logo
#

أحدث الأخبار مع #لتنظيمداعش،

استخدام الدين كأداة دموية.. آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي
استخدام الدين كأداة دموية.. آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

البوابة

time١٣-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • البوابة

استخدام الدين كأداة دموية.. آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

فى عددها 494 الصادر يوم الخميس 8 مايو 2025، نشرت صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية الرسمية لتنظيم داعش، افتتاحية حملت عنوانًا لافتًا: «فزت وربّ الكعبة». هذا العنوان مستلهم من مقولة منسوبة إلى الصحابي الجليل حرام بن ملحان، وردت فى كتب السيرة النبوية، عندما طُعن غدرًا أثناء أدائه لمهمة دعوية فى زمن النبى محمد، فهتف بتلك العبارة تعبيرًا عن استشعاره للفوز بالشهادة رغم قتله غدرًا. باختيار هذا العنوان، يسعى تنظيم داعش إلى توظيف الرمز الدينى والتاريخى لإضفاء مشروعية أخلاقية ودينية على عملياته العنيفة، وإعادة تأويل وقائع القتل والموت فى سياق معاصر بوصفها تجليات للفوز الإلهى والرضا الرباني. تعمل هذه الافتتاحية على إعادة إنتاج منظومة من الرموز والمقولات الدينية القديمة، وتُسقطها على الواقع السياسى الراهن ضمن سردية جهادية مغلقة. الخطاب هنا لا يُقدّم فقط مبررات أيديولوجية للعنف، بل يُعيد تشكيل وعى أنصاره عبر آليات لغوية ونفسية تهدف إلى تطبيع القتل وتجميله. من خلال هذه اللغة التعبوية، يتم تحويل الموت إلى احتفال، والمذبحة إلى نصر، والانتحار إلى شهادة، بما يخلق حالة وجدانية مغلقة تُلغى الحواس النقدية وتُعطل التفكير المستقل. تحليل هذا النص من خلال منهج تحليل الخطاب (Discourse Analysis) يُظهر بوضوح كيف يستخدم التنظيم أدوات لغوية واستدعاءات دينية منتقاة بعناية لبناء سردية ذاتية تعزز القطيعة مع العالم الخارجي، وتُقصى كل رواية بديلة. فالنص لا يكتفى بتبرير العنف، بل يُعيد تشكيل المفاهيم الدينية التقليدية – كالـ"شهادة" و"الجهاد" و"النصر" – لتتلاءم مع أهداف التنظيم وممارساته العنيفة. وتتحول بذلك اللغة إلى أداة للهيمنة الأيديولوجية، تشتغل على الوجدان والدين والهوية فى آنٍ معًا. فى السياق السياسى والأيديولوجى الأوسع، تعكس هذه الافتتاحية كيف يستثمر تنظيم داعش فى الرموز التراثية لإعادة إنتاج خطاب تعبوى يتجاوز حدود الحدث الآنى إلى مشروع طويل الأمد لصناعة الولاء والهوية. إنها محاولة لتأبيد المعركة، ليس فقط على الأرض، بل فى العقول والقلوب. وهذا ما يجعل تحليل الخطاب الداعشى ضروريًا لفهم بنيته الداخلية وآليات تأثيره، خاصة فى ظل تحولات ساحة الجهاد المعولم، وتنامى أدوات الإعلام الحربى الرقمي، وازدياد الحاجة إلى مقاربات نقدية تفكك هذا الخطاب من داخله. البنية الخطابية والتركيز على الثنائية القيمية تعتمد افتتاحية العدد ٤٩٤ من صحيفة النبأ على بنية خطابية تتسم بالحسم القيمي، عبر تقديم ثنائيات متقابلة ومطلقة: مثل "الربح مقابل الخسارة"، و"الفوز الدنيوى مقابل الفوز الأخروي"، و"المجاهدون مقابل القاعدون". هذه الثنائيات لا تُطرح كخيارات تفاوضية أو اجتهادية، بل تُفرض كحدود فاصلة بين الإيمان والكفر، بين الفلاح والخذلان. ما يُراد من هذه البنية ليس الإقناع العقلي، وإنما استدعاء موقف وجدانى حاد، يضع القارئ أمام اختبار أخلاقى حاسم: إما أن تكون مع "الحق" المتمثل فى الجهاد والتضحية، أو مع "الباطل" المتجسد فى الراحة والانكفاء. الخطاب يتعمد نفى أى منطقة وسطى أو موقف تأملى قد يسمح بالحياد أو التفكير النقدي. فإما أن تكون "مجاهدًا" تنتمى إلى صفوة الله المختارة، أو "قاعدًا" من أهل الخذلان، ممن باعوا آخرتهم بدنياهم. هذا الإلغاء الممنهج لأى خيار ثالث يعكس رغبة التنظيم فى احتكار التأويل الدينى والشرعي، بحيث تصبح رؤيته للجهاد والموت هى المعيار الوحيد للتقوى والصلاح. بهذا الشكل، تُغلق كل منافذ الحوار أو الاجتهاد، ويُختزل الدين فى معادلة دموية لا تقبل النقاش. لا يستند هذا الخطاب إلى برهنة عقلية أو تحليل واقعي، بل يقوم على استثارة الانفعال العاطفى والوجداني. يتم توظيف مفردات من قبيل "الفوز الأعظم"، "الجنة"، "النصر الموعود"، فى مقابل ألفاظ مثل "الخسران المبين"، "الذل"، و"الخذلان"، لصناعة حالة وجدانية تحفّز الانتماء القتالى وتؤسس لمنطق تضحوى متطرف. فبدل أن يُطلب من القارئ أن يفكر، يُدفع إلى أن يشعر، ويتحمّس، ثم ينخرط. وهذا بالضبط ما تحتاجه جماعات مثل داعش: وقود بشرى غير متردد، يتخذ القرار بناءً على الانفعال لا العقل. إن هذه البنية الخطابية المبنية على التقابل القيمى الحاد تُستخدم كأداة تحشيد فعالة. فعندما يُقابل "الحق الإلهي" بـ"الماديات الجاهلية"، و"الباقية" بـ"الفانية"، تصبح كل تفاصيل الحياة الدنيوية مشبوهة، ويُصبح الانتماء للجماعة والموت فى صفوفها هو الخيار الوحيد المشروع دينيًا. بهذا الشكل، ينجح التنظيم فى نزع الشرعية عن أى خطاب إصلاحى أو سلمى أو حتى واقعي، ويحول الجهاد إلى هوية شاملة، لا إلى فعل محكوم بشروط شرعية وأخلاقية دقيقة. إنه خطاب لا يهدف فقط إلى الإقناع، بل إلى الهيمنة النفسية وتوجيه القرار الفردى نحو التطرف. استخدام النصوص الدينية خارج سياقاتها تعتمد افتتاحية النبأ على اقتباسات دينية من القرآن والسنة تُنتزع من سياقاتها التاريخية والشرعية، وتُوظف فى سياق تعبوى يخدم الأجندة القتالية للتنظيم. من بين هذه النصوص قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾، وكذلك قول الصحابى الجليل: "فزتُ ورب الكعبة" عند مقتله. هذه الآيات والأحاديث تُستخدم لا بوصفها مصادر للهداية والبيان، وإنما كشعارات دعائية تبرر الموت والقتل وتُضفى عليهما طابعًا من القداسة والتفوق الأخلاقي. النتيجة أن النص الدينى يُفقد معناه الشامل ويُختزل فى بعده القتالى فقط. لا تقدم الافتتاحية أى إحالة إلى الضوابط الفقهية التى تؤطر مفهوم الجهاد فى الشريعة الإسلامية. فلا ذكر لمبدأ "إعلان الإمام أو ولى الأمر"، ولا لشروط مشروعية القتال مثل دفع العدوان، أو التناسب بين الفعل ورد الفعل، أو حرمة التعرض للمدنيين. هذا التجاهل المتعمد للإطار الفقهى يُحول الجهاد من فريضة مشروطة إلى نشاط قتالى مطلق، مما يفتح الباب أمام العنف الفوضوى ويشرعن القتل على الهوية، حتى خارج ميدان القتال. اللافت فى الخطاب أن استخدام النصوص لا يهدف إلى بيان مقاصد الشريعة من حفظ النفس والدين والعقل، بل إلى إثارة الانفعال الدينى لدى القارئ. فالنص القرآنى لا يُعرض ضمن سياقه التفسيرى أو المقاصدي، بل يُستدعى كعبارة مقتطعة تغذى إحساسًا بالتفوق الأخلاقى والبطولى لمن يختار "الاستشهاد". هذا النوع من الخطاب يعطل القدرة على التفكير النقدى ويُفضى إلى نوع من "التمجيد الدينى للموت"، حيث يصبح القتل والقتل المضاد سُنة ممدوحة لا جريمة مدانة. فى المحصلة، ما يجرى فى هذا الخطاب هو تحريف منهجى للمفاهيم الدينية؛ إذ تُحوّل آيات الجهاد من أدوات دفاعية تحفظ كرامة الإنسان إلى أدوات تحريضية تُستخدم لتبرير الإرهاب. ويتم تغييب مفاهيم مركزية فى الإسلام مثل العدالة، والرحمة، والنية، والمآل، لحساب مقاربة أحادية عنيفة تُختزل فيها الطاعة فى القتال والولاء فى سفك الدماء. وبهذا يتم تشويه العقيدة ذاتها وتحويلها إلى منصة للدم، بدل أن تبقى إطارًا للهداية والرحمة. اللعب على النوستالجيا الدينية يعتمد النص على توظيف مفهوم "القرون المفضلة" - أى زمن الصحابة والتابعين - بوصفه نموذجًا ذهبيًا خالصًا، خاليًا من التناقضات أو التعقيدات التاريخية. ويُستخدم هذا النموذج لتكوين ثنائية حادة بين "الماضى الطاهر" و"الحاضر المنحط"، حيث يصوَّر الصحابة وكأنهم جميعًا باعوا أنفسهم لله دون تردد، بينما يُقدَّم المعاصرون كغارقين فى الجبن والملذات. هذا النوع من الخطاب يغفل أن