أحدث الأخبار مع #فوكوياما


لكم
منذ 20 ساعات
- سياسة
- لكم
فرانسيس فوكوياما.. الإسلام والحداثة والربيع العربي
لكتاب 'نهاية التاريخ والإنسان الأخير' رَجع صدى قوي جدا، أصدر المفكر الأمريكي ذو الأصول اليابانية فرانسيس فوكوياما هذا الكتاب في لحظة تحول انتقالي ومفصلي في المشهد الأخير من القرن العشرين عشية تحلل المنظومة السوفياتية ونهاية ما كان يُنعت بفترة 'توازن الرعب'. والواقع، فقد أحدث هذا الكتاب دون غيره هَزَّة قوية في بلاد العم سام وخارجها بحكم أنه كان يُظهر وِجهة نظر الإدارة الأمريكية في تعاطيها مع قضايا الشأن الدولي، ويُحدد معالم طريق بِنية النظام العالمي الجديد New World Order، ويزيد من أهمية ذلك، مواقف فوكوياما الفكرية التي يطبعها التفكك والتسرع أحيانا في اتخاذ الأحكام، فهو المُؤيد للحرب على العراق، والمُنتقد لأداء إدارة البيت الأبيض في مرحلة ما بعد الحرب على العراق؛ وهو أيضًا العارض لخبرته الفكرية في تحليل قضايا الشرق الأوسط، دون أن يُمسك بتفاصيله الدقيقة ويهتدي إلى فهم التباسات المنطقة وتحولاتها الكبرى… ورغم ذلك، يبقى لفوكوياما حضور بارز في مشهدية الثقافة العالمية، بكتاباته ومواقفه، وأحيانا بجرأته، فقد جرى اختياره من طرف مجلة Foreign Policy عام 2009 كأحد المفكرين المائة في العالم، الذين أثروا بأفكارهم ومقولاتهم. طبيعي جدا، أن يقع الاختيار على فوكوياما، ليس إلى قوة أطروحته الفكرية، وإنما إلى صخابة المتابعات الإعلامية التي واكبت كتاباته ومواقفه، ولعل من بينها كتابه الموسوم بعنوان 'التنمية السياسية ودور القانون'، والذي يُنقب من خلاله في تاريخانية تشكل فكرة القانون وتطور الفكر السياسي عند البشر. ضمن هذا الكتاب 'الإسلام والحداثة والربيع العربي' الصادر عن المركز الثقافي العربي سنة 2015، والذي هو في الأصل عبارة عن سلسلة حوارات صحفية أجراها الأستاذ رضوان زيادة مع فوكوياما يعود إلى إثارة قضايا الشرق الأوسط والديمقراطية والحداثة والتطرف والإسلام…والحال، يكتشف القارئ ضمن سلسلة هذه الحوارات، تفاعل فوكوياما مع قضايا الشرق الأوسط، خاصة مع فكرة تطور القانون في المجتمعات الإسلامية، ويعرض لفكرة الانتقال من بنيات القبيلة والعشيرة ونظام الموالي إلى بناء الدولة التي أنشأها الاستعمار، كما يتوقف عند مركزية الدين في بناء الدولة، وقضية استحداث الديموقراطية والحداثة وتحولات الربيع العربي. يعتقد فرانسيس فوكوياما أن هناك خاصيتين مميزتين أعاقتا بناء الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط العربي، الأولى هي وجود النفط، إذ النفط بقدر ما يعتبر نِعمة فهو نقمة، لأن الناس لا يُؤدون ضرائب، ولا يحاسبون الدولة، على خلاف أوروبا مثلا التي نشأت فيها الديموقراطية في ارتباط مع الضرائب. فحضور اقتصاد النفط، سيعفي الدول العربية من فرض الضرائب، وستعفى هي كذلك من الالتزام بالمسؤولية، وستستعيض عنها بتقديم إعانات مالية من أجل ترسيخ الديكتاتورية. الخاصية الثانية التي يُلح عليها فوكوياما هي الصراع مع إسرائيل، الذي بقدر ما اعتبر مصدر المشاكل في المنطقة، فقد وَفَّر ذريعة جيدة للأنظمة السلطوية لتجنب المواجهة الفعلية لمشاكلها الحقيقية، ورمى بالمسؤولية على كل إخفاق تنموي وسياسي على هذا الصراع عبر تبني نظرية المؤامرة.(ص 44) يسير فرانسيس فوكوياما بعيدا في هذا التحليل، إذ سيعتبر مناصرة الولايات المتحدة الأمريكية للدكتاتوريات العربية في الشرق الأوسط أمر غير صحي على المدى الطويل، مُستدلا بما جاء على لسان كوندليزا رايس، لأنه الرهان لديه كان على حصان خاسر، سيحول دون تطور الديموقراطية داخلها (ص55). وفي حديثه عن الإسلام، يُوضح فوكوياما أنه ليس عائقا أمام تحقق الديموقراطية والتنمية السياسية الحديثة، ما دامت الأنظمة الدينية تمتلك عقيدة متطورة، وقادرة على التحول نحو بِنيات أكثر ليبرالية وتسامحا، وقد يظهر أن الديموقراطية قد ارتبطت لوقت طويل بأشكال معينة من 'التغريب' في العديد من الدول المسلمة، مما أدى إلى عدم وجود ارتياح حقيقي لهذا المفهوم، خاصة وأنها تدَخَّلت في المزيد من المسائل الثقافية لهذه المجتمعات، مثل قضية المرأة والمساواة ودور الدين في المجتمع…(ص54). يميل فوكوياما في تحليله للجوانب الثقافية داخل الشرق الأوسط إلى اعتبار أن الإسلام هو الثقافة العالمية الرئيسة الوحيدة التي لها جدليا بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة، مقارنة مع ديانان أخرى، كالهندوسية والكونفوشيوسية، باستثناء تركيا التي يُمكن أن تفتخر بديموقراطية عاملة وحيدة، بفضل علمانية مصطفى كمال أتاتورك. لا يتردد فوكوياما في شن هجوم شرس على الحركات المتطرفة التي تكره مبادئ الحداثة وتستعديها. يتجه فوكوياما نحو اعتبار أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع عصابة صغيرة جدا من الإرهابيين، وإنما نحو تبلور 'فاشية إسلامية' تشكل تحديا إيديولوجيا أكثر من ذاك الذي كانت تشكله الشيوعية السوفياتية فيما مضى، مُبديا تخوفه من أن يَحوز الإسلام الراديكالي المزيد من الأنصار والأسلحة القوية الجديدة التي سيواجه بها الغرب، لأن العالم الاسلامي يقول بأنه يقف اليوم عند نقطة الفصل التي وقفت عندها أوروبا المسيحية أثناء حرب الثلاثين سنة في القرن السابع عشر، حيث ستقود السياسيات الدينية صراعا محتملا لا نهاية له، ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين، بل بين الطوائف المختلفة من المسلمين، وقد يؤدي ذلك في عصر الأسلحة البيولوجية والنووية إلى كارثة تطال الجميع (ص88). يبدو فوكوياما في تحليله لأوضاع العالم الإسلامي أكثر انبهارا بتجربة إيران الإصلاحية، التي اعتبرها قائدة في المنطقة في بلورة إسلام أكثر حداثة وتسامحا، داعيا المسلمين المهتمين بشكل أكثر ليبرالية للإسلام بالتوقف عن لوم الغرب، والاهتمام بعزل المتطرفين بينهم. وعلى العموم، طرحت مواقف فوكوياما نقاشا كبيرا في محور جاكارتا طنجة، جدال لم ينتهي بعد حول مقاسات الصلاحية العلمية والتناسب الفكري…ليس فقط لأنها تعكس وِجهة نظر بعض المثقفين الأمريكيين تجاه ما يقع في العالم، بله لجرأتها وحساسيتها في مكاشفة الواقع العربي من زاوية مغايرة قد تحتاج إلى وقت طويل من أجل هضمها وسكبها على الواقع المعقد لبنية الانظمة العربية.


