أحدث الأخبار مع #والنيوديميوم،


١٧-٠٤-٢٠٢٥
- علوم
هل تحوّل القطب الشمالي إلى مركز العالم؟
فريدريك كوك وروبرت بيري للوصول أولًا إلى القطب الشمالي. كان التنافس بينهما محتدمًا دون أي تعاون: لكل منهما رحلته المنفصلة، يتحدى العواصف الشديدة والشقوق الخطيرة في الجليد، مصممًا على أن يكون الأول في الوصول. في هذا التنافس الشرس نحو المجد القطبي، هل تصوّرا أن هذه المنطقة النائية، التي حاربا من أجلها، ستصبح يومًا مسرحًا للصراعات الجيوسياسية العالمية؟ لقد كانت، لعقود طويلة، مجرد حيز مهمل على خرائط العالم، لكنها باتت اليوم مفترق طرق تتصارع فيه الأزمات المناخية مثل ذوبان الجليد، والمصالح الاقتصادية كالطرق البحرية الجديدة، والتنافسات الجيوسياسية. إن وضع القطب الشمالي في قلب الخرائط العالمية، وخاصة الخرائط الجيوسياسية للقرن الحادي والعشرين، لم يعد خيارًا، بل ضرورة حتمية لفهم التحولات الكبرى التي تعيد صياغة مستقبل كوكبنا. فلم يعد القطب الشمالي مجرد نقطة بعيدة في صلب التوازنات العالمية، بل قلب نابض يُعيد تشكيل مستقبل عالمنا. هذه الأرض المتجمدة تجمع بين أزماتنا البيئية، طموحاتنا الاقتصادية، صراعاتنا السياسية، وأصوات شعوب تُقاتل من أجل بقائها. دعونا نغوص في هذا العالم الجليدي لنرى كيف أصبح مركزًا لعالمنا المعاصر. ساعة الأرض المناخية بينما تتسارع وتيرة التغيرات في القطب الشمالي، تظهر هذه المنطقة كمرآة لمستقبل عالمنا. درجات الحرارة هنا ترتفع بثلاث إلى أربع مرات أسرع من المتوسط العالمي، في ظاهرة تُعرف بـ"التضخيم القطبي"، حسب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. الجليد البحري يذوب بمعدل مذهل، بخسارة 13% من الغطاء الجليدي كل عقد منذ السبعينيات، حسب البيانات. هذا الذوبان لا يُهدد الحياة البرية فحسب، بل يُرسل تحذيرات عاجلة إلى البشرية جمعاء، داعية إلى التحرك قبل فوات الأوان. مع ذوبان أنهار جرينلاند الجليدية، يرتفع منسوب البحار، مهددًا مدنًا مثل الإسكندرية وميامي بالغرق، وقد يصل الارتفاع إلى متر بحلول نهاية القرن. في الوقت نفسه، يُعكر تدفق المياه العذبة من الجليد التيارات المحيطية، مثل "تيار الخليج"، مما قد يُحدث تقلبات مناخية في أوروبا وأمريكا. وفي سيبيريا وألاسكا، تُطلق التربة الصقيعية الذائبة الميثان، غازًا دفيئًا يفوق ثاني أكسيد الكربون قوة بعشرات المرات على المدى القصير، مُسرعًا التدهور المناخي، ومُلقيًا بظلال التحدي على مستقبل البشرية. لكن القطب الشمالي ليس مجرد ضحية. إنه منظم حيوي للمناخ العالمي، وتدهوره يُهدد بإعادة رسم أنماط الطقس، مُسببًا تقلبات مثل الجفاف أو العواصف عبر القارات. إذا جعلناه محور رؤيتنا، نُدرك أن إنقاذه ليس خيارًا إقليميًا، بل ضرورة عالمية ملحة تتطلب تضافر الجهود الآن للحفاظ على توازن الأرض الهش. إلدورادو الرقمي ومع ذوبان الجليد، تُظهر الأرض المتجمدة كنوزًا تُغري العالم. ليست الثروة هنا مقتصرة على النفط والغاز، بل تمتد إلى معادن نادرة تُمثل عصب المستقبل. تقديرات المسح الجيولوجي الأمريكي تُشير إلى أن القطب الشمالي يحتوي على 30% من احتياطيات الغاز الطبيعي غير المستغلة عالميًا، و13% من النفط. لكن الجوهرة الحقيقية هي الليثيوم، الكوبالت، النيكل، والنيوديميوم، التي تُشكل أساس البطاريات الكهربائية والتقنيات الخضراء. هذه المعادن تُحيي العصر الرقمي. الليثيوم والكوبالت يُشغلان البطاريات التي تدير مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، من الخوادم إلى السيارات الكهربائية. النيوديميوم يدخل في مغناطيسات الروبوتات وتوربينات الرياح، بينما يدعم النيكل الحوسبة فائقة الأداء. من سيبيريا إلى جرينلاند، يتحول القطب الشمالي إلى منجم للغد، حيث تُصنع أحلام القرن الجديد وتتشكل تحدياته. لكن هذا الكنز يأتي بتحديات. استخراج الموارد في بيئة قاسية مكلف ومعقد، والتعدين، بآثاره البيئية، يُفاقم ذوبان الجليد، مُهددًا المنطقة ذاتها. الدول تُدرك هذه المعادلة الصعبة، فتُسارع لتأمين حصتها. روسيا تُوسع مشاريعها مثل "يامال LNG"، وكندا والنرويج تُراهنان على مواردهما، بينما تُكثف الصين، التي تُعلن نفسها "دولة شبه قطبية" رغم بعدها الجغرافي، استثماراتها في مناجم جرينلاند وسيبيريا، تسعى إلى السيطرة على سلسلة التوريد الرقمية. هكذا يُصبح القطب الشمالي إلدورادو العصر الجديد، حيث تتشابك الطموحات مع المخاطر في رقصة محفوفة بالتحديات. ساحة التنافس الجيوسياسي ومن الثروات التي تُغري الدول إلى الاستراتيجيات التي تُشكل العالم، يتحول القطب الشمالي إلى مسرح للتنافس العالمي. ذوبان الجليد فتح آفاقًا جديدة، لا سيما طرقًا ملاحية تُغير قواعد التجارة. الطريق البحري الشمالي عبر روسيا يختصر المسافة بين آسيا وأوروبا بآلاف الكيلومترات، بينما يُقدم الممر الشمالي الغربي في كندا بديلًا واعدًا. هذه الممرات ليست