الهجرة ومكافحة التهريب…والعرب ما زالوا على مقاربة 'الخطوة مقابل خطوة'، التي اعتمدوها مع النظام القديم، مع تعديل وتطوير لمواجهة أولويات جديدة… ومشوار سوريا للخروج من شرنقة العقوبات الدولية والاستباحة الإسرائيلية، ما زال طويلاً، ومن دون أوهام بقطاف سريع. وأخيراً، أتمنى لو أن قادة الإدارة الجديدة قد شكلوا من بينهم فريق عمل، لدراسة مآلات الوعود الزائفة التي تغدقها واشنطن وحلفاؤها الغربيون، على من تريد 'جرجرتهم' إلى خنادقها…وأن يتأملوا في تجارب غيرهم، ممن ساروا بعيداً على درب التكيف والتطويع والتكويع والترويض…أتمنى لو أتيحت الفرصة لأحمد الشرع لسؤال الرئيس محمود عباس كيف صار مُنبَتّاً: لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، لا حقوقاً استرد ولا سلاماً أنجز، برغم كل 'التقدِيمات' التي وضعها على طبق من فضة بين يدي الاحتلال، مرغماً حيناً وطائعاً أحياناً…أتمنى لو أن فريق الرئاسة يتوقف أمام تجربة السلام والتطبيع، الإبراهيمي وغير الإبراهيمي، وما الذي جاء به للدول المطبعة ذاتها، وليس لفلسطين والفلسطينيين. كما أتمنى لو أن 'تقلبات' السيد الشرع، تقف به عند حدود تجربة الإسلام السياسي التركي، فذلكم أهون البلاء، حتى وإن كره قوميونا ويساريونا العرب والسوريين… فما هو معروض عليكم أيها السادة، ليست دولة مدنية – ديمقراطية كما حلمتم، ودمشق ليست معدّة لأن تصبح 'هانوي' والقنيطرة لن تكون 'سايغون'، في ظل الحكم الجديد…واحرصوا على ألا يتحول بلدكم إلى نمط جديد في تجربة الحكم والسلطة، هو مزيج من سلفية محلية، متساوقة مع أرذل السياسات والاستراتيجيات الغربية والعربية التطبيعية، فلن تخرجوا من مولد كهذا، إلا بالقليل الأقل من الحمص. لا أحد يريد لسوريا أن تكون مدنية وبالأخص ديمقراطية، لا العرب ولا الغرب ولا 'إسرائيل' بالطبع، ولا أحد يريد سوريا بـ'طبعة إسلامية مقاومة'، سنيّة كانت أم شيعية، ولا أحد معني بحقوق نساء وأقليات أو بحقوق مدنية، تلكم ذرائع تتخذ لابتزاز النظام الجديد، لكسب الوقت وذر الرماد في العيون، وبالأخص، لتدوير الزوايا الحادة القديمة في مواقفه وسياسته، ومنعه من الانخراط في علاقات طبيعية مع جواره العربي وغير العربي، لتبقى سوريا عارية من كل عناصر القوة وأوراقها، وليبقى نظامها خرقة بالية، تحركها رياح الحلف الغربي الصهيوني كيفما اشتهت سفنه وأينما اتجهت


وطنا نيوز
٠٨-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- وطنا نيوز
سيناريوهات ثلاثة للصراع التركي- الإسرائيلي في سوريا.. ما هي؟
كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسة فتح الثامن من ديسمبر/ كانون الأول فصلًا جديدًا في تاريخ العلاقات التركية – الإسرائيلية، طوى عقدين من 'التعاون والتشاحن'، بالذات في عشرية 'الربيع العربي'، ليتحول إلى لحظة افتراق واصطراع بين قطبين إقليميين، ولتصبح العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، موضع اهتمام سياسي، وتركيز إعلامي، يتخطى عواصم الإقليم، إلى عواصم القرار الدولي ذات الصلة. وينشغل المراقبون في سبر أغوار هذه العلاقات، ومحاولات تلمّس مساراتها المستقبلية، وإجراء التمارين لبناء سيناريوهاتها القادمة، ليس لأننا أمام بلدين وازنين بمعايير القوة والاقتدار، أو لأن لكل منهما شبكات أمان إقليمية ودولية صلبة فحسب، بل لأن سوريا، موضع الصراع والتنافس، تحظى بمكانة 'القلب النابض' في المشرق العربي، امتدادًا إلى مساحات واسعة من 'الشرق الأوسط الكبير'. لأسباب عديدة، أهمها سوريا، خرجت العلاقات التركية – الإسرائيلية عن سكة تعاون معلن، وإن يكن مفخخًا بالكثير من الشكوك والهواجس المضمرة، إلى سكة صدام صريح، لا نعرف كيف سينتهي، ولمن ستكون الغلبة والأرجحية في خواتيمه. ولكن قبل الدخول إلى متاهة 'بناء السيناريوهات' (Scenario Building Exercises)، دعونا نُجرِ جردة سريعة في حسابات المصالح والأولويات لكلا الطرفين. حسابات المصالح ومسار التصادم لإسرائيل مصلحة عميقة (عليا) في إضعاف سوريا، توطئة لتقسيمها إلى دول وكيانات طائفية ومذهبية وعرقية، وهذا حلم 'الآباء المؤسسين' لـ'دولة اليهود'، الذين ارتأوا أن شرط بقاء إسرائيل وتكريس هيمنتها على المنطقة، إنما يتمثل في إعادة إنتاجها على شكل 'إمارات الطوائف والأقوام'، يصبح معها يهود إسرائيل أكبر أقلية، أو واحدة من كبرى الأقليات، وتحظى في سياقاتها الفكرة العنصرية و'المتعذرة' حول 'يهودية الدولة'، بـ'الشرعية' المطلوبة و'الممكنة'. في الطريق لإنجاز هذا الهدف الإستراتيجي، ليس مهمًا من يحكم دمشق، ما دام أنه ضعيف، ومؤخرًا، لم يعد مطلوبًا أن يضطلع حكام دمشق، أيًا كانت هويتهم و'قماشتهم'، بدور 'حرس الحدود'، ما