الجزيرة
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
نبوءة هنتنغتون الخاطئة حول الصراع مع الإسلام
يتيه هنتنغتون بعيدًا في التواريخ القديمة فيتّبع خط سير الشعوب والحضارات والإمبراطوريات في كرّها وفرّها. ثم يرتد كموجة في بحر هائج إلى الأزمنة المعاصرة المثقلة بالصراعات والمعبّأة بتناقضات لا تلتئم. ومن خلال كل ذلك تراه يلهث وراء البحث عن القوانين الحاكمة لصدام الحضارات. وحين يرسو على "جُودي" التناقضات الثقافية، يؤسس قواعد صارمة لحالة الاشتباك الدائم، خاصة في عمق دوائر الصدع التي ترشح بأسباب الحروب والتوترات الشديدة والعلاقات المعقدة. واليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود تفصلنا عن أول ظهور للكتاب (1993)، ها هو "صدام الحضارات" يستعيد راهنيته من خلال إطلاق المقاومة الفلسطينية جولة جديدة من الصراع سمّتها "طوفان الأقصى". وهي تطورات تطرح السؤال حول القدرة التفسيرية لتلك النظرية لمجريات الصراع الدولي، انطلاقًا من مفاهيمها الأساسية في الصدام الحضاري. والحقيقة أننا لم نشأ التوسع في تفكيك الصورة المجملة للصدام مثلما حواها الكتاب. فالمجال لا يتسع لذلك. فآثرنا الاقتصار على الصراع في فلسطين باعتبارها المنطقة الأنموذج لذلك الصدام. لقد جاء مؤتمر مالطا 1989 ليعلن عن نهاية الحرب الباردة. نهاية سيلد من خاصرتها نظام عالمي جديد من أهمّ ملامحه انتصار الليبرالية على الاقتصاد الموجّه، والديمقراطية على الشمولية. تمامًا مثلما انتصر الرهان الهيغلي على وعود الماركسية. وهو ما جرّأ فوكوياما سنة 1992 على التبشير "بنهاية التاريخ". ولم يشذّ هنتنغتون عن تلك القاعدة في تتبّع وقائع الصراع الدولي. فقد رأى أنّ العالم قد تحوّل لأول مرة من "صراع أيديولوجي" بين معسكرين، إلى صراع حضاري "بين جماعات من حضارات مختلفة". ومن ثم فقد أصبحت الحضارة هي المحور الجديد للسياسة الدولية. فخلف الصراعات والمواجهات وكل مظاهر التنافي الحدّي بين القوى تكمن قوة ثاوية: اسمها الهوية الثقافية للشعوب. فلم يعد الاقتصاد هو المحرك الأساسي للعلاقات الدولية مثلما ادعت الماركسية، ولا هي الأيديولوجيات مثلما عبرت عنها الحرب الباردة، بل هي الحضارة التي لا تفتأ تسلط أضواءها الكاشفة على التناقضات العميقة بين الأنساق. وقد وجدت تلك القاعدة ترجمتها في التوازنات الدولية الناشئة. إن إعادة ترتيب النظام العالمي على أساس حضاري تعني انقلابًا تامًا في التراتبية الدولية. فتكون دول المركز في الحضارات هي مرجعية ذلك النظام من خلال الثقافة التي تشترك فيها مع الدول الأعضاء في نفس الحضارة. فـ "العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعية للقيادة ولدور دولة المركز في فرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء والقوى والمؤسسات الخارجية". ومن ثمّ فإن المقومات الأساسية للنظام العالمي الجديد القائم على الحضارات تختزل في تصوّرات دولة المركز وعمقها الثقافي. وعلى قاعدة ذلك العامل الثقافي تبنى التراتبية الجديدة في العلاقات الدولية. فنخرج من توازنات الحرب الباردة التي قامت على وجود قوتين عظميين زائد كتلتهما الدولية، زائد مناطق نفوذهما في العالم الثالث، إلى توازنات جديدة نقطة ارتكازها الدولة المركز في القطب الحضاري زائد الدولة الإقليمية التي تشترك معها في الأساس الثقافي، زائد منطقة النفوذ. وهو ما يعكس أهمية دولة المركز في الفرز الإستراتيجي الجديد الذي أفضى إلى مجموعة من الكتل الحضارية تتزعم كل كتلة فيها دولة مركز. فالولايات المتحدة دولة مركز في الغرب الحضاري، وروسيا دولة مركز في الكتلة الأرثوذكسية، والصين دولة مركز في القطب الكنوفيشيوسي. في حين أنّ "حضارات الإسلام وأميركا اللاتينية وأفريقيا، ليس لها دول مركز". وهو غياب يعود بالأساس إلى مفاعيل الاستعمار الغربي في تفتيت تلك الكيانات الحضارية. وهو التفتيت الذي يحمل الكثير من نذر الصدام. صدام الحضارات إن الكتاب أشبه ما يكون بنبوءة استشرف هنتنغتون من خلالها محركات الصراع في الأزمنة القادمة. فلم يكن الصراع المقصود "الآن وهنا" ولكنه كان قراءة في "كفّ" المستقبل. وهو ينظر إلى ذلك المستقبل بعين "الحتمية التاريخية". فيكون "صدام الحضارات" بمثابة "الطور الأخير في عملية تطور النزاعات في العالم الحديث" مثلما يقول. فالحضارة في تعريف هنتنغتون "مزيج معقد من الأخلاق والدين والتعليم والفن والفلسفة والتكنولوجيا والرخاء المادي". وحين ربطها بالصدام فقد تحولت إلى "براديغم" يستهدي به في تفسير التناقضات بين شعوب تعرّف نفسها دائمًا انطلاقًا من هُويّتها الحضارية ومخزونها الثقافي. فـ"نحن الحضارية، وهم الذين خارج تلك الحضارية، من الثوابت في التاريخ الإنساني". فالحروب بين دول من حضارات مختلفة تكون أكثر ضراوة ودموية عند استشعار تهديد الهُوية. وفي هذا السياق، يؤكد هنتنغتون أن العلاقات بين الحضارات ستكون أكثر عدوانية، خاصة بين الإسلام وجيرانه. وأن أخطر الصراعات في المستقبل ستكون "نتيجة تفاعل الغطرسة الغربية والتعصب الإسلامي والتوكيد الصيني". ويتوقف كثيرًا عند تفاصيل الغطرسة الغربية فنراه يتتبع تفاصيل تشكلها بين الخط التاريخي والخط الثقافي. خط تارخي يفصل بين الشعوب الغربية المسيحية والشعوب الإسلامية والأرثوذكسية. وقد ارتبط تاريخيًا بالإمبراطورية الرومانية في القرن العاشر. وخط ثقافي يرتبط بالتقسيم التاريخي بين الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية، فهو الحد الثقافي لأوروبا، أي أنّ "أوروبا تنتهي حيث تنتهي المسيحية الغربية ويبدأ الإسلام والأرثوذكسية. وبعد زوال "الخطر الأحمر" أصبح ذلك الخط الفاصل هو الحد السياسي والاقتصادي لأوروبا والغرب. وقد كيّف سقوط الشيوعية نظرة الغرب إلى نفسه وإلى العالم. فرأى أن أيديولوجيته الليبرالية يمكن أن تحكم العالم. فكانت العولمة صدى لتلك الأطروحة الظافرة. وهو ما زاد من احتمالات الصدام. فما يراه الغرب قيمًا نبيلة يراه الآخرون محض استعمار. خطوط الصدع يجري الصدام حسب هنتنغتون عند خطوط التقسيم الحضاري، خطوط الصدع أو دول الصدع. وهي الدول التي "تركب الحدود على مناطق التماس بين الحضارات". فتندلع صراعات لا حد لها عند خطوط التقسيم بين الدول أو الجماعات المنتمية إلى حضارات مختلفة. وقد يجري الصراع داخل الدولة نفسها. وهو يرى أن المعنيّين أكثر بصراعات خطوط التقسيم هم أساسًا المسلمون. وأحيانًا أخرى "تكون القضية قضية صراع للسيطرة على أراضٍ. وقد يكون هدف أحد المشاركين فيها على الأقل هو انتزاع أرض وتحريرها من آخرين بطردهم أو قتلهم أو القيام بالعملين معًا، وغالبًا ما تكون الأرض المتنازع عليها رمزًا لهوية وتاريخ طرف من طرفي الصراع أو لهما معًا، قد تكون أرضًا مقدسة لهما فيها حق لا يجوز المساس به". وهذا الكلام فيه بعض