أحدث الأخبار مع #فكر


الغد
منذ 6 أيام
- سياسة
- الغد
فتنة العصر (3): كيف تحولت الأوهام الدينية إلى عوائق حضارية؟
د.محمد صبحي العايدي اضافة اعلان على امتداد العقود الماضية واجهت الأمة العربية والإسلامية هزائم سياسية وفكرية متتالية، لم تقتصر آثارها على الساحة الجيوسياسية فحسب، بل تسللت عمقاً إلى الوعي الجمعي، وأحدثت تشوها في فهم الدين ذاته، هذا التشوه ولّد أوهاماً كبرى، تحولت إلى عوائق بنيوية حالت دون استقرار المجتمعات وتقدمها.من هذه الأوهام التي تصدرت هذا المشهد المأزوم هي: وهم الدولة الدينية، ووهم الاصطفاء، والتمترس المذهبي، فلم تعد هذه الأوهام مجرد انحرافات في الفهم، بل أصبحت أدوات لصناعة الجمود والاستبداد والانقسام.أولاً: وهم الدولة الدينيةمفهوم "الدولة الدينية" كما تم تسويقه إلى الوعي العربي والإسلامي لم ينبثق من نقاش علمي رصين او تجربة مدنية ناضجة، بل كان نتاج قلق أيديولوجي، ومحاولة لاستثمار الدين في شرعنة السلطة، فهل الدولة الدينية هي تلك التي يقودها رجال الدين بوصفهم أوصياء على الفهم الصحيح للدين؟ أم هي التي تستنسخ أحكام السلف وتنزلها على واقع متغير دون اعتبار لمتطلبات الزمن؟ أم أنها – على غرار ما شهده التاريخ الأوروبي في عصر الكهنوت – تمثل تفويضاً إلهياً للحكم بلا قوانين أو ضوابط؟في كل هذه الصور التي ذكرناها يتحول الدين من مرجعية سامية تهدف إلى تحرير الإنسان وتكريمة، إلى أداة سياسية في يد فئة تحتكر الحقيقة وتفرض وصياتها على الناس، تقصي الكفاءات لصالح التدين الظاهري والشكلي، وتستبدل المؤسسات بالفتاوى، ويهمش مبدأ المواطنة باسم الانتماء الديني.إن هذه الصيغة من الدولة لا تنتج عدالة، بل تنتج سلطوية مغلفة بالدين، وتصبح الآراء الفقهية فوق صوت الدستور، و" النية الصالحة" بديلاً عن الحوكمة الرشيدة، وهكذا يتحول الحلم بالدولة العادلة إلى كابوس من الاستبداد المقدّس.ثانياً: وهم الاصطفاء أو "الفرقة الناجية"في زمن الانفتاح العالمي، واتساع التواصل بين الشعوب والثقافات، ظهرت جماعات الإسلام التقليدي التي تغلف وجودها ودعوتها بهالة من الاصطفاء الإلهي لها، وترى نفسها الفرقة الناجية الوحيدة ، بل أنها على الحق المطلق، وماعداهم في ضلال مبين، لا لشيء إلا لأن الله اعطاهم امتيازاً لذلك دون بقية الخلق، فنحن هنا أمام تضخم أنوي جماعي، ونرجسية مقنعة بالآيات والأحاديث، أعطت لنفسها امتيازات باسم الدين، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الناس، فهذه الجماعات لا تدعو إلى النجاة بل تحتكرها، ولا تنشر الرحمة بل تحتكر الجنة، وهذا مدخل خطير للتكفير والتدمير ومحاسبة الآخرين بلا رقيب ولا حسيب، فبدل ان يلهمهم الدين التواضع والتقوى الذي هو شعور بالمسؤولية لخدمة الناس، أسكرهم بشعور التميز والتفوق الروحي، ومنحهم سلطة رمزية ونفسية، متجاهلين أن النجاة بالعمل وليس بالادعاء، وبالرحمة لا بالغلظة.