أحدث الأخبار مع #فورين_أفيرز


العربية
منذ 10 ساعات
- سياسة
- العربية
ترمب.. و«القوى الناعمة» !
ظل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يتبنى مقاربة مغايرة تماماً لمفهوم «القوة الناعمة» كما صاغه المفكر جوزيف ناي، حيث مال بقوة نحو تعظيم أدوات «القوة الصلبة»؛ ممثلةً في التفوق العسكري والضغوط الاقتصادية، على حساب الأدوات الدبلوماسية والثقافية التي تشكِّل جوهر القوة الناعمة. وقد لخّص ناي هذا التحول في مقال له بمجلة «فورين أفيرز» (2018) حين أشار إلى أن سياسات ترمب القومية ومواقفه تجاه الحلفاء أسهمت في تراجع القوة الناعمة الأمريكية. كما أكد في كتابه «The Future of Power» أن المزج المتوازن بين القوة الصلبة والناعمة يبقى ضرورياً للقيادة العالمية، الأمر الذي تهمله بعض الإدارات الأمريكية. يتمثّل هذا الإهمال في سياسة «أمريكا أولاً» التي قادت إلى انسحابات متتالية من تحالفات ومؤسسات دولية كبرى مثل منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، مما يضعف الأدوات الدبلوماسية الأمريكية. كما تجلّى في القرارات المالية التي استهدفت تقليص برامج التبادل الثقافي مثل «فولبرايت» وهيئات الإعلام الدولي مثل «صوت أمريكا»، ناهيك عن خطط خفض ميزانية الخارجية بنسبة 50% التي كشفت عنها «رويترز» والتي كانت ستؤدي إلى إغلاق عشرات البعثات الدبلوماسية. في المقابل، يذهب بعض المؤيدين للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى أن أساليبه المباشرة في التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي يشكّل نوعاً من القوة الناعمة، إذ نجح في استقطاب قاعدة شعبية عريضة في العديد من الدول عبر خطابه المعادي للنُخب التقليدية. في حين يرى بعض الخبراء أن هذا الأسلوب زاد من حدة الاستقطاب الدولي أكثر مما ساهم في تعزيز الجذب الثقافي أو السياسي الأمريكي. في الواقع، يبدو أن ترمب -بعيداً عن الانطباع السائد- كان يمتلك وعياً حاداً بمحدودية تأثير القوة الناعمة في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها النظام الدولي. لقد أدرك باكراً أن زمن الهيمنة الأمريكية الأحادية قد ولّى، وأن العالم يشهد صعود قوى جديدة تتحدى الثنائية الصلبة/ الناعمة التقليدية. تصريحاته الأخيرة في الرياض، حيث انتقد «بناة الأمم» ومحاولات فرض الثقافة الأمريكية، تعكس فهماً عميقاً لتحولات العصر: فالشعوب اليوم ترفض الهيمنة الثقافية كما ترفض الهيمنة السياسية، وهي تصنع نهضتها معتمدة على مقوماتها الحضارية الخاصة. لقد اختار ترمب عن قصد التركيز على القوة الصلبة ليس لأنه يجهل أهمية القوة الناعمة، بل لأنه رأى أن زمن القوة الناعمة التقليدية -بآلياتها وخطابها- قد ضعف. في عالم تتصارع فيه الحضارات أكثر من أي وقت مضى، وتتنافس فيه النماذج التنموية قبل أن تتنافس الرؤى الثقافية، كان ترمب يقدم قراءة واقعية -وإن كانت قاسية- لطبيعة المرحلة الانتقالية التي يعيشها النظام العالمي. ربما يكون التاريخ هو الحكم الأفضل على مدى صحة هذه الرؤية من عدمها.


عكاظ
منذ يوم واحد
- سياسة
- عكاظ
ترمب.. و«القوى الناعمة» !
ظل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يتبنى مقاربة مغايرة تماماً لمفهوم «القوة الناعمة» كما صاغه المفكر جوزيف ناي، حيث مال بقوة نحو تعظيم أدوات «القوة الصلبة»؛ ممثلةً في التفوق العسكري والضغوط الاقتصادية، على حساب الأدوات الدبلوماسية والثقافية التي تشكِّل جوهر القوة الناعمة. وقد لخّص ناي هذا التحول في مقال له بمجلة «فورين أفيرز» (2018) حين أشار إلى أن سياسات ترمب القومية ومواقفه تجاه الحلفاء أسهمت في تراجع القوة الناعمة الأمريكية. كما أكد في كتابه «The Future of Power» أن المزج المتوازن بين القوة الصلبة والناعمة يبقى ضرورياً للقيادة العالمية، الأمر الذي تهمله بعض الإدارات الأمريكية. يتمثّل هذا الإهمال في سياسة «أمريكا أولاً» التي قادت إلى انسحابات متتالية من تحالفات ومؤسسات دولية كبرى مثل منظمة الصحة العالمية، واتفاقية باريس للمناخ، مما يضعف الأدوات الدبلوماسية الأمريكية. كما تجلّى في القرارات المالية التي استهدفت تقليص برامج التبادل الثقافي مثل «فولبرايت» وهيئات الإعلام الدولي مثل «صوت أمريكا»، ناهيك عن خطط خفض ميزانية الخارجية بنسبة 50% التي كشفت عنها «رويترز» والتي كانت ستؤدي إلى إغلاق عشرات البعثات الدبلوماسية. في المقابل، يذهب بعض المؤيدين للرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى أن أساليبه المباشرة في التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي يشكّل نوعاً من القوة الناعمة، إذ نجح في استقطاب قاعدة شعبية عريضة في العديد من الدول عبر خطابه المعادي للنُخب التقليدية. في حين يرى بعض الخبراء أن هذا الأسلوب زاد من حدة الاستقطاب الدولي أكثر مما ساهم في تعزيز الجذب الثقافي أو السياسي الأمريكي. في الواقع، يبدو أن ترمب -بعيداً عن الانطباع السائد- كان يمتلك وعياً حاداً بمحدودية تأثير القوة الناعمة في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها النظام الدولي. لقد أدرك باكراً أن زمن الهيمنة الأمريكية الأحادية قد ولّى، وأن العالم يشهد صعود قوى جديدة تتحدى الثنائية الصلبة/ الناعمة التقليدية. تصريحاته الأخيرة في الرياض، حيث انتقد «بناة الأمم» ومحاولات فرض الثقافة الأمريكية، تعكس فهماً عميقاً لتحولات العصر: فالشعوب اليوم ترفض الهيمنة الثقافية كما ترفض الهيمنة السياسية، وهي تصنع نهضتها معتمدة على مقوماتها الحضارية الخاصة. لقد اختار ترمب عن قصد التركيز على القوة الصلبة ليس لأنه يجهل أهمية القوة الناعمة، بل لأنه رأى أن زمن القوة الناعمة التقليدية -بآلياتها وخطابها- قد ضعف. في عالم تتصارع فيه الحضارات أكثر من أي وقت مضى، وتتنافس فيه النماذج التنموية قبل أن تتنافس الرؤى الثقافية، كان ترمب يقدم قراءة واقعية -وإن كانت قاسية- لطبيعة المرحلة الانتقالية التي يعيشها النظام العالمي. ربما يكون التاريخ هو الحكم الأفضل على مدى صحة هذه الرؤية من عدمها. أخبار ذات صلة


الجزيرة
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
الحرب العالمية الثانية.. الصراع الدموي الذي يشكل العالم إلى اليوم
مقدمة الترجمة يقدم المؤرخ العسكري البريطاني أنتوني بيفور نظرية لتفسير الصراعات الآنية من خلال الحرب العالمية الثانية ، التي يرى أن أصداءها تشكل السياسات العالمية إلى اليوم. ويرى بيفور، في مقاله المنشور بمجلة "فورين أفيرز"، أن جميع القوى/الدول الفاعلة في الحرب تقريبا تقدم روايتها الخاصة حولها، وأن بمقدور تلك الرواية أن تفسر السياسات الراهنة لتلك القوة/الدولة في عالم اليوم. يشمل ذلك الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وحتى الصين التي ورثت مقعد الإمبراطورية اليابانية في أعقاب الحرب. يركز بيفور بشكل كبير على روسيا، وهو يقرأ أفكار بوتين وسياساته اليوم باعتبارها إرثا وامتدادا لأفكار وسياسات ستالين ، خاصة في الفضاء الجيوسياسي. ولا يخف المؤرخ البريطاني بطبيعة الحال تحيزه إلى الرواية الغربية، لدرجة أنه يبرر إلقاء الولايات المتحدة القنبلة الذرية فوق ناغازاكي وهيروشيما على أنه قرار ينطوي على "موازنة أخلاقية صعبة"، زاعما أنه أنقذ أعدادا كبيرة من البشر، أضعاف أولئك الذين قتلتهم القنابل الأميركية. نص الترجمة نادرا ما يكون التاريخ مرتبا أو منظما، حيث تتداخل العصور وتستطيل الأعمال غير المكتملة من حقبة إلى أخرى. كانت الحرب العالمية الثانية حربًا لا مثيل لها من حيث حجم تأثيرها على حياة الناس ومصائر الأمم، وكانت في الوقت نفسه مزيجا من الصراعات التي صنعتها الضغائن العرقية والوطنية التي أعقبت انهيار 4 إمبراطوريات وإعادة رسم الحدود في مؤتمر باريس للسلام بعد الحرب العالمية الأولى. وقد ذهب العديد من المؤرخين إلى أن الحرب العالمية الثانية (بحدودها الزمنية التي نعرفها اليوم بين عامي 1939 و1945) كانت مجرد جزء من حرب طويلة ممتدة منذ عام 1914 (تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى) حتى عام 1945، أو ربما حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.. حرب أهلية عالمية نشبت أولا بين الرأسمالية والشيوعية، ثم بين الديمقراطية والدكتاتورية. لا شك أن الحرب العالمية الثانية جمعت خيوط تاريخ العالم معا، بفضل نطاقها المتسع جغرافيا والدور الذي لعبته في تسريع نهاية حقبة الاستعمار في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. ولكن رغم تقاسم معظم الدول لهذه التجربة ودخولها في ذات النظام الذي بُني في أعقابها، فإن كل دولة مُشارِكة في النظام خلقت روايتها الخاصة لذلك الصراع الكبير وتمسكت بها حتى النهاية. وحتى مسألة بسيطة نظريا مثل: متى بدأت الحرب؟ لا تزال موضع جدل، ففي الرواية الأميركية مثلا، بدأت الحرب تأخذ مسارا جديا فقط عندما دخلت الولايات المتحدة على خط الصراع في أعقاب الهجوم الياباني على بيرل هاربور يوم 7 ديسمبر/كانون الأول 1941، وبعد إعلان "الدكتاتور" الألماني أدولف هتلر الحرب على واشنطن بعد ذلك ببضعة أيام. من جانبه، يصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن الحرب بدأت في يونيو/حزيران 1941، عندما غزا هتلر الاتحاد السوفياتي ، متجاهلاً الغزو السوفياتي والنازي المشترك لبولندا في سبتمبر/أيلول 1939، والذي يمثل بداية الحرب بالنسبة لمعظم الأوروبيين. وهناك من يُرجعون بدايات الحرب إلى تواريخ أبعد من ذلك، فبالنسبة للصين، بدأ الأمر عام 1937، مع اندلاع الحرب الصينية اليابانية، أو ربما قبل ذلك مع الاحتلال الياباني لإقليم منشوريا (التابع للصين) في عام 1931. هذا ويعتقد كثيرون من اليساريين في إسبانيا أن الأمر بدأ في عام 1936 مع إطاحة الجنرال فرانكو بالجمهورية، مما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية. تشكل هذه الرؤى العالمية المتضاربة مصدرا للتوتر وعدم الاستقرار في السياسة العالمية. ينتقي الرئيس الروسي بوتين من التاريخ الروسي ما يناسبه، فيجمع بين تكريم التضحيات السوفياتية في "الحرب الوطنية العظمى"، كما تُعرف الحرب العالمية الثانية في روسيا، وبين الأفكار "الرجعية" للروس البيض القيصريين المنفيين بعد هزيمتهم على يد الشيوعيين الحمر في الحرب الأهلية الروسية خلال الفترة 1917- 1922. هذه الأفكار "القيصرية" تقدم مبررات دينية للهيمنة الروسية على كامل الكتلة الأوراسية، "من فلاديفوستوك (في أقصى الشرق الروسي) إلى دبلن (إيرلندا في أقصى الغرب الأوروبي)"، على حد قول ألكسندر دوغين ، المنظر والأيديولوجي الأقرب إلى بوتين، كما تؤصل لكراهية متجذرة لأوروبا الغربية الليبرالية (جدير بالذكر أن هذه الأفكار تنتشر نسبيا وسط الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب). في غضون ذلك، أعاد بوتين تأهيل صورة الزعيم السوفياتي خلال فترة الحرب العالمية الثانية جوزيف ستالين، الذي يُعد، كما اعترف الفيزيائي السوفياتي المنشق أندريه ساخاروف، مسؤولاً مباشرا عن قتلى بالملايين، أكثر من هتلر نفسه. ويذهب الرئيس الروسي إلى حد الإصرار على أن الاتحاد السوفياتي كان بوسعه أن يحقق النصر في الحرب ضد ألمانيا النازية بمفرده، بينما يعترف ستالين وغيره من الزعماء السوفيات أن الاتحاد لم يكن ليتمكن من الصمود دون المساعدات الأميركية. ويدرك هؤلاء الزعماء أن الحملة الجوية الاستراتيجية التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد المدن الألمانية أجبرت الجزء الأكبر من القوات الجوية الألمانية على العودة والانسحاب من الجبهة الشرقية، الأمر الذي منح السوفيات التفوق الجوي. وعلاوة على كل ذلك، يرفض بوتين الاعتراف بأهوال العصر الستاليني. وكما أخبرتني ماري سوامز ابنة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل في حفل عشاء عام 2003، فإن تشرشل سأل ستالين خلال اجتماع غير رسمي في أكتوبر/تشرين الأول 1944 عن الأمر الذي يندم عليه الزعيم السوفياتي أكثر من ندمه على أي شيء آخر في حياته.. أخذ ستالين بعض الوقت للتفكير قبل أن يجيب بهدوء: "قتل الكولاك"- أي الفلاحين أصحاب الأراضي. بلغت هذه الحملة ذروتها مع المجاعة الكبرى "هولودومور" في عامي 1932 و1933، حيث تسبب ستالين عمداً في المجاعة الأوكرانية، مما أسفر عن مقتل أكثر من 3 ملايين شخص، وغرس الكراهية لموسكو بين العديد من الناجين وذرياتهم. على صعيد آخر، أنتجت الحرب العالمية الثانية توازنا غير مستقر في كثير من الأحيان داخل المعسكر الغربي بين أوروبا والولايات المتحدة، بعدما أجبرت الحرب وطموحات هتلر للهيمنة؛ المملكةَ المتحدة على التخلي عن الدور الذي عينته لنفسها كشرطي العالم، والتوجه إلى الأميركيين طلبا للمساعدة. كان البريطانيون فخورين حقا بدورهم في النصر النهائي للحلفاء، ولكنهم حاولوا إخفاء الألم الناجم عن تراجع نفوذهم العالمي من خلال ترديد المقولة المبتذلة القائلة بأن بريطانيا "تحملت فوق طاقتها" في الحرب، وكذا من خلال التمسك "بعلاقتها الخاصة" مع الولايات المتحدة. كان تشرشل منزعجًا من احتمال عودة القوات الأميركية إلى ديارها بعد انتهاء الحرب في المحيط الهادئ عام 1945، ورغم أن المواقف الأميركية ظلت تتذبذب بين السعي إلى دور عالمي نشط والارتداد إلى الانعزالية، فإن التهديد القادم من موسكو ضمِنَ استمرار انخراط واشنطن بشكل عميق في أوروبا حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. واليوم، دخلت أول حرب قارية كبرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية عامَها الرابع، ويرجع هذا جزئيا إلى القراءة الانتقائية التي يتبناها بوتين للتاريخ الروسي، في حين تهدد الصراعات القاتلة في الشرق الأوسط وأماكن أخرى بالانتشار على نطاق أوسع، وفي الوقت نفسه، يبدو أن إدارة ترامب تتخلى عن القيادة العالمية للولايات المتحدة في خضم "حالة مزاجية مرتبكة". قبل 80 عامًا، مهدت نهاية الحرب العالمية الثانية الطريق لنظام دولي جديد يرتكز على احترام السيادة الوطنية والحدود، ولكن الآن، ربما حان الوقت أخيرا لدفع فاتورة باهظة نتيجة التناقض الأميركي، والاستسلام الأوروبي، وشهية "الانتقام" الروسية. أكثر من مجرد أرقام من المؤكد أن القسوة الشديدة التي اتسمت بها الحرب العالمية الثانية ظلت محفورة في ذاكرة أجيال عديدة، حيث كان ذلك أول صراع حديث يفوق ضحاياه المدنيون -بكثير- أعداد قتلاه المحاربين، ولم يكن ذلك ليصبح ممكنا إلا من خلال نزع الصفة الإنسانية عن العدو على أساس أيديولوجي، وإثارة النزعات القومية إلى حدها الأقصى، والترويج للعنصرية باعتبارها أمرا مسلما به، فضلا عن "الحرب الطبقية" اللينينية التي أيدت إبادة جميع المعارضين. ومن اللافت للنظر أن الدبلوماسيين السوفيات كافحوا بعد الحرب لمنع ذكر الحرب الطبقية -التي شملت عمليات القتل الجماعي التي ارتكبها الاتحاد السوفياتي ضد الأرستقراطيين والبرجوازيين والفلاحين مالكي الأراضي- في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن الإبادة الجماعية. وإجمالا، لقي قرابة 85 مليون شخص حتفهم خلال الحرب العالمية الثانية، من ضمنهم أولئك الذين قضوا بالمجاعة والمرض. لقد قتلت ألمانيا النازية الملايين، بينما فقدت بولندا خُمس سكانها (نحو 6 ملايين شخص) خلال الحرب. وبشكل أكثر بشاعة، خسر الصينيون ما يزيد على 20 مليون إنسان، وكان عدد القتلى الصينيين من المجاعة والمرض أكبر من عدد القتلى نتيجة الصراع في ساحة المعركة، بينما تتراوح أعداد قتلى السوفيات بين 24 و26 مليونا. كان ستالين يدرك في عام 1945 أن إجمالي الخسائر تجاوز 20 مليون إنسان، ولكنه اعترف بثلث هذه الخسارة فقط (7.5 ملايين قتيل)، محاولا على ما يبدو إخفاء الحجم الحقيقي للرعب الذي أطلقه ضد شعبه. بيد أنه في هذا المقام لا يكفينا أن نتذكر الموتى الذين أخفى قاتلوهم عمدا هويات العديد منهم، فقد غيّر الصراع أيضا حياة الناجين وأسرى الحرب والمدنيين المسجونين في المعسكرات بطرق يتعذر الإحاطة بها. في كثير من الأحيان، كان أولئك الذين استسلموا لمصيرهم في قائمة الضحايا الأوائل، بينما كان الناجون من أولئك الذين لديهم تصميم شديد على العودة إلى أسرهم، والتمسك بمعتقداتهم، وتقديم شهاداتهم على جرائم يتعذر الحديث عنها من فرط بشاعتها. وحتى تكتمل الصورة القاتمة، لم يتمكن العديد من الجنود الأسرى من العودة إلى ديارهم. بادئ ذي بدء، قُبض على أفراد الجيش الأحمر السوفياتي الذين جُنِّدوا قسرا من قبل الجيش الألماني أثناء وجودهم في فرنسا بزيهم العسكري الألماني وسُلِّموا إلى