دام أن نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، في طبعاتها المُحدّثة، أوكلت المهمة للجيش والاستخبارات الإسرائيليين، على أن يجري إنجازها على 'أرض العدو'، بعيدًا عن الحدود والجبهة الداخلية. وما دام أن إسرائيل باتت قادرة- كما يراهن قادتها- على خلق الفوضى في دول الجوار، و'مؤهلة' من منظورهم، لإدارتها على النحو الذي يخدم مصالحها، وما دام أن فكرة 'العربدة' و'استباحة' السماوات السورية، التي تم إنجازها طيلة العقدين الفائتين، و'تشرعنت' بتفاهمات نتنياهو – بوتين (2015)، قد توسعت بعد سقوط نظام الأسد الابن، إلى استباحة واحتلال أراضٍ سورية جديدة، وإعلان مناطق وأحزمة أمنية تلامس ضفاف دمشق، ومساحات واسعة من الحدود الجنوبية لسوريا. من بين الأدوات المعتمدة لإنجاز هذا الهدف، تأتي فكرة 'حلف الأقليات'، التي انتعشت مؤخرًا على وقع 'انتفاخ' الهويات الثانوية القاتلة في سوريا، ومن ضمن ذلك، اللعب بالورقة الكردية، ومداعبة أحلام الكرد القومية، ودائمًا بهدف تفتيت سوريا وابتزاز تركيا، فمن يمنع عن الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم، لا يمكن أن يكون منافحًا صلبًا عن حق شعب آخر (الكرد) في تقرير مصيره. في المقابل، تخشى أنقرة، مفاعيل 'مبدأ الدومينو' (Domino Effects) التي لن تقتصر على إضعاف دورها ونفوذها الإقليميين، في سوريا وعبرها إلى جوارها، بل ستطال العمق التركي ذاته، فإذا ما أفلت 'جنيُّ' الطوائف والمذاهب والأقوام من محبسه في سوريا، سيطاول الديمغرافيا والجغرافيا التركيتين، إن لم يكن على الفور، فعلى المديين؛ المتوسط والبعيد، وذلكم ربما يكون، أكبر وأخطر تحدٍ يواجه أنقرة، منذ سقوط الخلافة وقيام الجمهورية. وتشعر تركيا، بأنها ومنذ نهاية عهد الأسد الابن، باتت ملزمة أخلاقيًا ومعنويًا، بإدارة انتقال سلس وآمن للبلاد برمتها، فسوريا الغارقة في فوضى الطوائف وصراعاتها الأهلية، ستصبح عبئًا على تركيا، لا ذخرًا لها، وسوريا المُقسّمة والمُنقسِمة على ذاتها، لن تكون جسرها لدور قيادي لمحور عربي وإسلامي ممتد، تعتقد القيادة التركية أنها الأجدر بزعامته، وسوريا المختنقة بأزماتها الاقتصادية والاجتماعية، ستكون 'بالوعة' لامتصاص فائض الاقتدار التركي، بدل أن تكون رديفًا ومعينًا لها، وهي ترتقي سلم الاقتصادات الناشئة، وتحلم بدخول نادي العشر الكبار، بعد أن ثبتت موطئ قدم لها في 'نادي العشرين'. حسابات تركيا وقراءاتها لمكانة سوريا في إستراتيجيتها الإقليمية، ليست غائبة بدورها عن 'الوعي الإسرائيلي' الأمني والإستراتيجي، فتلّ أبيب تبوح بخشيتها من قيام 'قوس سنّي'، يحل محل 'الهلال الشيعي' الذي نظرت إليه بوصفه تهديدًا إستراتيجيًا، ونجحت في تفكيكه في أبرز مفاصله وحلقاته، إثر تداعيات 'الطوفان' وما بعده. هو قوسٌ، ذو ملمح 'إخواني' مطعَّم بنكهتين متضادتين: سلفية محافظة من جهة، و'إسلام مدني' جسدته تجربة 'العدالة والتنمية' من جهة ثانية.. مزيج عصيّ على التنبؤ بصورته ومكوناته ومآلاته. وفي آخر 'تقديرات الموقف' التي تنتشر في إسرائيل، فإن هذا 'القوس' قد يمتد من تركيا مرورًا بسوريا، عبر 'إخوان' الأردن و'سُنّة' لبنان، وصولًا إلى غزة وفلسطين.. ولهذا استحقّ الأمر، إدراج مسألة العلاقة مع تركيا، على جداول أعمال اجتماعات 'الكابينت الأمني'، واحتلالها موقعًا متصدرًا على سُلم أولويات التحالف الإستراتيجي مع واشنطن. نحن إذن، بإزاء مسار تصادمي بين أنقرة وتل أبيب، في سوريا وعليها، لكن تفكيرًا هادئًا بعيدًا عن صخب التصريحات النارية، وضجيج الاتهامات المتبادلة، يدفع إلى الاستنتاج بأن واحدًا من السيناريوهات الثلاثة التالية، سوف ينتظم مستقبل العلاقات بين البلدين، ويحدد مساراتها: السيناريو الأول: 'حروب الوكالة' كأن يدخل البلدان في سلسلة من الحروب المتنقلة، غير المباشرة، وعبر الوكلاء؛ كأن تواصل إسرائيل دعمها مليشيات متمردة على دمشق، وتأمين شبكات أمان لها: (مناطق آمنة، مناطق محظورة على الجيش السوري، مناطق حظر جوي، مناطق خالية من الدفاعات الجوية.. إلى غير ما هنالك من إجراءات).. تقابله أنقرة بدعم مليشيات مناهضة، كما حدث، وقد يتكرر، في الشمال الغربي، من معارك بين 'قسد' وفصائل 'الجيش الوطني' المدعومة من تركيا. وهو سيناريو قابل للتكرار في مناطق أخرى، ومن ضمنها الجنوب (وثمة إرهاصات دالة على ذلك)، وربما تحت شعارات 'مقاومة الاحتلال'، ومن يتماهى مع أهدافه ومراميه. في ظني أن تركيا تعطي الأولوية لبناء جيش سوري جديد، بتدريبها وتسليحها وتحت رعايتها، وإلى أن يتم لها ذلك، إن تم، فليس ثمة من بديل عن الاعتماد على قوى 'لادولتية' (Non-State Actors)، بوصفها 'قوات رديفة'، تعمل بشكل متصل ومنفصل مع