ثالثاً: وهم التمترس المذهبيتكونت المذاهب الإسلامية كمناهج علمية للفهم وجسور للمعرفة والحوار، وليست كأسوار للفصل الفكري والمعرفي، فمتى تحولت من مناهج معرفية تنظم الفهم الديني بطريقة علمية إلى هويات دفاعية، يحتمي بها كل من ينتمي لها منغلقا على ذاته، ومحاولا ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، فنحن هنا أمام معضلة كبيرة لا تقل خطورة عن اللامذهبية، فكما تؤدي اللامذهبية الى الفوضى وعدم الاستقرار المجتمعي، فالتمترس المذهبي المنغلق يؤدي الى الجمود وقتل روح الابداع والاجتهاد والتقدم في المجتمعات، والانكفاء على الذات، وهذا يجعل الدين عبئا وعائقاعلى المجتمع بدل أن يكون رافداً من روافد التقدم، وايجاد الحلول للمشكلات وتيسير حياة الناس.وفي الختام...إن هذه الأوهام الثلاثة لم تعد مجرد تصورات مغلوطة، بل تحولت إلى عوائق حضارية حقيقية، تقيّد انطلاق المجتمعات وتهدد السلم الأهلي، وتحول دون تجديد الخطاب الديني، وتلاقي الاجتماع الإنساني.وقد آن الآوان لتحرير الدين من هذه الأوهام، وإعادته إلى دوره الأصيل كمصدر للرحمة، ومرجعية أخلاقية وقيمية لتكريم الإنسان وتحرره لا لتقييده، وبوصلة للخير والنفع العام، لا أداة للتقسيم والتنازع، وروحاً عليا تنير الطريق، لا سيفاً يشهر عند كل اختلاف.


الرياض
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الرياض
«دريدا» وتفكيك المعنى
لا تحظى التفكيكية بفكرة مألوفة إزاء المعنى كغيرها من المقاربات، فعندما ننطلق من المقاربة التداولية -على سبيل المثال- فستكون مسؤولية المعنى أمرًا مُشتركًا بين المتكلم والمتلقي، وإن عُدنا إلى البنيوية قبلها فسيتّخذ المعنى اتجاهًا أُحاديًّا من الدالِّ إلى المدلول دون أدنى اعتبار للمكونات غير اللغوية، حيث سيكون من مسؤولية اللغة ذاتها.. لكنّ الأمر يبدو مختلفًا مع تفكيكية (جاك دريدا) المحسوبة على تيّارات ما بعد البنيوية، فالمعنى هنا يُوهَبُ للقارئ -أيِّ قارئٍ- بناءً على تجربته الثقافيّة، ويُسلب من مُنتجِه ومؤلِّفه، فالأمرُ يُضاهي أفكارًا متحوّرةً لا تموت وإن تماهت في بُعدٍ هامشي لا مُتناهٍ، إذ لا قيمة للمعنى المركزي، بل للسّيطرة الثقافية الفردانيّة الآنيّة أو المستقبلية بصفته نصًّا يظلُّ مفتوحًا وعابرًا للقارات وغير خاضعٍ للقارئ الواحد أو التفسير الواحد أو الطَّور الواحد، وبناء عليه فلا قيمة أيضًا لتأثيل الأصول اللغوية على اعتبار مراعاة أطوارها الدلالية؛ حيث تُعدم العلامة اللغوية. فالمعنى حاضر بين يدي مفسِّره يأخذه حيثما أراد عبر دلالات هامشيّة وإن بدت هشّةَ التساوق الذي تكمن قيمته لاحقًا في ما يلي التفكيك والهدم؛ ممّا يؤدّي إلى إنتاج قراءاتٍ مُتباينة ومُتناقضة الدلالة من متلقٍ لآخر. لقد رفض دريدا النَّزعات اللغوية الإثنيّة والمركزيّة التي تُقصي المختلف، فثنائيّة النخبويّة في مقابل الشعبويّة تُمثّل تراتبيّة هرميّة ينبغي تفكيكها؛ حيث إنّها تعكس تعالقاتٍ سُلطويّة على حساب ما هو جوهري. الأمر الذي دعا دريدا إلى تفكيك ثنائياتٍ أخرى مثل الخير والشر، والحضور والغياب، والعدل والظلم، وكلّ ما من شأنه أن يُعلي من قيمة شيئٍ على حساب آخر، فلربما كان العدل -على سبيل المثال- مُرتكِزًا على إعادة صورةٍ نمطيّة عنصريّة دون وعي. لم يكن دريدا لينظر إلى المكوّنات