logo
#

أحدث الأخبار مع #ميشيلفوكو

الجنجويد: من التوظيف السلطوي إلى التموضع السياسي
الجنجويد: من التوظيف السلطوي إلى التموضع السياسي

سودارس

timeمنذ 8 ساعات

  • سياسة
  • سودارس

الجنجويد: من التوظيف السلطوي إلى التموضع السياسي

"التمسك بالتاريخ بوصفه قدَراً هو أحد أخطر أشكال التنميط؛ لأنه يُحوّل الظلم من حدث قابل للنقد إلى حقيقة لا يمكن تغييرها." — إدوارد سعيد، الاستشراق إن محاولة فهم ظاهرة الجنجويد بوصفها "ظاهرة إنسانية عالمية" متجذّرة في التراث البشري، كما ورد في بعض المقولات التي تم تداولها مؤخراً دون التعرف على هوية كاتبها، تمثل انزلاقًا خطيراً نحو الجوهرنة التاريخية (essentializing through historicizing). فباسم المقارنة الحضارية يتم سحب الظاهرة من سياقها السياسي والاقتصادي المعاصر، وتقديمها كاستمرارٍ لسلوك بدائي متجذر في "الهامش البشري"، وكأنّ الجنجويد مجرد إعادة إنتاج للتتار أو الفاندال أو المغول، يمرون في الفضاء التاريخي كقدر لا يُردّ، وكأن السودان مسرح أبدي للفوضى، لا فكاك منه. غير أن هذه القراءة المسطحة تتجاهل تماماً الشروط البنيوية التي أدت إلى نشوء وتضخّم هذه الظاهرة في السودان الحديث. فهي ليست نتيجة فورة عرقية، ولا تعبيراً عن "الطبيعة البدوية الجامحة"، بل نتاج مباشر لتحولات الدولة ما بعد الاستعمار، التي أعادت إنتاج المركزية القهرية والتهميش العنيف في هوامشها الجغرافية والاجتماعية. لقد تم تصنيع الجنجويد سياسياً، وتمويلهم وتسليحهم وتأطيرهم أيديولوجيًا، ضمن مشروع سلطوي واضح، هدفه الأساس تفكيك حركات المقاومة في دارفور، وتجفيف منابع التمرد الاجتماعي والثقافي. وكما وصف ميشيل فوكو أدوات "القوة الحيوية " (biopower)، فقد استخدمت الدولة الجنجويد للضبط والتأديب، لا كخارجين عن الدولة، بل كامتداد لها. إن القول بأن "الجنجويد ظاهرة بشرية متكررة" هو في جوهره خطاب نزع للسياق، يحذر منه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، حيث أوضح أن أخطر ما يفعله المثقف هو تقديم العنف والمظلومية في صورة قدر ثقافي أو جغرافي. فبهذا المنطق، يتحول الجنجويد من كيان وظيفي داخل المنظومة السلطوية إلى كائنات فوضوية، خارجة عن التاريخ، عن الدولة، عن القانون، وعن المسؤولية. وتصبح الجرائم التي ارتكبت في دارفور وجنوب كردفان والخرطوم، مجرد