أحدث الأخبار مع #عليّ


جريدة الرؤية
١٦-٠٤-٢٠٢٥
- منوعات
- جريدة الرؤية
كشف الستار عن حالة ظَفَارِ للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (44)
تحقيق: ناصر أبوعون يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [ (وَلَقَدْ سَنَّ بَنُو أُمَيَّةَ لَعْنَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مَنَابِرِهِمْ ، وَبَقِيَ ذَلِكَ مُدَّةً إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – فَأَزَالَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَجَعَلَ مَكَانَهَا آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}]. ولَا غَرْوَ أَنْ بَقِيَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ مُدَّةً؛ فَإنَّ بَعْضَ عَلَمَاءِ النَّوَاصِبِ يَقُوْلُ: إِنَّ الْحُسَيْنَ قُتِلَ بِسَيْفِ جَدِّهِ، - وَهُوَ اِبْنُ العَرَبِيّ-؛ أَيْ إِنَّهُ خَرَجَ بَاغِيًا عَلَى خَلِيْفَةِ الْوَقْتِ يَزِيدِ بنِ مُعَاوِيَةَ؛ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِشَرِيْعَةِ جَدِّهِ (صلى الله عليه وسلم). وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَأَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِجَوَابٍ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا، فَقَالَ: (إِنَّ يَزِيْدَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَلَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ، وَلَا رَضِيَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الدِّفَاعَ عَنِ الْمِصْرِ من اِعْتِدَاءِ كُلِّ غَاشِمٍ، فَكَانَ مَا كَانَ. وَقَالَ: لَا يَجُوزُ لَعْنَ يَزِيْدٍ لَأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَتَلَ الْحُسَيْنَ، فَقَدْ يَكُونُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَأَنَّ الْقَتْلَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرَ، وَلَا يَجُوزُ لَعْنَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَهَذَا كَلَامُهُ. وَقَدْ نَقَلْنَا هَذِهِ الْفَتْوَى مِنْ تَارِيْخِ اِبْنِ خِلِّكَان وَفَيَاتِ الٍأَعْيَانِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْهُ. فَانْظَرُوا إِلَى هَاتَيْن الْأُعْجُوْبَتَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ)] . فتنة لعن وسبّ الصحابة يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [(وَلَقَدْ سَنَّ بَنُو أُمَيَّةَ لَعْنَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي مَنَابِرِهِمْ، وَبَقِيَ ذَلِكَ مُدَّةً إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَأَزَالَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ)] . يقول شيخنا عيسى الطائيّ: ( وَلَقَدْ سَنَّ بَنُو أُمَيَّةَ ) وفي هذه العبارة استعمل شيخنا الفعل الماضي ( سَنَّ ) مسبوقًا بأداتي توكيد ( اللام+ قد ) للدلالة على يقينية حدوث الفعل منسوبًا إلى بني أمية على وجه العموم ليشملهم جميعًا مع مَن تابعَهم على ( لعن ) عليّ بن أبي طالب– كرّم الله وجهه-، ومَنْ داهنهم طلبًا لدنيا يصيبها، وشملت بدعة سبّ (عليّ ) طائفة من الشُّعوبيين أعداء العروبة والمتأسلمين ظاهرًا من الذين أبقوا نيران الفتنة موقدةً إلى اليوم في خاصرة الأمّة الإسلامية منعًا لأحادها وتآمرًا لإسقاطها. والفعل ( سَنَّ ) دالٌ على استحداث ( لَعْنَ عليّ ) والعمل به والسير عليه ، وجعْله ( سُنَّة مُتَّبَعَة )، ونقرأ شاهدها التشريعيّ في الحديث النبويّ: (مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا ومن سَنَّ سُنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا) (01) . أمّا شاهدها اللغوي فنقرأه في شعر زهير بن جناب الكلبيّ يخبر عن أول مَنْ ابتدع رُبُع الغنيمة لقائد الجيش: [( سَنَّهَا ) رَابِعُ الْجُيُوْشِ عُلَيْمٌ/ كُلَّ يَوْمٍ تَأْتِي الْمَنَايَا بِقَدْرِ (02) ]. وفي قوله:( فِي مَنَابِرِهِمْ ) ( المَنَابِر – المَنَابِير ) جمعٌ والمفرد ( مِنْبَر )، وهو مِرْقاةٌ يعلوها الخطيبُ ونحوه لِيُرَى ويُسْمَع. وشاهدها اللغويّ في قول عنترة بن شداد العبسيّ: [بَنِي عَبْسٍ، سُوْدُوا فِي الْقَبَائِلِ، وَافْخَرُوا/ بِعَبْدٍ لَهُ، فَوْقَ السِّمَاكَيْنِ ( مِنْبَرُ ) (03) ]. وقد ذكرنا آنفًا من الأدلة العقلية والنقلية ما يدحض الدعاوى والأكاذيب والافتراءات حول مجاهرة الخليفة معاوية بن أبي سفيان بسبّ سيدنا علي بن أبي طالب ولَعْنِه، غير أنّ بعض المُغالاة من الخطباء من أتباع وُلاة بني أميّة عرّضُوا بابن أبي طالب على منابرهم. ومن نافلة القول: فإنّ إحياء هذا الإرث من العداوات السياسية يفتُّ في عضد الأمة. وفي قول شيخنا الطائيّ: ( وَبَقِيَ ذَلِكَ مُدَّةً ) أي: ظلَّ سُنَّةً سيِّئةً لأجل معلوم وخطيئة يتوارثونها إلى زمن مقدور. وكلمة ( مُدَّةً ) مفرد والجمع (مُدَد)، وشاهدها اللغويّ نقرأه في شعر أبي الحكيم المُرّيّ يرثي ابنه حكيمًا: [يَقَرُّ بِعَيْنِي، وَهُوَ يَنْقُصُ ( مُدَّتِي )/مَمَرُّ الَّليَالِي أَنْ يَشِبَّ حَكِيْمُ (04) ] الأشجّ ملأ الأرض عدلا وفي قول شيخنا الطائيّ: ( إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيْزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ) إشارة إلى عمر بن عبد العزيز بن مروان، الخليفة الصالح، أبو حفص، خامس الخلفاء الراشدين. وُلِدَ عمر بحلوان، قرية بمصر، وأبوه أمير عليها سنة إحدى، وقيل: ثلاث وستين وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان بوجه عمر شجَّة، ضربته دابة في جبهته، وهو غلام، فجعل أبوه يمسح الدم عنه، ويقول: ( إنْ كُنتَ أشجَّ بني أمية إنك لسعيد )، أخرجه ابن عساكر. وكان عمر بن الخطاب يقول: ( مِنْ وَلَدِي رجلٌ بوجههِ شجَّة يملأ الأرض عدلًا)، أخرجه الترمذي في تاريخه، فصدق ظن أبيه فيه (05) ، وقال سفيان الثوري: ( الخلفاء خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليٌّ، وعمر بن عبد العزيز ) (06) ، وأخرج ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال: ( ليت شعري! من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا )، وعن ابن عمر قال: ( كنا نتحدث أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر، يعمل بمثل عمل عمر، فكان بلال بن عبد الله بن عمر بوجهه شامة، وكانوا يرون أنه هو، حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز ) (07) ، فتولى الخلافة سنة 99هـ، إلى سنة 101هـ. الآية 90 من سورة النور يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [ (فَأَزَالَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَجَعَلَ مَكَانَهَا آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}] (08) ، وفي السيرة الحلبيّة أن الشيخ عِزَّ الدين بن عبد السلام ألَّف كتابا سماه (الشجرة) بيَّنَ فيه أن هذه الآية اشتملت على جميع الأحكام الشرعيّة في سائر الأبواب الفقهية، وسمَّاه السبكي في الطبقات (شجرة المعارف). ويقول الطاهر بن عاشور: (وقد اهتدى الخليفة عمر بن عبد العزيز- رحمه الله - إلى ما جمعته هذه الآية من معاني الخير فلما اِسْتُخْلِفَ سنة 99هـ كتب يأمر الخطباء بتلاوة هذه الآية في الخطبة يوم الجمعة، وتُجْعل تلاوتها عِوَضًا عَمَّا كانوا يأتونه في خطبة الجمعة من كلمات سبِّ علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-، وفي تلاوة هذه الآية عِوَضًا عن ذلك السَّبّ دقيقةٌ: أنها تقتضي النهي عن ذلك السبِّ إذ هو من الفحشاء والمنكر والبغي. ولم أقف على تعيين الوقت الذي ابْتُدِعَ فيه هذا السبّ، ولكنه لم يكن في خِلافة معاوية رضي الله عنه) (09) . ثمَّ عقَّب الطائيّ بقوله: [ (ولَا غَرْوَ أَنْ بَقِيَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ مُدَّةً)] ( لَا غَرْوَ )؛ أي: ( لا عَجَبَ )، ويجوز أن نقول: ( لا غَرْوى) ، و( الغَرْوُ ) مصدر، ومعناه: (العَجَب) ومن الأخطاء الشائعة استعمال صيغة ( لَا غَرْوَ )، بمعنى:( لا شَكَّ ). وشاهدها اللغويّ نقرأه في شعر زهير الكلبيّ يذكر كتيبةً ومحاولة سبي نسائها: [فـ( لَا غَرْوَ ) إِلَّا يَوْمَ جَاءَتْ عَطِيْنَةٌ/ لِيَسْتَلِبُوا نِسْوَانَهَا ثُمَّ يُعْنِقُوا (10) ]. رأيان في مقتل الحسين يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [ (فَإنَّ بَعْضَ عَلَمَاءِ النَّوَاصِبِ، يَقُوْلُ: إِنَّ الْحُسَيْنَ قُتِلَ بِسَيْفِ جَدِّهِ،- وَهُوَ اِبْنُ العَرَبِيّ)]. ( النَّواصِب ) و( النُّصَّاب ) جمعان والمفرد منهما ( نَاصِب )، وهي بمعنى: ( المُعَادِي ) أو ( المُبْغِضُون ) للإمام علي بن أبي طالب وآل البيت. وشاهده اللغويّ في قول سعيد بن قيس الهَمْدانيّ: [أَخَذْتَ طَلِيْقًا ( نَاصِبًا ) بِمُهَاجِرٍ/ تَقِيٍّ لَهُ فِي النَّاسِ خَطْبٌ مِنَ الْخَطْبِ (11) ] [(وَهُوَ اِبْنُ العَرَبِيّ)] ، إشارة إلى الإمام العلامة الحافظ القاضي أبو بكر، محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله، ابن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي، صاحب التصانيف. وُلِدَ في سنة ثمان وستين وأربعمائة، وتوفي بفاس في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وفيها وَرَّخَهُ الحافظ أبو الحسن بن المفضل وابن خلكان. قُتِل بأيدي الفرنج- رحمه الله- صنف كتاب " عارضة الأحوذي في شرح جامع أبي عيسى الترمذي "، و" فسر القرآن المجيد "، فأتى بكل بديع، وله كتاب " كوكب الحديث والمسلسلات " وكتاب " الأصناف " في الفقه، وكتاب " أمهات المسائل "، وكتاب " نزهة الناظر " وكتاب " ستر العورة "، و" المحصول " في الأصول، و" حسم الداء في الكلام على حديث السوداء "، وكتاب " في الرسائل وغوامض النحويين "، وكتاب " ترتيب الرحلة للترغيب في الملة " و" الفقه الأصغر المعلب الأصغر" ، وأشياء سوى ذلك لم نشاهدها) (12) . [يَقُوْلُ أبو بكر بن العربيّ: إِنَّ الْحُسَيْنَ قُتِلَ بِسَيْفِ جَدِّهِ ) [أَيْ إِنَّهُ خَرَجَ بَاغِيًا عَلَى خَلِيْفَةِ الْوَقْتِ يَزِيدِ بنِ مُعَاوِيَةَ؛ فَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ بِشَرِيْعَةِ جَدِّهِ (صلى الله عليه وسلم) ]، ويردُّ ابن خلدون على أبي بكر بن العربيّ، قائلا: (وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره، فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك وظنّها من نفسه بأهليّته. وقد تبيّن غلط الحسين إلّا أنّه في أمر دنيويّ لا يضرّه الغلط فيه، وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه لأنّه منوط بظنّه وكان ظنّه القدرة على ذلك ولقد عذله ابن العبّاس وابن الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عمّا هو بسبيله لما أراده الله. وأمّا الصّحابة الّذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشّام والعراق ومن التّابعين لهم فرأوا أنّ الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدّماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثّموه لأنّه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنّهم أكثر الصّحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو بكربلاء، ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرّض لذلك، لعلمه أنّه عن اجتهاد منهم كما كان فعله عن اجتهاد منه. والحسين فيها شهيد مثاب وهو على حقّ واجتهاد والصّحابة الّذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الّذي سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه: " إنّ الحسين قتل بشرع جدّه " وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل. ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء. والحسين شهيد مثاب باعتبار قصده وتحرّيه الحقّ هذا هو الّذي ينبغي أن تُحْمَل عليه أفعال السّلف من الصّحابة والتّابعين فهم خيار الأمّة وإذا جعلناهم عُرضة للقدح فمن الّذي يختصّ بالعدالة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول " خير النّاس قرني " ثمّ الّذين يلونهم مرّتين أو ثلاثا ثمّ يفشو الكذب فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحد منهم ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت فهم أولى النّاس بذلك وما اختلفوا إلّا عن بيّنة وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ واعتقد مع ذلك أنّ اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله فافهم ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنّه على كلّ شيء قدير وإليه الملجأ والمصير والله تعالى