الهامشية بصفتها نسقًا من خارج الثقافة وإنّما مكونٌ جوهريٌّ من بنيتها؛ إذ لا ثابت ولا مُتجانس في الهويّة، فكلُّ ما يُستبعد في الخطاب الثقافي السائد يصبح ذا أولويّة. على أنّ ما هو هامشيٌّ لديه لا يشي بنقطة ضعف بل باستراتيجيّة نقديّة تكشف عن مكامن الهيمنة الثقافية. ومؤدّى ذلك أنّ الثقافة ليست نظامًا مُغلَّفًا بمعانٍ ثابتة، وإنّما متوالية من الدوالِّ التي تُميَّز معانيها عبر الاختلاف. فكلّ دالٍّ لا يقود إلى معنى مطلق، بل يتشكّل عبر تمايزه عن دوالَّ أخرى، مع إرجاءٍ دائمٍ للمعنى. فثمّة اختلاف قائمٌ في تباين العلامة اللغويّة، وثمّة إرجاءٌ حالٌّ في سياقاتٍ غير مستقرة. وهذا ما جعل دريدا يشتغل بتفكيك الثنائيّات والافتراضات المسبقة والميتافيزيقيّة الكامنة في الخطاب. وبالنظر إلى السياق سواءً أكان سياقًا لغويًّا أم سياقًا خاصًّا أم سياقًا مُوسَّعًا، فإنه يبقى سياقًا مُتغيّرًا غير مستقر، وعليهِ فإنّ المعنى هو الآخر يبقى غير مستقر. فالعبارات لا تُحيل إلى العلامات اللغوية فيها ولا إلى مرجعيّة ثقافيّة مُحدّدة وثابتة، وليس بالضرورة أن نفهم محتواها القضوي كما يبدو لنا من سياقها ومعناها المركزي، بل لربما مستقبلاً يصبح معناها مُنصبًّا على ما هو هامشي، ولا ضير لديه، فلن يتطلّب الأمر سوى التشبّث به، وتقويض فكرته المركزيّة. وكأنّ الرّمز لا يعكس قيم المجتمع وتحدّياته، بل يُولي اهتمامًا للنّزعات الفردانيّة، فيُترك الرمز حقلاً مفتوحًا للتأويل وفق صراعات كلّ عصرٍ وأسئلته الوجوديّة الفردانيّة. والخلاصة فإنّ التفكيكيّة تقوم على إقصاء المرجعية الخارجيّة، وسلب قيمة القصد، وترك المعنى فضفاضًا لكلِّ مُتلقٍ، وإعدام العلامة اللغوية، والتشكيك في النّص بحثًا عن متناقضات، ثم الهدم للتشبث بالمعنى الهامشي على حساب المعنى المركزي، ومن ثم إعادة البناء من جديد وفق تصوّرات ثقافيّة جديدة، غير أنّها لا تتوقّف عند هذا الحدّ فحسب، فثمّة إرجاء آخر للمعنى في رحم الأيام وفقا لمعطيات الواقع الثقافي المستقبلي الجديد، مع تفكيك السياق وإعادة خلقه هو الآخر من جديد. فهي وبكلّ بساطة -ومن وجهة نظري الشخصيّة- نظريةُ اللا معنى واللا حقيقة. لقد قادت تفكيكيّة دريدا إلى تحوّلات جذريّة في الفلسفة اللغويّة والنّقد الثقافي ودراسات الأجناس، لتُصبح إحدى مقاربات مرحلة ما بعد الحداثة ذات التأثير في الحالة الثقافية واللغويّة بل والفلسفيّة، فساعدت منهجيًّا في إبداع آليّة غير مألوفة في تعدّديّة تأويلٍ غير متناهية، وكلّ ذلك بزعم مقاومة الهيمنة الثقافية عليه. ومع ذلك، فلربما أنّ التفكيكية لا تهرب من المعنى، لكنّها تهربُ إلى تعقيده وفوضويّته عبر تمثّلاتٍ غير منطقيّة وغير متَّسقة، فهي تتخلّق بما هو غير مركزي على افتراض أنّها تشتغل بالجوهر. وتُظهر أنّ اللغة ليست نافذة شفّافة على الواقع، بل نظامًا من العلامات المتشابكة التي تُنتج المعنى عبر تفاعلاتها واختلافاتها. وبذلك تُعيد التفكيكية تعريف المَهمَّة اللغويّة والفلسفية باعتبارها كشّافًا دائمًا لعدم الاستقرار الذي يكمن في هامش كلِّ مُفردةٍ أو جملةٍ أو نصٍّ أو خطاب.