نواة الجيش السوري الجديد، وتوفر لأنقرة أولًا، ودمشق في المقام الثاني، إمكانية التنصل من أفعالها إن اقتضت الضرورة، في إعادة إنتاج (قصّ ولصق) لتجارب مماثلة شهدتها بلدان عدة في الإقليم. لا يستبعد هذا السيناريو، بل يملي على أنقرة ودمشق، التوسع في نشر القوات والقواعد العسكرية التركية على الأرض السورية. ثمة تفاهمات أولية في هذا الشأن، وثمة جهود استطلاعية يجري تنفيذها على الأرض في وسط سوريا (المطارات الثلاثة: حماة، T4، وتدمر).. وثمة رسائل إسرائيلية، بالنار، لدمشق وأنقرة، بأن أمرًا كهذا، لن يكون مقبولًا على إسرائيل، وأنها ماضية في سعيها لجعله غير مقبولٍ على واشنطن كذلك. السيناريو الثاني: 'تقاسم النفوذ' كأن يجنح البلدان لخيار التفاوض والدبلوماسية، وصولًا لتقاسم السيطرة والنفوذ، وترسيم الخطوط الحمراء والخضراء والصفراء على الخريطة السورية، بديلًا عن التقسيم المرذول والمحفوف بأشد المخاطر، وتفاديًا لحرب مباشرة لا يريدها أحد. يستلهم هذا السيناريو ما كان حصل بين إسرائيل ونظام الأسد الأب في لبنان، مع اندلاع الحرب الأهلية ودخول الجيش السوري نصرةً للقوات والجبهة اللبنانيتين آنذاك (1975-1976).. حين 'احترمت' دمشق خطوط إسرائيل الحمراء في جنوب لبنان، ووقفت عندها. مثل هذا السيناريو، يستدعي تدخل وسيط ثقيل، من عيار الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل وصديقة تركيا.. وليس بالضرورة أن يتخذ 'سيناريو التقاسم' شكل اتفاقات مبرمة، بل يكفي التوصل إلى 'تفاهمات جنتلمان' برعاية أميركية حتى يصبح 'التقاسم' ممكنًا، مثل هذه التفاهمات 'صمدت' في أزمنة وأمكنة أخرى، أكثر مما فعلت الاتفاقات المكتوبة. قد يشتمل سيناريو كهذا، في أحسن الأحوال، على انسحابات إسرائيلية من أراضٍ سورية محتلة (مؤخرًا)، وقد يعيد الحياة لاتفاقية فك الارتباط لعام 1974، ولكن بشروط أخرى، لصالح إسرائيل، أولًا لجهة احتفاظها بنقاط 'حاكمة' على قمم الجبال ومساقط المياه، وثانيًا، لجهة مراعاة دور أمني إسرائيلي أكبر، في كل ما يتصل بإجراءات المراقبة و'التدخل السريع' حال بروز 'تهديد أمني'، كما هو حال التعامل الأميركي-الإسرائيلي مع اتفاق 27 نوفمبر/ تشرين الثاني في لبنان، وما رافقه من تفاهمات ثنائية أميركية- إسرائيلية، نصت على ما كان صعبًا النص عليه في الاتفاق الأصلي. إن تغلبت احتمالات التقدم على خط أنقرة- واشنطن- تل أبيب، فليس مستبعدًا أبدًا، أن تنتقل تركيا إلى دور 'الوسيط' بين سوريا وإسرائيل، وهو دور تفضله الدبلوماسية التركية عادة، وترغب في القيام به، في مختلف دول الأزمات المفتوحة.. وهو دور مارسته أنقرة من قبل، زمن بشار الأسد، وقبيل اندلاع الأزمة السورية بوقت قصير. من المستبعد تمامًا، أن يكون الجولان السوري المحتل مدرجًا على جدول أعمال التفاوض بين دمشق وتل أبيب، هذا ليس خيارًا إسرائيليًا، لا سيما بعد أن اعترف الرئيس الأميركي في ولايته الأولى بضم 'الهضبة' للسيادة الإسرائيلية. لكن ذلك، لا يمنع من الوصول إلى تفاهمات جديدة، أو إحياء اتفاقات قديمة، أقله لتبريد الأجواء على الحدود السورية – الإسرائيلية، ووقف التعديات الصارخة على السوريين، أرضًا وبشرًا ومقدرات. قد يكون هذا هو سقف التفاوض الممكن في المدى المرئي، مع الإشارة إلى أن 'المفاوضات بذاتها'، قد تكون مطلوبة من دمشق، لتفكيك أطواق العزلة والعقوبات الدولية، وإعادة إدماج سوريا في النظام الاقتصادي والمالي العالمي، والاعتراف بشرعية الانتقال والإدارة الجديدة.. عرفنا ذلك وخبرناه، في تجارب عربية عديدة، كان التفاوض مع إسرائيل، وأحيانًا التطبيع معها، مدخلًا لتحقيق مآرب أخرى. السيناريو الثالث: الصدام المباشر وهو الأبعد احتمالًا، الناجم عن انغلاق 'مسار التقاسم'، لأسباب تتعلق أساسًا بالعقيدة التوسعية المتحكمة بتلابيب القرار، والتي تعيش هذه الأيام، ذروة نشوة السطوة والهيمنة، تزامنًا مع تصاعد أو تصعيد في وتائر 'حروب الوكالة' المتنقلة بين الجانبين. مثل هذا السيناريو، سيضع دولة 'أطلسية' وازنة كتركيا، في مواجهة أهم حليف للغرب والولايات المتحدة، إسرائيل.. فهما دولتان من العيار الثقيل، لا تشبه الحرب المباشرة بينهما أيًا من الحروب التي شهدها الإقليم في العقود الماضية. ليس منظورًا، الانزلاق إلى سيناريو كهذا في المدى المرئي، فدونه أولويات أخرى يتعين إنجازها قبلًا، ضرب إيران أولوية متقدمة من منظور إسرائيل تتقدم على 'الخطر التركي الزاحف'، وآخر ما تحتاجه أنقرة، هو الانخراط في حرب مع عدو بحجم إسرائيل وتحالفاتها الغربية. لكننا في زمنٍ محمّل بالمفاجآت الخارقة لحدود التصور والخيال، والتي لم تكن لتُصدّق قبل أيام من وقوعها، فزعيمة الغرب وقائدة 'الناتو' والدولة