نتوءات عشوائية في سردية الغابة، لا ما هي عليه: مشروع عنف منظم ذو بُعد سياسي طبقي عرقي واضح. بل إن هذا النوع من الخطاب يُعيد إنتاج منطق الاستعمار المعرفي، في تصوير شعوب الجنوب على أنهم "همج بالفطرة"، لا يصنعون تاريخهم بل يُستدرجون إليه. إنها الأطروحة ذاتها التي فندها فرانز فانون، حين بيّن أن العنف الاستعماري لا يقتصر على احتلال الأرض، بل يحتل الوعي، ويُنتج نخباً فكرية محلية تبرر القمع، لا باسم المصلحة، بل باسم "الهوية" و"الطبيعة" و"التراث". هنا تكمن خطورة الخطاب التأصيلي: أنه يخلط بين التحليل والتبرير. فبدل أن يُفكك الجنجويد كظاهرة اجتماعية معقدة نتجت عن التحالف بين السلطة المركزية والإقطاع العسكري، يُقدَّم لنا وكأنهم "صدى تاريخي"، يتكرّر حيثما كان الجن والجيم والجواد. وهكذا يُمحى الجاني، ويُعاد تشكيل الضحية كجزء من مسرحية لا مسؤول فيها ولا حساب. غير أن القراءة الأكثر عمقًا لا تقف عند لحظة الاستخدام السلطوي للجنجويد، بل تتجاوزها إلى لحظة التحوّل اليوم: حين بدأ هؤلاء الذين صُنِعوا في هوامش الدولة، يتجاوزون منطق التوظيف العسكري إلى التموضع السياسي. لقد بدأت هذه الجماعة، بفضل المواجهة الأخيرة مع العصابة الإنقاذية، في إدراك مكانتها خارج المركز، لا بوصفها أداة، بل كفاعل. وبهذا المعنى، تحوّل بعض أفرادها من مجرّد مرتزقة إلى ساعين – بصدق أو بمصلحة – إلى تحالفات ريفية جديدة، وإلى إعادة تشكيل معادلات السلطة. هنا تبرز المفارقة: فظاهرة الجنجويد التي ولدت في أحشاء الدولة السلطوية، قد تكون في طريقها إلى التحلل من تبعيتها القديمة، لتصبح فاعلًا ضمن صراع جديد حول الهوية الوطنية، والمواطنة، وتوزيع الموارد. وهذه مرحلة تتطلب قراءةً جديدة، لا تكتفي بالإدانة ولا تسقط في التبرير الواهي (المتمثل في عبارة "عرب الشتات")، بل تسعى لفهم الظاهرة في ضوء توازنات القوة الاجتماعية، وتركيبة الهوية، وخطاب المقاومة. ختاماً، إننا إذ نُعيد النظر في ظاهرة الجنجويد، مطالبون بتفكيكها لا كمجرد فئة مقاتلة، بل كمؤشر على أزمة الدولة السودانية في علاقتها بهوامشها، وعلى فشل المشروع الوطني في استيعاب التعدد والتنوع والتهميش. وإلا فإننا نخاطر بإعادة إنتاج ظواهر أكثر عنفًا، لا لأنها متأصلة في "ثقافتنا"، بل لأننا فشلنا في مواجهة بنيتنا السياسية نفسها. May 17, 2025