مجرد مسارات، بل شرايين اقتصادية تُعيد رسم توازنات القوة في عالم تتصارع فيه الدول على النفوذ. روسيا، التي تسيطر على نصف الساحل القطبي، تُعزز وجودها العسكري بقواعد ومناورات، مُظهرة تصميمها على الهيمنة، بينما تُكثف الولايات المتحدة حضورها في ألاسكا، مُدركة أن الأمن القومي يمر من هنا. في الوقت نفسه، تُراهن الصين، بعيدة جغرافيًا لكن طموحة، على نفوذ اقتصادي عبر مبادرة "طريق الحرير القطبي". كندا والنرويج والدنمارك تُنافس بدورها، مع نزاعات حدودية حول مناطق غنية مثل الجرف القطبي أو الدورسال القطبي. في هذا المسرح القطبي، تُشكل كل خطوة من هذه الدول فصلًا جديدًا في صراع النفوذ العالمي. في قلب هذا التنـافس، يكشف مضيق بيرينغ عن مفارقة جغرافية وسياسية. هذا الممر، الذي يفصل روسيا عن أمريكا بـ85 كيلومترًا فقط ويُشكل بوابة للطرق الملاحية القطبية، يُبرز أن القرب الجغرافي قد يجمع قوتين متنافستين حيث تتلاقى مصالحهما. هذا القرب يُجبر روسيا والولايات المتحدة على التفكير في مصير مشترك، بين احتمال تعاون هش أو تصادم محتوم. ومن هنا، تبرز أهمية إطار للحوار. منصة مثل مجلس القطب الشمالي تجمع الدول القطبية كروسيا، أمريكا، كندا، والنرويج، إلى جانب مراقبين مثل الصين، لمناقشة مصير المنطقة. لكن هذه المنصة تواجه تحديات بسبب التوترات الدولية، مثل الخلافات الحدودية أو العقوبات الاقتصادية، مما يجعلها بحاجة إلى دعم أوسع. القطب الشمالي، باختصار، ليس مجرد ساحة تنافس، بل نقطة تلاقٍ قد تُحدد ما إذا كان العالم القادم سيقوم على الصراع أو التعاون. صوت الحراس الصامتين ومع تركيز العالم على الثروات والاستراتيجيات، يبقى هناك صوت لا يُسمع دائمًا: صوت السكان الأصليين. يعيش حوالي 4 ملايين شخص في المنطقة القطبية، منهم 10% من الإنويت، السامي، وشعوب سيبيريا. هؤلاء يواجهون تهديدات مباشرة: ذوبان الجليد يُغرق قراهم، وتغير النظم البيئية يُقلل من مواردهم مثل الصيد. مشاريع التعدين تُهدد أراضيهم التقليدية، غالبًا دون استشارتهم. لكنهم ليسوا مجرد متفرجين. في نونافوت الكندية، يُحول الإنويت معرفتهم إلى فرص، مُطورين السياحة البيئية ومُديرين محميات طبيعية. السامي في الدول الاسكندنافية يُطالبون بحقوق أكبر في إدارة الموارد. هذه الشعوب تُحمل حكمة بيئية عميقة، تجعلهم شركاء لا غنى عنهم في حماية القطب الشمالي. إشراكهم ليس عدالة فحسب، بل ضرورة لضمان استدامة أي خطة مستقبلية. مختبر للتعاون العالمي ومن هذه الأصوات إلى الصورة الأوسع، يظهر القطب الشمالي كمختبر لمستقبل العالم. إنه يُجسد تناقضات عصرنا: ثروة هائلة مقابل هشاشة بيئية، تنافس سياسي مقابل حاجة ملحة للتعاون. القرب بين روسيا وأمريكا، طموح الصين كـ"دولة شبه قطبية"، وقلق أوروبا على استقرارها، كلها تتلاقى في هذه النقطة المتجمدة. هنا يُمكن أن يُصبح القطب الشمالي نموذجًا للتعاون. المبادرات العلمية المشتركة، مثل المحطات القطبية، تُثبت أن الدول تستطيع العمل معًا. لكن الطمع الاقتصادي والتوترات السياسية تُهددان هذا الأمل، مُحولة المنطقة إلى ساحة صراع محتملة إذا لم تُدار بحكمة. قلب العالم المشترك القطب الشمالي ليس مجرد مساحة متجمدة، بل ضمير الكوكب الحي؛ مرآةٌ تعكس تحدياتنا الوجودية وطموحاتنا المتضاربة. هنا، تُختزل معضلات العصر: ففي أعماقه تُغذي المعادن ثورة التكنولوجيا، وعلى سطحه ينكشف جرح المناخ بذوبانٍ لا يرحم. هنا أيضًا تتصادم مصالح القوى العظمى، بينما تُنادي الشعوب الأصلية، حراس التوازن المنسيون، بضرورة إعادة النظر في علاقتنا بالأرض. فلماذا لا نجرؤ على رؤية أوسع؟ ماذا لو تحوَّلت منصة الحوار القطبي (Arctic Council) من نادٍ مغلق إلى برلمان إنساني مفتوح؟ حيث تُشارك دول الجنوب — وحتى تلك البعيدة جغرافيًا مثل الهند وإسبانيا اللتان تمتلكان بالفعل صفة مراقب — ليس كضيوف هامشيين، بل كأطراف فاعلة في صياغة سياسات القطب الشمالي. هذا التحوُّل سيثبت أن الحوكمة العالمية قادرة على تجاوز منطق 'الأحقية الجغرافية' لتبني منطق 'المسؤولية المشتركة' .هذا ليس حلمًا رومانسيًا، بل ضرورة استراتيجية: فحماية القطب تتطلب إرادة جماعية، قبل أن يتحول إلى ساحة حرب باردة جديدة. الخيار بين يدي البشرية الآن: • إما أن نصنع منه رمزًا للوحدة، حيث تُترجم العلوم والسياسات إلى عمل مشترك، • أو نترك جشع التنافس يُذيب آخر بصيص أمل. الرياح القطبية لا تزال تهمس... فهل من مُصغٍ؟


الجزيرة
١٠-٠٣-٢٠٢٥
- أعمال
- الجزيرة
كنز ترامب الثمين.. غرينلاند في قلب النقاش الداخلي والعالمي