الضباط السوفيات الذين أعدموا القادة في الغابات ونقلوا البقية إلى الاتحاد السوفياتي، حيث حُكم عليهم بالعمل بالسخرة في الشمال المتجمد. وبعد أيام قليلة من استسلام ألمانيا، أمرت القوات البريطانية في النمسا بتسليم أكثر من 20 ألف يوغسلافي مناهض للشيوعية في المنطقة الخاضعة لسلطتها إلى السلطات اليوغسلافية الشيوعية، التي أطلقت النار عليهم ثم دفنتهم في مقابر جماعية. كما سلّمت القوات البريطانية السلطات السوفياتية بعض أبناء الكزاخ (أحد الأعراض السلافية الشرقية) وهم مواطنون سوفيات لكنهم قاتلوا من أجل ألمانيا. ومن المؤكد أن الحكومة البريطانية كانت تعلم أن عقوبة قاسية تنتظر هؤلاء الجنود، لكنها خشيت أن يؤدي السماح لهم بالرحيل إلى احتفاظ السلطات السوفياتية بأسرى الحرب البريطانيين الذين حررهم الجيش الأحمر في بولندا وشرق ألمانيا. وبالمثل، جمع الجيش الأحمر 600 ألف جندي ياباني في شمال الصين ومنشوريا، وأرسلهم جميعًا إلى معسكرات العمل في سيبيريا حيث مارسوا أعمالا شاقة حتى الموت. لعقود طويلة بعد الحرب، ظلت تلك الذكريات حية في أذهان أولئك الذين عاشوها بأنفسهم وتركت بصماتها القاسية في نفوسهم. وعلى إثر ذلك، جرى تشكيل النظام الذي تلا الحرب العالمية الثانية على يد أجيال كان هدفها منع وقوع مثل هذه المأساة مرة أخرى. ولكن بالنسبة لأولئك الذين لم يعيشوا هذا الصراع، وينظرون إلى الوراء من عالم اليوم، فإن عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية ربما يكون مجرد رقم، وهم معذورون في ذلك لأنه يصعب استيعاب حقيقة مقتل عشرات الملايين. غير أن فقدان هذه الصلة المباشرة مع الماضي يعني بالتبعية فقدان العزم المشترك الذي أنتج -على مدار 80 عاما- سلاما متصلا، وإن كان غير كامل، بين القوى العظمى. معارك غير منتهية خلّفت الحرب العالم مكانًا مختلفًا تمامًا. وفي الدول المتحاربة، لم يبق سوى عدد قليل من الناس الذين لم يتأثروا مباشرة بويلات الحرب، فالعديد من النساء اللواتي قُتل خُطّابهن في الحرب لم يتزوجن أبدًا ولم ينجبن أطفالًا، بينما لم يتمكن الرجال العائدون من استيعاب حقيقة أن النساء تَولين إدارة كل شيء، مما جعلهم يشعرون أنهم عديمو القيمة. وكان رد الفعل الأقوى في أوروبا القارية. ففي ألمانيا مثلا، سمع الرجال الذين سُجنوا أثناء الحرب للمرة الأولى عن عمليات الاغتصاب الجماعي التي ارتكبها الجيش الأحمر، وشعروا بالإهانة لأنهم لم يكونوا متاحين للدفاع عن نسائهم، ولم يتمكنوا أيضا من التكيف مع حقيقة أن النساء تعاملن مع الصدمة بالطريقة الوحيدة الممكنة وهي التحدث عنها إلى بعضهن بعضا. وفي فرنسا وغيرها من البلدان المحتلة، تساءل الرجال الذين عادوا من السجون ومعسكرات العمل القسري في ألمانيا؛ كيف تمكنت النساء من البقاء على قيد الحياة دون أي وسيلة للدعم، وبدؤوا يشكون في علاقاتهن مع جنود العدو أو تجار السوق السوداء. وليس مستغربا أن هذه الاستجابات أدت إلى فترة من ردود الفعل الاجتماعية المدمرة استمرت طيلة أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. في غضون ذلك، ظل الصراع السياسي العنيف مستمرا حتى بعد انتهاء الأعمال الحربية العدائية. في أغسطس/آب 1945، وبعد فترة طويلة من انتهاء القتال في المسرح الأوروبي، بدأ الاتحاد السوفياتي إطلاق سراح الجنود الإيطاليين العاديين الذين أسرهم في الجزء الأخير من حملة قوى المحور للسيطرة على ستالينغراد. لكن هؤلاء الجنود أُرسلوا إلى أوطانهم بدون ضباطهم، لأن زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي ناشد موسكو تأخير عودة السجناء الأعلى رتبة الذين قد يدينون الاتحاد السوفياتي علناً ويضرون بفرص الحزب في الانتخابات المقبلة. وبينما تجمعت الجماعات الشيوعية في محطات السكك الحديدية بإيطاليا للترحيب بالجنود العائدين، كانوا يتوقعون منهم أن يكونوا أكثر تعاطفا مع قضيتهم. لكنهم فوجئوا برؤية الجنود الذين كتبوا عبارة "تسقط الشيوعية" (Abbasso Comunismo) على عربات القطار، ليندلع الاشتباك في المحطات. وعلى إثر ذلك، اعتبرت الصحافة الشيوعية الجنود العائدين الذين انتقدوا الاتحاد السوفياتي بأي شكل من الأشكال؛ أنهم "فاشيون". لقد أزيلت الحدود أو أعيد رسمها خلال الحرب وبعدها، ولم يعد الكثير من النازحين يعرفون جنسياتهم بعدما جرى اقتلاع أعداد كبيرة من السكان، وفي بعض الأحيان مدن بأكملها، أو إخلائها، أو قتل جميع سكانها على يد الجماعات شبه العسكرية والشرطة السرية والقوات المسلحة. ولا أدل على ذلك مما حدث في عام 1939، حين دُفع البولنديون من منطقة لفيف (Lwów) التي أصبحت فجأة ضمن حدود الغرب الأوكراني؛ إلى المناطق المهجورة في كزاخستان أو سيبيريا حيث تُركوا لمواجهة الموت. خضعت لفيف البولندية للاحتلال السوفياتي مرتين، كما احتلها النازيون الذين أرسلوا اليهود إلى معسكرات الموت. وفي أعقاب الحرب، حصلت المدينة على اسم أوكراني جديد، وهو لفيف "Leviv" (بنطق متقارب تقريبا ولكن باختلاف اللغة والهجاء). وفي مؤتمر يالطا في فبراير/شباط 1945، حين التقى زعماء بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لمناقشة شكل أوروبا بعد الحرب، أجبر ستالين قوى الحلفاء على قبول إزاحة بولندا بأكملها إلى الغرب، واستقبال المقاطعات الألمانية السابقة على الجانب الغربي، على أن يستوعب الاتحاد السوفياتي المقاطعات البولندية إلى الشرق. ولإكمال تنفيذ هذه الخطة، نفذ الجيش الأحمر أكبر عملية تهجير قسري ممنهج للسكان في العصر الحديث، حيث نقل أكثر من 13 مليون ألماني وبولندي وأوكراني من مناطقهم. ومع استمرار مناقشات يالطا إلى مؤتمر بوتسدام في أغسطس/آب 1945، أصبحت رغبة ستالين في توسيع الأراضي السوفياتية أكثر وضوحا، مبديا اهتمامه بتولي السيطرة على المستعمرات الإيطالية السابقة في أفريقيا، ومقترحا الإطاحة بنظام فرانكو في إسبانيا. وحين داعبه السفير الأميركي لدى الاتحاد السوفياتي آنذاك، أفريل هاريمان، على هامش المحادثات قائلا "لا بد أنه من دواعي سرورك أن تكون في برلين الآن بعد كل ما عانته بلادك"، أجابه ستالين بجمود قائلا: "لقد وصل القيصر ألكسندر إلى باريس". لم تكن تلك الملاحظة من ستالين مجرد مزحة على الإطلاق، ففي العام السابق، أمرت القيادة السوفياتية بوضع خطط لغزو فرنسا وإيطاليا والاستيلاء على المضائق بين الدنمارك والنرويج. وخلال عام 1945 قال الجنرال السوفياتي سيرغي شتيمينكو، في إحدى محادثاته: "لقد كنا نتوقع أن يتخلى الأميركيون عن أوروبا التي تغط في الفوضى، وأن تصاب بريطانيا وفرنسا بالشلل بسبب مشاكلهما الاستعمارية". لقد اعتقد القادة السوفيات أن هذا من شأنه أن يخلق فرصة سانحة لهم، لذا فإنهم لم يتخلوا عن خططهم إلا بعد معرفة أن الولايات المتحدة كانت قريبة من بناء القنبلة الذرية، رغم أن شهيتهم للتوسع ظلت قائمة. ومن المؤكد أن الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة فجر العصر النووي، حيث نظر الكثيرون إلى اختراع القنبلة الذرية برعب، واعتبروا قصف الولايات المتحدة لهيروشيما وناغازاكي جريمة حرب. ورغم ذلك فإن استهداف هاتين المدينتين اليابانيتين في أغسطس/آب 1945 كان ينطوي على خيار "أخلاقي" بالغ الأهمية. فقبل أن تؤدي عمليات القصف إلى تسريع نهاية الحرب، كان الجنرالات اليابانيون يرغبون في مواصلة القتال بدلاً من قبول شروط الاستسلام التي أصدرتها قوى الحلفاء في إعلان بوتسدام في يوليو/تموز، وكانوا مستعدين للتضحية بملايين المدنيين اليابانيين من خلال إجبارهم على مقاومة غزو الحلفاء باستخدام الرماح المصنوعة من الخيزران والمتفجرات المثبتة على أجسادهم فقط. وبحلول عام 1944، كان حوالي 400 ألف مدني يموتون شهرياً بسبب المجاعة في مناطق شرق آسيا والمحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا التي احتلتها القوات اليابانية. كان الحلفاء يريدون أيضًا إنقاذ أسرى الحرب الأميركيين والأستراليين والبريطانيين الذين كانوا يلقون حتفهم في المعسكرات اليابانية، أو كانوا يتعرضون للذبح على يد خاطفيهم بأوامر من طوكيو. وهكذا، ورغم أن القنبلة الذرية حصدت أرواح أكثر من 200 ألف ياباني، فإن هذا السلاح الرهيب ربما أنقذ عدداً أكبر بكثير في "مفارقة أخلاقية مقلقة". في النهاية، لا شك أن الحرب العالمية الثانية أعادت