أعلم) (13) . [(وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَأَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِجَوَابٍ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فَقَالَ: (إِنَّ يَزِيْدَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَلَمْ يُرِدْ قَتْلَهُ، وَلَا رَضِيَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الدِّفَاعَ عَنِ الْمِصْرِ من اعتداء كُلِّ غَاشِمٍ، فَكَانَ مَا كَانَ)] . وفي قوله: ( الْغَزَالِيُّ ) تعيين وتخصيص للشَّيْخُ، الإِمَامُ، البَحْر، حجَّةُ الإِسْلاَم، أُعجوبَة الزَّمَان، زَيْنُ الدّين، أَبُو حَامِد مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الطُّوْسِيّ، الشَّافِعِيّ، الغَزَّالِي، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِيْنَ وَأَرْبَعِ مائَةٍ. تَفقَّه بِبَلَدِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَحَوَّل إِلَى نَيْسَابُوْرَ، ثم لاَزمَ إِمَامَ الحَرَمَيْنِ، وبَرع فِي الفِقْه وَمَهَر فِي الكَلاَمِ وَالجَدَل، حَتَّى صَارَ عينَ المنَاظرِيْنَ، وَحضّته مُمَارستُهُ لأَفَانِيْنِ الزُّهْديَات إِلَى رفض الرِّئَاسَة، فَحجَّ مِنْ وَقته، وَزَار بَيْت المَقْدِسِ، وَصَحِبَ الفَقِيْهَ نَصْرَ بنَ إِبْرَاهِيْمَ وتولى التَدْرِيْس بنِظَامِيَة بَغْدَاد، وَأَخَذَ فِي تَأْلِيفِ الأُصُوْلِ وَالفِقْهِ وَالكَلاَمِ وَالحِكْمَةِ (14) بِدِمَشْقَ، وَأَلَّف كِتَاب ( الإِحيَاء )، وَ( الأَرْبَعِيْنَ )، وَ( القِسطَاس )، وَ( مَحكّ النَّظَر )، و( سِرّ العَالمين وَكشف مَا فِي الدَّارين )، و( البَسيطَ )، وَ( الوسيطَ )، وَ( الوجِيْزَ )، وَ( الخلاَصَة )، وَ( المَنْخُوْل ), وَ( اللبَاب )، وَ ( الْمُنْتَحل فِي الجَدَل )، وَ( تَهَافت الفَلاَسِفَة )، و( المُسْتصفَى ) فِي أُصُوْل الفِقْه، وَ( مِعيَار العِلْم )، وَ( شرح الأَسْمَاء الحُسْنَى )، وَ( مشكَاة الأَنوَار )، وَ( المُنْقِذ مِنَ الضَّلاَل )، وَ( حقيقَة الْقَوْلَيْنِ ). وتُوُفِّيَ الغزاليُ يَوْم الاثْنَيْنِ، رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الآخِرَةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْس مائَة، وَلَهُ خَمْس وَخَمْسُوْنَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَة الطَّابرَان قصبَة بِلاَدِ طُوْس) (15) [(أَرَادَ الدِّفَاعَ عَنِ الْمِصْرِ )] ( الْمِصْرِ ) عاصمة الخلافة، وهي مفرد والجمع ( أمصار ، و مُصُور )، وشاهدها اللغوي في الحديث النبويّ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ قَالَ تُفْتَحُ الْبِلَادُ وَ(الْأَمْصَارُ) فَيَقُولُ الرِّجَالُ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمُّوا إِلَى الرِّيفِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا) (16). لَا يَجُوزُ لَعْنَ الْمُسْلِمِ على المعصية يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [ (وَقَالَ: لَا يَجُوزُ لَعْنَ يَزِيْدٍ لَأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَتَلَ الْحُسَيْنَ، فَقَدْ يَكُونُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ؛ لَأَنَّ الْقَتْلَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرَ، وَلَا يَجُوزُ لَعْنَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ )]. وهذه ( الفُتْيَا/ الفَتْوى ) نقلها الشيخ عيسى الطائي عن ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان): (وسئل الغزاليُّ هل يجوز لعن يزيد وقد فعل كذا وكذا فأجاب:(هل يحكم بفسقه أم هل يكون ذلك مرخصًا فيه وهل كان مريدًا قتل الحسين، رضي الله عنه، أم كان قصده الدفع وهل يسوغ الترحم عليه أم السكوت عنه أفضل ينعم بإزالة الاشتباه مثابًا، فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلًا، ومن لعن مسلمًا فهو الملعون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم ليس بلعانٍ)، وكيف يجوز لعن المسلم ولا يجوز لعن البهائم وقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي، صلى الله عليه وسلم. ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين، رضي الله عنه، ولا أمره لا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه لا يجوز أن يظن ذلك به فإن إساءة الظن بالمسلم أيضًا حرام، وقد قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" ، وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء)، ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين، رضي الله عنه، أو رضي به فينبغي أن يعلم به غاية حماقة، فإن من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من أمر بقتله ومن الذي رضي به ومن الذي كرهه لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف لو كان في بلد بعيد وزمن قديم قد انقضى، فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في كان بعيد وقد تطرق التعصب في الواقعة فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب فهذا أمرٌ لا تعرف حقيقته أصلًا، وإذا لم يعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به، ومع هذا فلو ثبت على مسلم أنه قتل مسلمًا فمذهب الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، وإذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم تجز لعنته، فكيف من تاب عن قتل وبِمَ يعرف أن قاتل الحسين- رضي الله عنه-، مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذًا لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقًا عاصيًا لله تعالى، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصيًا بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يُقال له يوم القيامة: لِمَ لَمْ تلعنْ إبليسَ، ويُقال للَّاعن: لِمَ لَعَنْتَ؟ ومن أين عرفتَ أنه مطرود ملعون والملعون، وهو المبعد من الله -عَزَّ وجَلَّ-، وذلك غيبٌ لا يُعْرَف إلَّا فِيمن ماتَ كافرًا فإن ذلك عِلْمٌ بالشَّرع، وأمَّا التَّرحم عليهِ جائزٌ، بل هو مستحبٌ، بل هو داخل في قولنا في كل صلاة "اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات"، فإنه كان مؤمنًا والله أعلم) (17) . وفيات الأعيان مصدر الفتوى يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى بِنْ صَالِحٍ الطَّائِيُّ: [ (وَقَدْ نَقَلْنَا هَذِهِ الْفَتْوَى مِنْ تَارِيْخِ اِبْنِ خِلِّكَان وَفَيَاتِ الٍأَعْيَانِ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْهُ)] في قوله:( هَذِهِ الْفَتْوَى ) مصدر، والاسم ( الفُتْيَا )، والجمع منهما: ( فَتَاوى ) و( فَتَاوِي )، وهي مصطلح في (علم أصول الفقه)، وتعني: الإخبار بحُكمٍ شرعيٍّ لمن سأل عنه في أمرٍ نازلٍ. وشاهدها في قول محمد بن الحسن الشيبانيّ: [وَكَذَا عُلَمَاء التَّابِعِيْنَ- رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى– فَمِنْهُمْ مَنْ تَصَدَّى ( لِلْفَتْوَى ) وَالتَّعْلِيْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اِمْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَاِنْزَوَى (18) ]، و( اِبْنِ خِلِّكَان ) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان (19) البرمكي الإربلي، أبو العباس(٦٠٨هـ- ٦٨١هـ- ١٢١١م- ١٢٨٢م) مؤرخ حُجة، وأديب ماهر، صاحب (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان- ط) وهو أشهر كتب التراجم ومن أحسنها ضبطا وإحكاما (20) ، وُلِدَ في (إِرْبِل) بالقرب من الموصل على شاطئ دجلة الشرقي، وانتقل إلى مصر فأقام فيها مُدَّة، وتولى نيابة قضائها، ثمّ سافر إلى دمشق، فولَّاه الملك الظاهر قضاء الشام، ثم عَزِلَه بعد عشر سنين، فعاد إلى مصر وأقام فيها سبع سنين أُخَر، ثم رُدَّ إلى قضاء الشام، ثم عُزِلَ عنه بعد مدة. وقد تولّى التدريس في كثير من مدارس دمشق، ثم توفي فيها ودفن في سفح (قاسيون) (21) . ( وَفَيَاتِ الٍأَعْيَانِ )، هو كتاب ابن خلكان حققه: محمد محيي الدين عبد الحميد- مفتش العلوم الدينية والعربية بالجامع الأزهر والمعاهد الدينية، وكتب في مقدمته نبذة تعريفية بالكتاب ومصنّفه قال فيها: (استقى معلوماته التي أودعها هذا الكتاب عن ثلاثة مصادر: أولها، ما قرأه في الكتب المصنفة قبله، وكان مولعا بمراجعتها والإفادة منها. ثانيها: ما أخذه عن أفواه مشايخه من أهل الثقة. ثالثها: ما شاهده