زمن الصحابة كان مليئًا بالنقاشات والخلافات والاجتهادات المتعددة، وأن قراراتهم لم تكن دومًا أحادية أو ساذجة كما يوحى الخطاب الجهادي. لا يُستدعى الماضى هنا من أجل الدراسة أو الاعتبار أو النقد، بل بوصفه "حنينًا مطهرًا"، يُستخدم كوقود تعبوي. فاستحضار التاريخ لا يجرى على أسس عقلية أو معرفية، بل بوصفه ذاكرة رمزية مثقلة بالعاطفة، تُوظف لترسيخ مشاعر الذنب لدى المتلقي، ثم توجيهه نحو فعل "التطهر" من هذا الذنب عبر العنف. يصبح الماضى الإسلامى نموذجًا مفترضًا يُضغط به على الحاضر، ويُستخدم لإدانة كل من يختار الحياة والواقعية بدل الفناء فى المعركة. هذه القراءة للماضى تُفضى إلى بناء سردية تراجيدية تتطلب "خلاصًا" حتميًا. فى هذه السردية، يُقدَّم الموت لا كقدر مؤلم بل كخلاص شخصى ومجد جماعي. تُبنى الهوية على فكرة أن الإنسان لا يكون مسلمًا حقيقيًا إلا إذا "ضحى بنفسه"، وأن التضحية هنا تعنى إزهاق الروح لا الاجتهاد أو الصبر أو النضال المدني. هذه المقاربة الخطابية تعيد تدوير مفهوم "الشهادة" وتفرغه من أبعاده الأخلاقية والفقهية، ليصبح مجرد أداء مسرحى للموت العنيف باسم العقيدة. أخطر ما فى هذه النوستالجيا الدينية أنها لا تستحضر الماضى كما كان، بل كما "يُراد له أن يكون". فكل السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى شكّلت سلوك الصحابة والتابعين تُطمس عمدًا، ويُختزل التاريخ الإسلامى فى لحظة بطولية دائمة. النتيجة أن الأفراد المعاصرين يُدفعون إلى تقليد مثالات غير واقعية، تحت ضغط خطاب يستبعد تمامًا تعقيدات الواقع الراهن، ويُصور القفز إلى الموت كسبيل وحيد إلى المعنى والانتماء والانتصار. وظيفة النص فى السياق الدعائى العام للتنظيم تُفهم هذه الافتتاحية بوصفها استجابة دعائية مدروسة لحالة تراجع ميدانى يمر بها تنظيم داعش، سواء فى معاقله التقليدية بسوريا والعراق، أو فى فروعه النشطة بأفريقيا. فى لحظات الانكسار، لا يملك التنظيم ما يقدّمه لجمهوره سوى الرمزية والتضحية. من هنا، يتصاعد التركيز على مفردات الموت، الشهادة، والبطولة الفردية، لتغطية العجز فى تحقيق المكاسب الواقعية أو الحفاظ على الأراضي. إن توقيت نشر هذا النوع من الخطابات ليس اعتباطيًا، بل يأتى ضمن تقويم تعبوى هدفه إنعاش الروح القتالية وتجنب تفكك البنية التنظيمية. يعمل النص على ترميم المعنويات داخل صفوف المقاتلين بعد سلسلة من الهزائم والتراجعات. فى ظل خسائر متتالية، يصبح من الصعب الإبقاء على الحماسة الجهادية من دون تعزيز سرديات "الابتلاء" و"التمكين المؤجل" و"الفوز الأخروي". لذلك، تعتمد الافتتاحية على خطاب شعورى يمنح القتال قيمة رمزية مطلقة، حتى وإن فقد معناه الاستراتيجي. الرسالة المبطنة هنا: "لا تهمّ الهزائم، ما دمتم تموتون على الطريق الصحيح"، وهى رسالة تُبقى على درجة من التماسك العقائدى داخل التنظيم. فى لحظات الانكسار، تظهر التساؤلات داخل القواعد: لماذا خسرنا؟ أين وعد الله بالنصر؟ هل ما زال هذا الطريق صوابًا؟ هنا يتدخل الخطاب الدعائى ليحاصر هذه الأسئلة ويمنعها من التسرّب. تُصوَّر الهزيمة كنوع من "الفرز الإلهي"، لا كفشل تنظيمى أو استراتيجي، ويُعاد تعريف "النصر" باعتباره صبرًا وتمحيصًا لا إنجازًا ماديًا. بهذه الطريقة، يتحوّل النص إلى أداة تحصين نفسى وعقائدى ضد خطر الانشقاق أو التمرد الداخلي، ويعيد فرض الطاعة على القواعد الجهادية عبر آلية الإيمان بالمحنة لا بالنتائج. أخيرًا، تعمل الافتتاحية على ترسيخ خطاب النخبوية الجهادية، عبر تصوير المقاتلين كـ"صفوة مختارة" تفهم الحقيقة بينما يغرق الناس فى الغفلة والدنيا. هذا الخطاب يُعيد بناء هوية معنوية بديلة تحمى الأفراد من الشعور بالفشل أو العزلة، فحتى فى الهزيمة يُمنح المنتمى شعورًا بالتفوّق الأخلاقى والروحي. بهذا المنطق، تصبح الخسائر فرصة لإعادة تعريف الذات بوصفها "مظلومة لكنها طاهرة"، و"مُحاصَرة لكنها على الحق"، وهى إحدى أهم ركائز الدعاية الجهادية فى لحظات الضعف والانكفاء. أثر هذا الخطاب على تنامى الإرهاب تُنتج الخطابات من هذا النوع بنية نفسية تبريرية تجعل من العنف، بل ومن الانتحار ذاته، خيارًا مشروعًا بل ومرغوبًا. حين يُقدَّم الموت بوصفه طريقًا مؤكدًا إلى الفوز الأخروي، ويُصوَّر القتل بوصفه طاعة لله، يُعاد تشكيل وعى المتلقى بطريقة تُعطّل الحاجز الأخلاقى الطبيعى تجاه العنف. بهذا، تتحول مشاعر الخوف أو التردد إلى شعور بالبطولة، ويُعاد تعريف "الإنسانية" كضعف، فى مقابل "القوة" التى تتمثل فى التضحية بالذات وقتل الآخرين. يُستخدم هذا الخطاب كسند دينى زائف يسهم فى تجنيد المراهقين والشباب، خصوصًا فى البيئات المهمشة أو التى تفتقر إلى وعى دينى رصين. حين يُقدَّم النص الشرعى خارج سياقه ليخدم فكرة الموت كأسمى مراتب الإيمان، يتحوّل إلى أداة تجنيد ذات فاعلية كبيرة، لأنها تلبّى حاجة الشباب للانتماء، وتمنحهم غاية "عظيمة" يضحّون من أجلها. هكذا، يصبح الانخراط فى العنف مشروعًا دينيًا لا يحتاج إلى تبرير، بل إلى تسليم مطلق. أحد أخطر آثار هذا الخطاب هو خلق حالة من الانفصال الكامل عن الواقع الاجتماعي. فكل ما هو خارج دائرة "المجاهدين" يُصوَّر كفساد أو ضلال أو جبن، بما فى ذلك الأسرة، المدرسة، الدولة، وحتى الفقهاء والعلماء. هكذا تنشأ عقلية تكفيرية مغلقة ترى أن الخلاص لا يكون إلا بالقطيعة مع المجتمع، وتمارس عنفًا "تطهيريًا" لا يستهدف الأعداء فحسب، بل كل من يخالف أو يتردد أو يشكّك. الخطاب الجهادى لا يعترف بفكرة السياسة، ولا بالمجتمع المدني، ولا بالحلول التفاوضية. هو خطاب يختزل العالم فى صراع مطلق بين الحق والباطل، ويحوّل أى تسوية أو نقاش إلى خيانة. حين تُختزل الحياة فى ثنائية "الجهاد أو القعود"، تصبح أدوات التغيير السلمى ملغاة، ويُفسَّر كل خلاف باعتباره ردّة أو نفاقًا. بهذا الشكل، تُغلق أبواب الإصلاح من الداخل، وتُفتح نوافذ الإرهاب بوصفه الطريق الوحيد المتاح أمام "المؤمن الحقيقي". جوهر هدام تُظهر هذه الافتتاحية، رغم لغتها الهادئة وكسوتها الدينية، جوهرًا مدمّرًا يختزل الإيمان فى القتل، والنجاة فى الموت، والبطولة فى سفك الدم. فالمأساة تُحوّل إلى ملحمة، والضرورة الدفاعية تُبدَّل بغرض وجودي. هنا لا يعود القتل جريمة تُضطر الجماعات لتبريرها، بل يتحول إلى فضيلة تُدعى الجماهير لتمجيدها. وهكذا يولد خطاب استئصالى لا يكتفى بإبادة الآخر، بل يستهدف الذات أيضًا، عبر تقديم الموت كأعلى درجات التعبّد. إن مواجهة هذا النمط من الخطاب الجهادى لا يمكن أن تتم بالاستنكار الأخلاقى فقط أو بالملاحقة الأمنية فحسب. بل هى معركة تأويل ومعرفة، تبدأ بإعادة قراءة التراث الإسلامى قراءة واعية وناقدة، لا تجتزئ النصوص ولا تسلخها من سياقاتها. فالمفاهيم المحورية مثل الجهاد، الشهادة، البيعة، والفوز، تحتاج إلى إعادة تأصيل فقهى وتاريخي، يضعها فى أطرها المقاصدية، ويحررها من التوظيف التحريضى الذى تمارسه التنظيمات المتطرفة. كما أن الاستمرار فى تجاهل المنصات التى تروّج لهذا الخطاب يساهم فى انتشاره وتعميق أثره. فهناك حاجة ملحة لتجفيف المنابع الإعلامية التى تُعيد إنتاج هذه النصوص أو تُمررها باسم "الرأى الآخر" أو "حرية التعبير". ويجب مساءلة كل من يتيح لهذه الأفكار أن تتسلل إلى الفضاء العام دون تفكيك أو نقد، لأن السلبية هنا ليست حيادًا، بل تمهيد لصعود موجات جديدة من العنف المؤدلج. يبقى الرهان الأعمق فى هذه المواجهة هو إصلاح الفضاء الدينى والإعلامي، بحيث يستعيد لغته الأصيلة المرتبطة بالحياة والكرامة والرحمة. فمواجهة خطاب القتل لا تكون بخطابات مضادة له بنفس منطق التجييش، بل ببناء سردية دينية وأخلاقية جديدة تُعيد للمقدس معناه، وللإنسان قيمته. هذا التحول من فقه الموت إلى فقه الحياة هو الشرط الجوهرى لخلق حصانة معرفية ومجتمعية ضد مشاريع العنف والانتحار الجماعى المقنّع باسم الدين.