باريس- بالتزامن مع موعد الانتخابات التشريعية في غرينلاند ، أصبحت هذه الجزيرة القطبية الشمالية تحتل عناوين الأخبار في كل أنحاء العالم في الفترة الأخيرة منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اهتمامه الجاد والصريح بشراء المنطقة شبه المستقلة عن الدانمارك وإقليم ما وراء البحار التابع ل لاتحاد الأوروبي. وبفضل موقعها الإستراتيجي ومواردها الطبيعية النادرة، تجذب هذه الجزيرة أطماع أقوى الدول مثل روسيا و الصين ، وتدفع بترامب إلى تعزيز طموحاته إلى أقصى الحدود للانتصار في اللعبة الجيوسياسية العالمية ووضع حد لخصومه في منطقة القطب الشمالي ككل. ومع استمرار الطبقة السياسية الغرينلاندية في رفض تهديدات الرئيس الأميركي ومطالباتهم بالتحرر من ماضي الدانمارك الاستعماري، لا تزال علامات الاستفهام مشروعة بشأن مستقبل الجزيرة الأكبر في العالم وتحاول الإجابة عما إذا كانت الولايات المتحدة تمتلك فعلا الحق في جعلها الولاية الأميركية رقم 51. كنز ثمين ولا تعتبر هذه المرة الأولى التي يعرب فيها ترامب عن رغبته في شراء غرينلاند، ففي عام 2019 وصفت رئيسة الوزراء الدانماركية ميت فريدريكسن تصريحاته حول عرضه شراء الجزيرة بـ"السخيفة"، مؤكدة أنها ليست للبيع. واقتصرت ردة فعله آنذاك بإلغاء زيارته المخطط لها إلى المملكة. وفي عهد الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان ، عرضت واشنطن على الدانمارك 100 مليون دولار من الذهب مقابل الجزيرة، حيث اعتبرتها أصلا إستراتيجيا بالغ الأهمية خلال الحرب الباردة. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض ، عادت معه آماله بامتلاك هذه الجزيرة لتميزها بموارد طبيعية وفيرة، بما في ذلك الماس والذهب والحديد والزنك، والعناصر الأرضية النادرة مثل البراسيوديميوم والنيوديميوم، فضلا عن النفط واليورانيوم. وعلى الرغم من وجود حظر على استخراج هذه الثروات لأسباب بيئية، إلا أن الاحتباس الحراري العالمي، الذي ينتج عنه ذوبان الأنهار الجليدية، يضاعف من أهميتها الجيوسياسية ويؤدي إلى فتح ممرات الشحن في شمال الأطلسي، ما يعني إنشاء أقصر طريق من أميركا الشمالية إلى أوروبا وتقليل وقت السفر التجاري البحري. وتقدر قيمة المواد الخام الحيوية الموجودة تحت الصفائح الجليدية في غرينلاند وفي قاع بحر المحيط بما لا يقل عن 2.54 تريليون دولار، وهو ما يزيد على الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، بحسب تقرير نشرته الصحيفة الوطنية السويدية داغينز نيهيت. وعند التعمق أكثر في المعلومات المتوفرة بشأن غرينلاند، فلن يكون من المستغرب أن يكون ترامب مهتما بهذه الجزيرة، التي يزيد حجمها قليلا على 3 أضعاف مساحة ولاية تكساس الأميركية، إذ تحتوي احتياطاتها من الغاز الطبيعي والنفط على نحو 31 مليار برميل، وفقا لتقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية. نقاش سياسي وبعد ساعات فقط من إعلان ترامب نيته السيطرة على الجزيرة "بطريقة أو بأخرى" في خطابه أمام جلسة مشتركة ل لكونغرس ، رد عليه رئيس وزراء غرينلاند ميوتي إيغيدي مستخدما الاسم الغرينلاندي لبلاده "كالاليت نونات ملك لنا". وأضاف إيغيدي: "لا نريد أن نكون أميركيين ولا دانماركيين؛ نحن كالاليت. يجب على الأميركيين وزعيمهم أن يفهموا ذلك. نحن لسنا للبيع ولا يمكن الاستيلاء علينا ببساطة. سوف نقرر مستقبلنا في غرينلاند". من جانبه، قال زعيم حزب السيوموت الاشتراكي إريك جينسن إنه يتوقع أن يتم عقد تصويت وطني على الاستقلال عن الدانمارك الشهر المقبل، أي بعد الانتخابات التشريعية التي ستعقد غدا الثلاثاء، من دون أن يحدد موعدا معينا. وفي سياق متصل، أوضحت المتحدثة السياسية للحزب دوريس جينسن، الخميس الماضي، أن السيوموت الشريك في الائتلاف الحكومي المكون من حزبين في غرينلاند يخطط للجوء إلى جزء من قانون عام 2009 الذي منح الجزيرة مزيدا من الحكم الذاتي، حتى تتمكن من التفاوض على مستقبلها وعلى استقلالها الكامل. وتتفق الأحزاب الخمسة الأكبر في البرلمان على رفض ضم غرينلاند إلى الولايات المتحدة. كما كشف استطلاع للرأي نُشر الأسبوع الماضي أن 85% من سكان الجزيرة يعارضون بشدة رغبة ترامب ويعتبرونه تهديدا لهم. وللإجابة عن سؤال "هل يستطيع ترامب شراء غرينلاند؟"، لا يعتبر ذلك ممكنا بموجب مبدأ تقرير المصير وفق القانون الدولي. بالإضافة إلى ذلك، من المستبعد جدا أن يكرر ترامب ما فعله أسلافه ويشتري جزءا كبيرا من الأراضي من قوة أوروبية في العالم الجديد لأن ذلك لا يتماشى مع المعايير القانونية الدولية الحالية. يُذكر أنه في عام 1867، اشترت الولايات المتحدة ألاسكا من روسيا في فترة رئاسة أندرو جونسون. كما حصل الرئيس الأميركي توماس جيفرسون على لويزيانا من الفرنسيين في عام 1803. سيادة عسكرية لكن التركيز الحالي على مسألة تقرير المصير في الجزيرة وتحليل السياسات التي تتبعها واشنطن وكوبنهاغن قد يكون الهدف منها تسليط الضوء على أهمية القرارات الأمنية التي تتمتع بها الجزيرة ويمكن "بيعها" أو "التفاوض عليها" في حالة دخول "غرينلاند المستقلة" كطرف محوري في ميثاق الارتباط الحر. وقد سعى الساسة في غرينلاند إلى السيادة المدعومة بهذا الميثاق، لكنهم فضلوا