بنفسه، ولهذا سَمَّى كتابه: (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان مما ثَبُتَ بالنقل أو السماع أو أثبته العيان) [(فَانْظَرُوا إِلَى هَاتَيْن الْأُعْجُوْبَتَيْنِ مِنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ )] ( الْأُعْجُوْبَتَيْنِ ) أمّا الأعجوبة الأولى فهي الفتوى: بأنه (لَا يَجُوزُ لَعْنَ يَزِيْدٍ لَأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَتَلَ الْحُسَيْنَ، فَقَدْ يَكُونُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ والتَّرحم عليهِ جائزٌ، بل هو مستحبٌ) وأمّا الأعجوبة الأخرى فهي الفتوى بأنَّ ( الْقَتْلَ مَعْصِيَةٌ لَا كُفْرَ، وَلَا يَجُوزُ لَعْنَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ). المراجع والمصادر: (01) الراوي: جرير بن عبدالله، المُحدِّث: الألباني، المصدر: صحيح ابن ماجه، ص أو رقم: 169، خلاصة حكم المُحدِّث: صحيح، أخرجه ابن ماجة (203) واللفظ له، ومسلم (1017) بنحوه وفيه قصة، والترمذي (2675) بنحوه. (02) ديوان زهير بن جنابٍ الكلبيّ، صنعة: محمد شفيق البيطار، دار صادر، بيروت، ط1، 1995م، ص: 76 (03) شرح ديوان عنترة، الخطيب التبريزي (ت، 502هـ)، قدّم له ووضع هوامشه وفهارسه: مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1992م، ص: 80 (04) شعر قبيلة ذبيان في الجاهلية، جمع وتحقيق ودراسة: سلامة عبد الله السويدي، مطبوعات جامعة قطر، الدوحة، 1987م، ص: 465 (05) تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطيّ، ص: 171 (06) سنن أبو داود "٤/ ٤٦٣١" (07) طبقات ابن سعد "١٥/٤". (08) سورة النور، الآية: 90 (09) التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، ج 15، ص: 258- 260 (10) ديوان زهير بن جنابٍ الكلبيّ، صنعة: محمد شفيق البيطار، دار صادر، بيروت، ط1، 1995م، ص: 90 (11) شعر همدان وأخبارها في الجاهلية والإسلام، جمع وتحقيق ودراسة: حسن عيسى أبوياسين، دار العلوم، الرياض، ط1، 1983م، ص: 331 (12) سير أعلام النبلاء للذهبي، ج20، ص: 198، 199، 203 (13) العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، عبد الرحمن بن بن خلدون (٧٣٢ - ٨٠٨ هـ)، ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس: أ. خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط1، 1981م، ج1، ص: 269، 270، 271، 272 (14) المقدسي، قال السبكي: ٦ / ١٩٧: وكان الغزالي يكثر الجلوس في زاويته بالجامع الأموي المعروفة اليوم بالغزالية نسبة إليه، وكانت تعرف قبله بالشيخ نصر المقدسي. انظر أيضا: كتاب "الحقيقة عند الغزالي" تأليف الدكتور سليمان دنيا. (15) سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي ( ت ٧٤٨ هـ)، الجزء 19 بتحقيق: شعيب الأرناؤوط، ط3، مؤسسة الرسالة، 1985م. (16) مسند أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رضي الله عنه (حديث رقم: 8458)، حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل فليح، وباقي رجاله رجال الشيخين. (17) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان (ت ٦٨١هـ)، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ج 3، ص: 288- 289 (18) كتاب الكسب، محمد بن الحسن الشيبانيّ (ت، 189هـ)، شرحه: السرخسيّ محمد بن أحمد (ت، 483هـ)، اعتنى بهما: عبد الفتاح أبو غُدّة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط1، 1997م، ص: 154 (19) في روضات الجنات ١: ٨٧ (ابن خلكان بفتح الخاء وتشديد اللام المكسورة، أو بضم الخاء وفتح اللام المشددة، أو بكسر الخاء واللام جميعا. (20) انتقده ابن كثير في البداية والنهاية ١١: ١١٣ في كلامه على ابن الراوندي، بقوله:(وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يخرجه- أو يجرحه؟ - بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجينا!، على عادته في العلماء والشعراء، فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم). (21) نقلا عن الأعلام لخير الدين لزركلي.


اليمن الآن
١٥-٠٣-٢٠٢٥
- سياسة
- اليمن الآن
مروان الغفوري يحسم الجدل الدائر حول مسلسل معاوية .. ماذا قال؟