الدين كأداة دموية: آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي
الدين كأداة دموية: آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

الحركات الإسلامية

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الحركات الإسلامية

الدين كأداة دموية: آليات التحريض في خطاب داعش الدعائي

في عددها 494 الصادر يوم الخميس 8 مايو 2025، نشرت صحيفة النبأ، الذراع الإعلامية الرسمية لتنظيم داعش، افتتاحية حملت عنوانًا لافتًا: "فزت وربّ الكعبة". هذا العنوان مستلهم من مقولة منسوبة إلى الصحابي الجليل حرام بن ملحان، وردت في كتب السيرة النبوية، عندما طُعن غدرًا أثناء أدائه لمهمة دعوية في زمن النبي محمد ﷺ، فهتف بتلك العبارة تعبيرًا عن استشعاره للفوز بالشهادة رغم قتله غدرًا. باختيار هذا العنوان، يسعى تنظيم داعش إلى توظيف الرمز الديني والتاريخي لإضفاء مشروعية أخلاقية ودينية على عملياته العنيفة، وإعادة تأويل وقائع القتل والموت في سياق معاصر بوصفها تجليات للفوز الإلهي والرضا الرباني. تعمل هذه الافتتاحية على إعادة إنتاج منظومة من الرموز والمقولات الدينية القديمة، وتُسقطها على الواقع السياسي الراهن ضمن سردية جهادية مغلقة. الخطاب هنا لا يُقدّم فقط مبررات أيديولوجية للعنف، بل يُعيد تشكيل وعي أنصاره عبر آليات لغوية ونفسية تهدف إلى تطبيع القتل وتجميله. من خلال هذه اللغة التعبوية، يتم تحويل الموت إلى احتفال، والمذبحة إلى نصر، والانتحار إلى شهادة، بما يخلق حالة وجدانية مغلقة تُلغي الحواس النقدية وتُعطل التفكير المستقل. تحليل هذا النص من خلال منهج تحليل الخطاب (Discourse Analysis) يُظهر بوضوح كيف يستخدم التنظيم أدوات لغوية واستدعاءات دينية منتقاة بعناية لبناء سردية ذاتية تعزز القطيعة مع العالم الخارجي، وتُقصي كل رواية بديلة. فالنص لا يكتفي بتبرير العنف، بل يُعيد تشكيل المفاهيم الدينية التقليدية – كالـ"شهادة" و"الجهاد" و"النصر" – لتتلاءم مع أهداف التنظيم وممارساته العنيفة. وتتحول بذلك اللغة إلى أداة للهيمنة الأيديولوجية، تشتغل على الوجدان والدين والهوية في آنٍ معًا. في السياق السياسي والأيديولوجي الأوسع، تعكس هذه الافتتاحية كيف يستثمر تنظيم داعش في الرموز التراثية لإعادة إنتاج خطاب تعبوي يتجاوز حدود الحدث الآني إلى مشروع طويل الأمد لصناعة الولاء والهوية. إنها محاولة لتأبيد المعركة، ليس فقط على الأرض، بل في العقول والقلوب. وهذا ما يجعل تحليل الخطاب الداعشي ضروريًا لفهم بنيته الداخلية وآليات تأثيره، خاصة في ظل تحولات ساحة الجهاد المعولم، وتنامي أدوات الإعلام الحربي الرقمي، وازدياد الحاجة إلى مقاربات نقدية تفكك هذا الخطاب من داخله. البنية الخطابية والتركيز على الثنائية القيمية تعتمد افتتاحية العدد 494 من صحيفة النبأ على بنية خطابية تتسم بالحسم القيمي، عبر تقديم ثنائيات متقابلة ومطلقة: مثل "الربح مقابل الخسارة"، و"الفوز الدنيوي مقابل الفوز الأخروي"، و"المجاهدون مقابل القاعدون". هذه الثنائيات لا تُطرح كخيارات تفاوضية أو اجتهادية، بل تُفرض كحدود فاصلة بين الإيمان والكفر، بين الفلاح والخذلان. ما يُراد من هذه البنية ليس الإقناع العقلي، وإنما استدعاء موقف وجداني حاد، يضع القارئ أمام اختبار أخلاقي حاسم: إما أن تكون مع "الحق" المتمثل في الجهاد والتضحية، أو مع "الباطل" المتجسد في الراحة والانكفاء. الخطاب يتعمد نفي أي منطقة وسطى أو موقف تأملي قد يسمح بالحياد أو التفكير النقدي. فإما أن تكون "مجاهدًا" تنتمي إلى صفوة الله المختارة، أو "قاعدًا" من أهل الخذلان، ممن باعوا آخرتهم بدنياهم. هذا الإلغاء الممنهج لأي خيار ثالث يعكس رغبة التنظيم في احتكار التأويل الديني والشرعي، بحيث تصبح رؤيته للجهاد والموت هي المعيار الوحيد للتقوى والصلاح. بهذا الشكل، تُغلق كل منافذ الحوار أو الاجتهاد، ويُختزل الدين في معادلة دموية لا تقبل النقاش. لا يستند هذا الخطاب إلى برهنة عقلية أو تحليل واقعي، بل يقوم على استثارة الانفعال العاطفي والوجداني. يتم توظيف مفردات من قبيل "الفوز الأعظم"، "الجنة"، "النصر الموعود"، في مقابل ألفاظ مثل "الخسران المبين"، "الذل"، و"الخذلان"، لصناعة حالة وجدانية تحفّز الانتماء القتالي وتؤسس لمنطق تضحوي متطرف. فبدل أن يُطلب من القارئ أن يفكر، يُدفع إلى أن يشعر، ويتحمّس، ثم ينخرط. وهذا بالضبط ما تحتاجه جماعات مثل داعش: وقود بشري غير متردد، يتخذ القرار بناءً على الانفعال لا العقل. إن هذه البنية الخطابية المبنية على التقابل القيمي الحاد تُستخدم كأداة تحشيد فعالة. فعندما يُقابل "الحق الإلهي" بـ"الماديات الجاهلية"، و"الباقية" بـ"الفانية"، تصبح كل تفاصيل الحياة الدنيوية مشبوهة، ويُصبح الانتماء للجماعة والموت في صفوفها هو الخيار الوحيد المشروع دينيًا. بهذا الشكل، ينجح التنظيم في نزع الشرعية عن أي خطاب إصلاحي أو سلمي أو حتى واقعي، ويحول الجهاد إلى هوية شاملة، لا إلى فعل محكوم بشروط شرعية وأخلاقية دقيقة. إنه خطاب لا يهدف فقط إلى الإقناع، بل إلى الهيمنة النفسية وتوجيه القرار الفردي نحو التطرف. استخدام النصوص الدينية خارج سياقاتها تعتمد افتتاحية النبأ على اقتباسات دينية من القرآن والسنة تُنتزع من سياقاتها التاريخية والشرعية، وتُوظف في سياق تعبوي يخدم الأجندة القتالية للتنظيم. من بين هذه النصوص قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾، وكذلك قول الصحابي الجليل: "فزتُ ورب الكعبة" عند مقتله. هذه الآيات والأحاديث تُستخدم لا بوصفها مصادر للهداية والبيان، وإنما كشعارات دعائية تبرر الموت والقتل وتُضفي عليهما طابعًا من القداسة والتفوق الأخلاقي. النتيجة أن النص الديني يُفقد معناه الشامل ويُختزل في بعده القتالي فقط. لا تقدم الافتتاحية أي إحالة إلى الضوابط الفقهية التي تؤطر مفهوم الجهاد في الشريعة الإسلامية. فلا ذكر لمبدأ "إعلان الإمام أو ولي الأمر"، ولا لشروط مشروعية القتال مثل دفع العدوان، أو التناسب بين الفعل ورد الفعل، أو حرمة التعرض للمدنيين. هذا التجاهل المتعمد للإطار الفقهي يُحول الجهاد من فريضة مشروطة إلى نشاط قتالي مطلق، مما يفتح الباب أمام العنف الفوضوي ويشرعن القتل على الهوية، حتى خارج ميدان القتال. اللافت في الخطاب أن استخدام النصوص لا يهدف إلى بيان مقاصد الشريعة من حفظ النفس والدين والعقل، بل إلى إثارة الانفعال الديني لدى القارئ. فالنص القرآني لا يُعرض ضمن سياقه التفسيري أو المقاصدي، بل يُستدعى كعبارة مقتطعة تغذي إحساسًا بالتفوق الأخلاقي والبطولي لمن يختار "الاستشهاد". هذا النوع من الخطاب يعطل القدرة على التفكير النقدي ويُفضي إلى نوع من "التمجيد الديني للموت"، حيث يصبح القتل والقتل المضاد سُنة ممدوحة لا جريمة مدانة. في المحصلة، ما يجري في هذا الخطاب هو تحريف منهجي للمفاهيم الدينية؛ إذ تُحوّل آيات الجهاد من أدوات دفاعية تحفظ كرامة الإنسان إلى أدوات تحريضية تُستخدم لتبرير الإرهاب. ويتم تغييب مفاهيم مركزية في الإسلام مثل العدالة، والرحمة، والنية، والمآل، لحساب مقاربة أحادية عنيفة تُختزل فيها الطاعة في القتال والولاء في سفك الدماء. وبهذا يتم تشويه العقيدة ذاتها وتحويلها إلى منصة للدم، بدل أن تبقى إطارًا للهداية والرحمة. اللعب على النوستالجيا الدينية يعتمد النص على توظيف مفهوم "القرون المفضلة" — أي زمن الصحابة والتابعين — بوصفه نموذجًا ذهبيًا خالصًا، خاليًا من التناقضات أو التعقيدات التاريخية. ويُستخدم هذا النموذج لتكوين ثنائية حادة بين "الماضي الطاهر" و"الحاضر المنحط"، حيث يصوَّر الصحابة وكأنهم جميعًا باعوا أنفسهم لله دون تردد، بينما يُقدَّم المعاصرون كغارقين في الجبن والملذات. هذا النوع من الخطاب يغفل أن زمن الصحابة كان مليئًا بالنقاشات والخلافات