وجاهة. فقد كان المسلمون غالبًا موضوعًا للإخضاع والاحتلال عند خطوط التماس، أو في عمق الدول التي لا تدين بالإسلام مثل الصين، أو الهند، أو ميانمار.. ولعل فلسطين هي خلاصة ذلك الصراع. الصراع الحضاري في فلسطين مع نهاية الدولة العثمانية أصبح الإسلام -عكس الحضارات الغربية والأرثوذكسية والصينية- "يفتقر إلى دولة مركز". وقد أجّج ذلك الفراغ مطامع الاستعمار والصهيونية. ولكن ما لم يدركه هنتنغتون أن الفراغ السياسي الناتج عن غياب دولة الأمة، قد عبّأه العمق الحضاري الذي تمتاز به القضية الفلسطينية. لذلك لا عجب أن تتبوأ القضية الفلسطينية منذ منتصف القرن العشرين موقع القضية المركزية للأمة. والمشكلة الأساسية في أطروحة هنتنغتون أنه لم ينظر إلى الصراع في فلسطين على أنه صراع مركزي ذو طبيعة استثنائية، بل تعامل معه بوصفه أحد الصراعات الإثنية أو العرقية التي تشق العالم المعاصر. فهو ينتمي لحروب خطوط الصدع، مثله مثل حرب الهند، وباكستان أو بين المسلمين والمسيحيين في السودان وغيرها، لذلك فقد حضر في كتابه كمثال للاستدلال به كلما اقتضت حاجته النظرية. يرى هنتنغتون أن "رعاية الغرب في قمة قوته في مواجهة الإسلام، لوطن يهودي في الشرق الأوسط، وضعت الأساس لعداء عربي إسرائيلي مستمر". وفي الخلفية الحضارية للصراع ينظر هنتنغتون إلى فلسطين من خلال انتمائها للإسلام، في حين يضع إسرائيل ضمن الدائرة المسيحية اليهودية. ملاحظًا أن الغرب قد أضفى على ذلك المشروع طابعًا دينيًا، وجعله "ضمن مكونات البُعد الديني في الحضارة الغربية". وقد دلت صفحات التاريخ على صراع عميق ومستمر بين الإسلام والمسيحية. فـ"كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر". والاحتكاك بين الجانبين كان يثير دائمًا قضايا الهوية والانتماء. وخلال معظم جولات الصراع كان "الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك". وعلى الرغم من محاولة هنتنغتون البحث في حقيقة الإسلام، فإن تصوره لم يستطع النفاذ إلى العمق الفلسفي والوجودي لذلك الدين. فتردّت قراءته في مفاهيم مختزلة عن العنف والدم ونبذ الآخر. فسار على تخوم "العمق الحضاري" للصراع دون أن يلجه. فجاء صورة باهتة، بالكاد تنطق بأحكام الجغرافيا الخرائطية منزوعة السلاح الحضاري. ليصبح الصراع في فلسطين صراعًا محكومًا بنظرية "خطوط الصدع"، أو خطوط "التقسيم الحضاري". وهي مقاربة متهافتة إذا نظرنا إليها من زاوية الجغرافيا الفلسطينية بحد ذاتها. ففلسطين لا تقع ضمن خطوط الصدع مثلما يسميها هنتنغتون، أي الدول الواقعة على التماس بين حضارتَين، بل إنها – بمنطق التاريخ والجغرافيا- جزء من أرض الشام. وتقع في عمق الخريطة العربية. فهي الخط الفاصل بين الجناح الشرقي والجناح الغربي للأمة. ولم يكن استقدام يهود الشتات من أصقاع الأرض إلا لضرورة السيطرة على "سُرّة" العالم. ومن ثم تأبيد واقعة التجزئة والتخلف والإلحاق الحضاري. فتقاطع الاستعمار مع الصهيونية لإنتاج تلك الحالة الطارئة. لقد رأى هنتنعتون وهو يبحث عن منطقة التناقض بين الإسلام والغرب أن الصراع في عمقه هو صراع بين القيم الدينية والقيم العلمانية. وهو الاستنتاج الذي حرم الرجل النفاذ إلى عمق الصراع فظل معلقًا في سطحه. فتلك المعايير النسبية لا تصلح لأن تكون حاملًا موضوعيًا لصراع من أعقد الصراعات في التاريخ. إضافة إلى ما يكتنفها من صعوبة حين الفرز بين القوى. ففي سنة 1968 مثلًا، أعلنت حركة فتح وهي التي قادت النضال الفلسطيني في ستينيات القرن الماضي أن مشروعها السياسي يهدف إلى بناء "الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية". فأين تتمايز القوى المتقابلة؟ إضافة إلى أنه قد جرى مع دولة الاستقلال التبني الواسع للأنموذج الغربي في السياسة في العالم العربي، والعالم الثالث. لذلك ينتقل هنتنغتون إلى التركيز على أهمية الأرض والمقدسات وقيمة القدس في المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية. فيقر بأنّ "المكان له مغزى تاريخي وثقافي وعاطفي عميق لدى كل طرف"، ولكنه يعجز عن استنطاق النصوص المؤسسة لعظمة المكان كي ينفذ إلى عمق الصراع. صحيح أنه أدرك أن الصراع صراع جذري لا يقبل الحلول الوسطى. ولكنه لم يدرك أنه صراع بين وجهتي نظر تجاه الكون والحياة والإنسان، تصدران عن قاعدتين فلسفيتين متمايزتين. وحين يهرب من كل ذلك إلى تحديد طبيعة العدو، فإنه يرى في مفرد الصهيونية جمْع الغرب الحضاري. يرى هنتنغتون أن الكيان المحتل ليس إلا جزءًا من الغرب الحضاري. فإسرائيل ليست قوة قائمة بذاتها بل هي قوة قائمة بغيرها. زرعها الغرب في قلب الأمة لأسباب حضارية وإستراتيجية. وقد ارتبطت بذلك الغرب برابط "القربى الثقافية". وهي الصلة التي تجعل من الدول الأعضاء في الحضارة الواحدة أسرة واحدة. وتأخذ الدولة المركز دائمًا على عاتقها "توفير الدعم والنظام للأقارب"، فهي علاقة تبادلية. إذ كثيرًا ما قدم الإسرائيليون أنفسهم على أنهم خط الدفاع الأساسي عن الغرب، بالأمس ضد خطر الشيوعية والاتحاد السوفياتي، واليوم ضد "خطر الأصولية الإسلامية على نطاق منطقة الشرق الأوسط كلها". ومن ثم يمكن أن نفهم كيف تداعت الدول الغربية إلى إسناد دولة الاحتلال بعد إطلاق عملية طوفان الأقصى. وكيف فتحت خطوط الإمداد لتوفير احتياجاتها من العتاد والسلاح بل والمشاركة الميدانية في العدوان على غزة. وهي صلة القربى التي بررت لألمانيا المتورطة في "المحرقة النازية"، أن تتورط في محرقة غزة؛ فتصرّح وزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك "كلنا صهاينة على نحو ما". لقد دافع هنتنغتون عن فكرة "صدام الحضارات". ورغم فقدان النظرية للاتساق العلمي، فإنها تمثل إسهامًا في عقل الصراع الحضاري في فلسطين. فهذه المنازلة التاريخية في غزة تعكس تصادمًا بين مشروعين حضاريين: واحد قام على مركزية الله في الوجود، وآخر نهض على مركزية الإنسان في الوجود. فخلف الرؤية الحضارية يكمن جوهر الصراع. ومما لا شك فيه أنّ الصراع مع الصهيونية هو استمرار للصراع مع الغرب نفسه، فقد ورثت الحركة الصهيونية عن الغرب إمبرياليته وقاعدته الفلسفية التي كان يجري في ضوئها الفرز النشيط بين فسطاط المتمدّنين وفسطاط البرابرة، وتسويغ نهج العنف والعسف من منطلق تحضير وتمدين أولئك الذين لا حضارة لهم. الإسطوانة المشروخة نفسها يرددها نتنياهو ببلاهة لتبرير حرب التطهير العرقي على غزة.


شبكة النبأ
١٠-٠٤-٢٠٢٥
- سياسة
- شبكة النبأ
الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر
الدول المتقدمة أنجزت التصنيع وانتقلت إلى نظام ما بعد الصناعة وخلال عمليات التصنيع وتشابكاتها وما تقتضيه من إدارة وتنظيم، والعلاقة الوثيقة بين عمليات الإنتاج والمعرفة العلمية والتقنية المعاصرة والمصارف وأسواق المال، هذه كلها غيّرت عميقا البرجوازية والقوى العاملة والدولة والقوى المؤثرة في مسار النظام السياسي. الدول النامية عدا الناهضة... غالبا ما يهتم أهل السياسة بالاقتصاد في سياق تكوين دولة المؤسسات المعاصرة، التي توصف باللاشخصية وإستقلال القضاء والمساواة أمام القانون والفصل بين التشريع والتنفيذ والرقابة والمساءلة... وكذا. والتي تقترن بالدولة "الديمقراطية الليبرالية" ذات النموذج الغربي، التي تصورها فوكوياما في التسعينات بعد نهاية الحرب الباردة، أنها المرحلة الأخيرة لتطور النظام السياسي للعالم، في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير، نشير أيضا إلى مراجعاته لاحقا تضمّنها كتابه تطور النظام السياسي بجزئين، ثم شكواه المريرة من كثرة إختراقات مجموعات المصالح لمؤسسات الدولة التي قصدها في نهاية التاريخ... وأبحاث لآخرين وحوارات لسنا بصددها. وكثيرا ما يشار إلى ان النظام السياسي بتلك المواصفات مشروط بمستوى من التطور الإقتصادي كالذي عرفته اوربا الغربية وشمال أمريكا في القرن التاسع عشر وهو المقصود عندما يقال انه النظام السياسي الذي يُعبّر عن إرداة البرجوازية والإقتصاد الرأسمالي. نتساءل هل العالم النامي، في نطاقه العريض، الآن لم يقترب من مجملات إقتصاد اوربا الغربية في القرن التاسع عشر، ام على التاريخ أن يعيد صناعة بقية العالم ليكون أوربا أخرى بالضبط كي تولد تلك الدولة المنتظرة. البرجوازية Bourgeois من الفرنسية هم سكان المدن والبلدات، ويقال أنها جاءت من الفرانكية القديمة Burg والتي صارت Bourg بلدة السوق. لكن الدلالة الإصطلاحية لمفردة البرجوازية إختلفت عن الأصل اللغوي فهي لا تشمل جميع سكان المدن بل أرباب العمل والممتلكات وذوي المهن المتخصصة، محامين، اطباء، مهندسين،... وموظفي الحكومة أو بتعبير ابسط اصحاب المال والأعمال وذوي الياقات البيض، وغالبا ما ترد البرجوازية في مقابل العمال الأجراء او البروليتاريا. وقد يُسمّى الذين يعملون لحسابهم الخاص، مثل أصحاب الدكاكين والمشاغل الفردية، برجوازية صغيرة، ثم يقال أيضا برجوازية الريف تمييزا لهم عن الفلاحين المستبعدين من " البروليتاريا والبرجوازية". ومع ذلك يبقى أفضل دليل للتعرف على حضور وإتساع البرجوازية وحجمها النسبي سكان الحضر ونسبتهم من مجموع السكان. لكن من المعلوم ان نمط التطور الإقتصادي يرتبط وثيقا بإنتاجية العمل، وللتذكير متوسط الدخل، الناتج، للفرد يساوي نسبة المشتغلين من مجوع السكان مضروبا بالإنتاجية، فلو فرضنا أن الإنتاجية 150 والمشتغلين ثلث السكان يكون متوسط الدخل للفرد 50. ولأن نسبة المشتغلين تتحرك عبر الزمن في نطاق ضيق ثم تستقر فلو جعلناها ثابتة، للتبسيط غير المخل، حسابيا يكون معدل نمو متوسط الدخل للفرد هو بالضبط معدل نمو الإنتاجية. وبذا صار واضحا سبب هذا الإهتمام الطاغي بمتوسط الدخل للفرد فهو مقياس مزدوج لمرحلة التطور الإقتصادي والإمكانية المحتملة للرفاه، نقول المحتملة لفسح المجال لأثر عوامل أخرى في الرفاه منها توزيع الدخل بين الناس وكذلك نمط إنتشار البنى التحتية والخدمات العامة. لا ننسى ان متوسط الدخل للفرد المنسجم مع مرحلة التطور الإقتصادي –التقني– التنظيمي لا يتضمن الريع. أما متوسط الدخل للفرد المشتمل على الريع فهو مقياس لإمكانية الرفاه دون مستوى التطور. عند مستوى معين من إنتاجية العمل يحتاج المجتمع هذا المقدار أو ذاك من وحدات العمل لإنتاج الغذاء والضروريات الملحة الأخرى مثل الملبس والماوى. بداية التطور الإقتصادي تنسجم آليات التبادل والأسعار مع الدخل المحدد بالإنتاجية لتنصرف أغلبية القوى العاملة او كلها عدا القليل منها لإنتاج الغذاء. لذلك تستأثر الزراعة بأغلب العمل ويستوطن السكان في الأرياف وقليل منهم في المدن. في أوربا القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، قبل الثورة الصناعية، كانت حنى الصناعات مثل النسيج وادوات الزراعة في الأرياف، وتزاولها نفس الأسر الفلاحية إلى جانب العمل الزراعي وقليل من المتفرغين. ومع التطور الإقتصادي، تتزايد الإنتاجية، فيُفسح المجال لأنشطة إقتصادية اخرى فتبدأ المدن بالتكاثر تدريجيا وسكانها، وتستطيع السلطات أيضا إقتطاع نسب متزايدة من الدخل للإنفاق العام وهذا ينعكس أيضا على نمو المدن. على سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1800 يشتغل 74% من القوى العاملة في الزراعة، وفي عام 1850 انخفضت نسبتهم إلى 55%، ثم إلى 40% عام 1900 وفي عام 1960 صارت النسبة 8% وفي السنوات الأخيرة، العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين حوالي 1% من مجموع المشتغلين والأنشطة الأخرى أي الصناعة بالتعريف الواسع وكل الخدمات بما فيها الحكومية إستحوذت 99% من القوى العاملة. وفي أسبانيا التي وصلت متأخرة إلى فئة الدول المتقدمة كانت الزراعة تولد 30% من الدخل، الناتج المحلي الإجمالي، عام، عام 1946، وبقيت مدة طويلة قبل هذا التاريخ تدور حول هذه المساهمة دليل على ركود بنية الإنتاج، وفي عام 2015 إنخفضت حصتها إلى دون 3%. عادة عندما تباشر الدول مرحلة التصنيع تكون إنتاجية العمل في الزراعة أوطأ منها في الصناعة وبقية الأنشطة ولذلك نسبة العاملين في الزراعة تفوق نسبة الناتج الزراعي إلى مجموع الناتج. ومع التقدم الإقتصادي تتقارب معدلات إنتاجية العمل بين القطاعات وتبقى الصناعة التحويلية الأكثر نموا في إنتاجية العمل وتقود الإقتصاد في التحول العميق والشامل كالذي شهدته دول الغرب واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين حاليا. للمقارنة بين الوضع الحالي للدول النامية وما كانت عليه اوربا الغربية نستعين بمتوسط الدخل، الناتج المحلي الإجمالي، للفرد. الناتج مقاس بدولارات متعادلة القوة الشرائية وهذا النهج متبع لمعالجة اثر إختلافات الأسعار بين الدول، اي أن المستويات العامة لأسعار السلع والخدمات معدّلة لتماثل أسعار الولايات المتحدة الأمريكية عام 2021، والبيانات المعالجة والمعروضة مستقاة من دراسات تاريخية وبيانات موقع البنك الدولي World Bank Open Data. بيانات القرن التاسع عشر عن الدخل أخَذَتها الدراسات التاريخية عن Maddison صاحب المشروع المعروف في تاريخ الإقتصاد الكمي؛ وبيانات القوى العاملة والتحضر إستقيناها من مصادر أخرى. بداية القرن العشرين تعد بمثابة نهاية القرن التاسع عشر، هكذا درجت الكثير من دراسات التاريخ الإقتصادي. متوسط الدخل للفرد عام 1870 لأقرب دولار في بريطانيا 2827؛ فرنسا 2325؛ المانيا 2819؛ الولايات المتحدة 2248. في الدول النامية عام 2023 لأقرب دولار لمجموعات الدول النامية تبعا لمستوى التطور: الأقل تطوراً 3819؛ واطئة الدخل 2325؛ متوسطة الدخل الفئة الدنيا 8380؛ واطئة ومتوسطة الدخل 12888؛ الفئة العليا لمتوسطة الدخل 20588؛ المتوسط العالمي 20604 وجميعها بأسعار عام 2021 بالدولارات متعادلة