كريتر سكاي/ خاص سأقول شيئاً مختصراً بشأن الجدل الدائر حول مسلسل معاوية. في الواقع كنتُ كنت قد رصدتُ صراع ذلك الزمن في كتابي الصادر عن دار بابل، تونس، 2024، تحت عنوان [على مقام الصَّبا، طريق أبي الحسن من العزلة إلى النكسة]. وهنا المقدمة التي صدرت بها كتابي: تبدو سيرة علي بن أبي طالب أكبر حجماً، وربما شأناً، من سيرة الإسلام. وفي بعض مراحلها فإنها تبتلع الإسلام ثم تقذفه خارجاً وقد تغيّرت ملامحه الأساسية. منذ الأيام الأولى لوصول عليّ إلى الحكم قرّر تنحية الدبلوماسية جانباً والمبادرة إلى السيف. والسيف، كعادته، يفلق الشيء إلى نصفين. والسيف، كما هي طبيعته، يجلب السيوف. كان سيف علي من شعبتين، كما تصفه كتب التاريخ الشيعية والسنية. الوصف الذي يقدمه المؤرخون الشيعة لسيف عليّ ذي الشعبتين يكاد يتطابق مع وصفهم لخنجر أبي لؤلؤة الذي أودى بحياة الخليفة عمر بن الخطاب. في آخر المطاف فإن خرافة ذي الفقار، السيف الذي جاء به آدم من الجنة ويُقال نزل به جبريل، ليست أكثر من قصة رمزية عمّا فعلته حروب علي بالمجتمع المسلم: شطرته إلى نصفين. بين وفاة النبي محمد ووصول علي إلى الحكم خمس وعشرون عاماً لم يخض فيها عليّ حرباً واحدة. اعتزل حروب فرض هيبة الدولة، تلك التي تنعت بحرب الردة، كما تخلّى عن "الفتوحات" في الشمال. خلال ربع قرن يكاد المرء لا يعثر على خبر موثوق عن عليّ بن أبي طالب. وما سيقال عن ممارسته للفقه والتعليم الديني في غيبته الكبرى تلك ليس أكثر من لغو خارج السياق التاريخي، يهدف إلى تشتيت الأنظار. هل مكث عليّ لربع قرن يزيّت ذا الفقار ويجهزه لحروب الرفاق؟ كان عليّ مسلماً اعتيادياً، لم يكترث القرآن لوجوده، وكان ذلك موقف كبار الصحابة. إذ استطاع أبو بكر أن يسيطر على الجزيرة العربية خلال أقل من عام دون الحاجة لأي عون من بني هاشم. وذهب عمر وعثمان يخوضان كبرى الحروب في الشرق والغرب دون أن يجعلا في مقدمة الجيوش أياً من آل بيت رسول الله. في الحروب الداخلية فقط، مواجهة المسلمين بالمسلمين، كان بنو هاشم يكونون في المقدمة، وتلك مسألة تؤكدها كتب التاريخ على اختلاف فلسفتها وأزمنتها. فالهاشميون لم يذهبوا إلى الحرب في الشام إلا متأخرين حين كانت قد أصبحت بلاداً مسلمة. سمع المسلمون اسمي عيسى ومريم في القرآن زهاء خمسين مرّة، وقرأوا سورة من السبع الطوال تحمل اسم عائلة مريم. ما من إشارة واحدة لآباء النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولا لذريته. من المهم أن يعرف المسلمون عن عيسى وأمّه الكثير، أن يتعلموا من حقبة شديدة الأهمية في تاريخ الرسل، فالبشر كما الرسل يتشابهون. ما الذي سيتعلمه عرب الجزيرة، وأهل العالَم، من تاريخ بني هاشم؟ أنهم حصلوا على امتياز سقاية الحجيج من قبيليّ سكران، وعندما أفاق بهت من فعله وأدركت قبيلته ما حلّ بها، كما يروي ابن خلدون. كيف سيقنعهم الإسلام بنظريته في العدالة إذا كان سيقسم مجتمعه إلى أشراف وعاديين. في الكوفة، وعليّ عالق بين الحرب والسلام، يعاتبُ شعبه قائلاً إن تقاعسهم عن خوض الحرب إلى جواره من شأنه أن يؤكد ما تعتقده قريش عنه، أنه ليس برجل حرب. كان ابن عبّاس قد صارحه بذلك قبل خروجه إلى الكوفة. نصحه بالميل إلى الحوار والدبلوماسية، وبرّر نصيحته بأمور كثيرة منها افتقار علي إلى الدراية بالحرب. لا يوجد ما يمكن وصفه بالتاريخ العسكري لعلي بن أبي طالب. أما مديح الفروسية الذي أغرق المكتبات فلا يجد ضالته سوى في خرافتين اثنتين: الأولى في معركة الخندق، حيث المحارب الوهمي المسمى عمرو بن عبد ود. والثانية من حصار خيبر، حيث يفتك عليّ بفارس شبه وهمي اسمه مرحب، ويرفع باب حصن وهمي بيد واحدة. لخيبر ثلاثة عشر حصن، يفصلها عن بعضها وديان وجروف، بيد أن الخرافة جعلتها حصناً واحداً ووضعته في قبضة علي. دفعتني خرافة البطل إلى تتبع باقي الأكذوبات: الحكيم، الفقيه، وسواها. مما حاجج به معاوية، في رسالته الشهيرة، أن سبب رفضه لولاية عليّ يعود إلى تجاهل الشيخين، أبي وبكر وعمر، لأبي الحسن. لم يقدماه في شيء ولم يستشيراه في شأن، تقول الرسالة، ما يعني أنهما لم يريا فيه ما يكفي من الجدارة. حجاج معاوية ذاك، في رسالته إلى محمد بن أبي بكر، سيعززه ابن تيمية في منهاج السنّة