والاجتهادات المتعددة، وأن قراراتهم لم تكن دومًا أحادية أو ساذجة كما يوحي الخطاب الجهادي. لا يُستدعى الماضي هنا من أجل الدراسة أو الاعتبار أو النقد، بل بوصفه "حنينًا مطهرًا"، يُستخدم كوقود تعبوي. فاستحضار التاريخ لا يجري على أسس عقلية أو معرفية، بل بوصفه ذاكرة رمزية مثقلة بالعاطفة، تُوظف لترسيخ مشاعر الذنب لدى المتلقي، ثم توجيهه نحو فعل "التطهر" من هذا الذنب عبر العنف. يصبح الماضي الإسلامي نموذجًا مفترضًا يُضغط به على الحاضر، ويُستخدم لإدانة كل من يختار الحياة والواقعية بدل الفناء في المعركة. هذه القراءة للماضي تُفضي إلى بناء سردية تراجيدية تتطلب "خلاصًا" حتميًا. في هذه السردية، يُقدَّم الموت لا كقدر مؤلم بل كخلاص شخصي ومجد جماعي. تُبنى الهوية على فكرة أن الإنسان لا يكون مسلمًا حقيقيًا إلا إذا "ضحى بنفسه"، وأن التضحية هنا تعني إزهاق الروح لا الاجتهاد أو الصبر أو النضال المدني. هذه المقاربة الخطابية تعيد تدوير مفهوم "الشهادة" وتفرغه من أبعاده الأخلاقية والفقهية، ليصبح مجرد أداء مسرحي للموت العنيف باسم العقيدة. أخطر ما في هذه النوستالجيا الدينية أنها لا تستحضر الماضي كما كان، بل كما "يُراد له أن يكون". فكل السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شكّلت سلوك الصحابة والتابعين تُطمس عمداً، ويُختزل التاريخ الإسلامي في لحظة بطولية دائمة. النتيجة أن الأفراد المعاصرين يُدفعون إلى تقليد مثالات غير واقعية، تحت ضغط خطاب يستبعد تمامًا تعقيدات الواقع الراهن، ويُصور القفز إلى الموت كسبيل وحيد إلى المعنى والانتماء والانتصار. وظيفة النص في السياق الدعائي العام للتنظيم تُفهم هذه الافتتاحية بوصفها استجابة دعائية مدروسة لحالة تراجع ميداني يمر بها تنظيم داعش، سواء في معاقله التقليدية بسوريا والعراق، أو في فروعه النشطة بأفريقيا. في لحظات الانكسار، لا يملك التنظيم ما يقدّمه لجمهوره سوى الرمزية والتضحية. من هنا، يتصاعد التركيز على مفردات الموت، الشهادة، والبطولة الفردية، لتغطية العجز في تحقيق المكاسب الواقعية أو الحفاظ على الأراضي. إن توقيت نشر هذا النوع من الخطابات ليس اعتباطيًا، بل يأتي ضمن تقويم تعبوي هدفه إنعاش الروح القتالية وتجنب تفكك البنية التنظيمية. يعمل النص على ترميم المعنويات داخل صفوف المقاتلين بعد سلسلة من الهزائم والتراجعات. في ظل خسائر متتالية، يصبح من الصعب الإبقاء على الحماسة الجهادية من دون تعزيز سرديات "الابتلاء" و"التمكين المؤجل" و"الفوز الأخروي". لذلك، تعتمد الافتتاحية على خطاب شعوري يمنح القتال قيمة رمزية مطلقة، حتى وإن فقد معناه الاستراتيجي. الرسالة المبطنة هنا: "لا تهمّ الهزائم، ما دمتم تموتون على الطريق الصحيح"، وهي رسالة تُبقي على درجة من التماسك العقائدي داخل التنظيم. في لحظات الانكسار، تظهر التساؤلات داخل القواعد: لماذا خسرنا؟ أين وعد الله بالنصر؟ هل ما زال هذا الطريق صوابًا؟ هنا يتدخل الخطاب الدعائي ليحاصر هذه الأسئلة ويمنعها من التسرّب. تُصوَّر الهزيمة كنوع من "الفرز الإلهي"، لا كفشل تنظيمي أو استراتيجي، ويُعاد تعريف "النصر" باعتباره صبرًا وتمحيصًا لا إنجازًا ماديًا. بهذه الطريقة، يتحوّل النص إلى أداة تحصين نفسي وعقائدي ضد خطر الانشقاق أو التمرد الداخلي، ويعيد فرض الطاعة على القواعد الجهادية عبر آلية الإيمان بالمحنة لا بالنتائج. أخيرًا، تعمل الافتتاحية على ترسيخ خطاب النخبوية الجهادية، عبر تصوير المقاتلين كـ"صفوة مختارة" تفهم الحقيقة بينما يغرق الناس في الغفلة والدنيا. هذا الخطاب يُعيد بناء هوية معنوية بديلة تحمي الأفراد من الشعور بالفشل أو العزلة، فحتى في الهزيمة يُمنح المنتمي شعورًا بالتفوّق الأخلاقي والروحي. بهذا المنطق، تصبح الخسائر فرصة لإعادة تعريف الذات بوصفها "مظلومة لكنها طاهرة"، و"مُحاصَرة لكنها على الحق"، وهي إحدى أهم ركائز الدعاية الجهادية في لحظات الضعف والانكفاء. أثر هذا الخطاب على تنامي الإرهاب تُنتج الخطابات من هذا النوع بنية نفسية تبريرية تجعل من العنف، بل ومن الانتحار ذاته، خيارًا مشروعًا بل ومرغوبًا. حين يُقدَّم الموت بوصفه طريقًا مؤكدًا إلى الفوز الأخروي، ويُصوَّر القتل بوصفه طاعة لله، يُعاد تشكيل وعي المتلقي بطريقة تُعطّل الحاجز الأخلاقي الطبيعي تجاه العنف. بهذا، تتحول مشاعر الخوف أو التردد إلى شعور بالبطولة، ويُعاد تعريف "الإنسانية" كضعف، في مقابل "القوة" التي تتمثل في التضحية بالذات وقتل الآخرين. يُستخدم هذا الخطاب كسند ديني زائف يسهم في تجنيد المراهقين والشباب، خصوصًا في البيئات المهمشة أو التي تفتقر إلى وعي ديني رصين. حين يُقدَّم النص الشرعي خارج سياقه ليخدم فكرة الموت كأسمى مراتب الإيمان، يتحوّل إلى أداة تجنيد ذات فاعلية كبيرة، لأنها تلبّي حاجة الشباب للانتماء، وتمنحهم غاية "عظيمة" يضحّون من أجلها. هكذا، يصبح الانخراط في العنف مشروعًا دينيًا لا يحتاج إلى تبرير، بل إلى تسليم مطلق. أحد أخطر آثار هذا الخطاب هو خلق حالة من الانفصال الكامل عن الواقع الاجتماعي. فكل ما هو خارج دائرة "المجاهدين" يُصوَّر كفساد أو ضلال أو جبن، بما في ذلك الأسرة، المدرسة، الدولة، وحتى الفقهاء والعلماء. هكذا تنشأ عقلية تكفيرية مغلقة ترى أن الخلاص لا يكون إلا بالقطيعة مع المجتمع، وتمارس عنفًا "تطهيريًا" لا يستهدف الأعداء فحسب، بل كل من يخالف أو يتردد أو يشكّك. الخطاب الجهادي لا يعترف بفكرة السياسة، ولا بالمجتمع المدني، ولا بالحلول التفاوضية. هو خطاب يختزل العالم في صراع مطلق بين الحق والباطل، ويحوّل أي تسوية أو نقاش إلى خيانة. حين تُختزل الحياة في ثنائية "الجهاد أو القعود"، تصبح أدوات التغيير السلمي ملغاة، ويُفسَّر كل خلاف باعتباره ردّة أو نفاقًا. بهذا الشكل، تُغلق أبواب الإصلاح من الداخل، وتُفتح نوافذ الإرهاب بوصفه الطريق الوحيد المتاح أمام "المؤمن الحقيقي". خاتمة: تُظهر هذه الافتتاحية، رغم لغتها الهادئة وكسوتها الدينية، جوهرًا مدمّرًا يختزل الإيمان في القتل، والنجاة في الموت، والبطولة في سفك الدم. فالمأساة تُحوّل إلى ملحمة، والضرورة الدفاعية تُبدَّل بغرض وجودي. هنا لا يعود القتل جريمة تُضطر الجماعات لتبريرها، بل يتحول إلى فضيلة تُدعى الجماهير لتمجيدها. وهكذا يولد خطاب استئصالي لا يكتفي بإبادة الآخر، بل يستهدف الذات أيضًا، عبر تقديم الموت كأعلى درجات التعبّد. إن مواجهة هذا النمط من الخطاب الجهادي لا يمكن أن تتم بالاستنكار الأخلاقي فقط أو بالملاحقة الأمنية فحسب. بل هي معركة تأويل ومعرفة، تبدأ بإعادة قراءة التراث الإسلامي قراءة واعية وناقدة، لا تجتزئ النصوص ولا تسلخها من سياقاتها. فالمفاهيم المحورية مثل الجهاد، الشهادة، البيعة، والفوز، تحتاج إلى إعادة تأصيل فقهي وتاريخي، يضعها في أطرها المقاصدية، ويحررها من التوظيف التحريضي الذي تمارسه التنظيمات المتطرفة. كما أن الاستمرار في تجاهل المنصات التي تروّج لهذا الخطاب يساهم في انتشاره وتعميق أثره. فهناك حاجة ملحة لتجفيف المنابع الإعلامية التي تُعيد إنتاج هذه النصوص أو تُمررها باسم "الرأي الآخر" أو "حرية التعبير". ويجب مساءلة كل من يتيح لهذه الأفكار أن تتسلل إلى الفضاء العام دون تفكيك أو نقد، لأن السلبية هنا ليست حيادًا، بل تمهيد لصعود موجات جديدة من العنف المؤدلج. يبقى الرهان الأعمق في هذه المواجهة هو إصلاح الفضاء الديني والإعلامي، بحيث يستعيد لغته الأصيلة المرتبطة بالحياة والكرامة والرحمة. فمواجهة خطاب القتل لا تكون بخطابات مضادة له بنفس منطق التجييش، بل ببناء سردية دينية وأخلاقية جديدة تُعيد للمقدس معناه، وللإنسان قيمته. هذا التحول من فقه الموت إلى فقه الحياة هو الشرط الجوهري لخلق حصانة معرفية ومجتمعية ضد مشاريع العنف والانتحار الجماعي المقنّع باسم الدين.