مثل النمل
مثل النمل

الوطن

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الوطن

مثل النمل

في طفولتي المشرقة كـ«لمبة» سقطت من سقف الحضارة، كنت أقضي وقتي في مراقبة النمل. أجل، النمل. ذاك الشعب الكادح بلا نقابات، بلا إضرابات، بلا خطب عصماء عن العدالة الاجتماعية. كنت أجثو كعملاق صغير يطل على كوكبٍ مُصغّر، أشاهد بأعجوبة كيف يسير هؤلاء العمال الصغار ذهابًا وإيابًا، كأنهم موظفو حكومة مصغّرة في يوم استلام الرواتب. لم يكن لديّ آنذاك ما يكفي من الفلسفة أو علم الاجتماع لأفهم فيروموناتهم أو تقسيم عملهم، ولكنني كنت مدفوعًا بفضولٍ لئيم. وفي لحظة من التجلي السادي، غرزت غصنًا في عشهم. فجأة، اختفى النظام الظاهري ليحلّ محلهُ فوضى منظمة ــ نعم، هناك ما يشبه الذعر، لكن دون صراخ، دون سبٍّ أو شماتة، فقط عمال يركضون ويصلحون، بترتيب أشبه بما يدّعيه وزراء الطوارئ في المؤتمرات الصحفية. كان درسًا مبكرًا في «السلوك تحت الضغط»، أو كما كان سيقول فوكو لو كان طفلًا في التسعينيات: «السلطة الحيوية تبدأ من الغصن». نعود الآن، بقفزة زمنية أنيقة، إلى باريس 1976. هناك، كان ميشيل فوكو يعاني أزمة هوية فكرية، يتنهد أمام طلابه في كوليج دو فرانس كما يتنهد الشاعر أمام بيتٍ لم يستقم وزنه. لكن، كما يحصل دائمًا مع الفلاسفة المتعبين، خرج من الأزمة بمفهوم قد يغيّر العالم: السياسة الحيوية. فوكو لم يكن من أنصار «السلطة كقمع»، بل رأى أن السلطة دخلت عقر دار الحياة، لا لتقتلنا، بل لترعانا بطريقة تشبه رعاية الشركات لموظفيها في اليوم الأخير من كل شهر. نحن، حسب فوكو، لم نعد مجرّد «حيوانات ناطقة» كما أراد أرسطو، بل «حيوانات قابلة للتنظيم والتعقّب والمساءلة والتلقيح الموسمي». هنا، دعونا نقفز ثانية، لكن هذه المرة إلى القرن الواحد والعشرين، حيث الحياة تبدو كحلقة طويلة من برنامج «الأخ الأكبر»، لكن بنكهة فوكوية. لقد أصبحنا، بفضل الأوبئة، نُحاصر في بيوتنا كما تُحاصر قطة مشاكسة في علبة كرتون. نتحرك وفق تعليمات دقيقة، نشتري ورق التواليت كأننا نستعد لحصار بيزنطة، ونتعقب بعضنا بعضًا عبر تطبيقات الهاتف بتواطؤ مدهش بين شركات الاتصالات والدولة. في هذا المشهد، تظهر السياسة الحيوية بأبهى حلّتها: السلطة لم تعد جلادًا يحمل سوطًا، بل نظامًا يرتدي بدلة أنيقة، يبتسم لك ويقول: «ابقَ في البيت من فضلك، وإلا...». تسأل: لماذا كل هذا؟ أقول لك: لأن العلاقة بين وعي المواطن وتدخل الدولة تشبه العلاقة بين طهو الأم ومطاعم الوجبات السريعة. كلما زاد الوعي، قلّت الحاجة إلى القوانين المطبوخة على عجل. كلما نضج حسّنا المدني، قلّت حاجة الدولة إلى سحبنا من آذاننا. كان فوكو يحب التنظيم أكثر من القوانين، وكان يرى أن الأنظمة تفضّل دفعك نحو السلوك المرغوب دون أن تجرّك من ياقة قميصك. السلطة الذكية لا تقول لك «افعل»، بل تخلق ظرفًا لا يمكنك فيه أن تفعل غير ما تريد هي. نعود للنمل نعم، النمل مرة أخرى. لم يكن هناك مرسوم نمل دستوري رقم 4 بشأن ترميم العش، ولا مجلس طوارئ أصدر تعليمات. كانت هناك فقط غريزة جمعية أقرب ما تكون إلى «الفطرة السياسية». وها نحن، على خلافهم، نحتاج إلى قانون لكي لا نحضن بعضنا البعض في عز الوباء، ونحتاج إلى لائحة وزارية كي لا نتجمهر أمام محل دونات مغلق. كما قال إيمانويل كانط: «التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي وضع نفسه فيها». لكن يبدو أن كثيرين منا استراحوا في هذا القصور، بل زيّنوه بستائر من إيكيا. الخلاصة؟ لو كنا أكثر قليلًا مثل النمل، وأقل كثيرًا مثل مذيعي نشرات الأخبار، لما احتجنا إلى دولة تذكرنا يوميًا بأن «الخروج من المنزل يعرضك للمساءلة» وربما، فقط ربما، كنا سننجو من الطوارئ دون أن نتحوّل إلى مجرّد خانات في جدول بيانات حكومي. فليكن شعارنا إذًا، كما كتب سارتر ذات مرة وهو لا يعلم أنه يخدم النمل من حيث لا يدري: «الوجود يسبق التنظيم، لكنه بحاجة إلى قليل من الحس السليم».