العظمى، لم تعد تتردد بالتلويح بخيار القوة لاحتلال أراضٍ تتبع لدولة عضو في 'الأطلسي': غرينلاند/ الدانمارك، أو السعي لضم دولة (قارة) جارة (كندا)، أو السطو على خليج المكسيك وقناة بنما. خلاصة القول نجدها فيما قاله لينين قبل أزيد من مائة عام: 'النظرية رمادية، أما شجرة الحياة فدائمة الاخضرار'، والحياة الواقعية في سوريا ومن حولها، محمّلة دومًا بالجديد والمفاجئ، وقد يأتي السيناريو الواقعي الذي سيتنظم المسار السوري، مزيجًا بين السيناريوهين الأول والثاني، كأن تتوالى 'حروب الوكالة' لإنضاج مسار الصفقات والتسويات، فالدول التي تدفع عادة، باتجاه 'حافة الهاوية'، تحرص في اللحظات الأخيرة على الابتعاد عنها خطوة أو خطوتين، مخافة الانزلاق إلى قعرها المظلم. وهذا ما يبدو مرجحًا في الحالة التركية – الإسرائيلية، لكن سيناريو الانزلاق، يظل واردًا مع ذلك، وكم من الأمم والدول، انزلقت إلى حروب لم تسعَ إليها ولم تكن تريدها


أخبارنا
٠٩-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- أخبارنا
عريب الرنتاوي يكتب : قنبلة سجين تتطاير شظاياها فوق عواصم الإقليم
أخبارنا : كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية من معزله القصيّ، فوق جزيرة إمرالي الصغيرة في أطراف بحر مرمرة، فجّر السجين الأشهر عبدالله أوجلان، قنبلةً من العيار الثقيل، سيكون لها تداعيات وارتدادات تتخطى الجغرافيا التركية لتطاول الإقليم. وستُحدث شظاياها تبدلات في توازنات القوى الكردية في دول الانتشار، وتعيد ترتيب أولوياتها ومقارباتها، ومعها ستتغير مقاربات ورهانات قوى إقليمية ودولية، بالذات في الحواضن الأربعة لما بات يعرف بـ"المسألة الكردية". من بين الزعامات الثلاثة التي توزعت عليها الحركة الكردية في المنطقة: طالباني، البارزاني، وأوجلان، يتميز الأخير، بزعامة كاريزمية، عابرة للحدود. تأثيرات مؤسس حزب العمال الكردستاني قبل خمسة عقود، تضرب جذورًا عميقة في أوساط كردية سورية، وعراقية وإيرانية، فضلًا عن نفوذه الوازن في مغتربات الأكراد وشتاتهم. ومن هنا يمكن التكهن، بأن الرسالة التي وجهها الرجل إلى حزبه، ستتردد أصداؤها في جنبات المكونات والكيانات الكردية في مختلف الأرجاء، وهذا ما يبعث على ارتياح البعض ويثير قلق البعض. والرسالة بما تضمنته من أفكار، هي حصيلة مراجعات ممتدة وعميقة، أجراها الرجل في محبسه (1999 – حتى اليوم)، وقد تضمنت كتبٌ عدة أنجزها في سجنه، بعضًا من فصول هذه المراجعات، قرّبته من مفهوم "الأمة الديمقراطية"، وخففته من الخطاب القومي الحاد، بما يستبطن، أو يُشتق منه، مشاريع انفصالية، تحت مسميات عدة: الفدرالية، تقرير المصير، الإدارة الذاتية، وأحيانًا "اللامركزية الموسّعة". عبدالله أوجلان، اليساري، الماركسي – اللينيني سابقًا، يدعو في رسالته، لا إلى وقف إطلاق النار، أو هدنة مؤقتة، كما سبق له أن فعل، بل إلى إسقاط السلاح ونبذ العنف، وإنهاء نهج "الكفاح المسلح" وأدواته، بل ويطالب بحل الحزب "PKK" (تأسس عام 1978)، ومواصلة العمل السياسي تحت مسميات متخففة من إرث ذلك الحزب. ذلكم تطور نوعي وعامل تغيير إستراتيجي "Game Changer"، سيكون له ما بعده. القصة باختصار مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في العام 2002، بدا أن صفحة جديدة في العلاقات التركية – الكردية الداخلية قد فُتحت. لم تعد "المسألة الكردية" مسيّجة بالتابوهات. أصبحت عنوانًا على بساط، تتفق بشأنه الآراء وتفترق. بخلاف ما كان عليه الحال من قبل. ولأن الشيء بالشيء يذكر، أذكر أنه في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1998، كنت في زيارة أولى لأنقرة، بدعوة من "خارجيتها"، وصادف أن التوقيع على اتفاق أضنة قد تم بعد وصولي بأيام قلائل. وأثناء اجتماع مع وزير الخارجية التركية آنذاك، إسماعيل جيم، سألت مرافقتي من الخارجية ممازحًا: ما الموضوعات المحظور طرحها في لقاءاتي مع المسؤولين الأتراك، بالذات "الجنرالات" منهم؟ قالت أنصح بألا تسأل عن دور الجيش في السياسة، ولا عن المسألة الكردية، وهي النصيحة التي لم ألتزم بها على أية حال، بل حرصت على إثارة المسألتين، في كل لقاء أجريته خلال الأسبوعين اللذين استغرقتهما الزيارة. بدا أن حزب العدالة والتنمية "AKP"، لديه فائض مشتركات مع أكراد بلاده، بما لا يقارن مع أسلافه، من علمانيين وقوميين وجنرالات، تعاقبوا على حكم البلاد لسنوات وعقود مديدة. وبدأنا نشهد سنوات انفراج رافقت سنوات صعود الحزب وامتلاء صناديق الاقتراع بالأصوات المؤيدة له. إلى أن وصلنا إلى انتخابات يونيو/ حزيران عام 2015، التي لم يتمكن بنتيجتها الحزب من الفوز بعددٍ كافٍ من المقاعد لتشكيل حكومة جديدة، فتقرر