تصفية 10 «دواعش» شمال شرق الصومال
تصفية 10 «دواعش» شمال شرق الصومال

عكاظ

time٠٣-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • عكاظ

تصفية 10 «دواعش» شمال شرق الصومال

تابعوا عكاظ على أعلنت السلطات الصومالية مقتل 10 من عناصر تنظيم داعش شمال شرق البلاد، اليوم (السبت). وأفادت وكالة الأنباء الصومالية بأن قوات الدراويش التابعة لولاية بونتلاند، نجحت في تصفية 10 من عناصر تنظيم داعش. ولفتت إلى أن قوات الدراويش، تصدت الليلة الماضية، لهجوم إرهابي فاشل شنته العناصر الإرهابية على القواعد العسكرية في جبال علمسكاد بمحافظة بري. وأعلن مسؤولون أمنيون في تصريح لوسائل الإعلام المحلية، أن عناصر الجيش الصومالي تصدوا للهجوم الإرهابي بنجاح، وكبدوا العناصر الإرهابية خسائر فادحة. ويقَّدر عدد مقاتلي تنظيم داعش في الصومال بنحو 700 إلى 1,500 مقاتل يتمركزون في جبال بونتلاند، وهم أقل بكثير من مقاتلي حركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة، التي تسيطر على أجزاء كبيرة من جنوب ووسط الصومال. وتطالب حكومة بونتلاند بالحصول على مزيد من الدعم الأجنبي في قتالها ضد تنظيم داعش. وتأسس تنظيم داعش (فرع الصومال) على يد القيادي المنشق عن حركة الشباب الموالية للقاعدة عبدالقادر مؤمن في شهر أكتوبر من العام 2015، الذي أعلن ولاءه للتنظيم الإرهابي مع عدد من مقاتلي الحركة لا يزيد على 30 مسلحاً، في خطوة حملت نواة تشكُّل تنظيم جهادي مسلَّح جديد في الصومال. وكان هذا الإعلان أول خطوة من نوعها، منذ تردَّد في الأوساط الإعلامية، في بداية العام 2016، اعتزام الحركة إعلان بيعتها لتنظيم داعش، على غرار ما قامت به جماعة «بوكو حرام» النيجيرية، إلا أن القيادة العليا للحركة كما يبدو، بقيت مصمِّمةً على بقائها في عباءة تنظيم القاعدة، الذي أعلنت الولاء له عام 2012. أخبار ذات صلة " data-responsive=" data-src=" مقاتلون تابعون لتنظيم "داعش" في الصومال.