المعايدة بين صمت يتكلم وعتاب رقيق
المعايدة بين صمت يتكلم وعتاب رقيق

سعورس

time٣٠-٠٣-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • سعورس

المعايدة بين صمت يتكلم وعتاب رقيق

العيدُ فرحتُٰهُ عندي معايدَكم فعايدونا يَكُونُ العيدُ عيدانِ عيدُ اللقاءِ، وعيدُ الفطرِ يا أملي إنّ الُمعايدَ بالجوالِ مجاني مفهوم المعايدة لا يختلف كثيرًا عن مفهوم الهدية عند جاك دريدا في كتابة «الزمن المعطى: نقود. زائفة» Given time: counterfeit money (1992). إذ يرى أن الهدية عبارة عن «اقتصاد رمزي» – كالحب، الاحترام، والاعتراف. فالهدية كما هو متعارف عليه هي «عطاء مجاني لا يُنتظر منه مقابل» كقولنا «عطيّة ما وراها جزيّة». فالهدية بمنظور دريدا، لا يفترض أن يتم تعريفها، أو ردها، أو أن يشعر بها أحد – حتى مستلم الهدية نفسه. فهو يرى ان الهدية تلوثها فكرة «الرد» أو «المقابل». إذ أن هناك دائمًا «تأجيل»، أو «انتظار»، أو «توقع». فإذا قسنا ذلك على «المعايدة»، نجد أنها ليست مجرد تبادل كلمات أو هدايا، بل تبادل مواقع اجتماعيّة، وتذكير ضمني بالمكانة. فهي إعلان عن الحضور المشترك؛ وهي شكل من أشكال السلطة الرمزية – كما يحلل ميشيل فوكو الخطاب – تمارس عبر اللغة، الإيماءة، والانتظار. فهي خطاب خفي، لا يفرض بالقوة، بل يُطلب بالرغبة، ويُمنح تحت غطاء المحبة. فالقول إن «العيدُ فرحتهُ عندي معايدكم» يثير تساؤلات: هل العيد فرحته ذاتية؟ أم أنه رهين لفعل الآخرين؟ إذ أننا في ذلك نُعلن عن انتظار! ف «توقيت المعايدة»، و«صيغتها»، و «من بدأ أولًا»، كلها تُقرأ كرموز لخطاب متشابك. تأخرت! إذًا «لست مهتم»، لم تعايد العام الماضي! «سأردها لك هذا العام»، اكتفيت برسالة جماعية! إذًا «لست ضمن شبكة العلاقات الخاصة». فالمعايدة تفكك ذاتها «كعتاب رقيق» كلما قيلت، و«كصمت يتكلم» كلما غابت. فالصمتُ لم يعد حيادًا، بل بيانًا ضمنيًا. فهي ليست هامشًا. فهي عبارة عن أداة ناعمة لممارسة المكانة والاعتراف أو التهميش والإقصاء. فغياب المعايدة نفيًا للاعتراف. ف «فعايدونا» يكونُ العيدُ «عيدانِ»... «عيدُ اللقاءِ» و «عيدُ الفطرِ» يا «أملي» هي كلمات تطلبُ اعترافًا يكون على أثره فعل. في مقاله، «Speech act» (1970) جون سيلر يجادل بإن القول نفسه فعلًا. أي أن الكلمات لا تصف الواقع فقط، بل تُنتج أثرًا فيه. على سبيل المثال، عندما نقول «أحبك»، فنحن لا نصف شعورًا فقط، بل نمارس اعترافًا، لبناء علاقة تمنح الآخر مكانة. هنا نتساءل: هل المعايدة المطلوبة: كلمة، أم رسالة، أم مكالمة، أم لقاء؟ هل يُقصد بها من نحب فقط، أم كل من حولنا؟ هل نريد رسالة شخصية للمعايدة أم تهنئة جماعية؟ هل نطلبها كواجب اجتماعي أم كعاطفة حقيقية؟ فكلمة «كل عام وأنتم بخير» قد تكون بسيطة. لكن، قد تحمل أثرًا مزدوجًا: إعلان محبة، أو إصلاح علاقة قد انكسرت، أو تذكير بواجب. ففي الفضاء الرقمي، الصمت لم يعد عدم قول، بل قولٌ من نوع آخر. هو إعلان: «أنا لا أعايدك». فالمعايدة هي أثر لحضور سابق، أو عتاب مؤجل. فقولنا «إن التواصل بالجوال مجاني»، تحمل في طياتها دلالة غير مباشرة؛ بمعنى أنه لا توجد تكاليف للتواصل، إذًا لا عذر للغياب. فالجوال على أنه أداة يُفترض أنها تُقرب المسافات، أصبحت أداة تكشف الغياب أكثر مما تخلق الحضور. ففي منظور دريدا في الأثر (Trace) أن هذا الغياب له «أثر» في النفس. فرسالة العيد ليست مجرد تحية؛ بل تحمل في طياتها تاريخ العلاقة: هل كنت تعايدني في السابق؟ هل أعايدك الآن لكي نصلح ما انكسر؟ ففي كتابة «حُمى الأرشيف» «Archive Fever» (1996)، يرى دريدا أن هناك رغبة محمومة في حفظ كل شيء وتسجيل كل شيء. فنجد أن المعايدة تتحول الى أرشيف، لأنها مكتوبة. إنها رغبتنا في تخليد أثرنا، حتى لو كان عابرًا. إنها تؤرشفنا في ذاكرة الآخر بوصفنا حاضرين، محبين، أو على الأقل مهتمين. إنها رغبتنا في علاقة لا تنكسر.