في الوقت ذاته تكوينها مع الدانمارك بدلا من الولايات المتحدة. واستمرت حكومة غرينلاند في الاستجابة إلى الاحتياجات الأمنية الأميركية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقمع الصيني لشعوب التبت و شنغيانغ الأصلية والتهديد الروسي في أوكرانيا. وبغض النظر عن كل ما سبق حول الفوائد المتعلقة بالموارد الطبيعية والمطامع الاقتصادية قصيرة وطويلة المدى، تقع غرينلاند ضمن رادار واشنطن الأمني والعسكري. وترتبط الجزيرة القطبية الشمالية تاريخيا بمصالح الولايات المتحدة الأمنية منذ عقود طويلة. فخلال الحرب العالمية الثانية وبعد احتلال ألمانيا النازية للدانمارك، قامت واشنطن بغزو غرينلاند ونشرت محطات إذاعية وعسكرية في كل مناطقها. وحتى بعد انتهاء الحرب، أبقت القوات الأميركية على قاعدة بيتوفيك الفضائية المعروفة سابقا باسم قاعدة ثولي الجوية، والتي تقوم حاليا بمسح المجال الجوي والفضاء بحثا عن الصواريخ والأقمار الصناعية الصينية والروسية. ومنذ عام 1951، اتفقت واشنطن وكوبنهاغن على لعب دور محوري في الدفاع عن الإقليم وصيانة وبناء القواعد العسكرية، وهو ما يؤكد مكانة غرينلاند في ضمان أمن القطب الشمالي. وبالإضافة إلى هذه الاتفاقية التي تضفي نوعا من السيادة العسكرية الأميركية على غرينلاند، جعلت السلطات في الدانمارك وغرينلاند محاولات الصين لإنشاء بنيات تحتية والاستثمار في الجزيرة تتبخر في عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن والحالي ترامب.


المنار
٠٨-٠٣-٢٠٢٥
- علوم
- المنار
المعادن النادرة.. كيف يبني ترامب إمبراطوريته؟
أحمد فرحات مع تسارع وتيرة الثورة التكنولوجية والتحول نحو الطاقة النظيفة، لم تعد المعادن النادرة مجرد عناصر كيميائية تُدرَّس في المعاهد، بل غدت كنوزًا دفينة تتصارع عليها القوى الكبرى، وسلاحًا استراتيجيًا يشعل نيران المنافسة في ساحات الجيوسياسة والاقتصاد. هذه المعادن، التي تشمل الذهب المتلألئ، الفضة البراقة، البلاتين النادر، البالاديوم الثمين، بالإضافة إلى العناصر الأرضية النادرة مثل اللانثانوم والنيوديميوم، تُعد العمود الفقري للصناعات الحديثة، من الهواتف الذكية التي تتسلل إلى كل جيب، إلى السيارات الكهربائية التي تغزو الشوارع، وحتى الأسلحة المتطورة التي تحدد موازين القوى في ساحات الحروب. وفي خضم هذا التنافس العالمي المحتدم، يبرز اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كطامع يسعى إلى بناء إمبراطورية قائمة على السيطرة على هذه الموارد الثمينة، ليضمن لنفسه موطئ قدم في سباق الهيمنة على المستقبل. ولهذا، تسعى الإدارة الأمريكية الحالية، بوجود ترامب، إلى استغلال نفوذها للسيطرة على موارد الليثيوم والكوبالت والمعادن النادرة في العالم، من خلال إجراءات سياسية واقتصادية مكثفة. ومن هنا يمكن فهم الضغوط الأمريكية على جنوب أفريقيا، وتحريك الخلافات العرقية بها من قبل ترامب، في محاولة منه لابتزاز هذه الدولة، بهدف الحصول على احتياطاتها الضخمة من المعادن النادرة. أدرك ترامب منذ وقت مبكر أن الاعتماد المفرط على الصين، التي تفرض هيمنتها على أكثر من 80% من إنتاج المعادن النادرة عالميًا، يشكل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي الأمريكي. لذا، أطلق العنان لخططه الطموحة، فبدأ بتعزيز الإنتاج المحلي عبر تخفيف القيود البيئية المفروضة على عمليات التعدين، ما منح الشركات الأمريكية دفعة قوية لزيادة إنتاجها. لكن سرعان ما أدرك أن الاكتفاء الذاتي محض وهم، فوجه بوصلته نحو دول أخرى غنية بهذه الموارد، مثل أوكرانيا، جنوب أفريقيا، وجرينلاند، في محاولة لنسج شبكة نفوذ تضمن تدفق المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة بلا انقطاع. أوكرانيا.. بوابة أوروبا إلى الكنوز المدفونة تمتلك أوكرانيا احتياطيات هائلة من المعادن النادرة، خاصة في مناطقها الشرقية، ما جعلها محط أطماع ترامب. وإلى جانب الحسابات السياسية المتعلقة بالصراع مع روسيا، كانت ثروات أوكرانيا الطبيعية بمثابة الكنز المخفي الذي يطمح ترامب إلى الاستحواذ عليه بأي وسيلة. وفي معادلة باتت واضحة كالشمس، حيث من يسيطر على المعادن النادرة يفرض هيمنته على مستقبل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية، ضغطت الإدارة الأمريكية الجديدة على كييف لإجبارها على توقيع اتفاقية تمنح الولايات المتحدة 50% من معادنها مجانًا، مقابل ما تزعم واشنطن أنه 'دعم تسليحي ومالي' لمساعدتها في مواجهة روسيا. وتقع أغلب مناجم المعادن النادرة في أوكرانيا في شرق البلاد الواقع تحت سيطرة روسيا، وتشمل الليثيوم والتيتانيوم والغرافيت، وهي معادن حيوية للصناعات التقنية المتقدمة، وهذا ما يفسر التقارب الأخير بين روسيا وأمريكا، حيث تسعى الأخيرة إلى التفاوض مع موسكو للحصول على حصة من تلك الموارد. جنوب أفريقيا.. كنوز القارة السمراء تحت المجهر