القوة الشرائية. نستنتج بمعيار الدخل جميع الدول النامية حتى أقلها دخلا وتطورا لم تعد أدنى مما كانت عليه دول الغرب المتقدم عام 1870. وبحكم الإرتباط الوثيق، كما تقدم بين متوسط الدخل للفرد عبر الإنتاجية، وبنية النشاط الإقتصادي والتحضر أصبح من الصعب قبول الإصرار بأن الشرط الإقتصادي لدولة المؤسسات المعاصرة لم يتحقق بعد في الدول النامية. وعلى صعيد الدول كل على حدة لم أجد سوى بضعة دول لا أقول اربع كي اتحفظ عن إحتمال الخطأ دون ذلك الشرط. وعند المقارنة مع عام 1913 وجدنا متوسط الدخل للفرد للدول المتقدمة الأربع على التوالي: 8096؛ 6043؛ 5652؛ 9017 دولار بأسعار 2021. وهنا صارت الدول الأقل تطورا ومنها واطئة الدخل ليست مستوفية لشرط التماثل مع المتقدمة عام 1913 ونسبتها من مجموع سكان العالم 14%، أي 86% من سكان العالم بدول مستوفية للشرط. بلغُة ابسط سكان دول العالم النامي 82% من مجموع سكان المعمورة منهم 60% في دول مستوفية للشرط و 14% لم تصل بعد. فعندما نفترض أن الدول المتقدمة مطلع القرن العشرين فقط حققت الشرط الإقتصادي وليس قبل ذلك، وهذا لم يتبناه أحد، يصبح التعميم على كل الدول النامية لا يستند إلى اساس وجيه دون إعادة البحث والتقصي كي نتوصل إلى نتيجة تساعد في تقليص مساحة البحث عن أسباب التعثر او التخلف السياسي. نذهب إلى نسبة العاملين في الزراعة في عام 1870 في الولايات المتحدة الأمريكية 53% من مجموع القوى العاملة. وفي الدول النامية عام 2023 للدول الأقل تطوراً 53%؛ واطئة الدخل 58%؛ متوسطة الدخل الفئة الدنيا 39% واطئة ومتوسطة الدخل 32%؛ متوسطة الدخل الفئة العليا 20% المتوسط العالمي 26%. نستنتج ان الفئة واطئة الدخل سكانها 9% من سكان العالم لم تستوفي الشرط الأمريكي عام 1870 وجميع الباقية مستوفية. بقي المرور على مؤشر التحضر، من المعلوم ان المملكة المتحدة وشمال غرب اوربا الأسبق في الإنتقال من الأرياف إلى المدن. وكانت نسب التحضر في المملكة المتحدة للسنوات 1700، 1750، و 1800 من مجموع السكان 12%؛ 17%؛ 21% على التوالي. وفي بقية شمال غرب اوربا 12% لكل المدة اي لم يحصل تطور في الثقل النسبي لسكان المدن. آخذين في الإعتبار أن عام 1800 ما بعد بداية الثورة الصناعية ومحرك جيمس واط. وفي اوربا، عدا روسيا، للسنوات آنفا على التوالي: 13%؛ 14%؛ 14%، وفي عام 1910 وصل التحضر إلى 41%. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فلم يتجاوز التحضر نصف السكان إلا عام 1920 عندما بلغ 51%. نأتي إلى الدول النامية عام 2023 نعرض نسب التحضر من مجموع سكانها: الأقل تطوراً 36%؛ واطئة الدخل 35%؛ الفئة الدنيا متوسطة الدخل 41%؛ واطئة ومتوسط الدخل 52%؛ الفئة العليا متوسطة الدخل 69%؛ المتوسط العالمي 57%. يفهم ان الدول النامية بجميع فئاتها أعلى تحضراً من أوربا المتقدمة بداية القرن التاسع عشر. وجميع الدول النامية عدا الأقل تطوراً تماثل او تتجاوز التحضر بالمتوسط لأوربا عدا روسيا عام 1910، والدول متوسطة الدخل في الفئة العليا تجاوزت مستوى التحضر في الولايات المتحدة عام 1920. لاشك ان الدول المتقدمة أنجزت التصنيع وانتقلت إلى نظام ما بعد الصناعة وخلال عمليات التصنيع وتشابكاتها وما تقتضيه من إدارة وتنظيم، والعلاقة الوثيقة بين عمليات الإنتاج والمعرفة العلمية والتقنية المعاصرة والمصارف وأسواق المال، هذه كلها غيّرت عميقا البرجوازية والقوى العاملة والدولة والقوى المؤثرة في مسار النظام السياسي. الدول النامية عدا الناهضة شرق آسيا وقليل سواها لم تتعرض مجتمعاتها إلى هذه التجارب والتحولات العميقة في النظرة إلى العالم وأنماط السلوك والتفاعل الإجتماعي المرتبط بها؛ ووظائف الدولة وثقافة العمل في الجهاز البيروقراطي وصناعة القرار... والقيم والمخاوف والآمال... وهكذا. مع كل ما تقدم وغيره لم تعد المسألة بتلك البساطة التي تعودنا عليها في يقينية جازمة كما قرانا حتى إلى مدة وجيزة بخطاب أدبي ولغة تنتزع إعجاب المتلقي... ننتظر " البرجوازية المنتجة للثروة والمعرفة" لتحكم دول المشرق وتنتهي معاناة الشعوب. وكأن الذين يحكمون دولنا رعاة الأبل أو إقطاعيين مشرقيين وفلاحين بسطاء، في خيال شعراء السياسة، لم يأتهم بعد خبر العصر الحديث. متى يتسع وقت الكتّاب صانعي الرأي العام كي ينتبهوا إلى أن ممولين ومنظرين للعنصرية والكراهيات والمذابح من اكثر البرجوازيين إنغماسا بمؤسسات العصر الفاتنة في عالم الأعمال والأكاديميات الراقية، لكن على طريقتهم. ارشح أن التكون الثقافي حقيقة موضوعية صلبة فهل فات اوان البحث الجاد لسبر أغوار الثقافة لنكتشف هناك مصيرنا المجهول دون تعليل مآسي الشعوب بأن بورجوازيتنا رثة وننتظر أخرى انيقة ذوّاقة للصواريخ ذات المهام الأحفورية كي تنقذ اجيالنا القادمة الذين أحسنوا الظن بنا.


إيطاليا تلغراف
٠٤-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- إيطاليا تلغراف
الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني
إيطاليا تلغراف د. منصف المرزوقي عندما نتساءل أي مستقبل للعرب، لنقل من هنا لمنتصف القرن، يتبادر للذهن ثلاثة سيناريوهات كبرى: الأول: تواصل الاستبداد – أكان علمانيًا أم دينيًا- بتشبِيبه وتأقلمه واستعماله المحكم تقنيات التضليل والمراقبة، مما يعني تواصل الوضع الكارثيّ للشعوب والدول. الثاني: صراع مُتزايد الحدّة والوتيرة بين الثورات والثورات المضادّة، مما ستنتج عنه حالة من الفوضى قد تصل لمصافّ الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة (السودان والصومال إنذارًا). الثالث: نجاح المشروع الديمقراطي في التمكن والبقاء والتطور. لقائل أن يقول أين الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات التي تلغي وجوده، والحال أنه اليوم المنتصر في سوريا، المقاوم في غزة، والمستعدّ للعودة في أكثر من بلد بعد الفشل المخزي للثّورات المضادّة؟ قناعتي أن تيارًا منه سيعود لجولة استبدادية عبثية جديدة؛ لأنه سيواجه بمقاومة المكوّن الثابت الآخر للمجتمع؛ أي المكون العلماني، وأن تيارًا آخرَ سينخرط في المشروع الديمقراطي ليثريه وينعشه بالقيم المتجذرّة في ثقافة المجتمع. مما يعني أننا لن نخرج، حتى بإقحام الإسلام السياسي، من السيناريوهات الثلاثة. أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟ رغم استحالة التنبّؤ، هناك احتمالات محدودة قد تكون هي مصيرنا. يمكن أن تتجاور داخل الفضاء العربي – بغض النظر عن الحدود- مناطقُ يحكمها الاستبداد، ومناطق سيدتها الفوضى المدمرة، أو مناطق فوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو مناطق فوضى فظيعة بجانب مناطق فوضى أفظع. ما علّمنا التاريخ، هو أن المستقبل قلّما يتمخّض عما نأمل، أو عما نخشى، والعادة أنه يتمخّض عما يفاجئنا ولم نتوقعه لحظة. لكن الثابت أنه لا شيءَ مقدرًا أو مكتوبًا، فانتصار الديمقراطية -ونهاية التاريخ حسب فوكو ياما- ليس أكثر حتمية من انتصار الشيوعية، كما كانت قناعة الماركسيين في القرن العشرين. وفي نفس الوقت لا شيء يمنع من هذا الانتصار. السؤال هو: لماذا يجب أن نتشبّث بهذا الخيار رغم ما يعاني في عالَمنا المعاصر من أزمات، وما شروط ثباته ثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟ لنبدأ بالتأكد من وجود تصوّر جامع للديمقراطيين العرب، إذ كيف نناضل من أجل شيء مبهم أو غير متّفق على أبجدياته. للبتّ في فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2024، ناقشَ فيه أكثر من مئة من السياسيين والمثقّفين والإعلاميين من مختلف الأجيال، ورقةً تحضيريةً أعدتها قيادة المجلس، وانتهوا بعد ثلاثة أيام بالاتفاق على تصوُّر ضُمّن في وثيقة سُمّيت العهد الديمقراطي العربي (موجودة على موقع المجلس). إنها الوثيقة التأسيسية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة الطريق لنضالات الأجيال المقبلة، وتبدأ بالعودة إلى أهمّ سؤال: لماذا الإصرار على الديمقراطية وهي اليوم كاليتيم على مأدبة اللئام؟ تُختزل الديمقراطية عند أغلب الناس في الحريات الفردية والحريات العامة والقضاء المستقل والانتخابات الحرة والنزيهة. لكن هذه وسائل وآليات الديمقراطية وليست لبّها وهدفها. أحسن مدخل لفهم هدفها هو تصوّر غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الدكتاتوريات: النظام السوري الأسدي نموذجًا. الظاهرة الأساسية في كل مجتمع منكوب بمثل هذا النظام: خوف المجتمع من الدولة، وخوف الدولة من المجتمع. إنه خوف المحكومين من الحيطان التي لها آذان، من زوّار الفجر، من مراكز الشرطة، من غرف التعذيب، من السجون والمنافي. إنه خوف الحكام من المؤامرات الصامتة، من الثورات الصاخبة، من اكتشاف فضائحهم وجرائمهم ربما الخوف الأكبر اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، وإنما أشخاص عاديون وأحيانًا حتى أقل من العاديين. هذا الخوف العام هو أبرز مظاهر الحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع في شكل انقلابات وثورات. أما السبب الأول، فمصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، الثروةَ والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظلّ الخوف والمذلّة. لهذا يقول العهد الديمقراطي: 'الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي'. إن عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في الحكم وحتى على قيد الحياة. هي أيضًا في تحرير المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس. لا يحدث هذا بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة، حيث لا قدرة لأحد بين عشية وضحاها على توزيع عادل للثروة والسلطة والاعتبار، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي. هكذا تنظم آلياتُها الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية والسلاح هو الكلمات لا اللكمات. تأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة تفصل مرحليًا بين المتنازعين فيعلَن منتصرًا من صفف أكبر عدد ممكن من الجنود على ساحة المعركة. بعد إعلان الفوز يُتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. لا يبقى على المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا؛ لأن اللعب مفتوح، وثمة دومًا أمل بالانتصار في المعركة السلمية المقبلة. من أحوج منا -نحن العرب- لمثل هذا النظام لكي ننتهي من الصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، حتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قامعة ومجتمع مقموع، لا انتصار فيها إلا وكان عابرًا باهظ الثمن للجميع؟ لقائل أن يقول: بهذا المفهوم كل المجتمعات بحاجة لنَفَس الديمقراطية كما هي بحاجة لنفس الهواء النقي والغذاء الكافي، فما الداعي لإضافة 'العربي' لتوصيف العهد؟ هل للتعريف الجغرافي أم لإفراغ المصطلح من فحواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟ لا هذا ولا ذاك. نحن – العرب- بحاجة ككل الشعوب للديمقراطية، لكن لنا فيها بحكم وضعنا الكارثي أربعة مآرب أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها. لماذا ديمقراطية اجتماعية؟ كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الجنينية، هو السخرية من الحريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. النتيجة – كما جرّبنا على امتداد سبعين سنة في أكثر من بلد- هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، أكانت سياسية أم اجتماعية. هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم، أن ديمقراطية لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، هي مجرد فاصل بين جولتين استبداديتين. لذلك يقول العهد الديمقراطي: 'نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية، كما تروّج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا. أولوية الأولويات بالنسبة لنا، هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية'. لماذا ديمقراطية اتحادية؟ إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا، ليست فقط أزمة النظام السياسي وإنما أزمة الدولة القُطرية، فباستثناء أربع دول بترولية، لا قدرة لثماني عشرة دولة عربية أخرى على تلبية الحاجيات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى ولو حكمتها أحسن الأنظمة وأقلها فسادًا. هذا ما فهمه باكرًا الوحدويون والقوميون العرب، لكن ما لم يفهموه أن النظم الاستبدادية التي يقدّسون لا تتّحد، والدليل صراع البعثيين الذين حكموا سوريا، والعراق في سبعينيات القرن الماضي. النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد :'نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية. لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرّق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها. هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحدَه على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة'. لماذا ديمقراطية سيادية؟ المستبدون في العالم العربي تبّع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية، أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران، أو روسيا، وإسرائيل. الديمقراطية، إذن، ليست الضمان الأكبر لتمتُّعنا بالحريات الفردية والجماعية فقط، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار أفرغ من كل مضمون. لهذا يقول العهد الديمقراطي: 'نرى في الديمقراطية، ليس فقط وسيلة للتحرّر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار'. لماذا ديمقراطية مواطنية؟ لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعّال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع، هي في نفس الوقت حق وواجب. أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون فلا فضل لرجل على امرأة، لغني على فقير، لطائفة على طائفة… إلخ، في التمتُّع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وأساسًا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فضرورة اضطلاع تلقائي حرّ لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين. هكذا يمكن أن نعرّف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، لا يتخلون عن أي منها مهما سُلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه. مجمل القول: أن تكون اليوم مواطنيًا أي وريثًا عنيدًا لحُلم الحقوقيين بمجتمع كل أفراده يتمتعون بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. أن تكون تقدميًا اشتراكيًا، وريثًا عنيدًا لحُلم العدالة الاجتماعية، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. أن تكون سياديًا استقلاليًا، وريثًا عنيدًا لحُلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة غير تابعة، غير 'محمية'، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. أن تكون عروبيًا وحدويًا وريثًا عنيدًا لحُلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. خلاصة الخلاصة: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل واعد إلا إن استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، شعوب من المواطنين، اتحاد شعوب حرة ودول مستقلة، والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق المشروع العظيم: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية). لقائل أن يقول: مشروع جميل لكن ما حظوظه من التحقيق، خاصة في ظل انحسار الديمقراطية في العالم والتهاب الشعبوية في كل مكان، ومتانة الأنظمة الاستبدادية التي قد تشكل الثورة التكنولوجية طوق نجاتها بما توفر من إمكانات غير مسبوقة للتحكم في العقول وفي الأجساد؟ هذا ما يحملنا للتحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي. لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بدّ من قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها ومن مناضلين صادقين يجاهدون طوال حياتهم لفرضه وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لتعهده وحمايته. أين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تعطي للديمقراطية العربية -كما حددها العهد- بعضَ حظوظ الفوز في سباقها مع الاستبداد المخيف والفوضى المرعبة؟ وللحديث بقية


الجزيرة
٠٤-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني
عندما نتساءل أي مستقبل للعرب، لنقل من هنا لمنتصف القرن، يتبادر للذهن ثلاثة سيناريوهات كبرى: الأول: تواصل الاستبداد – أكان علمانيًا أم دينيًا- بتشبِيبه وتأقلمه واستعماله المحكم تقنيات التضليل والمراقبة، مما يعني تواصل الوضع الكارثيّ للشعوب والدول. الثاني: صراع مُتزايد الحدّة والوتيرة بين الثورات والثورات المضادّة، مما ستنتج عنه حالة من الفوضى قد تصل لمصافّ الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة (السودان والصومال إنذارًا). الثالث: نجاح المشروع الديمقراطي في التمكن والبقاء والتطور. لقائل أن يقول أين الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات التي تلغي وجوده، والحال أنه اليوم المنتصر في سوريا، المقاوم في غزة، والمستعدّ للعودة في أكثر من بلد بعد الفشل المخزي للثّورات المضادّة؟ قناعتي أن تيارًا منه سيعود لجولة استبدادية عبثية جديدة؛ لأنه سيواجه بمقاومة المكوّن الثابت الآخر للمجتمع؛ أي المكون العلماني، وأن تيارًا آخرَ سينخرط في المشروع الديمقراطي ليثريه وينعشه بالقيم المتجذرّة في ثقافة المجتمع. مما يعني أننا لن نخرج، حتى بإقحام الإسلام السياسي، من السيناريوهات الثلاثة. أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟ رغم استحالة التنبّؤ، هناك احتمالات محدودة قد تكون هي مصيرنا. يمكن أن تتجاور داخل الفضاء العربي – بغض النظر عن الحدود- مناطقُ يحكمها الاستبداد، ومناطق سيدتها الفوضى المدمرة، أو مناطق فوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو مناطق فوضى فظيعة بجانب مناطق فوضى أفظع. ما علّمنا التاريخ، هو أن المستقبل قلّما يتمخّض عما نأمل، أو عما نخشى، والعادة أنه يتمخّض عما يفاجئنا ولم نتوقعه لحظة. لكن الثابت أنه لا شيءَ مقدرًا أو مكتوبًا، فانتصار الديمقراطية -ونهاية التاريخ حسب فوكو ياما- ليس أكثر حتمية من انتصار الشيوعية، كما كانت قناعة الماركسيين في القرن العشرين. وفي نفس الوقت لا شيء يمنع من هذا الانتصار. السؤال هو: لماذا يجب أن نتشبّث بهذا الخيار رغم ما يعاني في عالَمنا المعاصر من أزمات، وما شروط ثباته ثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟ لنبدأ بالتأكد من وجود تصوّر جامع للديمقراطيين العرب، إذ كيف نناضل من أجل شيء مبهم أو غير متّفق على أبجدياته. للبتّ في فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2024، ناقشَ فيه أكثر من مئة من السياسيين والمثقّفين والإعلاميين من مختلف الأجيال، ورقةً تحضيريةً أعدتها قيادة المجلس، وانتهوا بعد ثلاثة أيام بالاتفاق على تصوُّر ضُمّن في وثيقة سُمّيت العهد الديمقراطي العربي (موجودة على موقع المجلس). إنها الوثيقة التأسيسية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة الطريق لنضالات الأجيال المقبلة، وتبدأ بالعودة إلى أهمّ سؤال: لماذا الإصرار على الديمقراطية وهي اليوم كاليتيم على مأدبة اللئام؟ تُختزل الديمقراطية عند أغلب الناس في الحريات الفردية والحريات العامة والقضاء المستقل والانتخابات الحرة والنزيهة. لكن هذه وسائل وآليات الديمقراطية وليست لبّها وهدفها. أحسن مدخل لفهم هدفها هو تصوّر غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الدكتاتوريات: النظام السوري الأسدي نموذجًا. الظاهرة الأساسية في كل مجتمع منكوب بمثل هذا النظام: خوف المجتمع من الدولة، وخوف الدولة من المجتمع. إنه خوف المحكومين من الحيطان التي لها آذان، من زوّار الفجر، من مراكز الشرطة، من غرف التعذيب، من السجون والمنافي. إعلان إنه خوف الحكام من المؤامرات الصامتة، من الثورات الصاخبة، من اكتشاف فضائحهم وجرائمهم ربما الخوف الأكبر اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، وإنما أشخاص عاديون وأحيانًا حتى أقل من العاديين. هذا الخوف العام هو أبرز مظاهر الحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع في شكل انقلابات وثورات. أما السبب الأول، فمصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، الثروةَ والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظلّ الخوف والمذلّة. لهذا يقول العهد الديمقراطي: "الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي". إن عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في الحكم وحتى على قيد الحياة. هي أيضًا في تحرير المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس. لا يحدث هذا بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة، حيث لا قدرة لأحد بين عشية وضحاها على توزيع عادل للثروة والسلطة والاعتبار، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي. هكذا تنظم آلياتُها الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية والسلاح هو الكلمات لا اللكمات. تأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة تفصل مرحليًا بين المتنازعين فيعلَن منتصرًا من صفف أكبر عدد ممكن من الجنود على ساحة المعركة. بعد إعلان الفوز يُتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. لا يبقى على المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا؛ لأن اللعب مفتوح، وثمة دومًا أمل بالانتصار في المعركة السلمية المقبلة. من أحوج منا -نحن العرب- لمثل هذا النظام لكي ننتهي من الصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، حتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قامعة ومجتمع مقموع، لا انتصار فيها إلا وكان عابرًا باهظ الثمن للجميع؟ إعلان لقائل أن يقول: بهذا المفهوم كل المجتمعات بحاجة لنَفَس الديمقراطية كما هي بحاجة لنفس الهواء النقي والغذاء الكافي، فما الداعي لإضافة "العربي" لتوصيف العهد؟ هل للتعريف الجغرافي أم لإفراغ المصطلح من فحواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟ لا هذا ولا ذاك. نحن – العرب- بحاجة ككل الشعوب للديمقراطية، لكن لنا فيها بحكم وضعنا الكارثي أربعة مآرب أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها. لماذا ديمقراطية اجتماعية؟ كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الجنينية، هو السخرية من الحريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. النتيجة – كما جرّبنا على امتداد سبعين سنة في أكثر من بلد- هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، أكانت سياسية أم اجتماعية. هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم، أن ديمقراطية لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، هي مجرد فاصل بين جولتين استبداديتين. لذلك يقول العهد الديمقراطي: "نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية، كما تروّج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا. أولوية الأولويات بالنسبة لنا، هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية". لماذا ديمقراطية اتحادية؟ إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا، ليست فقط أزمة النظام السياسي وإنما أزمة الدولة القُطرية، فباستثناء أربع دول بترولية، لا قدرة لثماني عشرة دولة عربية أخرى على تلبية الحاجيات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى ولو حكمتها أحسن الأنظمة وأقلها فسادًا. هذا ما فهمه باكرًا الوحدويون والقوميون العرب، لكن ما لم يفهموه أن النظم الاستبدادية التي يقدّسون لا تتّحد، والدليل صراع البعثيين الذين حكموا سوريا، والعراق في سبعينيات القرن الماضي. النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد :"نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية. لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرّق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها. هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحدَه على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة". لماذا ديمقراطية سيادية؟ المستبدون في العالم العربي تبّع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية، أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران، أو روسيا، وإسرائيل. الديمقراطية، إذن، ليست الضمان الأكبر لتمتُّعنا بالحريات الفردية والجماعية فقط، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار أفرغ من كل مضمون. لهذا يقول العهد الديمقراطي: "نرى في الديمقراطية، ليس فقط وسيلة للتحرّر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار". لماذا ديمقراطية مواطنية؟ لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعّال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع، هي في نفس الوقت حق وواجب. أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون فلا فضل لرجل على امرأة، لغني على فقير، لطائفة على طائفة… إلخ، في التمتُّع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وأساسًا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فضرورة اضطلاع تلقائي حرّ لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين. هكذا يمكن أن نعرّف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، لا يتخلون عن أي منها مهما سُلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه. مجمل القول: أن تكون اليوم مواطنيًا أي وريثًا عنيدًا لحُلم الحقوقيين بمجتمع كل أفراده يتمتعون بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. أن تكون تقدميًا اشتراكيًا، وريثًا عنيدًا لحُلم العدالة الاجتماعية، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. أن تكون سياديًا استقلاليًا، وريثًا عنيدًا لحُلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة غير تابعة، غير "محمية"، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. أن تكون عروبيًا وحدويًا وريثًا عنيدًا لحُلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي. خلاصة الخلاصة: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل واعد إلا إن استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، شعوب من المواطنين، اتحاد شعوب حرة ودول مستقلة، والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق المشروع العظيم: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية). هذا ما يحملنا للتحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي. لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بدّ من قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها ومن مناضلين صادقين يجاهدون طوال حياتهم لفرضه وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لتعهده وحمايته. أين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تعطي للديمقراطية العربية -كما حددها العهد- بعضَ حظوظ الفوز في سباقها مع الاستبداد المخيف والفوضى المرعبة؟