ضبط مسار السياسة العالمية، سواء إلى الأفضل أو الأسوأ (على اختلاف موقع الناظر وانتمائه). وفي نهاية المطاف، مهدت هزيمة اليابان الطريق أمام صعود الصين الحديثة، وكان انهيار الإمبراطوريات البريطانية والهولندية والفرنسية في عامي 1941 و1942 بمثابة شهادة وفاة لأوروبا الإمبريالية، كما حفزت تجربة الحرب الاتجاه نحو التكامل الأوروبي، وفي الوقت نفسه، ارتفعت مكانة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى مصاف القوى العظمى. كذلك، أدت الحرب العالمية الثانية إلى ظهور الأمم المتحدة، التي كان من أهدافها الرئيسية حماية سيادة الدول، ومنع العدوان المسلح والاستيلاءِ على الأراضي بالقوة. كانت الأمم المتحدة حلما يراود الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وكان مستعدًا للسماح لستالين بالسيطرة الكاملة على بولندا لتحقيق هذا الحلم. ولكن في فبراير/شباط من العام الحالي (2025)، أدارت الولايات المتحدة ظهرها للمبادئ التأسيسية للأمم المتحدة، وصوتت إلى جانب موسكو، ورفضت إدانة "العدوان" الروسي على أوكرانيا. كما أدت الحرب العالمية الثانية إلى نشوب الحرب الباردة، ويقول بعض المؤرخين إن هذا الصراع الجديد بدأ في عام 1947 باتفاقية كلاي-روبرتسون (نسبة إلى لوسيوس د. كلاي، الحاكم العسكري للولايات المتحدة، والجنرال برايان روبرتسون، نائب الحاكم العسكري البريطاني) التي كانت بداية تخلي الحلفاء الغربيين عن ألمانيا الموحدة و"تخليق" ألمانيا الغربية مما أثار جنون ستالين. شهد ذلك العام تصاعد التوترات، حيث أصدر ستالين في سبتمبر/أيلول أمراً للأحزاب الشيوعية الأوروبية بتجهيز أسلحتها استعداداً للحرب المستقبلية، وهو ما وضع الأساس للحصار السوفياتي لبرلين في العام التالي. غير أن الأصول الحقيقية لتلك الأحداث تعود إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وتحديدا إلى يونيو/حزيران 1941 حين أصيب ستالين بصدمة نفسية بسبب عملية بارباروسا، الغزو الذي قادته النازية ضد الاتحاد السوفياتي، والذي بدأ في ذلك الوقت. ومنذ ذلك الحين، بدا ستالين عازما على أن يحيط نفسه بدول تابعة في وسط أوروبا وجنوبها حتى لا يتمكن أي غازٍ من مفاجأة الاتحاد السوفياتي مرة أخرى. لقرون عديدة، كانت روسيا مهووسة بفكرة السيطرة على جيرانها لمنع تطويقها، وكان اهتمام ستالين منصبًّا بالأساس على بولندا. وفيما يبدو فإن بوتين حافظ على العقلية نفسها، لكن اهتمامه تركز على أوكرانيا، موطن الحدود الأكثر ضعفا لروسيا، والتي يراها بوتين جزءا لا يتجزأ من بلاده. وعندما تحرك الرئيس الروسي بناء على هذا "الادعاء" لغزو أوكرانيا في عام 2022، أعاد إلى الأذهان سمة من سمات زمن الحرب العالمية الثانية التي كانت غائبة إلى حد كبير عن السياسة العالمية منذ ذلك الحين. لقد ساهم الزعماء الأفراد، الذين تمتع العديد منهم بدعم الأنظمة الشمولية التي سيطروا عليها، في تشكيل مسار ذلك الصراع الواسع. من تشرشل إلى روزفلت إلى ستالين، أعادت مؤامرات الزعماء ومكائدهم إحياء فكرة "الرجل العظيم" الذي يحرك مجرى التاريخ في المخيلة الشعبية. وفي السنوات الأخيرة، أصبح نفوذ الزعماء السياسيين أقل نسبيا. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن النظام الاقتصادي العالمي يقيد -إلى حد كبير- حرية تصرفهم، وهو الأمر الذي يفعله أيضا الفحص المستمر لقراراتهم من قبل وسائل الإعلام، والذي يجعل الكثيرين منهم أكثر حذرا. ولعقود من الزمن، بدا الأمر كما لو أن شخصيات الزعماء لن تتمكن مرة أخرى من تحديد مسار الأحداث بالطريقة التي فعلتها إبان الحرب العالمية الثانية، لكن بوتين غيّر هذا الوضع، وترامب، الذي يتخذ من بوتين قدوة له، يغيّر هذا الوضع أيضا. واليوم، بينما احتفلت روسيا بيوم النصر في 9 مايو/أيار، يصر بوتين على استغلال قصة "الحرب الوطنية العظمى" التي تخوضها بلاده إلى أقصى حد. ويلمح بوتين إلى إمكانية إعادة تسمية مدينة فولغوغراد باسمها السابق ستالينغراد -وهو الاسم الذي تغير في عام 1961 كجزء من حملة الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف لإزالة آثار الستالينية- بغية تسليط الضوء على انتصار الجيش الأحمر على "غزاة" المحور في معركة ستالينغراد عام 1943، وهي نقطة التحول النفسية العظيمة في الحرب من وجهة نظر بوتين والروس. في واقع الأمر، لا توجد مجموعة واحدة من الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من الحرب العالمية الثانية، فالحرب بطبعها تتحدى التعميم ولا يمكن إدراجها تحت تصنيفات سهلة أو ثابتة. وتجلب الحرب عددا لا يحصى من القصص حول المأساة، والفساد، والنفاق، والأنانية، والخيانة، والاختيارات المستحيلة، والسادية، لكنها تنطوي أيضًا على حكايات عن التضحية بالنفس، والرحمة، والبشر الذين تمسكوا بإيمانهم بالإنسانية رغم الظروف المروعة والقمع الوحشي. وسيظل المثال الذي يقدمه هؤلاء جديرًا دائمًا بالتذكر والمحاكاة، بغض النظر عن مدى قتامة الصراعات التي نشهدها في عالم اليوم.


الجزيرة
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
لماذا تفشل الجيوش القوية في حروبها؟
مقدمة الترجمة من السهولة بمكان بدء حرب، ولكن من الصعب تماما إنهاؤها، وأصعب من ذلك تحقيق النصر الحاسم فيها حتى بالنسبة إلى الجيوش القوية مثل الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، مهما كانت هوية الخصوم الذين يواجهونها. تكشّفت هذه الحقيقة القاسية للولايات المتحدة في حربي العراق وأفغانستان ولروسيا في حربها مع أوكرانيا وأخيرا لإسرائيل في غزوها الإبادي المدمر لقطاع غزة ، وهو ما يعد مناسبة لمواجهة الحقيقة التي طالما تجنبها المخططون العسكريون وهي أن تحقيق النصر العسكري الحاسم أصبح أصعب منالا وأننا نعيش اليوم في زمن "الحروب الأبدية". في مقاله له بمجلة "فورين أفيرز" يناقش لورنس فريدمان أستاذ دراسات الحرب في كلية كينجز بلندن سؤال لماذا تستغرق الحروب أكثر مما يظن مخططوها؟ وما بين السقوط في فخ "التقدير الرغبوي" وسوء قراءة الخصوم وعدم امتلاك أهداف عسكرية وسياسية واضحة ومرنة يمكن تكييفها مع مجريات الصراع يستعرض فريدمان أسباب الحروب الطويلة، خالصا إلى أن الحروب الخاطفة والقصيرة كانت مجرد استثناء تقل احتمالاته باستمرار. ومع إدراك هذه الحقيقة تتفتح نافذة جديدة لإعادة التفكير في الحروب المستمرة ومدى فاعليتها في تحقيق الأهداف السياسية للدول. خلال عملية عاصفة الصحراء التي دُشنت عام 1991 بهدف "تحرير الكويت من الاحتلال العراقي"، أطلقت الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده العنان لقوة برية وبحرية وجوية هائلة أنهت المهمة في غضون أسابيع. وقتها كان التناقض بين النصر السريع الذي حققته الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وبين الحرب المنهكة وغير الناجحة التي خاضتها واشنطن نفسها في فيتنام والحرب الطويلة والمكلفة للاتحاد السوفياتي في أفغانستان أوضح من أن تخطئه عين لدرجة أنه أثار الحديث حول عصر جديد للحروب أو ربما "ثورة في الشؤون العسكرية". ومن تلك اللحظة فصاعدا، كانت الحكمة السائدة هي أن الأعداء سوف يُهزمون من خلال السرعة والمناورة، مع توفير معلومات استخبارية آنية بواسطة أجهزة استشعار متطورة توجه هجمات فورية، تُشن باستخدام الأسلحة الذكية. لكن هذه الآمال لم تدم طويلا، ولم تكن حملات مكافحة التمرد التي شنها الغرب في العقود الأولى من هذا القرن، والتي أطلق عليها فيما بعد اسم "الحروب الأبدية"، تتسم بأي قدر من السرعة. على سبيل المثال كانت الحملة العسكرية لواشنطن في أفغانستان هي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، وفي النهاية لم تكلل بالنجاح حيث عادت حركة طالبان إلى السلطة واستعادت السيطرة رغم هزيمتها في مطلع الحرب. ولا تقتصر هذه المشكلة على الولايات المتحدة وحلفائها، بل تنطبق أيضا على الغزو الروسي لأوكرانيا الذي كان من المفترض أن يجتاح البلاد في غضون أيام لكنه استمر أكثر من 3 سنوات -ولا يزال مستمرا- سادت خلالها معارك الاستنزاف وتكسير العظام بدلًا من الأعمال الجريئة والحاسمة. وعلى نحو مماثل، عندما شنت إسرائيل حربها على غزة في أعقاب هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حث الرئيس الأميركي جو