منذ 2 أيام
التعديل الجيني.. بين العلاج وإعادة تصميم البشر
هل فكرت يوما في شكل المستقبل إذا أصبح بإمكاننا تعديل جيناتنا كما نعدل صورنا الرقمية؟ ماذا لو صار بإمكان الأطباء، بلمسة من تقنيات التعديل الجيني، تصحيح الأخطاء الوراثية قبل أن تسبب أي معاناة؟ يبدو الأمر وكأنه سيناريو خيالي، لكنه بات واقعا نعيشه اليوم.
لقد قطعت الأبحاث الجينية شوطا كبيرا، وأصبحت بعض الدول منها البحرين، تستفيد من هذه التقنية في نطاقها الطبي لعلاج الأمراض المستعصية، في خطوة تفتح الأبواب أمام فرص علاجية لم تكن متاحة من قبل.
ومع ذلك، مع كل إنجاز طبي، هناك أسئلة أخلاقية واجتماعية لا يمكن تجاهلها: أين يجب أن نقف عند استخدام هذه التقنية؟ وما الذي يمكن أن يحدث إذا تجاوزنا حدود العلاج إلى تحسين الصفات البشرية؟
الرحلة نحو التعديلات الجينية لم تبدأ اليوم، بل تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر عندما بدأ العالم جريجور مندل تجاربه على نبات البازلاء، ليكتشف المبادئ الأساسية لعلم الوراثة. منذ ذلك الحين، تسارعت وتيرة الاكتشافات، من فك شفرة الحمض النووي ( DNA ) إلى تطوير تقنيات مثل كريسبر، التي جعلت تعديل الجينات أكثر دقة وسهولة.
واليوم، نشهد تطبيقات حقيقية لهذه التقنية، حيث يمكن للأطباء تعديل الطفرات الجينية المسؤولة عن بعض الأمراض الوراثية قبل أن تظهر أعراضها، مما يوفر أملا جديدا للمرضى الذين كانوا يعتقدون أن معاناتهم مصير لا مفر منه.
أحد الأمثلة الواقعية على ذلك هو مرضى اضطرابات الدم الوراثية، الذين خضعوا لعلاجات تجريبية بالتعديلات الجينية ونجحوا في التخلص من الحاجة إلى عمليات نقل الدم المتكررة. تخيل طفلا كان يقضي معظم حياته بين جدران المستشفى بسبب مرضه الوراثي، ثم فجأة، بفضل تعديل جيني بسيط، يصبح بإمكانه أن يعيش حياته كما يفعل أي طفل آخر. مثل هذه التطورات تفتح بابا من الأمل، لكنها تثير في الوقت ذاته تساؤلات حول كيفية استخدام هذه التقنية خارج نطاق العلاج.
في عام 2018، أثار العالم الصيني هي جيانكوي جدلا عالميا عندما أعلن عن ولادة طفلتين معدلتين جينيا لتكونا محصنتين ضد فيروس نقص المناعة البشرية. هذه التجربة، التي أُجريت دون رقابة علمية كافية، أثارت مخاوف حول التعديلات الجينية غير المنضبطة. لم يكن القلق فقط بشأن ما إذا كانت التجربة ناجحة، بل حول العواقب المحتملة لمثل هذه التعديلات على الأجيال القادمة. النتيجة؟ إدانة العالم وسجنه، إلى جانب تشديد القوانين الدولية لمنع تكرار مثل هذه الحالات مستقبلا.
وقد دفعت هذه الحادثة أيضا منظمة الصحة العالمية إلى الدعوة لوضع إطار عالمي مُلزم لتنظيم تقنيات التعديل الجيني، لضمان استخدامها بما يتوافق مع المبادئ الأخلاقية والإنسانية. وتعمل المؤسسات البحثية حول العالم على وضع معايير صارمة لضبط استخدام التعديلات الجينية. ففي عام 2021، أوصت لجنة من الخبراء بحظر أي تعديلات يمكن أن تنتقل إلى الأجيال القادمة ما لم تكن هناك أدلة قاطعة على سلامتها. مثل هذه التدابير تتجاوز كونها احترازات علمية، بل ضرورة لضمان أن تظل هذه التقنية أداة لعلاج الأمراض، وليست وسيلة لتغيير طبيعة البشر بطرق غير محسوبة العواقب.
الأمور لا تتوقف عند هذا الحد. ماذا لو أصبحت التعديلات الجينية متاحة للجميع، ليس فقط لعلاج الأمراض، بل لاختيار صفات الأبناء مثل الذكاء أو الطول أو لون العينين؟ قد يؤدي ذلك إلى خلق فجوة اجتماعية جديدة، حيث يتمتع الأثرياء بإمكانية تحسين نسلهم وراثيا، بينما يظل الآخرون على حالهم. في عالم كهذا، قد لا يكون النجاح مسألة اجتهاد، بل مسألة من يستطيع تحمل تكاليف التعديلات الجينية.
الأمر الأكثر تعقيدا أن هذه التعديلات قد تغيّر مفهومنا عن الإنسان نفسه. هل يمكن أن نصل إلى نقطة يصبح فيها الإنسان غير المعدل جينيا أقل كفاءة مقارنة بمن خضع لهذه التعديلات؟ وهل ستبقى طبيعتنا البشرية كما نعرفها، أم أننا نعيد تشكيلها وفقا لمعايير نقررها نحن؟ هذه الأسئلة لا تفهم بوصفها فقط تأملات فلسفية، بل واقع يناقشه العلماء اليوم، لأن القرارات التي تُتخذ بشأن هذه التقنية ستحدد شكل الأجيال القادمة.
ما يحدث اليوم ليس تقدما طبيا، بل لحظة فاصلة في تاريخ البشرية. القرارات التي تُتخذ الآن بشأن التعديلات الجينية ستحدد ليس فقط صحتنا، بل شكل مجتمعاتنا في المستقبل. هل سنستخدم هذا التقدم لإنقاذ الأرواح، أم سنسمح له بأن يصبح وسيلة لصنع «نسخ محسنة» من البشر؟
لستُ متخصصة في علم الجينات، لكنني ككاتبة ومتابعة، أدرك أن ما يحدث اليوم ليس تطورا طبيا فحسب، بل لحظة فاصلة في تاريخنا الإنساني. ربما لا نملك جميع الإجابات الآن، لكن المؤكد أن الخيارات التي تُتخذ اليوم ستبقى محفورة في الحمض النووي للمستقبل.