فتاوى الغضب وأساطير العزلة: قراءة في خطاب داعش الأخير حول القانون الدولي
فتاوى الغضب وأساطير العزلة: قراءة في خطاب داعش الأخير حول القانون الدولي

الحركات الإسلامية

time٢٠-٠٤-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الحركات الإسلامية

فتاوى الغضب وأساطير العزلة: قراءة في خطاب داعش الأخير حول القانون الدولي

لم تكن افتتاحية العدد 490 من صحيفة النبأ، الصادرة في 10 أبريل 2025 عن الجهاز الإعلامي لتنظيم داعش، مجرد مادة إخبارية أو تحليلية تناقش زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى المجر. بل جاءت، كالعادة، متخمة بالحمولات الأيديولوجية التي يستثمرها التنظيم لتغليف خطابه بالعقيدة والاصطفاف الديني. فالحدث السياسي العابر يُستخرج من سياقه الواقعي ليُعاد توظيفه ضمن سردية "الصراع الأبدي" بين الإسلام و"الحضارة اليهودية النصرانية"، وهي التسمية التي يعتمدها التنظيم لتأطير العالم في ثنائية صلبة: إيمان مقابل كفر، ومسلم مقابل عدو وجودي. في هذا الخطاب، لا يُقرأ أي تحرك دبلوماسي أو حدث دولي بمعناه السياسي الواقعي، بل يُعاد تأويله دينيًا لخدمة مشروع العداء الشامل. فتحية عسكرية من حرس الشرف المجري لنتنياهو تُصبح "دليلًا قطعيًا" على تواطؤ أوروبا المسيحية مع إسرائيل اليهودية ضد الإسلام، كما يصوره الخطاب الداعشي. لا مكان هنا لقراءة المصالح الدولية أو التوازنات الجيوسياسية، فكل الوقائع تُضغط في قوالب أيديولوجية جاهزة تُغذّي الخوف، وتعزز ثنائيات العداء، وتُلغي أي إمكانية للفهم أو الحوار أو التمايز داخل المعسكرات. تكمن خطورة هذا النوع من الخطاب في قدرته على تقديم نفسه كتحليل "ناقد" للواقع السياسي، بينما هو في الحقيقة أداة لتوسيع دائرة الكراهية، وتحويل الغضب المشروع إلى شعور باليأس، ومن ثم دفع المتلقي نحو قبول العنف كخلاص وحيد. فكل المؤسسات الدولية، وكل الوسائل السياسية، وكل أدوات القانون، تُصوَّر على أنها فاشلة، خادعة، بل طاغوتية. والنتيجة: إقناع الجمهور المستهدف بأن الجهاد المسلح ليس فقط خيارًا، بل ضرورة دينية وسياسية لا بديل عنها. في هذا المقال، سنعمل على تفكيك الافتتاحية من خلال خمسة محاور أساسية: أولها تحليل البنية الثنائية التي يقوم عليها الخطاب، وثانيها توظيف الوقائع السياسية لخدمة الأسطورة الأيديولوجية، وثالثها تفجير المفاهيم وتلغيم الوعي الديني، ورابعها تفكيك الرسائل المضمرة وآليات التحريض غير المباشر، وأخيرًا، تحليل الأثر الثقافي والفكري لهذا الخطاب في تعزيز التطرف داخل المجتمعات الإسلامية. وسنختتم المقال بدعوة إلى مواجهة الخطاب المتطرف ليس فقط بالرد عليه، بل ببناء خطاب بديل يعيد للدين مكانته كقوة للعدل لا للعنف. خطاب ثنائيات متضخّمة: يعتمد خطاب تنظيم داعش على بنية لغوية وفكرية تقوم على ثنائيات حادة، تصنع عالماً أخلاقياً بسيطاً ومقسّماً بصرامة: (الإسلام مقابل الكفر)، (المجاهدون مقابل العملاء)، (الشرع مقابل القانون الدولي)، (المؤمنون مقابل المنافقين). هذه البنية لا تعترف بالتدرج أو النسبية أو التعدد في المواقف، بل تقوم على تقسيم صارم لا يسمح بالحياد أو النقاش أو المراجعة. وبهذا، يصبح من يرفض الانضواء تحت رؤية التنظيم، أو يتبنى وجهة نظر مغايرة، أو حتى يناقشها، في خانة "العدو". ما يميز هذه الثنائيات هو طابعها الحدي، إذ لا تتيح خيارات متعددة أو مساحة للاجتهاد أو المقاربة الوسطية. فهي ثنائيات إقصائية لا تحتمل الرمادي، تملي على المتلقي موقفًا واحدًا: إما أن ترفض القانون الدولي وترفض معه كل المنظومات "الحديثة"، أو تُعدّ من "الطواغيت" أو "أوليائهم". وهذا المنطق هو ما يسميه بعض الباحثين في تحليل الخطاب بـ"الانغلاق الإدراكي"، حيث يُغلق الفضاء الفكري أمام المتلقي ويُختزل العالم في ثنائية صارخة لا فكاك منها. الغاية من هذه الثنائيات ليست فقط تبسيط الواقع أو تسهيل الفهم، بل هي وسيلة لبناء أيديولوجيا مغلقة تحاصر وعي المتلقي وتمنعه من رؤية الواقع خارج قوالب التنظيم. فحين يُصوّر القانون الدولي مثلاً كضد للشرع، تُصبح أي محاولة للاحتكام إليه نوعًا من الردة أو النفاق، حتى لو كان في مصلحة المسلمين. وهذه الخطورة لا تتعلق فقط بالطرح الديني، بل بكيفية اختطاف الدين وتطويعه لصالح خطاب الغلو والتكفير. الثنائيات التي يعتمدها التنظيم ليست موجهة فقط ضد خصومه المباشرين من "الكفار" بحسب توصيفه، بل تطال كذلك خصومه في المجال الإسلامي، من مفكرين، وفقهاء، وجماعات إسلامية أخرى، بل وحتى الأنظمة والشعوب الإسلامية التي لا تتبنى خطابه. فكل من لا يقف في خندقه هو بالضرورة "منافق"، و"مرتد"، و"عميل"، و"موالي للطاغوت"، وهي توصيفات تحقيرية تُستخدم لنزع الشرعية الدينية والإنسانية عن المخالف، بما يبرر لاحقًا استهدافه. واحدة من أبرز الملاحظات على افتتاحية النبأ أنها لا تهاجم القانون الدولي فقط على أساس فشله أو عجزه، بل تصفه صراحة بأنه "جاهلية وكفر"، وتضع محكمة الجنايات الدولية، ومنظمة الأمم المتحدة، وكل المؤسسات الأممية، في خانة "الطاغوت العالمي". وهذا الاتهام يتجاوز مجرد النقد السياسي ليصل إلى التكفير المؤسس، وهو ما يمهّد لتبرير استهداف تلك المؤسسات أو من يتعاون معها، من أفراد أو دول أو منظمات، تحت بند "محاربة الكفر العالمي". بهذا البناء الخطابي، يسعى تنظيم داعش إلى حشر أتباعه في معسكر إيماني مغلق، لا يعترف بالحوار أو التفاوض أو حتى المقاربة الفكرية مع الآخر. فمجرد قبول فكرة القانون الدولي، أو التماس العدل من مؤسساته، يُعدّ انحرافًا عقديًا. وهنا، لا يكون النقاش حول فعالية القانون أو محدودياته، بل حول إيمانه أو كفره. وبهذا، يتحول النقاش السياسي أو القانوني إلى معركة عقائدية، يفرض فيها التنظيم سلطته الفكرية والدينية على أتباعه، ويمنع عنهم أدوات التفكير النقدي والتفاعل المدني. استخدام الوقائع لتغذية الأسطورة: في خطاب داعش، لا تُعالج الوقائع السياسية بوصفها أحداثًا قابلة للتأويل المتعدد، بل تُنتزع من سياقها وتُعاد صياغتها لتخدم سردية التنظيم الكبرى. فعلى سبيل المثال، تُحوّل زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى المجر، والاستقبال الرسمي الذي حظي به، إلى "دليل قاطع" على أن القانون الدولي ليس سوى أداة بيد "الصليبيين واليهود"، بحسب توصيف التنظيم. هنا، لا يُطرح الحدث للتحليل أو النقاش، بل يُوظّف كرمز لتأكيد فرضية أيديولوجية مسبقة، هي أن العالم متآمر على المسلمين، وأن كل مؤسسات النظام الدولي مشاركة في هذا التآمر. بهذا التوظيف الانتقائي، يصبح الحدث السياسي وقودًا لأسطورة كبرى يتبناها التنظيم، مفادها أن المسلمين في حالة حصار عالمي لا مخرج منه إلا بالعنف. ويُقدَّم هذا العنف لا كخيار استراتيجي، بل كقدر إيماني، بوصفه السبيل الوحيد لمواجهة مؤامرة كونية. هذا النوع من التعميم يعفي أتباع التنظيم من التفكير في البدائل، أو فهم تعقيدات المشهد الدولي، أو إدراك وجود تباينات حقيقية داخل السياسات الغربية، وخصوصًا تجاه قضايا مثل فلسطين. فالأسطورة تحتاج إلى عالم مبسّط، صلب، أبيض وأسود، يُبرر اللجوء إلى الجهاد العنيف بوصفه خلاصًا روحيًا وواقعيًا. اللافت أن الخطاب لا يتجاهل التعقيد الدولي عن جهل، بل يتعمد تغييبه كجزء من هندسة الخطاب. فلو أقرّ التنظيم بوجود انقسامات داخل المجتمعات الغربية، أو بتعدّد المواقف في المؤسسات الدولية، أو بتأثيرات السياسة الداخلية على العلاقات الخارجية، لأضعف بذلك سرديته المركزية. أي اعتراف بالتنوع والتباين يُفكك صورة "العدو المطلق"، ويحول دون بناء حالة الاستقطاب الوجداني بين "أمة التوحيد" و"معسكر الكفر"، التي يعتمد عليها التنظيم لتعبئة أتباعه. في نهاية المطاف، يقوم هذا الاستخدام البراغماتي للوقائع على اختزال شديد للعالم المعاصر: عالمٌ تُمحى فيه السياسة، وتسقط فيه التحليلات، ويُختصر في مسرحية صراع كوني بين الإيمان والكفر. وهكذا، يُعاد تشكيل وعي المتلقي ليشعر بأنه يعيش فصول "المعركة الأخيرة"، ما يعزز قناعته بأن العنف الجهادي ليس فقط مشروعًا، بل حتميٌّ ومطلوب. وهذا ما يجعل الخطاب الداعشي جذّابًا للبعض، ليس لأنه يقدم تفسيرًا دقيقًا للعالم، بل لأنه يمنح إحساسًا زائفًا باليقين في عالم مضطرب. تفجير المفاهيم وتلغيم الوعي: في افتتاحيتها الأخيرة، لا تكتفي دعاية داعش بنقد القانون الدولي كآلية سياسية عاجزة عن إنصاف المظلومين، بل تمضي إلى ما هو أبعد من ذلك: إدانته بوصفه "كفرًا بواحًا" يستوجب البراءة منه. هذا التحول من النقد إلى التكفير لا يقوم على مناقشة فقهية أو قانونية، بل على إعادة تصنيف المفاهيم المدنية ضمن قاموس عقائدي مغلق. فالقانون – الذي يُفترض أنه أداة تنظيم وضمان للحقوق – يُعاد تقديمه كـ"طاغوت" يناقض الإيمان، بحيث لا يعود الانخراط فيه أو حتى الاستفادة من نتائجه مجرد اجتهاد سياسي، بل انحراف ديني يُوجب الردة. ما نراه هنا هو ما يسميه منظّرو تحليل الخطاب بـ"تفجير المفاهيم"؛ أي عملية نزع للمعنى المتعارف عليه من الكلمات وإعادة شحنها بدلالات عدوانية أو تكفيرية. في هذا الإطار، لا يُعاد تعريف المفهوم فقط، بل يُحوَّل إلى عبوة أيديولوجية قابلة للانفجار في وعي المتلقي. فالقانون الدولي، بدل أن يُفهم كنظام إجرائي نسبي قابل للتطور، يُعاد تشكيله كرمز صريح للشرك. وهكذا، ينقلب معنى العدالة إلى "خديعة"، والتحكيم إلى "شرك"، والسعي للمرافعة القانونية إلى "موالاة للطواغيت". اللافت في هذا النوع من الخطاب أن عملية التفجير لا تتوقف عند المفاهيم، بل تمتد إلى إعادة تصنيف الأشخاص. فحتى الإسلاميون الذين يناشدون العدالة الدولية أو يتحركون ضمن فضائها يُجرَّدون من مشروعيتهم الدينية ويُصنَّفون كـ"منافقين" أو "مرتدين". هذه القسوة في التصنيف لا تنبع من اختلاف في الرؤية السياسية، بل من طبيعة خطاب يقوم على احتكار الحقيقة المطلقة، وتجريم كل من لا ينضوي تحت مظلته. إنّه خطاب يرفض التعدد داخل الصف الإسلامي نفسه، ويحوّل الخلاف إلى تخوين، والنقاش إلى إقصاء. في نهاية المطاف، لا ينتج هذا الخطاب وعيًا نقديًا بقدر ما ينتج وعيًا مُلغّمًا، أي وعيًا يبدو متماسكًا ظاهريًا لكنه مبني على شبكة من المفاهيم المنزوعة من سياقاتها، والمحمّلة بدلالات أيديولوجية مغلقة. وهذا النوع من الوعي لا يقبل التفاوض أو المراجعة، بل يُؤسس لحالة من القطيعة الشاملة مع العالم، حيث تصبح كل المؤسسات كافرة، وكل القوانين شركًا، وكل الاجتهادات السياسية خيانة. وهنا تكمن خطورته الكبرى: أنه لا يدمر المعنى فحسب، بل يزرع في مكانه ألغامًا معرفية قابلة للانفجار في أي لحظة. الرسائل المضمرة والتحريض غير المباشر: تتبنّى افتتاحية داعش أسلوبًا يبدو للوهلة الأولى كتحليل سياسي، إذ تنتقد المؤسسات الدولية وتسلّط الضوء على تناقضات القانون الدولي ومواقف الدول الكبرى. غير أن هذا الغلاف التحليلي لا يُخفي الهدف الحقيقي للخطاب: التحريض النفسي والإيديولوجي على رفض أي مسار سلمي أو حل سياسي. فالنص لا يقدم قراءة لتجاوزات النظام العالمي من باب الإصلاح أو المراجعة، بل يستثمر هذه الثغرات لتبرير خيار العنف باعتباره السبيل الوحيد "المتاح"، وكأن التنظيم وحده يمتلك بوصلة النجاة. من خلال هذا التوجيه غير المباشر، تُقدَّم الحرب بوصفها الخيار الوحيد الباقي أمام المسلمين، بل كخيار إيماني لا بديل عنه. "الجهاد المسلح" لا يُطرح هنا كأداة دفاعية أو ضمن سياق مقاومة مشروعة، بل كقدر لا مفر منه، وكفعل تعبّدي يُطهّر الذات والجماعة من "أدران" السياسة والتفاوض. بهذا، يتحوّل النص من مجرد تعليق على زيارة سياسية إلى دعوة ضمنية للالتحاق بالمشروع القتالي، تحت غطاء من التحليل والانفعال العاطفي. في إطار هذا التوجيه النفسي، تُدمج أطراف متعددة – كالمجر، أمريكا، اليهود، وأنصار القانون الدولي – في بوتقة واحدة: "معسكر الكفر". لا مجال للتفريق بين الدول أو السياسات أو المواقف المتباينة، فالكل جزء من مؤامرة شاملة تستهدف الإسلام. هذه الرؤية التبسيطية تصنع عالمًا ثنائيًّا مغلقًا: إما أن تكون مع التنظيم، أو مع الأعداء. والهدف من هذا الدمج هو تعزيز الاستقطاب وتغذية "الذهنية الحصرية"، بحيث يُسقط المعنى الرمادي، وتُلغى التعقيدات، ويُهيمن اللونان الأبيض والأسود فقط. ما ينتج عن هذا الخطاب هو بناء ما يُعرف بـ"ذهنية الحصار"، وهي حالة نفسية يشعر فيها الفرد بأنه محاصر من جميع الجهات، وأن العالم بأسره متآمر ضده، فلا يجد ملاذًا إلا في أحضان التنظيم. في هذه الحالة، يتحول الانتماء إلى الجماعة من قناعة فكرية إلى ضرورة وجودية. يختفي الأمل بالإصلاح أو التغيير السلمي، ويحلّ مكانه وعد خلاصي: الهجرة من "دار الكفر"، والانخراط في "مشروع الأمة" كما تراه داعش. وبهذا، لا يكتفي الخطاب بإقصاء الآخر، بل يُغلق أفق المستقبل، ويزرع القطيعة مع العالم. أثر الخطاب في تنامي التطرف لا يتوقف خطاب داعش عند حدود التحريض على "الآخر" الخارجي، بل يتوغّل أعمق في البنية الثقافية والفكرية للمجتمعات الإسلامية نفسها. فالهجوم على القانون الدولي لا يستهدف الغرب فحسب، بل يمتد ليشمل كل من يؤمن بإمكانية الإصلاح أو التغيير السلمي من داخل المنظومة. وبهذا، يتحوّل الخطاب إلى أداة لتفخيخ الوعي، حيث تُصوَّر كل محاولة للتفاعل مع أدوات العصر – كالقانون أو السياسة أو حقوق الإنسان – بوصفها خيانة للدين. عندما يُشكَّك في فاعلية المؤسسات، ويُخوَّن دعاة العدالة، ويُطعن في نوايا الإسلاميين الإصلاحيين أنفسهم، تنشأ حالة من الشك العام والريبة، تفرغ الساحة من كل بدائل معقولة. في هذا الفراغ، لا يبقى أمام بعض الأفراد إلا التطرّف بوصفه "يقينًا جاهزًا"، يقدّم إجابات بسيطة على أسئلة معقدة، ويمنحهم شعورًا زائفًا بالقوة والانتماء. وهكذا، يغدو الخطاب أداة لاستقطاب العقول والقلوب نحو الراديكالية. الخطاب لا يهاجم فقط الخصوم، بل يعمل على نزع الشرعية عن أي صوت وسطي أو إصلاحي داخل الحقل الإسلامي. فالداعية الذي يدعو إلى التدرّج، والمفكر الذي يناقش مفهوم الدولة، والناشط الذي يسعى لتغيير الواقع عبر القانون، كلهم يُقدَّمون كـ"منافقين"، أو "عملاء"، أو "مرتدين". هذه الإستراتيجية تُقصي العقلانية، وتغلق باب الاجتهاد، وتمنح الجماعة المتطرفة احتكارًا للحديث باسم الإسلام، في غياب أي منافسة فكرية حقيقية. في المحصلة، فإن داعش تخوض معركة يتجاوز ميدانها ساحات القتال، إلى ما يمكن تسميته بـ"الحرب على الإدراك". التنظيم يسعى إلى بناء منظومة إدراكية بديلة، يرى من خلالها العالم كله كعدو، والحياة كلها كحالة حرب مستمرة، والدين كمجرد ردة فعل دموية على "مؤامرة كونية". وبهذا، لا يكون التطرف مجرد نتاج للعنف، بل نتيجة مباشرة لإعادة تشكيل العقول وفق منطق الكراهية والحصار، وقطع الطريق على أي أفق للمصالحة مع الذات أو مع العالم. نحو تفكيك الخطاب لا فقط مواجهته ليست خطورة افتتاحيات تنظيم داعش في مضمونها الظاهر فقط، بل في بنيتها العميقة التي تعتمد على الإيحاء أكثر من التصريح، وعلى ما تُخفيه أكثر مما تُفصح عنه. فبينما تقدم نفسها كتحليل سياسي أو ديني، فإنها تعمل بصمت على إنتاج خطاب كراهية مقنّع بلغة شرعية. إن المسألة ليست فقط ما يُقال، بل كيف يُقال، ولمَن يُقال، وفي أي سياق يُبث. هذه العناصر مجتمعة تجعل الخطاب أشبه بـ"سلاح ناعم" يراكم تأثيره في وعي الأفراد والجماعات بصمت وفعالية. الخطاب الذي يبدو في ظاهره غيورًا على الدين ومناصرًا للمظلومين، ما هو في جوهره إلا تسويق لبنية عقلية مغلقة، ترى العالم وفق ثنائية "نحن ضد الجميع". وهذا النمط من الخطاب لا يُقدّم حلاً بقدر ما يُغذّي شعورًا دائمًا بالحصار، ويُلبس مشاعر الغضب والخذلان لباسًا دينيًا. وهنا تكمن الخطورة الأكبر: تحويل التديّن إلى ممر إجباري للعنف، بحيث لا تُفهم النصوص الدينية إلا بوصفها دعوة للقتال، ولا تُفهم المعاناة إلا بوصفها مبررًا للانتقام. إن الاقتصار على تفنيد الأكاذيب أو كشف التناقضات لا يكفي لمواجهة هذا الخطاب. ما لم يُبنَ وعي بديل، فإن الفراغ سيبقى مهيّأ لعودة سرديات العنف. المطلوب ليس مجرد الرد، بل التأسيس لخطاب جديد يربط القيم الإسلامية العميقة – كالعدل، والرحمة، والكرامة – بالقيم الإنسانية المشتركة، ويعيد تقديم الإسلام بوصفه دين إصلاح لا انتقام، ودين بناء لا هدم. فالمعركة الحقيقية ليست ضد النصوص فقط، بل ضد أنماط الفهم التي أُفرغت من مقاصدها واستُعملت كذخيرة في معارك عبثية. في النهاية، لا بد من استعادة الدين من براثن التنظيمات المتطرفة، عبر مشروع فكري وروحي يُعيد الاعتبار لفكرة الإصلاح، ويُحيي مفهوم النضال السلمي، ويؤمن بالمواطنة كجسر بين الإيمان والعمل العام. فالإسلام، في جوهره، لا يحتاج إلى قتال ليُثبت وجوده، بل إلى عدالة تُجسّده في حياة الناس. وتفكيك خطاب العنف يبدأ من هذه القناعة: أن الدين ليس هو المشكلة، بل ما صُنع باسمه، وما يُلقَّن للناس بوصفه "الخلاص"، وهو في حقيقته طريق للهلاك.