المعايدة بين صمت يتكلم وعتاب رقيق
المعايدة بين صمت يتكلم وعتاب رقيق

الوطن

time٢٩-٠٣-٢٠٢٥

  • ترفيه
  • الوطن

المعايدة بين صمت يتكلم وعتاب رقيق

العيــــدُ فرحتُــٰهُ عندي معايــــدَكم فعايدونا يَكُونُ العيدُ عيدانِ عيدُ اللقاءِ، وعيدُ الفطرِ يا أملي إنّ الُمعايدَ بالجوالِ مجـــاني مفهوم المعايدة لا يختلف كثيرًا عن مفهوم الهدية عند جاك دريدا في كتابة «الزمن المعطى: نقود. زائفة» Given time: counterfeit money (1992). إذ يرى أن الهدية عبارة عن «اقتصاد رمزي» – كالحب، الاحترام، والاعتراف. فالهدية كما هو متعارف عليه هي «عطاء مجاني لا يُنتظر منه مقابل» كقولنا «عطيّة ما وراها جزيّة». فالهدية بمنظور دريدا، لا يفترض أن يتم تعريفها، أو ردها، أو أن يشعر بها أحد – حتى مستلم الهدية نفسه. فهو يرى ان الهدية تلوثها فكرة «الرد» أو «المقابل». إذ أن هناك دائمًا «تأجيل»، أو «انتظار»، أو «توقع». فإذا قسنا ذلك على «المعايدة»، نجد أنها ليست مجرد تبادل كلمات أو هدايا، بل تبادل مواقع اجتماعيّة، وتذكير ضمني بالمكانة. فهي إعلان عن الحضور المشترك؛ وهي شكل من أشكال السلطة الرمزية – كما يحلل ميشيل فوكو الخطاب – تمارس عبر اللغة، الإيماءة، والانتظار. فهي خطاب خفي، لا يفرض بالقوة، بل يُطلب بالرغبة، ويُمنح تحت غطاء المحبة. فالقول إن «العيدُ فرحتهُ عندي معايدكم» يثير تساؤلات: هل العيد فرحته ذاتية؟ أم أنه رهين لفعل الآخرين؟ إذ أننا في ذلك نُعلن عن انتظار! فـ «توقيت المعايدة»، و«صيغتها»، و «من بدأ أولًا»، كلها تُقرأ كرموز لخطاب متشابك. تأخرت! إذًا «لست مهتم»، لم تعايد العام الماضي! «سأردها لك هذا العام»، اكتفيت برسالة جماعية! إذًا «لست ضمن شبكة العلاقات الخاصة». فالمعايدة تفكك ذاتها «كعتاب رقيق» كلما قيلت، و«كصمت يتكلم» كلما غابت. فالصمتُ لم يعد حيادًا، بل بيانًا ضمنيًا. فهي ليست هامشًا. فهي عبارة عن أداة ناعمة لممارسة المكانة والاعتراف أو التهميش والإقصاء. فغياب المعايدة نفيًا للاعتراف. فــ «فعايدونا» يكونُ العيدُ «عيدانِ»... «عيدُ اللقاءِ» و «عيدُ الفطرِ» يا «أملي» هي كلمات تطلبُ اعترافًا يكون على أثره فعل. في مقاله، «Speech act» (1970) جون سيلر يجادل بإن القول نفسه فعلًا. أي أن الكلمات لا تصف الواقع فقط، بل تُنتج أثرًا فيه. على سبيل المثال، عندما نقول «أحبك»، فنحن لا نصف شعورًا فقط، بل نمارس اعترافًا، لبناء علاقة تمنح الآخر مكانة. هنا نتساءل: هل المعايدة المطلوبة: كلمة، أم رسالة، أم مكالمة، أم لقاء؟ هل يُقصد بها من نحب فقط، أم كل من حولنا؟ هل نريد رسالة شخصية للمعايدة أم تهنئة جماعية؟ هل نطلبها كواجب اجتماعي أم كعاطفة حقيقية؟ فكلمة «كل عام وأنتم بخير» قد تكون بسيطة. لكن، قد تحمل أثرًا مزدوجًا: إعلان محبة، أو إصلاح علاقة قد انكسرت، أو تذكير بواجب. ففي الفضاء الرقمي، الصمت لم يعد عدم قول، بل قولٌ من نوع آخر. هو إعلان: «أنا لا أعايدك». فالمعايدة هي أثر لحضور سابق، أو عتاب مؤجل. فقولنا «إن التواصل بالجوال مجاني»، تحمل في طياتها دلالة غير مباشرة؛ بمعنى أنه لا توجد تكاليف للتواصل، إذًا لا عذر للغياب. فالجوال على أنه أداة يُفترض أنها تُقرب المسافات، أصبحت أداة تكشف الغياب أكثر مما تخلق الحضور. ففي منظور دريدا في الأثر (Trace) أن هذا الغياب له «أثر» في النفس. فرسالة العيد ليست مجرد تحية؛ بل تحمل في طياتها تاريخ العلاقة: هل كنت تعايدني في السابق؟ هل أعايدك الآن لكي نصلح ما انكسر؟ ففي كتابة «حُمى الأرشيف» «Archive Fever» (1996)، يرى دريدا أن هناك رغبة محمومة في حفظ كل شيء وتسجيل كل شيء. فنجد أن المعايدة تتحول الى أرشيف، لأنها مكتوبة. إنها رغبتنا في تخليد أثرنا، حتى لو كان عابرًا. إنها تؤرشفنا في ذاكرة الآخر بوصفنا حاضرين، محبين، أو على الأقل مهتمين. إنها رغبتنا في علاقة لا تنكسر.