بايدن على أن تكون العملية الإسرائيلية "سريعة وحاسمة وساحقة". ولكن بدلًا من ذلك، استمرت الحرب مدة 15 شهرا، وامتدت إلى جبهات أخرى في لبنان وسوريا واليمن، قبل التوصل إلى وقف إطلاق نار هش في يناير/كانون الثاني 2025، وبحلول منتصف مارس/آذار، اشتعلت الحرب من جديد. هذا ولم نذكر بعد العديد من الصراعات في أفريقيا، بما في ذلك في السودان ومنطقة الساحل، التي لا نهاية لها في الأفق. بدأت الفكرة القائلة إن الهجمات المفاجئة يمكن أن تنتج انتصارات حاسمة ترسخ نفسها في الفكر العسكري في القرن التاسع عشر، ولكن مرارا وتكرارا أظهرت الوقائع العملية مدى صعوبة إنهاء الحروب في وقت مبكر ومرضي. لقد كان القادة العسكريون الأوروبيون واثقين من أن الحرب التي بدأت في صيف عام 1914 يمكن أن "تنتهي بحلول عيد الميلاد" -وهي عبارة لا يزال يستشهد بها كلما كان الجنرالات متفائلين أكثر مما ينبغي- وبدلًا من ذلك، استمر القتال حتى نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وانتهى بهجمات سريعة، ولكن بعد سنوات من حرب الخنادق المدمرة على طول خطوط المواجهة الثابتة تقريبًا. وكذلك نجحت ألمانيا في اجتياح معظم أوروبا الغربية عام 1940 من خلال حرب خاطفة "Blitzkrieg" جمعت بين المدرعات والقوة الجوية، غير أنها لم تتمكن من إنهاء المهمة. ففي أعقاب التقدم السريع والأولي ضد الاتحاد السوفياتي عام 1941، انجر الألمان إلى حرب وحشية مع خسائر فادحة في الأرواح على الجانبين، لم تنته إلا بعد أربع سنوات مع الانهيار الكامل للرايخ الثالث. وعلى نحو مماثل، انتهى القرار الذي اتخذته القيادة العسكرية اليابانية بشن هجوم مفاجئ على الولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 1941 إلى هزيمة كارثية للإمبراطورية اليابانية في أغسطس/آب 1945. وفي الحربين العالميتين، لم يكن مفتاح النصر يكمن في البراعة العسكرية بقدر ما كان كامنا في القدرة الفائقة على التحمل. ورغم هذا التاريخ المرير من الصراعات المطولة، فإن الإستراتيجيين العسكريين يواصلون تشكيل تفكيرهم حول الحروب القصيرة، حيث من المفترض أن يتم تحديد كل شيء خلال الأيام الأولى، أو حتى الساعات الأولى من القتال. وفقًا لهذا النموذج، لا يزال من الممكن وضع إستراتيجيات من شأنها أن تترك العدو مذهولا من سرعة واتجاه ووحشية الهجوم الأولي. ومع وجود احتمال دائم بأن تجر الولايات المتحدة إلى حرب مع الصين بسبب تايوان، فإن الحكم على جدوى مثل هذه الإستراتيجيات يصبح قضية ملحة: فهل تستطيع الصين الاستيلاء على الجزيرة بسرعة، باستخدام القوة الخاطفة، أم أن تايوان بدعم من الولايات المتحدة، سوف تكون قادرة على وقف مثل هذا الهجوم في بداياته؟ الواضح أنه في ظل التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة ومجموعة متنوعة من الخصوم، فإن هناك اختلالا خطيرا واضحا في عملية التخطيط الدفاعي. وفي اعتراف بميل معظم الحروب إلى الاستمرار أكثر مما هو مخطط له بدأ بعض الإستراتيجيين يحذرون من أخطار الوقوع في مغالطة "الحرب القصيرة". ومن خلال التركيز على الحروب القصيرة، يعتمد الإستراتيجيون بشكل كبير على خطط المعارك الأولية التي ربما لا تنجح في الواقع العملي، مما قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. ويرى أندرو كريبينيفيتش (الجنرال السابق ومحلل السياسات العسكرية والدفاعية) أن حربًا مطولة بين الولايات المتحدة والصين "ستتضمن أنواعا من القتال التي لا يملك المتحاربون سوى القليل من الخبرة فيها"، وأنها قد تشكل "الاختبار العسكري الحاسم في عصرنا". وعلاوة على ذلك فإن الفشل في الاستعداد للحروب الطويلة يخلق نقاط ضعف في حد ذاته. ولكي تنتقل الدول من حرب قصيرة إلى حرب طويلة الأمد، يتعين عليها أن تفرض مطالب مختلفة على جيشها وعلى المجتمع كله بما يشمل إعادة تقييم الأهداف والثمن الذي ينبغي دفعه من أجل تحقيقها. وبمجرد أن يقبل المخططون العسكريون أن أي حرب كبرى معاصرة قد لا تنتهي بسرعة، فسوف يتعين عليهم التفكير بعقلية مختلفة. فعلى جانب، تُخاض الحروب القصيرة باستخدام كل الموارد المتاحة في وقت معين؛ بينما تتطلب الحروب الطويلة التطوير المستمر للقدرات بهدف التكيف مع الضرورات التشغيلية المتغيرة، كما يتضح مثلا من التحول المستمر في حرب الطائرات المسيّرة في أوكرانيا. وبشكل لا يقل أهمية، لا تسبب الحروب القصيرة سوى اضطرابات مؤقتة في اقتصاد بلد ما ومجتمعه ولا تتطلب خطوط إمداد واسعة النطاق؛ في حين تتطلب الحروب الطويلة إستراتيجيات للحفاظ على الدعم الشعبي، واقتصادات فعالة، وطرق آمنة لإعادة التسليح، وتجديد مخزونات الذخائر وحتى استبدال القوات. وتتطلب الحروب الطويلة أيضًا التكيف والتطور المستمر: فكلما طال أمد الصراع، زاد الضغط من أجل الابتكار في التكتيكات والتقنيات من أجل تحقيق تقدم ملحوظ. وحتى بالنسبة لقوى عظمى، فإن الفشل في الاستعداد لمواجهة هذه التحديات ثم محاولة النهوض لمواجهتها قد يكون كارثيا. ولكن من العادل أيضا أن نتساءل عن مدى واقعية التخطيط للحروب التي ليس لها نهاية واضحة. إن الاستمرار في حملة طويلة الأمد لمكافحة التمرد أمر، والاستعداد لصراع مطول من شأنه أن ينطوي على خسائر مستمرة وكبيرة في الأشخاص والمعدات والذخيرة على مدار فترة طويلة أمر آخر تماما. وبالنسبة لإستراتيجيي الدفاع، هناك أيضًا عقبات كبيرة أمام هذا النوع من التخطيط: فالجيوش تفتقر في الأغلب إلى الموارد اللازمة للاستعداد لحرب طويلة، وحلّ هذه المعضلة لا يكمن في الاستعداد لحروب غير محددة المدة، بل في تطوير نظريات جديدة للنصر تكون أكثر واقعية في أهدافها السياسية وأكثر مرونة في كيفية تحقيقها. مغالطة الحرب القصيرة تعد مزايا الحروب القصيرة، وفي مقدمتها تحقيق النجاح الفوري بتكلفة معقولة، واضحة للغاية إلى درجة أنه لا يمكن تقديم أي مبرر للدخول عن قصد في حرب طويلة، وعلى النقيض من ذلك، فإن مجرد الاعتراف بإمكانية إطالة أمد الحرب يثير الشكوك حول قدرة الجيش على تحقيق الانتصار على خصومه. لذلك، فإذا لم يملك الإستراتيجيون ما يكفي من الثقة في إمكانية إبقاء الحرب المحتملة قصيرة الأمد، فربما يكون من الحكمة اتباع السياسة الحكيمة الوحيدة في هذا الوقت وهي عدم خوض تلك الحرب على الإطلاق. ومع ذلك، فبالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة، ربما يتعذر استبعاد الصراع مع قوة عظمى أخرى ذات قوة مكافئة، حتى لو لم يكن النصر السريع مضمونا. ورغم أن الزعماء الغربيين لديهم نفور مفهوم من التدخل في الحروب الأهلية، فمن الممكن أيضًا أن تصبح تصرفات جهة غير حكومية ما ضارة إلى الحد الذي يجعل التعامل مع التهديد الذي تشكله أمرا ضروريا، بغض النظر عن المدة التي يستغرقها ذلك الأمر. هذا هو السبب في أن الإستراتيجيين العسكريين يواصلون صياغة خططهم حول الحروب القصيرة، حتى عندما لا يمكن استبعاد سيناريو الصراع الطويل الأمد. خلال الحرب الباردة ، كان السبب الرئيسي وراء عدم تخصيص الجانبين موارد واسعة النطاق للتحضير لحرب طويلة هو الافتراض بأن الأسلحة النووية سوف تُستخدم عاجلا وليس آجلا. وفي العصر الحالي، لا يزال هذا التهديد قائما لكن احتمال تحول صراع بين القوى العظمى إلى شيء أشبه بالحروب العالمية الكارثية التي شهدها القرن الماضي هو أمر مخيف لدرجة أنه يزيد من الضغوط للبحث عن الخطط المصممة لتحقيق نصر سريع باستخدام القوات التقليدية. تتمحور الإستراتيجيات المستخدمة لخوض هذا "النوع المثالي" من الحروب في المقام الأول حول فكرة "التحرك السريع"، باستخدام بعض عناصر المفاجأة وبقدر كاف من القوة، يكفي سحق الأعداء قبل أن يتمكنوا من القيام بردّ مناسب. وعلى ذلك، فإن تقييم تقنيات الحرب الجديدة يكون وفقا لمدى قدرتها على المساعدة في تحقيق النصر السريع في ساحة المعركة وليس بناء على إسهامها في تأمين السلام الدائم. وإذا أخذنا الذكاء الاصطناعي مثالا، فإن التفكير يذهب غالبا إلى أن الجيوش سوف تكون قادرة على استخدامه في تقييم ساحة المعركة، وتحديد السيناريوهات، ثم اختيار المناسب من بينها وتنفيذه في غضون ثوان. ويعني ذلك أن هناك قرارات حيوية تُتخذ بسرعة كبيرة بحيث لا يستطيع المسؤولون، فضلا عن العدو نفسه، تقدير ما يحدث فعليا. لقد أصبح الهوس بالسرعة متأصلًا إلى حد أن أجيالًا من القادة العسكريين الأميركيين أصبحوا يرتعدون خوفا حين تُذكر "حروب الاستنزاف" ويحتضنون بدلا من ذلك فكرة "المناورة الحاسمة" باعتبارها الطريق إلى تحقيق انتصارات سريعة. وبناء على ذلك فإن المعارك الطويلة مثل تلك التي تجري الآن في أوكرانيا -حيث يسعى كل جانب إلى إضعاف قدرات الآخر، وحيث يتم قياس التقدم من خلال عدد القتلى والمعدات المدمرة والمخزونات المستنفدة من الذخيرة- ليست محبطة للدول المتحاربة فحسب، بل هي أيضا مكلفة للغاية ومستهلكة للوقت بشكل مريع. تقدم أوكرانيا درسا قاسيا للمخططين العسكريين في العالم اليوم، حيث أنفق كلا الطرفين المتحاربين بالفعل موارد هائلة، ولم يقترب أي منهما من تحقيق النصر بأي شكل. ورغم أن الكثير من الحروب لا تُدار غالبا بنفس الكثافة القتالية العالية للحرب الروسية الأوكرانية، فإنه حتى الحروب غير النظامية المطولة يمكن أن تخلف خسائر فادحة، مما يؤدي إلى شعور متزايد بفقدان الجدوى يتزايد مع تفاقم الخسائر. في الحقيقة، لقد أصبح من المسلم به أن الهجمات المفاجئة الجريئة غالبًا ما تحقق نتائج أقل كثيرًا مما تعد به في البداية، وأن بدء الحروب أسهل كثيرًا من إنهائها، لكن المعضلة هي أن الإستراتيجيين ما زالوا يشعرون بالقلق من أن الأعداء المحتملين قد يكونون أكثر ثقة في خططهم الخاصة لتحقيق النصر السريع، وسوف يتصرفون وفقًا لذلك، وهذا يعني أنهم مطالبون -رغما عنهم- بالتركيز على المرحلة الافتتاحية المحتملة للحرب. على سبيل المثال، ربما يفترض البعض أن الصين لديها إستراتيجية للسيطرة على تايوان تهدف إلى مباغتة الولايات المتحدة وتركها مع خيارات محدودة وغير فعالة للرد، ولتجنب مثل هذا السيناريو كرّس الإستراتيجيون الأميركيون الكثير من الوقت لتقييم الكيفية التي يمكن بها للولايات المتحدة وحلفائها الآخرين مساعدة تايوان في إحباط التحركات الأولية للصين وجعل مهمتها أكثر صعوبة. ولكن حتى هذا السيناريو قد يؤدي بسهولة إلى إطالة أمد الصراع: فإذا نجحت التحركات المضادة الأولى للقوات التايوانية وحلفائها الغربيين، وتعثرت الصين ولكنها لم تنسحب، فإن تايوان والولايات المتحدة ستظلان تواجهان مشكلة التعامل مع وضع توجد فيه القوات الصينية في الجزيرة. وكما يوضح درس أوكرانيا، فمن الممكن جدا أن تتعثر في حرب طويلة الأمد لأن عدوًّا غير حذر أخطأ في تقدير الأخطار. ولكن هذا لا يعني أن الصراعات المسلحة الحديثة لن تنتهي أبدا بانتصارات سريعة، ففي يونيو/حزيران 1967، استغرقت إسرائيل أقل من أسبوع لهزيمة تحالف من الدول العربية بشكل حاسم في حرب الأيام الستة؛ وبعد ثلاث سنوات، عندما تدخلت الهند في حرب بنغلاديش من أجل الاستقلال، لم تستغرق القوات الهندية سوى 13 يومًا لهزيمة باكستان، وكذلك حققت بريطانيا انتصارها على الأرجنتين في حرب فوكلاند عام 1982 في وقت قصير نسبيا. ولكن منذ نهاية الحرب الباردة، شهدنا المزيد من الحروب التي تعثرت فيها النجاحات المبكرة، أو فقدت زخمها، أو لم تحقق ما يكفي من الأهداف، مما أدى في النهاية إلى تعقيد الصراعات. المفارقة هنا هي أنه بالنسبة لبعض أنواع المتحاربين، فإن المشكلة التي تخلقها الحروب الطويلة للجيوش النظامية توفر ميزة مهمة. وفي بعض السيناريوهات يشرع المتمردون والانفصاليون و"الإرهابيون" في حملاتهم وهم يدركون أن تقويض هياكل السلطة القائمة سيستغرق بعض الوقت، ويفترضون أنهم ببساطة سوف يصمدون أكثر من أعدائهم الأكثر قوة. هذه المجموعات التي لا تمتلك فرصا للانتصار في مواجهة سريعة تدرك أن لديها فرصا أكبر للنجاح في صراع طويل وشاق، ينهك العدو ويقوض حالته المعنوية. وهكذا، في القرن الماضي، شرعت الحركات المناهضة للاستعمار، ومؤخرا "الجماعات الجهادية"، في حروب استمرت عقودا من الزمن، ليست نابعة من إستراتيجية سيئة ولكن لأنها لا تملك ببساطة خيارا آخر. فعندما تواجه هذه الجماعات تدخلًا عسكريًّا من جيش أجنبي قوي، فإن الخيار الأفضل في كثير من الأحيان هو ترك العدو ينهك من القتال غير الحاسم ثم العودة عندما يحين الوقت المناسب، تماما كما فعلت طالبان في أفغانستان. على النقيض من ذلك، تميل القوى العظمى إلى افتراض أن تفوقها العسكري الكبير سوف يضمن لها نصرا سريعا على خصومها، هذه الثقة المفرطة غالبا ما تقود الجيوش إلى الفشل في تقدير حدود قوتها وبالتالي وضع أهداف لا يمكن تحقيقها إلا من خلال صراع طويل الأمد، أو لا يمكن تحقيقها على الإطلاق. وتظل المشكلة الكبرى هي أن التركيز على النتائج الفورية في ساحة المعركة يتسبب في إهمال العناصر الأوسع نطاقا لتحقيق النجاحات مثل توفير الظروف اللازمة للسلام الدائم، أو الإدارة الفعالة لبلد محتل بعد الإطاحة بنظام معاد وقبل تنصيب حكومة "شرعية" جديدة. ومن ثم، فإن التحدي في الممارسة العملية لا يتمثل في التخطيط لحروب طويلة الأمد بدلًا من الحروب القصيرة، بل في التخطيط لحروب تقوم على نظرية واقعية لتحقيق النصر وأهداف قابلة للتحقق، بغض النظر عن الوقت اللازم للوصول إليها. مفهوم النصر بعبارة أخرى، فإن الإستراتيجية الفعالة لخوض الحرب لا تتعلق فقط بالشؤون العسكرية بل ترتبط أيضا بالغرض السياسي من الحرب. وفي هذا الصدد من الواضح أن التحركات العسكرية تحقق نجاحا أكبر عندما تقترن بطموح سياسي محدود كما حدث مثلا خلال حرب الخليج (عام 1991) حيث كانت إدارة بوش الأب تطمح فقط إلى طرد العراقيين من الكويت وليس إلى إسقاط نظام صدام حسين. وهكذا فربما كان غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022 أكثر نجاعة لو ركز على منطقة دونباس بدلا من محاولة السيطرة السياسية على البلاد بأكملها. ومع الطموح "السياسي" المحدود، يصبح من السهل تقديم التنازلات. تتطلب نظرية النصر القابلة للتطبيق إستراتيجية تتوافق فيها الأهداف العسكرية والسياسية بمرونة، وفي بعض الأحيان يكون السبيل الوحيد لحل النزاع هو الهزيمة الكاملة للعدو، وفي هذه الحالة يجب تخصيص الموارد الكافية لهذه المهمة، ولكن في أحيان أخرى تكون المبادرة العسكرية مصممة لدفع الخصم إلى المفاوضات في وقت مبكر. كانت هذه وجهة نظر الأرجنتين عندما استولت على جزر فوكلاند في أبريل/نيسان 1982، وعندما أمر الرئيس المصري أنور السادات قواته المسلحة بعبور قناة السويس في أكتوبر/تشرين الأول 1973، فإنه فعل ذلك بهدف تهيئة الظروف لإجراء محادثات مباشرة مع إسرائيل وقد نجح في تحقيق غرضه السياسي كما تبين لاحقا. لكن الاستخفاف أو التقليل من طموحات العدو السياسية وموارده العسكرية يعد وصفة مضمونة لفشل إستراتيجيات الحرب القصيرة. لقد افترضت الأرجنتين عندما استولت على جزر فوكلاند أن المملكة المتحدة سوف تقبل الأمر الواقع، ولم تكن تتخيل أن البريطانيين سوف يرسلون قوة لـ"تحرير" الجزر. في كثير من الأحيان يتم شن الحروب على أساس اعتقاد خاطئ بأن الشعب في الدولة المعادية سوف ينهار سريعا تحت وطأة الهجوم، وربما يفترض الغزاة خطأً أن قطاعًا من السكان سوف يحتضنهم، كما رأينا في غزو العراق لإيران عام 1980، وفي الغزو المضاد الذي شنته إيران ضد العراق. وكذلك استندت روسيا في غزوها لأوكرانيا إلى قراءة خاطئة مماثلة مفادها أن هناك أقلية محاصرة -الأوكرانيين الناطقين بالروسيةــ سوف ترحب بقواتها، وأن الحكومة في كييف تفتقر إلى الشرعية ويمكن إسقاطها بسهولة، وأن وعود الغرب بدعم أوكرانيا مجرد سراب، ولم تصمد أي من هذه الافتراضات خلال الأيام الأولى للحرب. عندما لا تنتج خطة الحرب القصيرة النصر المتوقع، فإن التحدي الذي يواجه القادة العسكريين يتمثل في تحقيق توازن جديد بين الوسائل والغايات. في حالة أوكرانيا، وبحلول سبتمبر/أيلول 2022، أدرك الرئيس فلاديمير بوتين أن روسيا تخاطر بهزيمة مذلة ما لم تتمكن من إرسال المزيد من الجنود إلى الجبهة ووضع اقتصادها على أهبة الاستعداد للحرب الشاملة. وباعتباره زعيما لـ"دولة استبدادية"، كان بمقدور بوتين أن يقمع المعارضة الداخلية ويسيطر على وسائل الإعلام، ولم يكن عليه أن يقلق كثيرا بشأن الرأي العام. ومع ذلك، كان الرئيس الروسي بحاجة إلى رواية جديدة. وبعد أن أكد قبل الحرب أن أوكرانيا ليست "دولة حقيقية" وأن قادتها من "النازيين الجدد" استولوا على السلطة من خلال انقلاب في عام 2014، كان عليه أن يفسر لماذا لم تنهر كييف سريعا عندما ضربتها قوة روسية