اليوم السابع
١٥-٠٥-٢٠٢٥
- ترفيه
- اليوم السابع
خالد دومة يكتب: الفراشة المحترقة
كانت بستانا يدور حوله الأدباء، تلهمهم الحب والعشق، وتفتح مغاليق قلوبهم لتتنفس العشق، ونسمات من طيفها، يحب الرجل تلك الأنوثة التى تطعمها الثقافة، يحبها ممزوجة بالفن والجمال والفكر، كانت أنوثتها حافلة بشتى ما يجذب الرجال إليها، وكانت ثقافتها المتنوعة، تجعل لها طابعا خاصا، كأنها ملتقى، لتدفق أنهار وأودية مختلفة، وكان صالونها الأسبوعى المنعقد كل ثلاثاء حافلا أيضًا برجال من الأدباء والعلماء والمهتمين بثقافة الفكر والأدب، خلاصة العقول فى كل فن رفيع، أحبها الجميع، نعم ولماذا لا يحبها الجميع؟ وفيها ما تصبو إليه كل نفس إنسانية تلتمس الجمال الروحى والجسدى، كأنها من آلهة الإغريق التي نُفخ فيها الروح، فهي تسعى بينهم بجمالها وجلالها، وقوة عنصرها، ولدت في بيت رفاهية، تنعمت فيه بوسائل كثيرة، لم تتح لكثيرات من الإناث في عصرها، تعلمت عدة لغات واطلعت على الآداب المختلفة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ولها ترجمات مختلفة، ثم درست اللغة العربية واتطلعت عليها وعلى فنونها المختلفة، وكتبت بها في المجلات المختلفة في ذلك العصر، ورغم ما حققته من نجاح وشهرة، وقد ذاع صيتها في الأوساط الأدبية وشهرة صالونها الثقافي كل ثلاثاء، وكأنه علامة وحدث في ذلك التاريخ. إلا أنها بعد موت أبيها ثم أمها بعد عدة سنوات، كان تنتظرها آلام كبيرة ومتاعب، وتحولت حياتها إلى جحيم لسنوات ثلاث قضتها في مشفى العصفورية، بلبنان وذاقت من الألم أضعاف ما ذاقت من المتعة والرفاهية، وكأنها محت سنوات الجمال سنوات قبح مريرة. هذه هي مي التي نالت منها الوحدة في أخريات أيامها بعد أن كان يلتف حولها نوابغ الفكر والأدب من أقطار الوطن العربي، كانت تلاحقها العيون حيث كانت، وتتمنى رضاها لترضى، فاذا بها وقد شقت من أهلها على خلاف حول ميراث، أو قطعة أرض تطارها الإشاعات وتتهمها في عقلها، ثم ينتابها هوس من فرط ما رأت من استنكار الأقرباء والغرباء لها، ففي حياتها المليئة، تاريخ حافل لا ينكره أحد فقد فاق أثرها كل حد، على جيل كامل من أنبغ ما أنجبت العقول العربية في ذلك الوقت، العقاد الرافعي اسماعيل صبري ولي الدين يكن البشري وغيرهم من أساطين الأدب والفكر.


الجزيرة
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الجزيرة
الرئيس والفيلسوف.. سياسات ماكرون و"دموع" بول ريكور؟
واشنطن- عندما فاز إيمانويل ماكرون في السباق نحو قصر الإليزيه عام 2017 وهو دون سن الأربعين وأصبح ثاني أصغر رئيس لفرنسا بعد نابليون بونابارت، توقف كثيرون عند خلفيات هذا "التكنوقراطي" الشاب، وأسرار صعوده الصاروخي رغم أنه ليس نتاجا خالصا للعمل السياسي الحزبي أو النقابي على غرار من سبقوه من قبيل جاك شيراك أو فرانسوا ميتران. هكذا وضع المتابعون والمعلقون سيرة الرجل تحت المجهر وفتشوا في مساره التعليمي وفي مسيرته المهنية وفي شبكة علاقاته الشخصية والسياسية وغيرها من الأمور المتصلة بتشكيل هوية من سيصبح صاحب القرار الأول في بلد أوروبي كبير. في هذا البحث والرصد، برز ملمح خاص في تكوين ماكرون وتحديدا عندما كان في ربيعه العشرين، وهو طالب في معهد العلوم السياسية، في حقبة مفصلية من مساره الأكاديمي بين عامي 1998 و2002 ستكون بمثابة تحول كبير في حياته. بول ريكور.. أسطورة ماكرون الفكرية في هذه السنوات الأربع، سيتعرف ماكرون على واحد من أعمدة الفكر الفرنسي الحديث هو بول ريكور (1913-2005)، فيلسوف خارج عن التصنيفات والمدارس الكلاسيكية المعروفة، استطاع أن يبلور تصورات خاصة عن مفاهيم الزمن، السرد، التاريخ، الذاكرة، النسيان وغيرها من الإشكاليات المتصلة بحياة الإنسان. وحرص ماكرون على استثمار هذه العلاقة عندما كان ريكور على قيد الحياة وبعد مماته وحولها إلى جزء من رصيده الفكري والثقافي، بل جعل منها "أسطورته الفكرية المؤسسة.. ولعِب عليها في الماضي ويلعب عليها في الحاضر، وسيلعب عليها في المستقبل"، كما كتب الصحفي الفرنسي إيتيان كامبيون في كتاب صدر هذا العام بعنوان "الرئيس السام.. تحقيق حول إيمانويل ماكرون الحقيقي". لكن، ما تفاصيل هذه العلاقة بين الطالب (الرئيس المستقبلي) والفيلسوف، وما طبيعتها؟ في روايته الشخصية لتلك العلاقة، يقول ماكرون في كتاب بعنوان "ثورة" أصدره قبل عام على انتخابه رئيسا للجمهورية، "لقد كان لقائي الفكري الأعظم مع بول ريكور، الذي أدين له بالشيء الكثير. التقيت به آنذاك من خلال كاتب سيرته الذاتية، المؤرخ فرانسوا دوس. كان عمري 20 عاما، وكان عمره 80 عاما". وتحدث المؤرخ فرانسوا دوس ومثقفون فرنسيون آخرون من "أتباع" بول ريكور، عن تلك العلاقة بين الطالب والفيلسوف وأجمعوا على أن ماكرون كان وقتها "طموحا للغاية"، ووصفه فرانسوا دوس بأنه "شخص مندفع ويمكن الوثوق به". لهذا السبب لم يتردد فرانسوا دوس في اقتراحه على بول ريكور عندما كان بصدد تأليف كتاب "الذاكرة، التاريخ، النسيان" وكان في حاجة إلى مساعد للتحقق في المكتبة من دقة الحواشي المشار إليها في الكتاب، وهي مهمة قام بها ماكرون على أحسن وجه، وكانت مدخلا لعلاقة بينهما استمرت علاقته 4 أعوام. واتسعت دائرة تلك العلاقة لاحقا، وأصبح ماكرون على اتصال مع وجوه فكرية محسوبة بهذا الشكل أو ذاك على بول ريكور، وكانت له إسهامات في المجلة الفكرية العريقة "روح" (Esprit) ودافع عن أطروحات قوية عن إصلاح الدولة والجامعات، وانتقد الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية. وهنا يُطرح السؤال عما ورثه ماكرون من بول ريكور فكريا وسياسيا ومدى وفائه لذلك "الإرث" الثقافي بعد أن ارتقى في مسالك الإدارة والمال، وفاز برئاسة الجمهورية مرتين، وشهدت البلاد تحت قيادته سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية. فرانسوا دوس وخيانة رؤية بول ريكور في بداية العهدة الرئاسية الأولى لماكرون، كان فرانسوا دوس من المتحمسين للتجربة الجديدة، وبادر إلى الترويج أكثر للعلاقة بين ماكرون وريكور، وأصدر في العام نفسه (2017) كتابا بعنوان "الفيلسوف والرئيس"، قال فيه إنه في ظل قيادة ماكرون فإن "الأمر لا يعني الاستيلاء على السلطة من القمة، ولكن إثارة ثورة ديمقراطية". وأضاف دوس أن سياسات ماكرون بشأن إعادة تأسيس أوروبا من خلال الثقافة، والعلمانية وموضوعات أخرى كانت مستوحاة من فلسفة بول ريكور". لكن الأمور ستتغير تماما في وقت لاحق على خلفية تقلب المواقف السياسية للرئيس ماكرون بشأن ملفات حساسة مثل الهجرة والعلمانية والتعامل مع التيارات اليمينية والانصياع أحيانا للميولات الشعبوية. وهكذا لم يتردد دوس، عام 2019 في توجيه انتقاد حاد للرئيس ماكرون بشأن ملف الهجرة، ونشر مقال رأي في صحيفة لوموند خاطب فيه رئيس الجمهورية بشكل مباشر: "إيمانويل، تعليقاتك على الهجرة تساهم في تفكك هذه الفئات السكانية الضعيفة". ويقول الصحفي إيتيان كامبيون إن ذلك المقال أثار غضب الرئيس ماكرون الذي رد على أستاذه برسالة مكتوبة بخط اليد مكونة من 7 صفحات يؤكد فيها أنه لم يخن الفكر الإنساني لبول ريكور. وشكلت تلك الرسالة، التي اطلع عليها الصحفي كامبيون، نقطة النهاية في العلاقة بين ماكرون وفرانسوا دوس الذي ألف كتابا عام 2022 يوثق تلك القطيعة، واختار له عنوانا مباشرا ومعبرا: "ماكرون أو الأوهام المفقودة. دموع بول ريكور". ويؤكد دوس في ذلك الكتاب أن "ماكرون أدار ظهره لأفكار بول ريكور وفلسفته التي تهدف لحياة طيبة في ظل مؤسسات عادلة"، وأن ما تشهده فرنسا حاليا على كافة المستويات هو "سياسة ظالمة واستبدادية". ومنذ تلك القطيعة، دأب فرانسوا دوس على مهاجمة ماكرون في كل المناسبات، منتقدا "نزوعاته النرجسية وغطرسته واستفراده بالرأي"، وخلص إلى أن ماكرون خان رؤية بول ريكور للصداقة.


الغد
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- سياسة
- الغد
إستراتيجيات صناعة الجهل
استقر في وجدان العامة، وحتى عند كثير من العلماء المعاصرين، افتراض مفاده أن باب الاجتهاد تم إغلاقه منذ نهاية القرن الثالث الهجري، وهو افتراض مثّل 'منطقة راحة' للسلطة بفرعيها؛ السياسية والدينية، ما أدى إلى استتباب حالة التحالف بينهما. اضافة اعلان وفي واقع الأمر فإن باب الاجتهاد لم يغلق أبدا، بل ظل قائما، وقد تطور في فترة ما بعد القرن الثالث الهجري، لكن الذهنية العربية والإسلامية تغيرت كثيرا، ومن باب أولى أن نقول إنها نحت منحى 'أسطوريا'، مبتعدة عن الجدل العلمي لمصلحة حالة من الترهل الفكري الذي بدأ في رسم مسار صناعة الجهل وتعميمه في العالم الإسلامي ككل، وهي الحالة التي ما نزال نعيشها حتى اليوم، والتي أسهمت في تعطيل جميع مظاهر الازدهار الفكري والتنمية المجتمعية. وإذا أردنا أن نلقي مزيدا من الضوء على معضلة العقل العربي المستقرة اليوم، فربما من المفيد العودة إلى المفكر مالك بن نبي في تنظيراته لـ'إنسان ما بعد الموحدين'، وهو الذي استغرق كثيرا في دراسة الحالة الإسلامية، وتمظهراتها المميزة، ولم يعمد إلى التساهل في التصنيف، خلافا لكثيرين لجأوا إلى إمساك العصا من المنتصف. الإنسان في الحضارة الإسلامية لم يكن واحدا في نظرية ابن نبي، فثمة بنية فكرية ثقافية بدأت بالظهور في أعقاب انهيار دولة الموحدين في الأندلس، وسمت عالمنا الإسلامي بأكمله بالانحطاط والتخلف، فـ'إنسان ما بعد الموحدين'، وفق ابن نبي، هو الذي يعيش بعد 'هجرة الحضارة'، وفي منطقة 'السكون'، حيث يفقد الفعل الحضاري شروطه وتتفكك الروابط الجامعة بين الروح والعقل والغريزة. ولكن، ما كان لهذه الحالة أن تستتب وتزدهر لولا كثير من الممارسات التي كرستها عن طريق السلطة السياسية والدينية، والقوى الفاعلة في المجتمعات، فخلال القرون التي تلت، 'ازدهر' علم صناعة الجهل، عن طريق التعليم والمعلومات المضللة، خصوصا ما يتعلق بـ'إعادة صياغة التاريخ'، وفق ما تقتضيه الحاجة، بالتغيير أو بالتجاهل، وتضخيم الخرافات على حساب التفكير العلمي المنطقي. لعل أخطر ما تم التواطؤ عليه في هذا السياق، هو 'التأسيس' لسيادة 'التحليل العاطفي'، بدلا من العلمي، واستثمار مشاعر الخوف والغضب، بدلا من الموضوعية والعقلانية، ما يبعد الأفراد والمجتمعات عن المنطق ويعزز الجهل في كثير من الميادين التي تتطلب فهما عميقا يتأسس على التفكير النقدي. كتّاب كثيرون؛ غربيون وعرب، تناولوا إستراتيجيات صناعة الجهل، وآثار تغييب التفكير النقدي على اتخاذ القرارات، وكيفية تشكيل الثقافات والروايات وإنتاج الجهل في المجتمع، وتأثير السلطة والإعلام والقوى الفاعلة في تشكيل 'الوعي' الجماهيري، أو ما قد يُظن أنه وعي، وتشكيل الثقافة والتعليم وتأثيرهما على الحراك والتدافع الاجتماعي. لكن، يبقى الدين واحدا من أهم السياقات التي تم استخدامها لفرض حالة 'سكونية' أبقت المجتمعات تحت سيطرة 'الجهل'، وذلك من خلال تأثيراته واحتكاره من قبل طبقات وجماعات معينة، ومن خلال احتكار تفسيراته التي غالبا ما جاءت 'نفعية' لمصلحة حالة سياسية أو اجتماعية، أو لمصلحة تغليب جهة أو جماعة على غيرها، منطلقة كأداة للسيطرة على الفكر وتنميطه ضمن مستويات منخفضة تمنع الأفراد من التفكير النقدي أو استكشاف وجهات نظر جديدة. في التاريخ؛ نقرأ أنه وبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء معركة صفين بين جيشي علي ومعاوية ومقتل حوالي 100 ألف مسلم، بحسب ابن كثير، بدأت الكفة تميل لمصلحة جيش علي. عندها؛ تفتق عقل عمرو بن العاص عن أكبر خدعة سيتم تبنيها واستخدامها كثيرا، عندما طلب من معاوية أن يأمر جيشه برفع المصاحف على رؤوس الأسنّة. بعدها دب الخلاف في جيش علي، ورجحت كفة معاوية! المشكلة ليست في الماضي، بل في الحاضر، فنحن حتى اليوم، ما نزال نرفع المصاحف على رؤوس الرماح كلما أردنا أن نمارس نفاقا اجتماعيا أو سياسيا، فنمنحه لبوسا دينيا باطلا يحشد لنا أتباعا من الحمقى الغوغاء المتعامين عن أهدافنا الحقيقية!