قائلاً إن أهل المدينة لم يكونوا يأخذون العلم عن علي، وأن مناهلهم في الفقه ليس من بينها أبو الحسن. إعادة تركيب الصورة الكاملة لعليّ بن أبي طالب تستدعي انتباها عالياً عند قراءة الرواية التاريخية. فما من مؤرخ، ربما باستثناء الجاحظ في العثمانية، تجرأ على القول إن عليّاً كان أقل جدارة من المسائل التي خاض فيها، العسكرية أو السياسية. ذهب الجاحظ إلى طفولة علي وشبابه في مكة، ليقول لنا إن الرجل عاش هناك لا طالباً ولا مطلوباً، حين كان سائر المسلمين يلاحقون ويعذبون حتى الموت. يمرّ هذا الكتاب بتكثيف رأيناه ضرورياً على أبرز المنازل في درب عليّ بن أبي طالب، بما في ذلك خرافة نومه في فراش النبي ليلة الهجرة. كما يتتبع شكل العلاقة التي نشأت بين عليّ وشعبه في الكوفة، تلك التي بلغت حد القطيعة. حتى إنه ليمكننا القول إن عليّاً كان أول حاكم عربي خلعه شعبه. نتحدث هُنا عن شعبه في الكوفة، مركز عاصمته، لا دولة معاوية الموازية لدولته. عاشت دولة عليّ وقتاً شديد القصر، ولم تعرف هدوءاً قط. الربع قرن الأول من حياة المسلمين بعد موت النبي كان قد مكّن الناس من استيعاب رؤية الإسلام المرتكزة في المقام الأول على المساواة والعدل. حين وضع عليّ قدمه في الرئاسة، قادماً من العزلة، فعل ذلك بوصفه ابن عم النبي، ومستنداً إلى سيوف المتمردين الذين فرضوا امتثالاً إجباريا في العاصمة. تلك هي اللحظة الشديدة، لحظة زعزعة اليقين. الإسلام العادل والمحايد اتّسع فجأة لشيء من خارجه: الأفضلية لمن تربطهم بالنبي قرابة دم. خلافَ ذلك كان قد استقر في ضمير المسلمين حين بقي بنو هاشم صامتين. أما وقد برزوا إلى العلن ورفعوا أصواتهم فسوف يلبسون على المسلمين دينهم. لم تستثر تلك اللحظة المسلمين من خارج بني هاشم وحسب، بل زوجات النبي في المقام الأول. لاحظنَ أن السلالة ذاهبة، بإصرار منقطع النظير، في سبيل اختطاف النبي واحتكاره. وقبل أن تصادم نظرية الحق الإلهي، التي استند إليها عليّ، سائر المسلمين فإنها كانت قد صادمت زوجات النبي، وكلّهن آنذاك من خارج آل البيت. كانت ابنة عمّته زينب، زوجته الوحيدة من العائلة، قد توفيت في زمن عثمان. انقسم أهل المدينة حيال رئاسة علي إلى مؤيدين، معارضين، وممتنعين. ولم تكن المدينة سوى بقعة صغيرة في إمبراطورية مترامية الأطراف. انتظروا جميعاً نتيجة أول حرب أهلية سيخوضها علي: في مواجهة زوجة النبي. وكانوا قد انتظروا، عبثاً، أن يقال لهم من قتل الحاكم، وما العمل حيال سقوط العاصمة في قبضة المتمردين. كان في المدينة آنذاك عشرون ألفاً من أصحاب رسول الله، وثمّة طبقة مرموقة يقال لها كبار الصحابة، من أهل الحل والعقد والنفوذ الأخلاقي. من تلك الطبقة الرفيعة لم يخرج مع علي لمواجهة أم المؤمنين عائشة سوى رجلين، ويقال أربعة. كان عمّار بن ياسر أحد الرجلين، وهو صحابي نهره أبو موسى الأشعري، في العراق، صارخاً يا قاتل عثمان. رد عمّار بالقول إنه لم يفعل وأن الأمر لم يسؤه. بدا واضحاً منذ اللحظة التي عجز فيها عليّ عن حشد ألف محارب من المدينة ومكّة، وهو يتحضر لملاقاة عائشة، أن الرجل قد وضع قدميه في طريق المتاهة. همس له ابنه الحسن، وهما في الطريق إلى العراق، معاتباً إياه: لولا استمعتَ إليّ. كان قد نصحه باعتزال الناس والأحداث، وأن لا يفرض نفسه على مجتمع ليس في حاجة إليه. حذره، بصراحة أغضبت الأب، من الموت في مضيعة من الأرض. تلك المضيعة من الأرض اتخذها عليّ عاصمة له. مثّل قرار نقل العاصمة إلى الكوفة زلزلاً لا يقلّ وزناً ونوعاً عن قرار تحويل القبلة إلى مكّة. بعد مقتل عليّ فقدت الكوفة تلك المكانة إلى الأبد. إذ أدرك الأمويون، ومن بعدهم العبّاسيون، أن تلك الحاضرة التي نشأت بفعل الحروب لا يمكنها إلا أن تكون أرضاً للحروب. والكوفة، كما سنبيّن في الكتاب، كلمة تعني المعسكر. ومع الأيام ستمثل ثقباً أسود لحروب الطالبيين وطموحاتهم. ومن حقّنا أن ندّعي أن كتابنا هذا توغّل بشجاعة وحذر في حقبة تاريخية شديدة التعقيد، وأنه رغم استنتاجاته العديدة قد خلق من الأسئلة أكثر مما قدم من الإجابات. كما أن الإسهام الأساسي الذي سيقدمه الكتاب، كما ندّعي، لن يكون في تغيير القناعات واليقين بل في زعزعة ذلك كله. مروان الغفوري