الأمريكي في القارة الأفريقية، حيث تكتنز الأرض ثرواتها في صمت، لفتت جنوب أفريقيا أنظار الإدارة الأمريكية، ليس فقط لأنها واحدة من أكبر منتجي البلاتين والذهب في العالم، بل لأنها تمثل بوابة للسيطرة على معادن نادرة أخرى ضرورية للصناعات المتقدمة. وبخطوات محسوبة، أبرمت واشنطن اتفاقيات لتعزيز الاستثمارات في قطاع التعدين في جنوب أفريقيا، لضمان تدفق المعادن إلى الأسواق الأمريكية دون انقطاع. لم تكن هذه الخطوة مجرد تعاون اقتصادي، بل كانت جزءًا من رقعة شطرنج استراتيجية تهدف إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في أفريقيا، القارة التي لطالما أُطلق عليها لقب 'المخزن العالمي للثروات الطبيعية'. ولم يتوقف الطموح الأمريكي عند جنوب أفريقيا، فقد وقّعت الولايات المتحدة في عام 2022 اتفاقيات مع جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا لتطوير سلسلة توريد خاصة ببطاريات السيارات الكهربائية، مما يسلط الضوء على سعيها الحثيث للاستفادة من احتياطيات النحاس والليثيوم والكوبالت في هذين البلدين، حيث تُعد هذه المعادن العمود الفقري لصناعة البطاريات والتكنولوجيا الحديثة. ولتعزيز سيطرتها اللوجستية، ساهمت واشنطن في تمويل مشروع إعادة تأهيل ممر السكك الحديدية 'لوبيتو'، الذي يهدف إلى تسهيل نقل المعادن من الكونغو وزامبيا وأنغولا إلى الساحل الغربي لأفريقيا، مما يمنح الولايات المتحدة ميزة استراتيجية في تأمين هذه الموارد الحيوية. غرينلاند.. الجليد الذي يخفي كنوز الأرض غرينلاند، الجزيرة الجليدية الشاسعة، لم تفلت من أنظار ترامب، الذي أعلن جهارةً عن رغبته في شرائها، في خطوة بدت للعالم كمزحة، لكنها في الواقع كانت تعكس مخططًا اقتصاديًا واستراتيجيًا مدروسًا. فبين طبقات الجليد السميكة، تكمن ثروات هائلة من المعادن النادرة، إلى جانب احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، ما يجعل غرينلاند أشبه بجوهرة دفينة في سباق الهيمنة على الموارد الطبيعية. ومع احتدام المنافسة الدولية، سعت واشنطن إلى فرض نفوذها في المنطقة، محاولةً قطع الطريق أمام الصين وروسيا، اللتين تدركان بدورهما قيمة هذه الجزيرة وما تخفيه من كنوز. الصراع العالمي على المعادن النادرة.. حرب باردة بثوب اقتصادي لم يكن السباق على المعادن النادرة مقتصرًا على الولايات المتحدة وحدها، بل دخلت الصين وروسيا الحلبة بقوة. الصين، العملاق الصناعي، تمسكت بقبضتها الحديدية على سوق المعادن النادرة، مستثمرةً مليارات الدولارات في أفريقيا ومناطق أخرى لتعزيز سيطرتها. أما روسيا، التي تمتلك كميات هائلة من البالاديوم والبلاتين، فقد كثفت جهودها لتعزيز نفوذها في القطب الشمالي، حيث ترقد احتياطيات هائلة تحت الجليد. سعي ترامب الحثيث لتأمين إمدادات المعادن النادرة لم يكن مجرد خطوة اقتصادية، بل كان عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل خريطة العلاقات الدولية. فالتنافس مع الصين قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما قد تدفع التحركات الأمريكية روسيا إلى تعزيز تحالفاتها مع دول أخرى غنية بالمعادن، مثل كازاخستان ومنغوليا. وفيما تنظر الدول النامية إلى الاستثمارات الأمريكية بترقب، تخشى العديد منها أن تتحول هذه الشراكات إلى شكل جديد من أشكال الهيمنة، حيث تُستنزف الموارد دون أن تنعكس فوائدها على شعوبها. في عالم يتجه بسرعة نحو التكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة، تحولت المعادن النادرة إلى مفتاح الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. ومن خلال سعيه الحثيث لبناء شبكة نفوذ تمتد من أوكرانيا إلى أفريقيا وصولًا إلى جرينلاند، يبدو أن ترامب كان يعمل على تأسيس إمبراطورية من نوع جديد، لا تقوم على الأراضي والجيوش، بل على السيطرة على الموارد التي تحرك عجلة الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا. ورغم أن بعض تحركاته بدت مستفزة أو حتى مثيرة للجدل، إلا أنها تعكس إدراكًا عميقًا لحقيقة أن من يملك المعادن النادرة اليوم، قد يتحكم في موازين القوى العالمية غدًا. وفي النهاية، هذه ليست مجرد منافسة اقتصادية، بل هي معركة من أجل السيطرة على مقدرات الكوكب، حيث تتداخل السياسة بالاقتصاد، ويتصارع العمالقة في العلن وفي السر على كنوز الأرض المخفية. المصدر: موقع المنار


المنار
٠٨-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- المنار
المعادن النادرة.. كيف يبني ترامب إمبراطوريته؟
مع تسارع وتيرة الثورة التكنولوجية والتحول نحو الطاقة النظيفة، لم تعد المعادن النادرة مجرد عناصر كيميائية تُدرَّس في المعاهد، بل غدت كنوزًا دفينة تتصارع عليها القوى الكبرى، وسلاحًا استراتيجيًا يشعل نيران المنافسة في ساحات الجيوسياسة والاقتصاد. هذه المعادن، التي تشمل الذهب المتلألئ، الفضة البراقة، البلاتين النادر، البالاديوم الثمين، بالإضافة إلى العناصر الأرضية النادرة مثل اللانثانوم والنيوديميوم، تُعد العمود الفقري للصناعات الحديثة، من الهواتف الذكية التي تتسلل إلى كل جيب، إلى السيارات الكهربائية التي تغزو الشوارع، وحتى الأسلحة المتطورة التي تحدد موازين القوى في ساحات الحروب. وفي خضم هذا التنافس العالمي المحتدم، يبرز اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كطامع يسعى إلى بناء إمبراطورية قائمة على السيطرة على هذه الموارد الثمينة، ليضمن لنفسه موطئ قدم في سباق الهيمنة على المستقبل. ولهذا، تسعى الإدارة الأمريكية الحالية، بوجود ترامب، إلى استغلال نفوذها للسيطرة على موارد الليثيوم والكوبالت والمعادن النادرة في العالم، من خلال إجراءات سياسية واقتصادية مكثفة. ومن هنا يمكن فهم الضغوط الأمريكية على جنوب أفريقيا، وتحريك الخلافات العرقية بها من قبل ترامب، في محاولة منه لابتزاز هذه الدولة، بهدف الحصول على احتياطاتها الضخمة من المعادن النادرة. أدرك ترامب منذ وقت مبكر أن الاعتماد المفرط على الصين، التي تفرض هيمنتها على أكثر من 80% من إنتاج المعادن النادرة عالميًا، يشكل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي الأمريكي. لذا، أطلق العنان لخططه الطموحة، فبدأ بتعزيز الإنتاج المحلي عبر تخفيف القيود البيئية المفروضة على عمليات التعدين، ما منح الشركات الأمريكية دفعة قوية لزيادة إنتاجها. لكن سرعان ما أدرك أن الاكتفاء الذاتي محض وهم، فوجه بوصلته نحو دول أخرى غنية بهذه الموارد، مثل أوكرانيا، جنوب أفريقيا، وجرينلاند، في محاولة لنسج شبكة نفوذ تضمن تدفق المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة بلا انقطاع. أوكرانيا.. بوابة أوروبا إلى الكنوز المدفونة تمتلك أوكرانيا احتياطيات هائلة من المعادن النادرة، خاصة في مناطقها الشرقية، ما جعلها محط أطماع ترامب. وإلى جانب الحسابات السياسية المتعلقة بالصراع مع روسيا، كانت ثروات أوكرانيا الطبيعية بمثابة الكنز المخفي الذي يطمح ترامب إلى الاستحواذ عليه بأي وسيلة. وفي معادلة باتت واضحة كالشمس، حيث من يسيطر على المعادن النادرة يفرض هيمنته على مستقبل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية، ضغطت الإدارة الأمريكية الجديدة على كييف لإجبارها على توقيع اتفاقية تمنح الولايات المتحدة 50% من معادنها مجانًا، مقابل ما تزعم واشنطن أنه 'دعم تسليحي ومالي' لمساعدتها في مواجهة روسيا. وتقع أغلب مناجم المعادن النادرة في أوكرانيا في شرق البلاد الواقع تحت سيطرة روسيا، وتشمل الليثيوم والتيتانيوم والغرافيت، وهي معادن حيوية للصناعات التقنية المتقدمة، وهذا ما يفسر التقارب الأخير بين روسيا وأمريكا، حيث تسعى الأخيرة إلى التفاوض مع موسكو للحصول على حصة من تلك الموارد. جنوب أفريقيا.. كنوز القارة السمراء تحت المجهر الأمريكي في القارة الأفريقية، حيث تكتنز الأرض ثرواتها في صمت، لفتت جنوب أفريقيا أنظار الإدارة الأمريكية، ليس فقط لأنها واحدة من أكبر منتجي البلاتين والذهب في العالم، بل لأنها تمثل بوابة للسيطرة على معادن نادرة أخرى ضرورية للصناعات المتقدمة. وبخطوات محسوبة، أبرمت واشنطن اتفاقيات لتعزيز الاستثمارات في قطاع التعدين في جنوب أفريقيا، لضمان تدفق المعادن إلى الأسواق الأمريكية دون انقطاع. لم تكن هذه الخطوة مجرد تعاون اقتصادي، بل كانت جزءًا من رقعة شطرنج استراتيجية تهدف إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في أفريقيا، القارة التي لطالما أُطلق عليها لقب 'المخزن العالمي للثروات الطبيعية'. ولم يتوقف الطموح الأمريكي عند جنوب أفريقيا، فقد وقّعت الولايات المتحدة في عام 2022 اتفاقيات مع جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا لتطوير سلسلة توريد خاصة ببطاريات السيارات الكهربائية، مما يسلط الضوء على سعيها الحثيث للاستفادة من احتياطيات النحاس والليثيوم والكوبالت في هذين البلدين، حيث تُعد هذه المعادن العمود الفقري لصناعة البطاريات والتكنولوجيا الحديثة. ولتعزيز سيطرتها اللوجستية، ساهمت واشنطن في تمويل مشروع إعادة تأهيل ممر السكك الحديدية 'لوبيتو'، الذي يهدف إلى تسهيل نقل المعادن من الكونغو وزامبيا وأنغولا إلى الساحل الغربي لأفريقيا، مما يمنح الولايات المتحدة ميزة استراتيجية في تأمين هذه الموارد الحيوية. غرينلاند.. الجليد الذي يخفي كنوز الأرض غرينلاند، الجزيرة الجليدية الشاسعة، لم تفلت من أنظار ترامب، الذي أعلن جهارةً عن رغبته في شرائها، في خطوة بدت للعالم كمزحة، لكنها في الواقع كانت تعكس مخططًا اقتصاديًا واستراتيجيًا مدروسًا. فبين طبقات الجليد السميكة، تكمن ثروات هائلة من المعادن النادرة، إلى جانب احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، ما يجعل غرينلاند أشبه بجوهرة دفينة في سباق الهيمنة على الموارد الطبيعية. ومع