متفوقة، وكانت الرواية الروسية الجديدة هي أن أوكرانيا تُستخدم من قبل دول حلف شمال الأطلسي، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، لتحقيق أهدافهم المعادية لروسيا. وبعد أن قدم الكرملين في البداية الغزو بوصفه "عملية عسكرية خاصة" محدودة، فإنه أعاد تصويره باعتباره "صراعا وجوديا". ويعني ذلك أنه بدلًا من مجرد منع أوكرانيا من أن تكون مصدر إزعاج كبير، تسعى روسيا كي تثبت لدول حلف الشمال الأطلسي أنها لا يمكن أن تُكسر من خلال العقوبات الاقتصادية أو إمدادات الأسلحة التي يقدمها الحلف إلى "كييف". ومن خلال وصف الحرب بأنها "دفاعية"، كانت الحكومة الروسية تخبر شعبها بحجم الأخطار التي أصبحت على المحك، وتحذرهم في الوقت نفسه من توقُّع نصر سريع. وهكذا بدلا من أن تقلص موسكو أهدافها اعترافا بالصعوبات التي تواجهها في ساحة المعركة اختار الكرملين توسيع نطاق الحرب لتبرير الجهود الإضافية. ومن خلال ضم أربع مقاطعات أوكرانية إضافة إلى شبه جزيرة القرم، واستمرار المطالبة بحكومة "منبطحة" (خاضعة لروسيا)* في كييف جعلت روسيا نهاية الحرب أكثر صعوبة. ويوضح هذا النموذج مدى صعوبة إنهاء الحروب التي لا تسير على ما يرام حيث يضيف الفشل العسكري هدفا سياسيا جديدا هو الرغبة في تجنب إظهار الضعف وعدم الكفاءة. وقد كانت المخاوف المتعلقة بالسمعة أحد الأسباب التي جعلت الحكومة الأميركية تتمسك بالبقاء في فيتنام لفترة طويلة بعد أن أصبح من الواضح أن النصر العسكري بعيد المنال. إن استبدال نظرية أكثر إيجابية بنظرية النصر الحاسم الفاشلة يتطلب ما هو أكثر من إعادة تقييم نقاط القوة الفعلية للعدو نحو الاعتراف بالعيوب في الافتراضات السياسية التي قامت عليها التحركات الافتتاحية للحرب. ولنفترض أن جهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرامية إلى التوصل إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا سوف تؤتي ثمارها، مما يترك الحرب مجمدة على طول خطوط المواجهة الحالية، ساعتها قد تتمكن موسكو من تصوير مكاسبها الإقليمية باعتبارها نجاحًا من نوع ما، ولكنها لا تستطيع أن تدعي النصر الكامل ما دامت أوكرانيا تحظى بحكومة مستقلة موالية للغرب. وحتى لو قبلت أوكرانيا مؤقتا خسائرها الإقليمية ولكنها احتفظت بقدراتها على بناء قواتها والحصول على شكل من أشكال الضمانات الأمنية بمساعدة شركائها الغربيين، فإن النتيجة سوف تظل بعيدة كل البعد عن المطلب الروسي المعلن عنه بشأن أوكرانيا محايدة منزوعة السلاح. ويعني ذلك أن روسيا لن يكون أمامها سوى إدارة ما استولت عليه من الأراضي الأوكرانية المدمرة التي يقطنها سكان ساخطون، في الوقت الذي تدافع فيه عن خطوط وقف إطلاق النار الطويلة. ورغم أن روسيا لم تتمكن من الفوز بالحرب، فإنها لم تخسرها حتى الآن. لقد أُجبرت على الانسحاب من بعض الأراضي التي احتلتها في وقت مبكر من الحرب، ولكنها منذ أواخر عام 2023 حققت مكاسب بطيئة وهي مستمرة في الشرق. ومن ناحية أخرى، لم تخسر أوكرانيا أيضا، إذ نجحت في مقاومة المحاولات الروسية لإخضاعها، وأجبرت روسيا على دفع ثمن باهظ مقابل كل ميل مربع استولت عليه، والأهم من ذلك كله أنها لا تزال دولة فاعلة ولم تنهر كما أرادت موسكو في بداية الحرب. لا نهاية في الأفق عند تقييم الحروب المعاصرة، يعتبر التمييز بين "النصر" و"عدم الخسارة" أمرا حيويا رغم أنه يصعب فهمه من قبل الكثيرين. وينبع الالتباس من افتراض أن هناك منتصرا في أي حرب، وأن أحد الطرفين قد يظهر في ثوب المنتصر دون أن يكون منتصرا بالفعل. لكن الحقيقة أن كلا الجانبين في أي حرب يمكن أن يكونا "غير منتصرين" و"غير خاسرين" عندما لا يتمكن أي منهما من فرض النصر على الآخر، حتى لو كان أحدهما أو كلاهما قادرًا في بعض الأحيان على تحسين مواقفه. ولهذا السبب تحديدا فإن المقترحات الرامية إلى إنهاء الحروب الطويلة الأمد تأخذ عادة شكل دعوات إلى وقف إطلاق النار الذي تميل أطراف الصراع عادة إلى اعتباره مجرد توقف مؤقت للقتال لأنه ببساطة ليس له تأثير يذكر في معالجة النزاعات الأساسية التي تسببت في نشوب الحرب من البداية، وهو يقدم لكلا الجانبين الفرصة للتعافي وإعادة تشكيل صفوفهما استعدادا للجولة التالية. لقد استمر وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب الكورية في عام 1953 لأكثر من 70 عامًا، لكن الصراع لا يزال دون حل ويواصل الجانبان الاستعداد لحرب مستقبلية. في غضون ذلك لا تزال معظم نماذج الحرب تفترض التفاعل بين قوتين مسلحتين نظاميتين، وفي هذا النموذج يتحقق النصر العسكري الحاسم بشكل أساسي عندما تصبح قوات العدو غير قادرة على العمل، وينبغي أن تترجم هذه النتيجة إلى نصر سياسي أيضا، لأن الجانب المهزوم ليس لديه خيار سوى قبول شروط المنتصر. ومن الأمثلة على ذلك الهجوم الذي شنته أذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ عام 2023، والذي ربما أنهى حربا استمرت ثلاثة عقود مع أرمينيا. في سيناريو آخر، يمكن أن تظل القوات المسلحة في بلد ما سليمة إلى حد كبير، لكن الضغوط تتراكم على حكومتها لإيجاد طريقة للخروج من الصراع بسبب التكاليف البشرية والاقتصادية المتزايدة مع انقطاع الأمل في تحقيق نصر حقيقي كما حدث في صربيا إبان حربها مع حلف شمال الأطلسي في كوسوفو عام 1999. وكذلك عندما يشهد أحد أطراف الصراع تغييرًا في النظام من الداخل، فقد يؤدي ذلك أيضا إلى نهاية مفاجئة للأعمال العدائية. ولكن بصرف النظر عن الطريقة التي تنتهي بها، تظل الحقيقة المؤكدة هي أن الحروب الطويلة غالبا ما تخلف إرثا مريرا ودائما. وحتى في الحالات التي يمكن فيها التوصل إلى تسوية سياسية، وليس مجرد وقف إطلاق النار، فقد لا يتم حل الصراع. والسبب هو أن التغيرات الإقليمية، وربما التنازلات الاقتصادية والسياسية الكبيرة من جانب الطرف الخاسر، غالبا ما تؤدي إلى إثارة الاستياء والرغبة في تعويض الخسائر بين صفوف المهزومين، مما يعني أن الدولة المهزومة تزداد تصميما على إيجاد سبل لاستعادة ما فقدته. كان هذا هو موقف فرنسا بعد التنازل عن الألزاس واللورين لألمانيا عام 1871 بعد الحرب الفرنسية البروسية. وفي حرب فوكلاند، ادعت الأرجنتين أنها استعادت الأراضي التي فقدتها قبل قرن ونصف من الزمان. وعلاوة على ذلك فإن الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها وضمها سوف تظل بحاجة إلى الحكم والمراقبة، وإذا لم يتمكن المنتصر من "إخضاع" السكان المهزومين فإن ما قد يبدو في البداية عملية ناجحة للاستيلاء على الأراضي سوف ينتهي إلى حالة متقلبة من المقاومة والتمرد. وعلى النقيض من النماذج "القياسية" للحرب، التي تكون فيها عادة نقطة بداية واضحة للقتال وتاريخ نهاية واضح بنفس القدر، فإن الصراعات المعاصرة غالبا ما تكون حدودها غير واضحة، وهي تميل إلى المرور بمراحل تتقلب بين فترات الحرب والهدوء النسبي. خذ مثالا الصراع بين الولايات المتحدة والعراق، ففي عام 1991 هُزمت القوات العراقية بسرعة على يد التحالف الذي قادته الولايات المتحدة، وهو ما بدا للوهلة الأولى حربًا قصيرة وحاسمة. ولكن لأن واشنطن قررت عدم احتلال العراق، فإن الحرب تركت صدام في السلطة، مخلفة شعورا بأن هناك عملا ما "لم يكتمل". وفي عام 2003، في عهد الرئيس جورج بوش الابن، أعادت الولايات المتحدة غزو العراق وحققت انتصارًا سريعًا آخر، وهذه المرة تم إسقاط "دكتاتورية صدام البعثية"، غير أن عملية إنشاء نظام جديد أدت إلى سنوات من العنف الطائفي المدمر الذي اقترب في بعض الأحيان من الحرب الأهلية الكاملة، ولا تزال بعض آثاره مستمرة حتى اليوم. وبما أن الحروب الأهلية وعمليات مكافحة التمرد تدور في داخل مناطق السكان وفيما بينهم، فإن المدنيين يتحملون وطأة الضرر الناجم عن هذه الحروب، ليس فقط عبر الوقوع في فخ العنف الطائفي المتعمد أو السقوط ضحايا لتبادلات إطلاق النار، ولكن أيضا لأنهم يضطرون إلى الفرار من ديارهم، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل هذه الحروب تميل إلى التسبب في صراعات مطولة وفوضى. وحتى عندما تقرر قوة متدخلة الانسحاب، كما فعل الاتحاد السوفياتي، وبعد ذلك بكثير التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في أفغانستان، فإن هذا لا يعني أن الصراع ينتهي بل يعني فقط أنه يتخذ أشكالًا جديدة. في عام 2001، كانت لدى الولايات المتحدة خطة "حرب قصيرة" واضحة للإطاحة بطالبان، وقد نفذتها بنجاح وكفاءة نسبية باستخدام القوات النظامية جنبًا إلى جنب مع التحالف الشمالي الأفغاني (المعارض لطالبان). ولكن المشكلة أنه لم تكن ثمة إستراتيجية واضحة للمرحلة التالية، وعليه فإن المشاكل التي واجهتها واشنطن لم تكن ناجمة عن خصم نظامي عنيد، بل عن تهديدات غير نظامية نشأت من المجتمع ذاته، وكانت أي نتيجة مرضية تعتمد على النجاح في تحقيق الأهداف الصعبة والمراوغة المتمثلة في جلب الحكم اللائق والأمن للسكان. وفي غياب قوى خارجية تدعم الحكومة، تمكنت حركة طالبان من العودة، واستمر الصراع في أفغانستان. وكذلك فإن انتصار إسرائيل عام 1967 الذي كان حالة نموذجية للنصر السريع تركها أيضا تحتل مساحة كبيرة من الأراضي التي يقطنها سكان ساخطون، ومهد ذلك الطريق للعديد من الحروب، بما في ذلك الحرب التي اندلعت في أعقاب هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومنذ ذلك الحين، شنت إسرائيل حملات ضد الحركة في قطاع غزة، الذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005، وضد حزب الله في لبنان، الذي سبق أن اجتاحته إسرائيل في عملية أُديرت بشكل شيء عام 1982. اتخذت الحملتان الإسرائيليتان (في غزة ولبنان) أشكالًا متشابهة، حيث جمعتا بين العمليات البرية لتدمير منشآت العدو، بما في ذلك شبكات الأنفاق، مع ضربات ضد مخازن الأسلحة والصواريخ، واستهداف قادة الخصم (المقاومة في فلسطين ولبنان)*. وقد تسبب كلا الصراعين في سقوط أعداد هائلة من الضحايا المدنيين وتدمير واسع النطاق للمناطق المدنية والبنية التحتية الأساسية. وفي حين يمكن اعتبار لبنان نموذجا ناجحا للحرب لأن حزب الله وافق على وقف إطلاق النار فإن الحال في غزة ليس كذلك حيث لا تزال الحرب مستمرة، دون أفق لنهايتها. هذا ولم يكن وقف إطلاق النار القصير الأمد في غزة انتصارا، لأن الحكومة الإسرائيلية كانت قد حددت هدفها في القضاء الكامل على حماس (واستعادة الأسرى)*، وهو ما لم تتمكن من تحقيقه. وفي شهر مارس/آذار، وبعد انهيار المفاوضات، استأنفت إسرائيل الحرب، دون أن يكون لديها إستراتيجية واضحة لإنهاء الصراع بشكل نهائي. ورغم الاستنزاف الشديد الذي تعانيه حماس، فإنها لا تزال تعمل بكفاءة، وفي غياب خطة متفق عليها للحكم المستقبلي في غزة أو بديل فلسطيني قابل للتطبيق، فإن الحركة سوف تظل فاعلة ومؤثرة. وفي أفريقيا، تبدو الصراعات المطولة متوطنة، وهنا يعد أفضل مؤشر لمستوى العنف المستقبلي هو العنف الماضي. وفي مختلف أنحاء القارة، تندلع الحروب الأهلية ثم تهدأ، وكثيرًا ما تعكس هذه الصراعات انقسامات عرقية واجتماعية عميقة، تتفاقم بسبب التدخلات الخارجية، والصراعات على السلطة فضلا عن كون القتال المستمر يوفر الحوافز والغطاء للاتجار بالأسلحة والبشر والسلع غير المشروعة. ولإثبات القاعدة، فإن وقف إطلاق النار ومعاهدات السلام، عندما تحدث، غالبا ما تكون قصيرة الأجل. لقد وقعت الأطراف السودانية مثلا أكثر من 46 معاهدة سلام منذ أن نالت البلاد استقلالها عام 1956. وعادة ما يتم تعريف الحروب عندما تتحول إلى مواجهة عسكرية مباشرة، ولكن الغليان الذي يحدث قبل الحرب وبعدها هو جزء من العملية نفسها. فبدلًا من اعتبار الحروب أحداثًا منفصلة لها بداية ووسط ونهاية، ربما يكون من الأفضل فهمها باعتبارها نتيجة لعلاقات سياسية رديئة وغير فعالة يصعب إدارتها بالوسائل غير العنيفة. نوع مختلف من الردع في ضوء ذلك، يكون الدرس الرئيسي الذي يمكن للولايات المتحدة وحلفائها استخلاصه من تجربتهم الواسعة في الحروب المطولة هو أنه من الأفضل تجنبها. وإذا تورطت الولايات المتحدة في صراع طويل الأمد مع إحدى القوى العظمى، فسوف يحتاج اقتصاد البلاد ومجتمعها بأكمله إلى الاستعداد للحرب، وحتى لو انتهت هذه الحرب بشيء يقترب من النصر، فإن الشعب سوف يعاني على الأرجح وسوف تستنزف الدولة كل طاقتها الاحتياطية. وعلاوة على ذلك، ونظرا إلى شدة الحرب المعاصرة، وسرعة الاستنزاف، والتكاليف الباهظة للأسلحة الحديثة، فإن الاستثمارات في المعدات والذخيرة الجديدة لا تزال غير كافية لدعم حرب مستقبلية لفترة طويلة. وعلى أقل تقدير، سوف تحتاج الولايات المتحدة وشركاؤها إلى تأمين مخزونات كافية مسبقًا للبقاء في القتال مدة كافية قبل بدء التعبئة الشاملة الأكثر جذرية. وهناك أيضًا، بطبيعة الحال، خطر اندلاع حرب نووية، ففي مرحلة ما في حرب طويلة الأمد تشمل روسيا أو الصين، قد يكون إغراء استخدام الأسلحة النووية أمرًا لا يقاوم. وبعد سبعة عقود من النقاش حول الإستراتيجية النووية، لم يتم العثور حتى الآن على نظرية موثوق بها لتحقيق النصر النووي على خصم قادر على الرد بالمثل. وكما هو الحال مع إستراتيجيي الحرب التقليديين، ركز المخططون النوويون على السرعة والتنفيذ المتقن للخطوات الافتتاحية، بهدف تدمير وسائل الرد لدى العدو والقضاء على قيادته، أو على الأقل إثارة قلقه وإرباكه لخلق حالة من الشلل والتردد. لكن كل هذه النظريات غير موثوق بها وهي احتمالية في أفضل الأحوال، لأن أي ضربات أولية سوف يتعين عليها أن تتعامل مع خطر الإطلاق المضاد لصواريخ العدو وأسلحته بمجرد الإنذار، فضلًا عن تحدي وجود أنظمة دفاعية كافية قادرة على الصمود في مواجهة ردّ مدمر. ولحسن الحظ، لم يتم اختبار هذه النظريات على أرض الواقع. إن الهجوم النووي الذي لا يؤدي إلى تحقيق نصر فوري، سوف يؤدي بدلًا من ذلك إلى المزيد من التبادلات النووية المدمرة قطعا، ولهذا السبب تُوصف هذه الحالة بأنها حالة "تدمير متبادل مؤكد" (Mutually assured destruction). ومن الجدير بالذكر أن أحد الأسباب التي دفعت المؤسسة الدفاعية الأميركية إلى تبني العصر النووي بحماس شديد هو أن ذلك العصر قدم بديلًا للحروب العالمية المدمرة في أوائل القرن العشرين. وكان الإستراتيجيون يدركون تمام الإدراك أن المعارك بين القوى العظمى قد تكون طويلة ودموية ومكلفة للغاية. ولكن كما هو الحال مع الردع النووي، تحتاج القوى العظمى الآن إلى الاستعداد بشكل أكثر وضوحا لحروب تقليدية أطول أمدا مما تفترضه الخطط الحالية، ولو لمجرد المساعدة في ضمان عدم وقوعها. وكما أظهرت الحرب في أوكرانيا، فإن القوى العظمى يمكن أن تتورط في حروب طويلة حتى عندما لا تشارك بشكل مباشر في القتال. وسوف تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تحسين قواعدهم الصناعية الدفاعية وبناء المخزونات للاستعداد بشكل أفضل لهذه الطوارئ المحتملة في المستقبل. لكن التحدي المفاهيمي الذي يفرضه هذا النوع من الاستعدادات يظل هائلا. ورغم أن هذا الاحتمال يبدو غير مستساغ، فإن المخططين العسكريين يحتاجون إلى التفكير في إدارة الحروب الطويلة الأمد بنفس الطريقة التي فكروا بها في إدارة التصعيد النووي. ومن خلال الاستعداد لإطالة أمد الحرب وتقليص ثقة أي معتد محتمل في قدرته على شن حرب قصيرة ناجحة، يستطيع خبراء الإستراتيجية الدفاعية أن يقدموا نوعًا آخر من الردع: عبر تحذير الخصوم من أن أي نصر، حتى لو كان من الممكن تحقيقه، سوف يأتي بتكلفة باهظة غير مقبولة على جيشهم واقتصادهم ومجتمعهم. من المعلوم بالضرورة أن الحروب تبدأ وتنتهي بقرارات سياسية. ومن المرجح أن يفترض القرار السياسي ببدء صراع مسلح أن الحرب سوف تكون قصيرة الأمد؛ وفي المقابل يعكس القرار السياسي بإنهاء القتال التكاليف والعواقب التي لا مفر منها للحرب الطويلة. وبالنسبة لأي قوة عسكرية، فإن احتمال استمرار الأعمال العدائية أو عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي لفترة طويلة يشكل سببًا وجيهًا للتردد في الدخول في حرب كبرى والبحث عن وسائل أخرى لتحقيق الأهداف المرجوة. يعني ذلك أيضا أنه إذا لم يكن هناك بدّ من خوض الحرب، فإن أهدافها العسكرية والسياسية يجب أن تكون واقعية وقابلة للتحقق ومحددة ويمكن الوصول إليها باستخدام الموارد العسكرية المتاحة. ومن بين أهم عوامل الجذب التي تتمتع بها القوة العسكرية أنها تعد بإنهاء الصراعات بسرعة وبطريقة حاسمة، لكن الحقيقة أنه في الممارسة العملية، نادرا ما يحدث ذلك، على الإطلاق. __________________________________ *إضافة المترجم هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت