أحدث الأخبار مع #مخيم_الشاطئ


الشرق الأوسط
منذ يوم واحد
- منوعات
- الشرق الأوسط
«رحلة شقاء لا تستثني أحداً»... كيف يحصل أهل غزة على الطعام؟
ما إن تدق عقارب الساعة الثانية عشرة ظهراً، حتى يهم وحيد أبو صبيح بمناداة ابنته بيسان البالغة من العمر 7 أعوام لحمل «طنجرة» صغيرة تجلب فيها شيئاً من طعام تقدمه تكيَّة خيرية تبعد عشرات الأمتار عن خيمته بمنطقة مدارس «الأونروا» في مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة. أبو صبيح (47 عاماً) نازح من بلدة بيت لاهيا بشمال القطاع، ويعيش مع عائلته المكونة من 7 أفراد في خيمة لا تتعدى مساحتها 4 أمتار؛ ومثل كثيرين غيره، لا يجد طعاماً يقدمه لأطفاله. تصطف بيسان، التي كان من المفترض أن تكون بمقاعد الدراسة، في طابور طويل، وسط حشد كبير من الأطفال والنساء والرجال، من أجل الحصول على نحو 400 غرام من «غذاء مطبوخ»، مثل العدس، أو الفاصولياء، أو البازلاء، أو الأرز، تقدمها التكية دون أي إضافات أخرى. فتيات ونساء في انتظار تزويدهن بالطعام عند تكيَّة خيرية في غزة (الشرق الأوسط) وتقف الطفلة نحو ساعة ونصف الساعة يومياً، وربما أكثر، حتى تحصل على الطعام. وفي أوقات أخرى تخرج باكراً لمزاحمة الآخرين على أبواب خيمة التكية. وبكلمات طفولية بريئة تقول: «أنا بروح أجيب الأكل مشان أساعد أهلي ياكلوا لأنه ما فيه أكل عنا». كمية الطعام التي تُحضرها بيسان لا تكاد تكفي وجبة الغذاء فقط، وفي أحيان تعود بلا أي طعام فلا تجد الأسرة ما تتناوله طيلة اليوم سوى بعض من زعتر أو حمص لديها، دون خبز أحياناً. ويشرح الأب، الذي كان يملك يوماً محلاً صغيراً لبيع حاجيات الأطفال قبل أن يُدمَّر تماماً نتيجة القصف الإسرائيلي الذي طال متجره ومنزله منذ نحو عام، كيف أن طفلته تخرج يومياً لساعات كي تجلب هذه الكمية المحدودة، وكيف تدخل أحياناً في عراك مع بعض أقرانها المتزاحمين على الطعام. ويضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سلوك طفلته اختلف بسبب الواقع الأليم، فباتت تزاحم الجميع لضمان موقع متقدِّم بين الصفوف، وأصبح صوتها يعلو على الآخرين وهي تحاول الحصول سريعاً على ما يتوفر من وجبات يومية. تدافع لملء الطناجر بطعام أعدته تكيَّة خيرية بمدينة غزة يوم الأربعاء (الشرق الأوسط) ويشعر أبو صبيح بالحيرة والعجز: هل يمنع طفلته من التوجُّه إلى التكية للحصول على بعض من طعام، أم يكلف أحد أطفاله الآخرين بذلك، وهو ما سيضطر بيسان للوقوف في طابور آخر للحصول على بضعة لترات من المياه الصالحة للشرب؟ يقول متحسراً: «هذا ما وصل إليه حال أطفالنا... الوقوف في طوابير طويلة للحصول على بعض الطعام أو المياه بدلاً من التوجه للمدارس والتعلُّم». ويشير إلى أنه لم يعد لديه أي دخل مادي بعد أن فقد محله ومنزله واضطر للنزوح إلى جنوب القطاع في فترات سابقة، قبل أن يعود إلى الشمال في فترة وقف إطلاق النار المؤقت، ولا مجال لديه لتوفير أي طعام إلا من خلال التكيات الخيرية. وتختنق العَبَرات في عينيه وهو يقول: «كنا عايشين حياة كويسة، وبنقدر نجيب لقمتنا بكل سهولة، وعايشين على القليل، لكن في الحرب هذه وصلنا لوضع ما بنقدر نوصفه حتى أصبحنا جعانين ومشردين». يومياً تقف فاتن المصري (51 عاماً)، وهي من سكان بلدة بيت حانون ونازحة إلى حي الرمال، في طابور طويل وهي تحمل طنجرة ربما توضع لها فيها كمية صغيرة من العدس أو الأرز أو أي صنف من الطعام. وتقول السيدة التي تعيش منذ أشهر في خيمة برفقة عائلتها المكونة من 13 فرداً، إن ساعات انتظارها للحصول على حصة من طعام لا تقل عن 3 كل يوم. ونظراً لعدم توفر الطحين (الدقيق)، تضطر عائلتها لتناول طعام التكية من دون خبز أو أي مكملات أخرى. وبكلمات غلب عليها القهر والوجع أضافت لـ«الشرق الأوسط»: «الجوع وانشغال أولادي، كل واحد بيروح لتوفير مياه أو غيره، بيخليني اضطر أروح أقف في الطابور رغم إني مريضة سكري وما بقدر أقف لساعات طويلة، لكني مضطرة لأن ظروف عائلتي صعبة وما عنا إشي ناكله». تزاحم للحصول على طعام من إحدى التكايا الخيرية بقطاع غزة (الشرق الأوسط) وأيضاً مثل الآخرين، ما تتحصل عليه يكاد يكفي لوجبة واحدة فقط في اليوم. وعندما يحل المساء لا يجد أفراد الأسرة ما يأكلونه، فينامون جوعى. ومع تزايد أعداد النازحين في الأيام الأخيرة، ازداد عناء الحصول على طعام من التكيات، وباتت الجهود مضاعفة، مع تزاحم الرجال والأطفال والنساء من أجل الحصول على كمية بسيطة تسد جزءاً من رمق. تقول فاتن: «حياتنا صارت رأساً على عقب، كل إشي فيها تغير وانقلب، وما عاد فينا حيل نتحمل كل هالوجع وهالتعب وهالذل اللي وصلنا له». وترصد «الشرق الأوسط» أن بعض التكيات باتت لا تستطيع مؤخراً توفير كميات كبيرة من الطعام، وأصبح بعضها يقلص الكميات التي يقدمها، في حين توقف البعض الآخر عن العمل تماماً. وتشرف على تلك التكيات مؤسسات أممية ودولية وعربية وأخرى مبادرات شبابية خيرية. تزاحم أمام تكية خيرية بمدينة غزة يوم الأربعاء (الشرق الأوسط) ويقول علي مطر، أحد القائمين على إحدى «التكايا» غرب مدينة غزة، وهي المنطقة التي يتكدس بها النازحون من شمال قطاع غزة، إن هناك نقصاً واضحاً في المعلبات وكميات الأرز والعدس وغيرها لدى التجار، الأمر الذي بدأ يؤثر على قدرة الكثيرين على تقديم الطعام للمواطنين، مما يفاقم الواقع المأساوي والجوع الذي يعتصر أهل القطاع. ويضيف قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إن أسعار ما يتوفر من أرز وعدس وبعض المعلبات من الفاصولياء والبازلاء والفول وغيرها باتت باهظة، مما يزيد من التكلفة على المتبرعين ويرهقهم، لا سيما أن بعض المؤسسات الأممية والدولية بدأت فعلاً بإغلاق «تكاياها» لعدم توفر أي أنواع من الطعام في مخازنها. ويشير إلى أن بعض المؤسسات المدعومة من جهات عربية وخيرية لجأت لتوحيد الجهود في محاولة لطهي الطعام معاً بعد النقص في الغذائية. واستطرد: «إن لم يُتدارك هذا الخطر الذي بات يؤثر على عمل (التكيات) الخيرية، فإن الواقع في غزة سيكون أكثر من كارثي والمجاعة ستتسبب بوفاة العشرات أسبوعياً». وتحت وطأة ضغوط دولية هائلة لوقف حملتها العسكرية المكثفة في غزة، والسماح بدخول المساعدات إلى القطاع، أعلنت إسرائيل أنها ستسمح بدخول مساعدات «أساسية»، وذلك بعد منع ذلك منذ الثاني من مارس (آذار) الماضي. عمال في مخبز في دير البلح بوسط قطاع غزة، الخميس، بعد أن سمحت إسرائيل بدخول مساعدات إنسانية محدودة (أ.ف.ب) غير أن منظمة «أطباء بلا حدود» وصفت المساعدات التي تسمح إسرائيل بإدخالها بأنها «غير كافية بشكل مثير للسخرية»، وتهدف فقط لتجنُّب اتهامها «بتجويع الناس» في القطاع المحاصَر.