إجراء انتخابات مبكرة في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة ذاتها، وبالتحالف مع الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهتشلي، المعروف بمواقفه المناهضة للحركة الكردية، ليبدأ بعدها فصل من المواجهة العنيفة في جنوب شرق الأناضول وديار بكر وجوارها، ولتعود العلاقات التركية – الكردية إلى سابق عهود الأزمة والتأزم. لكن ذلك لم يمنع أكراد البلاد، من خوض غمار الانتخابات العامة، وتشكيل أحزاب سياسية، وتحقيق مكتسبات انتخابية، جعلت منهم في مراحل معينة "بيضة قبّان" وازنة. ولم تَحُل الاعتقالات والملاحقات لنوابهم ورؤساء بلدياتهم، دون استمرار حضورهم في الحياة السياسية، وإن كان على "حبل مشدود". نقطة تحوّل في الثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أي قبل سقوط نظام الأسد بستة أسابيع، كان دولت بهتشلي أصدر نداءً اقترح فيه دعوة عبدالله أوجلان لمخاطبة البرلمان التركي، والإعلان عن وقف "الإرهاب" وحل حزبه. يومها قُوبلت مبادرة زعيم الحركة القومية، بفيض من التساؤلات، لا سيما أنها تصدر عن واحدٍ من أكثر خصوم الحركة الكردية تشددًا، ما الذي يدور في الخفاء، وما هي أهداف المبادرة، ولماذا الآن، وهل هي منسّقة مع الشقيق الأكبر، حزب العدالة والتنمية والزعيم التركي رجب طيب أردوغان؟ لم تمضِ سوى 48 ساعة، حتى كان الإرهاب يضرب في أنقرة، مستهدفًا قلب الصناعة الدفاعية التركية، يومها ترددت الاتهامات بالسعي لإجهاض مبادرة بهتشلي، وقطع الطريق على المصالحة الوطنية، لتتجدد بعد ذلك العمليات الحربية التي طاولت جبال قنديل وأطراف العراق وسوريا. لكن ما نفهمه من الرسالة القادمة من سجن إمرالي في السادس والعشرين من فبراير/ شباط الفائت، أو بالأحرى، ما نستنتجه من هذه الرسالة /القنبلة، أن قنوات التواصل بين الجانبين، لم تنقطع، برغم صخب المعارك وأصوات التفجيرات والغارات. وأحسب أن رسالة أوجلان، ليست سوى الجزء الظاهر من جبل جليد هذه الاتصالات و"التفاهمات"، أما جزؤُها الغاطس، فسيتكشّف في قادمات الأيام. لم ينتظر المراقبون المتلهفون للتعرف على "استجابة" قيادة الحزب وقيادة قنديل لدعوة أوجلان طويلًا. الرد جاء سريعًا ومفصلًا، في بيان صادر عن اللجنة التنفيذية للحزب، عبّر من خلاله عن تأييده التام للمبادرة، مطالبًا سلطات أنقرة، بتسهيل انعقاد مؤتمر الحزب وبمشاركة "الأب الروحي" شخصيًا في أعماله، بعد إصدار ما يلزم من قرارات العفو والإفراج عن معتقلي الحزب وقياداته، وهذا يشمل معتقلي حزب الشعوب الديمقراطية، الذي يقبع زعيمه صلاح الدين ديمرطاش في السجن منذ عدة سنوات. نحن إذن، أمام كرة بدأت بالتدحرج. ومن دون تهوين أو تهويل لحجم وصلابة العقبات والمعوّقات التي تحول دون إنجاز ملف "السلم الأهلي"، إلا أن جملة من البيئة الداخلية والجيوسياسية في تركيا ومحيطها، تدفع على الاعتقاد بأننا إزاء أكثر المحاولات جديّة لإغلاق ملف "المسألة الكردية" في تركيا، بكل ما قد يترتب من تداعيات على قضايا الكرد وأحوالهم في دول الجوار. داخليًا؛ قال زعيم الحزب كلمته، واستجابت قيادته للنداء: إلقاء السلاح، إنهاء ظاهرة "الكفاح المسلح"، و"حل الحزب"، جملة التزامات من النوع غير القابلة للتراجع عنها إن حصلت "Irreversible"، والحزب استبدل غايات كفاحه التي تحمل معاني "الانفصال" و"الفدرالية" بمطالب الاندماج الكامل والمواطنة المتساوية، السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي. تلكم تطورات كفيلة بتبديد الخوف والقلق على سلامة الوحدة الترابية للبلاد، وسيادتها وسلامة نسيجها الاجتماعي. في المقابل، تبدو الدولة التركية بحاجة لترتيب بيتها الداخلي، لمواجهة استحقاقات إقليمية تطل برأسها، وتحديدًا على حدودها الجنوبية، مع وجود "جيب كردي انفصالي"، لم يعد قادته يترددون في البوح باستعدادهم للتحالف مع "الشيطان/إسرائيل" إن هو مدّ لهم يد العون، وما قاله تلميحًا مظلوم عبدي (القائد العام لقوات قسد الكردية في سوريا)، سبق لإلهام أحمد (المسؤولة الحزبية الكردية في سوريا) أن قالته لـ"جيروزاليم بوست" تصريحًا. أما حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ 23 عامًا، فقد خرج من آخر انتخابات في مارس/ آذار الماضي، بفوز غير مؤزّر، فيما زعيمه و"الأب الروحي" له، يواجه استحقاق الخروج من المسرح السياسي في ختام آخر ولاياته الرئاسية، المصادر في أنقرة، تتحدث عن مصلحة للحزب في تجديد حضوره الشعبي وقواعده الانتخابية لمواجهة الاستحقاقات القادمة، وعن رغبة زعيمه في تعديل الدستور، لتمكينه من ولاية رئاسية إضافية. أزيد من أربعين عامًا من العنف المسلح، أزهقت أرواح أكثر من 40 ألف تركي وكردي، وعشرات المليارات