"التأويليّات والماهيّة" لمجموعة من الباحثين .. دعوة للانخراط المعرفيّ بماهيّة الإنسان
"التأويليّات والماهيّة" لمجموعة من الباحثين .. دعوة للانخراط المعرفيّ بماهيّة الإنسان

الدستور

time١٨-٠٣-٢٠٢٥

  • سياسة
  • الدستور

"التأويليّات والماهيّة" لمجموعة من الباحثين .. دعوة للانخراط المعرفيّ بماهيّة الإنسان

عمّان – الدستور – عمر أبو الهيجاء يمثّل كتاب "التأويليّات والماهيّة.. راهنيّة التأويليّة كإبدال معرفيّ لفهم الماهيّة" دعوة للانخراط في السؤال الابستمولوجي المتعلق بماهيّة الإنسان، من خلال مساءلتها من منظور التأويليات، التي تمثّل إبدالاً معرفياً مهماً، وقادراً على إنتاج حفريات معرفية من شأنها أن تُلامِس وجود الإنسان من حيث امتداده الديني والفلسفي والأنثربولوجي والجمالي والأدبي.. إلخ. ساهم في الكتاب الصادر حديثا عن "الآن ناشرون وموزعون" مجموعة من الباحثين، الذين قدموا أوراقًا بحثية رصينة وعميقة، وذلك من زوايا نظر متقاطعة ومنفصلة في الآن نفسه. انقسمت الأبحاث إلى عدة محاور؛ اهتمّ الأول أساساً بمساءلة تأويليةِ ماهية الإنسان ووجوده من منظور فلسفي (مشيل فوكو، غادامير)، وعمل الثاني على مساءلتها من زاوية دينية؛ غربياً (جون غرايش) وعربياً (صدر الدين الشيرازي)، وناقش الثالث ماهية الإنسان من منظور أنثربولوجي (كليفورد جيرتز)، ونظر المحور الرابع إليها في بعدها السيكولوجي (وليام جيمس)، أما المحور الخامس فقد قاربها من منطلق أدبي وفني-جمالي، بينما استشفّها المحور السادس من زاوية بلاغية. كما يتضمّن الكتاب الذي جاء في 312 صفحة، وأشرف على إعداد الباحث المغربي د.عزيز أوسو، دعوة للوعيَ بأهمية التسانُد القائم بين مختلِف المشارب المعرفية المهتمّة باستكناه ماهية الإنسان بوصفها مَشَّاءة؛ أي كونها تنبني على الدينيامية والتحوُّل المتجدِّدين والمستمرّين. والكتاب، وفق ما يشير إليه أوسو، هو امتداد لكتاب جماعي حمل عنوان «النص والتأويل: أَسْئِلَةُ تَشَكُّلِ المْعْنَى وَمُخرَجَاتُ تَأوِيلِهِ»، صدر عن سنة 2023. وفي تقديمه للكتاب يشير أوسو إلى أن "الإمساك بمفهوم الماهية أمر مستحيل؛ لأنها لا تتأسَّسُ على الثبات والجمود، بل على التعدد والاختلاف، وهذا ما يجعلها تستدعي براديغما مغايراً من شأنه أن يُسيِّج، على الأقل، بعض تمظهراتها وتجلياتها التي تتباين بتباين الأزمنة والأمكنة". ويضيف: "حسبنا أن التأويليات يمكِنُها أن تقبض على هذا الرهان الابستمولوجي؛ على اعتبار أن المعرفة التأويلية التي نكوِّنها عن الذات أثناء تفاعلها مع الكلمات والأشياء بتعبير مشيل فوكو، تمنحنا إمكانية فهم ماهيتنا، وتسييج تجلياتها المتعددة، التي تنفتح عادة على قيمة الإنسان الوجودية". والتأويليات، من منظور معدّ الكتاب، يمكنها أن تزوِّد الإنسان بمختلِف الميكانيزمات التي يعمِّق بها وعيه وسط العملية التفاعلية مع مكونات عوالمه الداخلية والخارجية؛ لأن اتخاذ التأويليات كمقاربة للفهم والإدراك، يمكنه أن يساعد على تجاوز المعطيات المسلَّم بها، والسير نحو استكناه المعطيات المسكوت عنها، سواء تعلق الأمر بما هو مادي أو معنوي. وما دام أن ماهية الإنسان تقتضي بيان سمات كينونته، فإن المعرفة التأويلية للماهية تسنح بتفكيك المقولات التي ترتكز عليها كينونة الإنسان، بل إنها تمدُّنا بآليات هَدمِها، وإعادة بنائها وتشييدها من جديد. ضم الكتاب مجموعة من البحوث على غرار: "تأويلية ميشيل فوكو لماهية الذات الأخلاقية/ من التذويت إلى التوضيع"، (د.عمر التاور)، و"ماهية الإنسان وسؤال الفهم في التأويلية الفلسفية" (د.زوهير بورحى)، "التأويليَّة الفلسفيَّة لهانز جورج غادامير/ مدخل لفهم ماهيَّة الإنسان وتمتين علاقته بالعالم" (د.جمال العزاوي). ومن بحوث الكتاب أيضا: "التأويليات والبعد الديني لدى الإنسان/ وليام جيمس أنموذجاً" (د.عبد الرفيع العمارتي)، "الاعتقاد الديني والرهان الهرمينوطيقي/ جان غريش نموذجاً" (د.بشرى عثماني، د.مولاي رشيد بن السّيد)، "الإنسان بوصفه عالما/ دراسة في تأويلية الإنسان لدى الملا صدر الدين الشيرازي" (د.جعفر لعزيز). ونقرأ في الكتاب أيضا البحوث الآتية: "التأويل الرمزي وسيماء التدين المغربي/ نموذج كليفورد غيرتز" (د.إبراهيم الهيباوي)، "التأويل والتفسير في القرآن وسؤال الماهية" (د.صابر مولاي أحمد)، "الخطاب القرآني والإجراء البلاغية/ الصيغ المجازية والضرورة التأويلية" (د.مصطفى الغرافي)، "ماهية الأدب في النظرية التأويلية الجديدة" (د.محمد بازي)، "تأويلية الفنون التشكيلية عند هانس جورج غادامير" (د.زكرياء صديقي)، "حروب التأويل: من سلطة التأويل إلى تأويل السلطة" (د.حسن الخطيبي)، "التأويل: من الماهية إلى اللانهائية" (د.عبد الواحد أعمراني). يذكر أن عزيز أوسو باحث مغربي، عمل رئيس مركز مطارحات للمدارسة والمباحثة والتكوين؛ باحث في البلاغة وتأويليات الخطاب؛ منسق مجموعة من الكتب الجماعية في مجال تحليل الخطاب وعلوم التربية ومناهج التدريس؛ مشرف على مجموعة من الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية؛ مساهم في تأليف كتب جماعية محكمة؛ مشارك في ندوات ومؤتمرات وطنية ودولية؛ نشر أكثر من عشرين مقالا في مجلات علمية محكّمة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store