احتدام المنافسة الدولية، سعت واشنطن إلى فرض نفوذها في المنطقة، محاولةً قطع الطريق أمام الصين وروسيا، اللتين تدركان بدورهما قيمة هذه الجزيرة وما تخفيه من كنوز. الصراع العالمي على المعادن النادرة.. حرب باردة بثوب اقتصادي لم يكن السباق على المعادن النادرة مقتصرًا على الولايات المتحدة وحدها، بل دخلت الصين وروسيا الحلبة بقوة. الصين، العملاق الصناعي، تمسكت بقبضتها الحديدية على سوق المعادن النادرة، مستثمرةً مليارات الدولارات في أفريقيا ومناطق أخرى لتعزيز سيطرتها. أما روسيا، التي تمتلك كميات هائلة من البالاديوم والبلاتين، فقد كثفت جهودها لتعزيز نفوذها في القطب الشمالي، حيث ترقد احتياطيات هائلة تحت الجليد. سعي ترامب الحثيث لتأمين إمدادات المعادن النادرة لم يكن مجرد خطوة اقتصادية، بل كان عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل خريطة العلاقات الدولية. فالتنافس مع الصين قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما قد تدفع التحركات الأمريكية روسيا إلى تعزيز تحالفاتها مع دول أخرى غنية بالمعادن، مثل كازاخستان ومنغوليا. وفيما تنظر الدول النامية إلى الاستثمارات الأمريكية بترقب، تخشى العديد منها أن تتحول هذه الشراكات إلى شكل جديد من أشكال الهيمنة، حيث تُستنزف الموارد دون أن تنعكس فوائدها على شعوبها. في عالم يتجه بسرعة نحو التكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة، تحولت المعادن النادرة إلى مفتاح الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. ومن خلال سعيه الحثيث لبناء شبكة نفوذ تمتد من أوكرانيا إلى أفريقيا وصولًا إلى جرينلاند، يبدو أن ترامب كان يعمل على تأسيس إمبراطورية من نوع جديد، لا تقوم على الأراضي والجيوش، بل على السيطرة على الموارد التي تحرك عجلة الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا. ورغم أن بعض تحركاته بدت مستفزة أو حتى مثيرة للجدل، إلا أنها تعكس إدراكًا عميقًا لحقيقة أن من يملك المعادن النادرة اليوم، قد يتحكم في موازين القوى العالمية غدًا. وفي النهاية، هذه ليست مجرد منافسة اقتصادية، بل هي معركة من أجل السيطرة على مقدرات الكوكب، حيث تتداخل السياسة بالاقتصاد، ويتصارع العمالقة في العلن وفي السر على كنوز الأرض المخفية.


٠٨-٠٣-٢٠٢٥
- علوم
المعادن النادرة.. كيف يبني ترامب إمبراطوريته؟
مع تسارع وتيرة الثورة التكنولوجية والتحول نحو الطاقة النظيفة، لم تعد المعادن النادرة مجرد عناصر كيميائية تُدرَّس في المعاهد، بل غدت كنوزًا دفينة تتصارع عليها القوى الكبرى، وسلاحًا استراتيجيًا يشعل نيران المنافسة في ساحات الجيوسياسة والاقتصاد. هذه المعادن، التي تشمل الذهب المتلألئ، الفضة البراقة، البلاتين النادر، البالاديوم الثمين، بالإضافة إلى العناصر الأرضية النادرة مثل اللانثانوم والنيوديميوم، تُعد العمود الفقري للصناعات الحديثة، من الهواتف الذكية التي تتسلل إلى كل جيب، إلى السيارات الكهربائية التي تغزو الشوارع، وحتى الأسلحة المتطورة التي تحدد موازين القوى في ساحات الحروب. وفي خضم هذا التنافس العالمي المحتدم، يبرز اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كطامع يسعى إلى بناء إمبراطورية قائمة على السيطرة على هذه الموارد الثمينة، ليضمن لنفسه موطئ قدم في سباق الهيمنة على المستقبل. ولهذا، تسعى الإدارة الأمريكية الحالية، بوجود ترامب، إلى استغلال نفوذها للسيطرة على موارد الليثيوم والكوبالت والمعادن النادرة في العالم، من خلال إجراءات سياسية واقتصادية مكثفة. ومن هنا يمكن فهم الضغوط الأمريكية على جنوب أفريقيا، وتحريك الخلافات العرقية بها من قبل ترامب، في محاولة منه لابتزاز هذه الدولة، بهدف الحصول على احتياطاتها الضخمة من المعادن النادرة. أدرك ترامب منذ وقت مبكر أن الاعتماد المفرط على الصين، التي تفرض هيمنتها على أكثر من 80% من إنتاج المعادن النادرة عالميًا، يشكل تهديدًا وجوديًا للأمن القومي الأمريكي. لذا، أطلق العنان لخططه الطموحة، فبدأ بتعزيز الإنتاج المحلي عبر تخفيف القيود البيئية المفروضة على عمليات التعدين، ما منح الشركات الأمريكية دفعة قوية لزيادة إنتاجها. لكن سرعان ما أدرك أن الاكتفاء الذاتي محض وهم، فوجه بوصلته نحو دول أخرى غنية بهذه الموارد، مثل أوكرانيا، جنوب أفريقيا، وجرينلاند، في محاولة لنسج شبكة نفوذ تضمن تدفق المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة بلا انقطاع. تمتلك أوكرانيا احتياطيات هائلة من المعادن النادرة، خاصة في مناطقها الشرقية، ما جعلها محط أطماع ترامب. وإلى جانب الحسابات السياسية المتعلقة بالصراع مع روسيا، كانت ثروات أوكرانيا الطبيعية بمثابة الكنز المخفي الذي يطمح ترامب إلى الاستحواذ عليه بأي وسيلة. وفي معادلة باتت واضحة كالشمس، حيث من يسيطر على المعادن النادرة يفرض هيمنته على