الجزيرة
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- الجزيرة
فاز بجائزة "بوليتزر" الأميركية .. مصعب أبو توهة للجزيرة نت: نحلم بالعودة إلى يافا وإلى بيت مدمر في غزة
غزة –".. فليكن أملا وليكن حكاية"، هكذا عبر الشاعر والكاتب الفلسطيني مصعب أبو توهة عن فوزه بجائزة بوليتزر، أرفع الجوائز الصحفية والأدبية في الولايات المتحدة الأميركية للتعليق الصحفي لعام 2025، عن سلسلة مقالات مؤثرة نشرها في مجلة "نيويوركر"، توثق معاناة الغزيين خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة التي أعقبت عملية " طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2023. ويعتبر أبو توهة في حوار خاص للجزيرة نت، فوزه بهذه الجائزة الرفيعة محطة مهمة في مسيرته الشخصية والمهنية، وإنجازا تاريخيا للقضية الفلسطينية، فمثل هذه الجائزة تعكس أهمية الكلمة والصورة في نقل معاناة الشعوب تحت الاحتلال. وركزت مقالات أبو توهة في مجلة "نيويوركر" على الدمار الجسدي والنفسي الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على زهاء مليونين و200 ألف فلسطيني في غزة، ومزج فيها بين التحقيق العميق والسرد الشخصي، في الفترة التي عايشها تحت القصف والدمار والنزوح، قبل تمكنه من مغادرة القطاع للولايات المتحدة برفقة أسرته الصغيرة. وإليكم نص الحوار: كتبت المقال والشعر والقصة ولعبت كرة القدم، ولا أزال شغوفاً بسماع القصص عن جدي حسن الذي طرد من يافا وعاش ومات في مخيم الشاطئ قبل أن أولد. ولا أزال ألملم حجارة بيت جدي لأكتب بها حكاية المخيم لنعود معاً إلى يافا ونزرع البرتقال ونشاهد أفلاماً جديدة في سينما الحمراء يصنعها أحفادنا وربما نحن أيضاً. مَن مصعب أبو توهة وكيف تعرف نفسك للقارئ العربي؟ كاتب فلسطيني ولدت في مخيم الشاطئ للاجئين بمدينة غزة في العام 1992، لعائلة هجرت من مدينة يافا في فلسطين المحتلة إبان النكبة في العام 1948، وترعرعت في مدينة بيت لاهيا شمال قطاع غزة ، ليس بعيداً عن الحقول الزراعية والبلاد التي تبعد عنا يوماً بعد يوم. كتبت المقال والشعر والقصة ولعبت كرة القدم، ولا أزال شغوفاً بسماع القصص عن جدي حسن الذي طرد من يافا وعاش ومات في مخيم الشاطئ قبل أن أولد. ولا أزال ألملم حجارة بيت جدي لأكتب بها حكاية المخيم لنعود معاً إلى يافا ونزرع البرتقال ونشاهد أفلاماً جديدة في سينما الحمراء يصنعها أحفادنا وربما نحن أيضاً. حصلت على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من الجامعة الإسلامية عام 2014، وأكملت دراسة الماجستير في الكتابة الإبداعية في جامعة سيراكيوز بنيويورك بالولايات المتحدة الأميركية. أسست في العام 2017 "مكتبة إدوارد سعيد" العامة في غزة، وهي أول مكتبة بالإنجليزية في القطاع. وعام 2022، أصدرت مجموعتي الشعرية الأولى بنفس اللغة بعنوان "أشياء قد تجدها مخبأة في أذني: قصائد من غزة" والتي حصلت على جائزة الكتاب الأميركي، وجائزة الكتاب الفلسطيني، وكانت ضمن القائمة النهائية لجائزة النقاد الأميركيين. لا يمكن للعالم أن يغض الطرف أكثر من هذا عن القصة والقصيدة الفلسطينية، خاصة التي تخرج من غزة هذه الأيام. وأضيف هنا الصورة، إلى جانب الكتابة، فقد تُوّج هذا العام، والذي سبقه مصورون بجوائز عالمية يجدر الاحتفاء بها. ماذا يمثل لك الفوز بجائزة بوليتزر كأرفع جائزة أدبية وصحفية بالولايات المتحدة؟ هذه محطة مهمة في مسيرتي الشخصية والكتابية، ويعتبر إنجازاً للقصة الفلسطينية. لا يمكن للعالم أن يغض الطرف أكثر من هذا عن القصة والقصيدة الفلسطينية، خاصة التي تخرج من غزة هذه الأيام. وأضيف هنا الصورة، إلى جانب الكتابة، فقد تُوّج هذا العام، والذي سبقه مصورون بجوائز عالمية يجدر الاحتفاء بها. كيف رُشحت لهذه الجائزة؟ من الشروط الأساسية للترشح، أن يكون العمل منشورا في موقع أو صحيفة بالولايات المتحدة الأميركية وليس بالضرورة، أن يكون المرشح أميركيا. ويختار مجلس الجائزة المكوّن من 19 عضوا لجنة من الصحفيين لانتقاء أفضل الأعمال، ثم تعرض الأعمال المرشحة الثلاثة في كل جائزة على المجلس الذي يتولى عملية اختيار الفائزين. أربع مقالات كتبتها عام 2024 في مجلة نيويوركر العريقة: مقالة عن التجويع في غزة، وكيف تعاني عائلتي ولا تزال في الحصول على الطعام. مقالة عن معنى السفر لي كفلسطيني من غزة، وهنا تحدثت عن رحلة السفر الأخيرة من مصر إلى الولايات المتحدة في يونيو 2024 ورحلتي لزيارة البوسنة والهرسك بعدها بنحو شهر. لقد تعرضت لتجارب سيئة في المطارات وكتبت عنها. مقالة عما تركته ورائي في غزة وقت خروجي منها في ديسمبر 2023، ليس فقط الأهل والبيت المدمر بل أيضاً كل ما كونته من ذكريات في مخيم الشاطئ وبيت لاهيا ومخيم جباليا، أساتذتي وطلابي، مكتبتي الشخصية ومكتبة إدوارد سعيد بفرعيها التي أسستهما وتم تدميرهما خلال الأشهر المنصرمة. مقالة عن مخيم جباليا الذي عشت فيه وقتاً، حيث بيت جدي لوالدتي، إذ لجأت فيه وفي مدارسه قبل خروجي. ماذا يعني أن تشاهد مخيم لاجئين يُمحى، ماذا يعني أن يحلم اللاجئ بالعودة، ليس ليافا وحدها، بل لمخيم جباليا وغيره. لماذا لا يزال هنا مخيم لاجئين أصلا؟ قبل مغادرتك غزة، عايشت أهوالا من الحرب، صف لنا ما مررت به؟ بعد أسابيع قليلة من بداية الحرب، بدأت بعض العائلات في شمال غزة بالنزوح نحو الجنوب، خاصة بعد التهديدات الإسرائيلية، وكنا نحن أهل الشمال مجبورين على الاختيار بين البقاء في منازلنا، رغم الخطر المحدق، وبين النزوح نحو الجنوب الأقل خطراً آنذاك. آثرت وعائلتي البقاء في الشمال، لمعرفتنا بظروف النزوح ومآلاته، حيث لا بيوت تكفي العائلات ولا ملابس ولا فُرش ولا كتب. وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فوجئت بأبي وأمي وإخوتي يحزمون الحقائب مغادرين بيتنا في بيت لاهيا بنية الذهاب إلى مخيم جباليا ، حيث وُلدت أمي وترعرعت. وفيه لا يزال يسكن جدي وبعض أخوالي وخالاتي. وسوف يتوفى جدي طلال في 14 نيسان 2024 في المخيم، حيث ظل يرفض مغادرته رغم قصف منزله بمساحة سبعين متراً مربعاً في ديسمبر 2023. ومع اشتداد القصف الهمجي، خاصة قصف المربعات السكنية، أذكر منها قصف مربع التلولي في المخيم نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وقد راح ضحيته 400 شخص شهداء وجرحى، قررت العائلة الانتقال إلى إحدى مدارس الإيواء، التي تبعد مئات الأمتار عن شقتنا التي لجأنا إليها. كان ذلك الاستهداف الأكثر رعباً في حياتي. كان يوماً مهولاً. خرجت لأبحث عن المكان المستهدف، وإذ به يبعد عنا نحو 500 متر فقط. ثمة مسعف يحاول إنقاذ طفلة