من الدولارات، خسائر مادية. لا الحزب الكردي نجح في تحقيق أهدافه، بل بدا أنه يخسر مزيدًا من الأرض والقواعد والشعبية مؤخرًا، لا سيما بعد رحيل نظام الأسد إلى ذمّة التاريخ، ولا الدولة التركية تخلصت من شبح "الإرهاب" الذي قضّ مضاجعها. تركيا تقف اليوم على عتبات مرحلة جديدة، عنوانها السلم الأهلي، وترتيب البيت الداخلي، وسد ثغرات الداخل؛ استعدادًا لتحديات الخارج. لا يعني ذلك للحظة واحدة، أن ليس ثمة متضررون من هذا المسار الجديد الذي بدأ يشق طريقه، وستبدي لنا قادمات الأيام فصولًا منه، لا نعرفها حتى اليوم. هؤلاء لن يرفعوا الرايات البيضاء أمام قطار المصالحة، لكن يبدو أن قوة الزخم التي يتوفر عليها هذا المسار السياسي، ستكون كفيلة بإزالة هذه العقبات وتدوير الزوايا الحادة في مواقف وتوجهات المعارضين. شظايا تتطاير أكثر المتضررين من هذه التطورات المتسارعة، هم فريق "قسد" من أكراد سوريا، وهو فريق مركزي على أية حال، ويعتبر العمود الفقري للحركة الكردية في شمال سوريا. هم لم يفقدوا حليفًا مشاركًا وموثوقًا في الميدان فحسب، بل هم الأقرب لنهج حزب العمال الكردستاني وتوجهات زعامته التاريخية. سيتعين على "قسد" بذل المزيد من الجهد لتبرير استمرارها في حمل السلاح، والتمسك بشروطها للاندماج في الجيش السوري الجديد. سيتعين عليها التخلي عن أحلامها في "الفدرالية" و"الإدارة الذاتية الموسعة" والتي تشفّ عن طموحات انفصالية لا يحد منها سوى المصاعب التي تعترض ترجمتها. سيتعين عليها التخلي عن نهج الاستقواء بالأجنبي، أميركيًا كان أم إسرائيليًا، تلكم رهانات خائبة، تبدو سوريا الجديدة، وتركيا ما بعد المصالحة، في وضع أفضل لإحباط مراميها وأهدافها. بيان أوجلان الذي قالت "قسد" إنها ليست معنية به، رسم سقوفًا لطموحات كرد سوريا وتطلعاتهم، ووضع قيودًا على أدوات كفاحهم ومستقبل خياراتهم المسلحة. وشق طريقًا سيساعد "قسد" على الاندماج بالدولة السورية، والعمل على "السلم الأهلي والمجتمع الديمقراطي". بخلاف ذلك، ستكون الحركة الكردية عرضة لمسلسل من الانشقاقات لا يتوقف، وستقوى شوكة الكرد من أنصار المدرسة البارزانية، القريبة من أنقرة والحليفة لحزبها الحاكم، إذ من المتوقع أن تختل التوازنات في إقليم كردستان العراق كذلك، في غير صالح السليمانية والطالبانية، وهي كانت بدأت الاختلال في ضوء انكماش الدور الإيراني إثر "الطوفان"، وتنامي دور تركيا بعد الثامن من ديسمبر/ كانون الأول. وأحسب أن إسرائيل هي ثاني أكبر الخاسرين من التطورات الأخيرة للمسألة الكردية في تركيا. لا لأنها تضع مشكلات كبرى في طريق ترجمة "حلف الأقليات" ودعوات نتنياهو – ساعر لحماية الأكراد فحسب، بل لأنها تجرد إسرائيل من ورقة يمكن أن تحركها ضد أنقرة، ما دام أن العلاقة بين البلدين، قد وضعت على سكة تصادم بعد أن كانت على سكة تعاون، كما يتّضح في التطورات المتلاحقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أما بالنسبة لإيران، فإن لرسالة أوجلان وقعًا مزدوجًا عليها، فمن جهة أولى، تخفف عنها عبء حركة كردية إيرانية، سياسية ومسلحة، أقل حضورًا من نظيراتها في دول الانتشار الكردي، وإن كانت تتسبب بصداع مزمن لطهران. ومن جهة ثانية، فإن تقارير ما بعد انهيار نظام الأسد، كانت تتحدث عن رهان إيران على "قسد" لمقارعة النظام السوري الجديد، وهي تقارير لا يوجد ما يكفي من الأدلة على صدقيتها، سوى معلومات شحيحة، عن لقاءات في السليمانية جرت للبحث في هذا الموضوع. واشنطن، الحاضر الأكبر في شمال شرق سوريا، استقبلت بيان أوجلان بترحيب رسمي، ذلك أن فكفكة العقد بين أنقرة وحزب العمال، مع ما قد تفضي من تراجع منسوب التوتر بين "قسد" و"أنقرة"، يمكن أن يسرع في تنفيذ مهمة سحب القوات الأميركية من تلك البقعة، وهي المهمة التي أخفق دونالد ترامب في إنجازها في ولايته الأولى، وربما يكون راغبًا في إنجازها في ولايته الثانية، وهو – أي ترامب – سبق أن أبدى ارتياحه لتنامي الدور التركي في سوريا، باعتبار أن ثمة "حليفًا موثوقًا" يمكن أن يتولى أمر سوريا، بخلاف إسرائيل، التي تخشى هذا الدور، لدرجة أنها بدأت تضغط للإبقاء على القواعد الروسية في سوريا، لعدم ترك الأخيرة نهبًا لنفوذ تركي متفرّد. رسالة أوجلان، إن استجابت لها أنقرة، بصورة جذرية تلتقي مع جذريتها، فسترسم سقوفًا للحركات الكردية في الإقليم، لا يُنتظر معها، العودة للاستفتاء على مستقبل الإقليم في العراق، ولا بقاء "قسد" و"الإدارة الذاتية" خارج الدولة السورية، أو بموازاتها، ولن يكون ممكنًا بعدها، التفكير بأية ولادات من خارج رحم الدولة، لحركات انفصالية بدأت تطل برأسها الكريه من تحت مظلة "حلف الأقليات" بالزعامة والحماية الإسرائيليتين.