مستقبل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية، ضغطت الإدارة الأمريكية الجديدة على كييف لإجبارها على توقيع اتفاقية تمنح الولايات المتحدة 50% من معادنها مجانًا، مقابل ما تزعم واشنطن أنه 'دعم تسليحي ومالي' لمساعدتها في مواجهة روسيا. وتقع أغلب مناجم المعادن النادرة في أوكرانيا في شرق البلاد الواقع تحت سيطرة روسيا، وتشمل الليثيوم والتيتانيوم والغرافيت، وهي معادن حيوية للصناعات التقنية المتقدمة، وهذا ما يفسر التقارب الأخير بين روسيا وأمريكا، حيث تسعى الأخيرة إلى التفاوض مع موسكو للحصول على حصة من تلك الموارد. جنوب أفريقيا.. كنوز القارة السمراء تحت المجهر الأمريكي في القارة الأفريقية، حيث تكتنز الأرض ثرواتها في صمت، لفتت جنوب أفريقيا أنظار الإدارة الأمريكية، ليس فقط لأنها واحدة من أكبر منتجي البلاتين والذهب في العالم، بل لأنها تمثل بوابة للسيطرة على معادن نادرة أخرى ضرورية للصناعات المتقدمة. وبخطوات محسوبة، أبرمت واشنطن اتفاقيات لتعزيز الاستثمارات في قطاع التعدين في جنوب أفريقيا، لضمان تدفق المعادن إلى الأسواق الأمريكية دون انقطاع. لم تكن هذه الخطوة مجرد تعاون اقتصادي، بل كانت جزءًا من رقعة شطرنج استراتيجية تهدف إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في أفريقيا، القارة التي لطالما أُطلق عليها لقب 'المخزن العالمي للثروات الطبيعية'. ولم يتوقف الطموح الأمريكي عند جنوب أفريقيا، فقد وقّعت الولايات المتحدة في عام 2022 اتفاقيات مع جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا لتطوير سلسلة توريد خاصة ببطاريات السيارات الكهربائية، مما يسلط الضوء على سعيها الحثيث للاستفادة من احتياطيات النحاس والليثيوم والكوبالت في هذين البلدين، حيث تُعد هذه المعادن العمود الفقري لصناعة البطاريات والتكنولوجيا الحديثة. ولتعزيز سيطرتها اللوجستية، ساهمت واشنطن في تمويل مشروع إعادة تأهيل ممر السكك الحديدية 'لوبيتو'، الذي يهدف إلى تسهيل نقل المعادن من الكونغو وزامبيا وأنغولا إلى الساحل الغربي لأفريقيا، مما يمنح الولايات المتحدة ميزة استراتيجية في تأمين هذه الموارد الحيوية. غرينلاند.. الجليد الذي يخفي كنوز الأرض غرينلاند، الجزيرة الجليدية الشاسعة، لم تفلت من أنظار ترامب، الذي أعلن جهارةً عن رغبته في شرائها، في خطوة بدت للعالم كمزحة، لكنها في الواقع كانت تعكس مخططًا اقتصاديًا واستراتيجيًا مدروسًا. فبين طبقات الجليد السميكة، تكمن ثروات هائلة من المعادن النادرة، إلى جانب احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، ما يجعل غرينلاند أشبه بجوهرة دفينة في سباق الهيمنة على الموارد الطبيعية. ومع احتدام المنافسة الدولية، سعت واشنطن إلى فرض نفوذها في المنطقة، محاولةً قطع الطريق أمام الصين وروسيا، اللتين تدركان بدورهما قيمة هذه الجزيرة وما تخفيه من كنوز. لم يكن السباق على المعادن النادرة مقتصرًا على الولايات المتحدة وحدها، بل دخلت الصين وروسيا الحلبة بقوة. الصين، العملاق الصناعي، تمسكت بقبضتها الحديدية على سوق المعادن النادرة، مستثمرةً مليارات الدولارات في أفريقيا ومناطق أخرى لتعزيز سيطرتها. أما روسيا، التي تمتلك كميات هائلة من البالاديوم والبلاتين، فقد كثفت جهودها لتعزيز نفوذها في القطب الشمالي، حيث ترقد احتياطيات هائلة تحت الجليد. سعي ترامب الحثيث لتأمين إمدادات المعادن النادرة لم يكن مجرد خطوة اقتصادية، بل كان عاملًا محوريًا في إعادة تشكيل خريطة العلاقات الدولية. فالتنافس مع الصين قد يؤدي إلى تصاعد التوترات الاقتصادية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما قد تدفع التحركات الأمريكية روسيا إلى تعزيز تحالفاتها مع دول أخرى غنية بالمعادن، مثل كازاخستان ومنغوليا. وفيما تنظر الدول النامية إلى الاستثمارات الأمريكية بترقب، تخشى العديد منها أن تتحول هذه الشراكات إلى شكل جديد من أشكال الهيمنة، حيث تُستنزف الموارد دون أن تنعكس فوائدها على شعوبها. في عالم يتجه بسرعة نحو التكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة، تحولت المعادن النادرة إلى مفتاح الهيمنة الاقتصادية والعسكرية. ومن خلال سعيه الحثيث لبناء شبكة نفوذ تمتد من أوكرانيا إلى أفريقيا وصولًا إلى جرينلاند، يبدو أن ترامب كان يعمل على تأسيس إمبراطورية من نوع جديد، لا تقوم على الأراضي والجيوش، بل على السيطرة على الموارد التي تحرك عجلة الصناعات المتقدمة والتكنولوجيا. ورغم أن بعض تحركاته بدت مستفزة أو حتى مثيرة للجدل، إلا أنها تعكس إدراكًا عميقًا لحقيقة أن من يملك المعادن النادرة اليوم، قد يتحكم في موازين القوى العالمية غدًا. وفي النهاية، هذه ليست مجرد منافسة اقتصادية، بل هي معركة من أجل السيطرة على مقدرات الكوكب، حيث تتداخل السياسة بالاقتصاد، ويتصارع العمالقة في العلن وفي السر على كنوز الأرض المخفية.