داخل سيارة الإسعاف. شابان يحملان بطانية فيها جسد من دون رأس. والناس تجري، لا تعرف إلى أين. الغبار والركام لا يزالان يسقطان من السماء. أمٌ وأطفالها يصرخون، تستجديني الأم: "زوجي تحت الأنقاض، طلعوه". وصلت المربع المدمر، نحو 30 بيتاً. لا يمكنني أن أقول إنها دمرت، بل اختفت تحت الرمال. عدت إلى البيت في المخيم، أريت والدتي وإخوتي صور الدمار. وهذا ما دفع الجميع للخروج نحو مدرسة الإيواء القريبة. لم نحظ بغرفة فصل دراسي كباقي العائلات التي سبقتنا. فوزعنا أنفسنا على الجيران. لم يكن الأمان هو ما ينقصنا فقط، فمنذ غادر موظفو أونروا الدوليون قطاع غزة ، تعقدت ظروف الأسر النازحة. لا ماء ولا طعام يكفيان الأطفال وذويهم. لا نظافة في الحمامات. لا ممرضين يعتنون بالمرضى. كانت كارثة لنا جميعاً. في 14 نوفمبر 2023، ظهرت أسماؤنا؛ زوجتي وأطفالنا الثلاثة وأنا، على قائمة المسافرين عبر معبر رفح البري (المنفذ الوحيد للغزيين على العالم الخارجي) إلى خارج القطاع. طفلنا مصطفى يحمل الجنسية الأميركية، فأتيحت لنا فرصة السفر معه كعائلة ترعاه. وقد تأخر تحركنا من الشمال للجنوب، حيث المعبر، بسبب خطورة الطريق. في صباح 19 من ذلك الشهر، ومع اشتداد القصف حولنا، قررت وزوجتي حمل أمتعتنا وأطفالنا والتوجه جنوباً، وكنت حزيناً جداً لأنني سأترك والدي وأشقائي وأطفالهم. لم تكن هناك وسائل مواصلات، لكن كان نصيبنا أن نجد عربة يجرها حمار. استمرت الرحلة ما يقارب الساعة، إلى أن وصلنا دوار الكويت (على شارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة) حيث يتجمع آلاف النازحين. معظمهم يرفعون بطاقاتهم الشخصية. لم أفهم ما المقصد من ذلك. فعلت مثلهم ورفعت بطاقتي الشخصية وجواز السفر الأميركي. وكان عشرات الجنود على يسارنا، يصوبون بنادقهم تجاهنا من وراء تلة رمل. حان دورنا في اجتياز الدبابة، كانت تتحكم بعدد الناس الذين يجتازون الطريق كل مرة، كأنها جندي مرور. دخلنا عبر بوابة في منتصف الشارع، وإذ بنا نسمع صوت جندي إسرائيلي يتحدث العربية بشكل مفهوم: "امشو شوي شوي. ورا بعض. نزل بطاقتك الشخصية. فقط تطلعوا (انظروا) على جهتنا". لاحظت أنه كان ينادي بعض الأشخاص بوصف ملابسهم وما يحملون. لم يخطر ببالي البتة أن ينادى عليّ، فاسمي وعائلتي مدرج على لائحة المسافرين، التي توافق عليها إسرائيل. "الشب اللي لابس جاكيت أسود وشنطة سودا وحامل ولد لون شعره أحمر. نزّل الولد والأغراض وتعال هون". كان ذلك الشاب أنا. قررت التوجه حاملاً طفلي، عمره ثلاث سنوات إلى الجنود لاستيضاح الأمر، لكن الجندي صرخ بي: "حط الولد والشنطة وتعال هون واقعد على ركبك ورا الشباب". كان في الساحة بين الجنود وبين طابور النازحين، ما يقارب 200 شخص من جميع الأعمار. وجندي ينادي عبر مكبر الصوت علينا بالأسماء ويطلب منا قول رقم بطاقتنا الشخصية، وعندما جاء دوري، وقلت رقم بطاقتي أمرني الجندي برفع يدي للأعلى والمشي نحو اليسار حيث يقف جيب عسكري وثلاثة جنود ينتظرونني وشاب آخر معي. اثنان من الجنود يصوبان بندقيتيهما نحونا، بينما أمرنا الجندي الثالث بخلع ملابسنا. بقينا بملابسنا الداخلية. ثم فوجئنا بطلبه أن نخلع كل شيء ونستدير. طلب منا الجندي وضع ملابسنا والتوجه نحو جنديين آخرين سيتوليان مهمة تقييد أيدينا للخلف وتعصيب أعيننا بقطعتي قماش، قبل أن يجرنا أحد الجنود لمنطقة مجهولة. أجلسني الجندي أمام ضابط إسرائيلي سيحقق معي. بدأت الحديث بالإنجليزية. تحدثت عن حياتي باختصار وعن شكل يومي خلال السابع من أكتوبر. "أنت ناشط في حماس" يلقي الضابط القنبلة أمام عيني المعصوبتين، أجبته: "لست كذلك"، ليرد: "عندنا معلومات عن ذلك". وكان ردي: "هل لديك دليل؟ صورة فوتوغرافية، فيديو، دليل من الأقمار الصناعية؟"، لكمني على وجهي. "أنت من سيأتي بالدليل". لن أنسى الشتائم التي تعرضت لها. وتم اقتيادي نحو جهة مجهولة. ربما كنا 10 في خيمة ما. كان الهواء البارد يعذب أجسادنا التي خلعوا عنها ملابسنا الدافئة. المدفع من خلفنا يطلق القذائف نحو غزة، وأتساءل في داخلي: هل أهلي بخير في الشمال؟، هل زوجتي وأطفالي بخير؟ هل وصلوا الجنوب أم وقفوا ينتظرونني بعد الحاجز بقليل؟. بعد عشرة أيام خرجنا من غزة. نظرت إلى الوراء، إلى بوابة المعبر وهي تقول: "أهلاً وسهلاً بكم في فلسطين"، عبرت في ذهني مئات الصور من فلسطين، من غزة بالتحديد، الجغرافيا التي تُمحى كل يوم. المدن التي لم يبق تقريباً منها سوى أسماء شوارعها. وتساءلت: هل مرّ جدي حسن وجدتي خضرة بنفس الشعور عندما نظرا إلى الخلف وهما يغادران يافا في نكبة العام 1948؟. وهل ما زال حلم الفلسطيني في غزة يتسع للعودة إلى يافا وحيفا والناصرة، بينما هو يحلم بالعودة إلى بيت مدمر؟. قذفونا في عربة عسكرية. بدأت بالسير. وصورت إطلاق نار متقطع من حولنا، وقلت في نفسي: ربما هي النهاية. يضربني جندي من الخلف ويأمرني بأن أخفض رأسي. أنا معصوب العينين ومكبل اليدين. أنزلنا الجنود بعد نصف ساعة. يركلني جندي في معدتي. أطير، وأنا معصوب العينين ومكبل اليدين، نحو الأرض. ينقطع نفسي لثانيتين. ويدفعني جندي لكي أعدل من وضعية جلوسي. يركلني في وجهي. ينزف أنفي. ويقذفوننا مرة أخرى في حافلة عسكرية. ونصل بعد ساعتين تقريباً. ينزلنا الجنود من الحافلة، نغير ملابسنا، ننام على قطعة بلاستيكية نحيفة جداً. كان ذلك نهاية اليوم الأول. في اليوم الثاني، تم التحقيق معي مساء. بعد خروجي من غرفة التحقيق وقبل نقلي لمركز الاحتجاز مع الآخرين، فاجأني جندي بالإنجليزية: "نعتذر عن الخطأ، سوف ترجع إلى البيت". لم أكن لأصدق ذلك. في اليوم الثالث، نادى الجندي المسؤول اسمي. بدأت الرحلة إلى المربع الأقسى. إلى طريق صلاح الدين حيث اختطفت. وبدأت الرحلة الأكثر قسوة، رحلة البحث عن زوجتي وأطفالي في دير البلح، ورحلة الاطمئنان على عائلتي الكبيرة في شمال غزة. هل فقدت أحداً؟. إعلان قضيت ما يقارب الساعتين أبحث عن زوجتي مرام وأطفالي يزن ويافا ومصطفى، إلى أن دلني أحد الشباب في الشارع على المدارس التي نزح إليها سكان بيت لاهيا. بعد عشرة أيام خرجنا من غزة. نظرت إلى الوراء، إلى بوابة المعبر وهي تقول: "أهلاً وسهلاً بكم في فلسطين"، عبرت في ذهني مئات الصور من فلسطين، من غزة بالتحديد، الجغرافيا التي تُمحى كل يوم. المدن التي لم يبق تقريباً منها سوى أسماء شوارعها. وتساءلت: هل مرّ جدي حسن وجدتي خضرة بنفس الشعور عندما نظرا إلى الخلف وهما يغادران يافا في نكبة العام 1948؟. وهل ما زال حلم الفلسطيني في غزة يتسع للعودة إلى يافا وحيفا والناصرة، بينما هو يحلم بالعودة إلى بيت مدمر؟.