اغتيال قيادي هيئة تحرير الشام بإدلب: من هو أبو خالد العراقي؟
اغتيال قيادي هيئة تحرير الشام بإدلب: من هو أبو خالد العراقي؟

الحركات الإسلامية

time٢٢-٠٣-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الحركات الإسلامية

اغتيال قيادي هيئة تحرير الشام بإدلب: من هو أبو خالد العراقي؟

شهدت مدينة سلقين شمال غرب إدلب، السبت 22 مارس 2025، عملية اغتيال مزدوجة طالت القيادي البارز في هيئة تحرير الشام المكنى "أبو خالد العراقي السامرائي" وشقيقه، في هجوم نفذه مسلحون مجهولون. الحادثة التي وقعت أمام منزل القيادي، تأتي ضمن سلسلة تصاعدية للعنف بين الفصائل المتناحرة، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني في آخر معاقل المعارضة المسلحة بسوريا. تفاصيل العملية والتداعيات وفقا لتقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان، اقتحم مسلحون يرتدون زيا عسكريا موقع أبو خالد العراقي في سلقين، وأطلقوا النار بشكل مكثف أدى إلى مقتله وشقيقه على الفور. تشير الأدلة الأولية إلى استخدام أسلحة خفيفة وقنابل يدوية، بينما لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم حتى اللحظة. من هو أبو أبو خالد العراقي؟ وحسب ينسب إليه دور في تصفية الخصوم داخليا، خاصة من المنتمين سابقا لتنظيم داعش، أما شقيقه، فكان يشغل منصبا لوجستيا في إدارة المعابر الحدودية مع تركيا. تاريخ من الاغتيالات المستهدفة وتصاعد في عمليات الاغتيال في صفوف تحرير الشام منذ عام 2023، حيث سجلت 601 حادثة استهدفت قادة وعناصر من الفصائل المتنافسة، وفق إحصائيات المرصد السوري. كشفت مصادر سورية عن عن وجود تحالفات خفية بين قيادات منشقة عن الهيئة وجهات خارجية، حيث حاول أبو خالد العراقي سابقا التوسط في صفقة أسلحة مع التحالف الدولي عام 2023، مما جعله هدفا للتيار المتشدد داخل التنظيم. ضربات لشبكات التمويل كان أبو خالد يشرف شخصيا على "ديوان الزكاة" الذي يجمع ما يقارب 20 مليون دولار شهريا من المناطق الخاضعة للهيئة. يتوقع أن تؤدي وفاته إلى حرب عصابات على السيطرة على المعابر الحدودية ومصادر التمويل، خاصة معبر باب الهوا الحيوي. بدءا من مساء الحادثة، شهدت سلقين اشتباكات بين عشيرتي النجار والساري، حيث تنتمي أسرة أبو خالد إلى فخذ "البراوين" المتحالف مع عشيرة الساري هذا الانقسام قد يعيد إنتاج سيناريو "مجزرة أطمة" 2023 التي خلفت 50 قتيلا. وفي 1 مارس 2025، اعترفت القيادة الأمريكية بمقتل محمد يوسف ضياء تالاي المكنى بـ'أبو جعفر التركي' عبر استهداف سيارته على الطريق الواصل بين كللي وكفتين في ريف إدلب الشمالي، بطائرة أمريكية بدون طيار بعد مضي أيام قليلة على مقتله. يشار بأنه عمل سابقا ضمن تنظيم 'حراس الدين'، قبل أن ينضم لاحقا إلى فصيل 'جيش الأحرار' ضمن غرفة عمليات 'ردع العدوان'، كما عمل مدرب للفصائل العسكرية

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store