أخبارنا
١١-٠٢-٢٠٢٥
- سياسة
- أخبارنا
عريب الرنتاوي يكتب : نتنياهو العائد بسيف "التهجير"...هل يصمد اتفاق وقف النار؟
أخبارنا : كتب: عريب الرنتاوي، مدير عام مركز القدس للدراسات السياسية عاد بنيامين نتنياهو من واشنطن، بسقف أعلى من التوقعات والشروط. الرجل الذي ذهب إلى قمته الأولى مع دونالد ترامب في ولايته الثانية، بعد أن أبرم اتفاقاً من ثلاث مراحل مع حماس، لإنهاء الحرب والانسحاب الشامل، وتبادل الأسرى، وفتح طرق المساعدات والإغاثة والإيواء، وجد لدى محدّثه الُمجلّل بنصر انتخابي يُعمي البصر والبصيرة، ما يفوق سقوف توقعاته، وما يتخطى أكثر أحلامه "ورديةً". وجد رجلاً كارهاً لحماس والفلسطينيين، يسعى في تملّك قطاع غزة بعد تهجير سكانه، وتوزيعهم في شتات الأرض ومنافيها. ما الذي (ومن الذي) سيُقنع نتنياهو وأركان اليمين الفاشي في "إسرائيل" بممارسة "التواضع" في رسم السقوط وتحديد الشروط والمطالب؟ ولماذا يبقى الرجل وحكومته وائتلافه على ما سبق لهم أن تعهدوا الالتزام به، في اتفاق وقف النار، أمام الوسطاء والمجتمع الدولي، بل وأمام الرأي العام الإسرائيلي؟ وقبل أن يعود من رحلته المفعمة بالمفاجآت الصاعقة التي فجّرها مشروع ترامب لتهجير الفلسطينيين، كان الرجل يبعث برسائل إلى الدوحة والقاهرة: تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق، تأجيل مفاوضات المرحلة الثانية، إعادة صياغة لائحة الشروط والمطالب الإسرائيلية، بناءً على المعطى الأميركي الجديد ولم ينتظر الرجل طويلاً، إذ باح بما يجول في خاطره: إخراج قيادة حماس من غزة، نزع سلاحها وتدمير منشآتها العسكرية وبناها التحتية، ومنعها من أن تكون جزءاً من أي سلطة في غزة، وهذا غيض من فيض الشروط المستجدة والسقوف الأكثر ارتفاعاً وتلكم، وفقاً للمراقبين، واحدة من أولى وأخطر، تداعيات مشروع ترامب على مفاوضات التهدئة ووقف الحرب. المرحلة الثانية في خطر حتى الآن، لا يبدو أن سيناريو انهيار الاتفاق بات مؤكداً، أو حتى أمراً مرجحاً، ولا سيما أن حماس وفصائل المقاومة، ستظل تحتفظ بعدد كبير نسبياً من الأسرى والمحتجزين لديها... الإفراج عن هؤلاء، أولوية أولى بالنسبة إلى ترامب الذي تعهد مراراً وتكراراً بإطلاق سراحهم. لكن السؤال الذي سيظل عالقاً، كيف يمكن "تحرير" هؤلاء من أسرهم، وما الذي سيقنع حماس بالإفراج عنهم، وما الثمن الذي يتعيّن على حكومة الفاشيين الجدد، أن تدفعه في المقابل؟ حتى الآن، تبدو الصورة غائمة وضبابية إلى حد كبير. فالمرحلة الثانية من الاتفاق، أو بالأحرى المرحلتين الثانية والثالثة، لن تشتملا فقط على تبادل الأسرى وإتمام الانسحاب من غزة ووقف الحرب، لكنها من ضمن أشياء أخرى، ستتوقف مطولاً عند سؤال اليوم التالي، من سيحكم القطاع في المرحلة المقبلة، وما مصير حماس، بنيةً عسكرية وسلطوية سواء بسواء. هذا السؤال ازداد ضغطاً وإلحاحاً على عقل نتنياهو وحليفه في البيت الأبيض، سيما بعد العراضات والاستعراضات التي أجرتها حماس في مراسم تسليم أسرى العدو وتسلم أسرى الفلسطينيين المحررين من سجون الاحتلال. صورة النصر المطلق التي وعد بها نتنياهو، تتمزق يوماً إثر آخر، ومع كل صفقة تبادل، تؤكد حماس "أنها الطوفان وأنها اليوم التالي" فيما صورة نتنياهو ومكانته، تتآكلان صبيحة كل سبت منذ أن دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، وهذا ما يثير حفيظته، ويدفعه إلى التفكير في تدمير الاتفاق على رؤوس الأسرى والآسرين سواء بسواء. ما كشف عنه نتنياهو من شروط جديدة للاتفاق، لا يمكن أن يكون مقبولاً، لا من قبل حماس ولا من قبل مختلف القوى والفصائل الفلسطينية. هو لا يطلب شيئاً أقل، من أن تصفي حماس نفسها بنفسها، وأن تطلق النار على رأسها وليس على قدميها.. هو يريد بسيف التهجير القسري الذي شهره دونالد ترامب، أن يحصل على ما عجزت "الميركافا" و"الإف 35" وقنابل الألفي رطل عن تحقيقه... هذا ليس خياراً تفاوضياً، تلكم وصفة موثوقة لخراب المسار التفاوضي، وإحباط الوسطاء والوساطات. كيف يمكن لنتنياهو، ومن خلفه ترامب، أن يضمنا إخراج جميع الأسرى المحتجزين لدى المقاومة، في الوقت الذي يطلقان فيه النار على حماس، بدل أن يتفاوضا معها؟.. هل يفترضان أن الحركة ومفاوضيها من السذاجة بحيث تقبل بالتخلي عن "ورقة الأسرى" من دون ضمانات للبقاء والاستمرار، وكرمى لعيون الوفد التفاوضي المعاد تشكيله وفقاً لقواعد الولاء الشخصي لنتنياهو؟ ترامب الذي طالما تبجح بأن إنجاز اتفاق وقف النار، ما كان ممكناً من دون انتخابه ومن دون حزمه وبطشه الشديدين.. ترامب نفسه، بمشروع تهجير الفلسطينيين من غزة، يضع هذا الاتفاق على المحك من جديد، ويتهدد بانقطاع الصلة والتواصل بين مرحلتيه الأولى والثانية، واستتباعاً، يتهدد حياة الأسرى الإسرائيليين، إن ظلوا في قبضة المقاومة، وإن تداعت الأوضاع إلى سيناريو عودة الحرب من جديد. في المقابل، يصعب على نتنياهو أن يكون صهيونياً أقل من ترامب، فالأخير يطالب بـ"تنظيف" و"تطهير" قطاع غزة من أهله وأصحاب الأرض الأصليين، وليس من حماس والمقاومة فحسب، فهل يمكن لنتنياهو أن يهبط بسقفه إلى ما دون سقف ترامب... الهرم مقلوب على رأسه، وبدل أن يعمل زعيم الدولة الأعظم على احتواء غضب وتطرف "زعيم العصابة" الحاكمة في "تل أبيب"، رأينا تاجر العقارات يفكر بجشع يفوق بأضعاف جشع تاجر البندقية لشكسبير. لقد جعل ترامب من مهمة موفده بيتكوف صعبة للغاية والمرجح أن مفاوضات المرحلة الثانية، التي أجمع المراقبون على وصفها بالصعبة، قد أصبحت أكثر صعوبة وتعقيداً، سيما بعد أن أشعلت تصريحات ترامب التهجيرية الخيال الجامح لنتنياهو، فأخذ يطالب السعودية باقتطاع جزء من أراضيها الشاسعة، لتكون وطناً للفلسطينيين يقيمون فوقها دولتهم العتيدة، وبعد أن رأى رفضاً مصرياً وأردنياً لمشروع التهجير واستقبال المزيد منهم. ويتكوف الذي ادعى بأنه عرّاب الاتفاق، سيجد صعوبة في المضي قدماً على طريق تنفيذه. وترامب نفسه، الذي وضع هدف التطبيع بين السعودية و"إسرائيل"، جعل بمقترحه التهجيري هذه المهمة أكثر صعوبة من أي وقت مضى، سيما بعد أن تطوع نتنياهو لتعميق مشروع ترامب وتوسيعه، وضم السعودية إلى قائمة الدول المستهدفة بالتهجير القسري. هو مثال على الكيفية التي يعمل بها ترامب الشيء ونقيضه، وكيف يمكن لآخر كلامه أن يدمر أوله... استمرار وقف النار بات مهدداً وأبعد منالاً... والتطبيع بات أبعد عن خط نهايته منذ أن طرحت الفكرة أول مرة... غريزة المقاول والمطور العقاري، تغلبت على عقلية السياسي لدى ترامب، فكانت النتيجة ما آلت إليه الحال في المنطقة، حيث لم يعد الحراك السياسي والدبلوماسي مدفوعاً بالتضامن والإسناد للفلسطينيين، بل بالدفاع عن الذات، عن الأمن والاستقرار والوجود، في كل من عمان والقاهرة والرياض، وسط تقديرات تذهب في حدها الأقصى للقول بأن عداوة واشنطن قد تكون في بعض الأحيان أقل كلفة من صداقتها. ترامب ليس قدراً ترامب ليس قدراً، وكذا نتنياهو، بمقدور العرب، أن يقلبوا الطاولة على رأسيهما معاً، إذ لم يعد المستهدف بمشاريعهما الفلسطينيين وحدهم، بل الدول العربية في أمنها واستقرارها وهويتها وكيانها ووحدة وسلامة أراضيها وسيادتها واستقلالها. المطلوب من القمة العربية الطارئة المقبلة في القاهرة، وقفة من نوع مغاير تماماً، أقله أن تضع الاتفاقات والمعاهدات المبرمة في المسارين التطبيعي والإبراهيمي في كفّة، والتهجير في كفة أخر ... المعاهدات والاتفاقات في كفّة ووقف الحرب في كفّة أخرى، المعاهدات والاتفاقات في كفّة و"حل الدولتين" في كفّة أخرى. ترامب ليس بحاجة إلى الشرح والتوضيح، ربما يكون من المفيد مخاطبة مؤسسات صنع القرار الأميركي المختلفة، لحشد الدعم للموقف العربي، لكن من دون مبالغة فالرجل عائد إلى البيت الأبيض بقوة الثور الهائج، وهو مصرّ على مشروع على ما يتضح من تصريحاته المتكررة. المطلوب مخاطبته باللغة التي يفهمها، لغة الصفقات وفنونها... فلديه ما يخسره إن خسر علاقاته المتميزة مع حلفائه، والعرب ليس وحدهم من سيخسر في هذه المعادلة، ومن دون أن تتوفر للمجموعة العربية، الجرأة والشجاعة والإرادة للدخول في لعبة "مكاسرة الإرادات"، سينتصر ترامب ويتوّج نتنياهو ملكاً للمنطقة، ويخسر العرب مثلما سيخسر الفلسطينيون، والكرة الآن في ملعب 22 زعيماً عربياً، سيتقاطرون إلى القاهرة عمّا قريب.