
ثقافة : سامح قاسم يكتب: فى حضرة الشاى والموت والجوع.. ثلاثية كريم عبد السلام بين الخسارة والرأفة
الأحد 18 مايو 2025 10:30 مساءً
نافذة على العالم - ليس من السهل الكتابة عن الشعر حين يتحوّل إلى مأوى. حين لا يكون قصيدة تُقرأ، بل غيمة تُسكن. حين لا يتأنّق ليجذب القارئ، بل ينكفئ مثل طفلٍ مكسور على صدر الصفحة. في دواوينه الثلاثة: شاي مع الموت، أنا جائع يا رب، والوفاة السابعة لصانع الأحلام، لا يكتب كريم عبد السلام شعرًا بقدر ما يدوّن مذكرات الهاوية، بلغة لا تتعالى، ولا تتجمّل، بل تنزل عاريةً إلى الأرض، وتكتب من هناك، من النقطة التي لا يصلها أحد.
يبدو الشاعر في هذه الثلاثية كمن عبر زمنًا طويلًا من الفقد، فعاد لا بشعرٍ يُنقذ، بل بحبرٍ يُواسي. لا يعرض علينا انتصارات رمزية، ولا يزرع أوهامًا ميتافيزيقية، بل يتعامل مع الألم كصديقٍ قديم، يعرف أن الشكوى لا تغيره، لكنه مع ذلك يُجلسه، يصب له الشاي، ويسأله: كيف حالك اليوم؟
شاي مع الموت: المصالحة مع العدم
لا يفتتح كريم عبد السلام ديوانه شاي مع الموت بصرخة، بل برجاء. كل قصيدة كأنها نُسجت بعد جلسة طويلة مع الذات، جلسة لا ينهض منها المرء منتصرًا، بل أكثر فهمًا للهزيمة. لا يخاصم الموت، بل يعايشه. لا يختبئ منه، بل يراقبه وهو يرتدي "جينز أزرق وتي شيرت بولو"، ويطلب الشاي.
شاي مع الموت
في هذه القصائد، يمشي الموت إلى جوار الحياة كرفيق شاحب. لا شيء مأساوي، ولا شيء فجائعي، بل رثاء بارد لكل ما انتهى قبل أن يبدأ. الشاعر هنا لا يسأل لماذا نموت، بل لماذا نعيش دون أن نرى؟ لماذا نركض إلى لا شيء، وننسى أن نودّع؟
اللغة لا تعلو، لا تتوسل، لا تتباهى، بل تنكمش على ذاتها ككائنٍ يعرف أن لا أحد سينقذه. صمتٌ كثيف يلف القصائد، كأنها كُتبت في غرفة انتظار بعيدة، حيث الموت ليس قرارًا، بل حضور دائم. وهذا ما يمنح الديوان جماله المأساوي: الهدوء الكثيف وسط ضجيج الانهيار.
أنا جائع يا رب: الشعر كصوت البطن الخاوية
في ديوانه، أنا جائع يا رب، يتراجع الموت ليظهر الجوع، لا بوصفه استعارة، بل كحقيقة تشق القلب والقصيدة. الجوع هنا ليس جوع المجاز، بل جوع الخبز، والنوم، والكرامة. الشاعر لا يكتب عن الفقر، بل من داخله. من يد طفل يبيع المناديل في المترو، من قلب أمّ توزع الرغيف على أربعة أطفال، من دمعة رجلٍ لم يعد يجد ما يطعمه لأملٍ يتوسله في عيني أولاده.
ليس في الديوان محاولة للتهوين، ولا رغبة في البطولة. كل شيء يُقال كما هو، كما تراه العين قبل أن تزيّنه المخيلة. "في البيت ماء وملح"، يقول الشاعر، وكأنّه يقول: الشعر أيضًا لا يملك سوى أن يشهد.
أنا جائع يا رب
لكن كريم لا يكتب ليُدين العالم، بل ليضع يده على الكتف المهشّمة. ديوانه صلاة صامتة، لا تُطلب فيها المعجزات، بل تُرتّل الأمنيات الصغيرة: رغيف، وسادة، ضحكة قصيرة. هذه القصائد لا تعظ، بل تحب. لا تكتب الهزيمة بصوت عالٍ، بل تضعها على الطاولة مثل قُبلة أخيرة.
الوفاة السابعة لصانع الأحلام: ما بعد اليأس
أما ديوان، الوفاة السابعة لصانع الأحلام، فهو الأبعد زمنًا والأقرب إلى نضج الجرح. كأنّ الشاعر هنا قد مات بما فيه الكفاية، وصار يعرف كيف يكتب من موقع الهامش، حيث لا بطولة، ولا سعي للشفاء. الشاعر الذي جلس في "شاي مع الموت"، وسجد في "أنا جائع يا رب"، ها هو في "الوفاة السابعة" يعود حكّاءً، لا ليبشّر بشيء، بل ليروي كيف تنكسر الأحلام ولا تنكسر القصيدة.
المرأة هنا لم تعد حلمًا، بل طيفًا يعيد الموتى إلى الحياة بقبلة. الموت لم يعد خصمًا، بل كائنًا مرهقًا يصاب بالأزمات القلبية. الكلمات لم تعد مصقولة، بل مجروحة. الحكاية لم تعد تستعرض عضلاتها، بل تشي بحزن طويل يسري تحتها، كمن يتحدث إلى نفسه في الظلمة.
وفاة السابعة لصانع الأحلام
الديوان كله مكتوب من الظل، حيث الضوء بعيد جدًا، لكنه ما يزال يُلمَح. ثمة رجلٌ واحد فقط، يجلس على أريكته، يحدّق في الحياة من بعيد، ويكتب. ليس لأنه يستطيع، بل لأنه لا يعرف كيف يتوقف.
ثلاثية الانكسار الرحيم
ما الذي يجمع هذه الدواوين الثلاثة؟ ليس الموضوع، بل الروح. الشاعر نفسه، الرجل ذاته الذي يجلس كل مرة على طاولة جديدة: مرّة مع الموت، مرة مع الجوع، ومرة مع الحلم المقتول. وفي كل مرة، لا يصرخ، لا يُدين، لا يتجمّل. فقط يكتب.
كريم عبد السلام ليس شاعرًا يُجمّل الخراب، بل من أولئك الذين يسكنونه بكرامة. لا يطلب من الحياة شيئًا، ولا يقدّم للقارئ دروسًا. كل ما يفعله هو أن يفتح نافذة صغيرة داخل القلب، ويقول: "انظر… هذا أنا، وأظن أن هذا أيضًا أنت".
ثلاثة دواوين، وثلاثة أعمار من الخسارة، يكتبها شاعر يعرف أن الشعر لا ينقذ العالم، لكنه ينقذ القلب من العطب التام. في زمنٍ صارت فيه اللغة سلعة، والمعنى عرضًا ترويجيًا، يعيدنا كريم عبد السلام إلى الأصل: القصيدة كفعل نجاة، كلمسة، كدمعة، كصمتٍ يقول كل ما لا نستطيع.
وإذا كان لا بد من أن نقرأ الشعر، فلنقرأه كما يكتبه هذا الشاعر:
كأننا نضع رؤوسنا على كتف العالم ونهمس له:
"لقد حاولنا… لكننا لم ننجُ".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


نافذة على العالم
منذ 19 ساعات
- نافذة على العالم
ثقافة : ديوان جديد لـ كريم عبد السلام.. "أيها القارئ.. ماذا فعلت الحملان بالذئاب"
الأربعاء 21 مايو 2025 04:30 مساءً نافذة على العالم - صدر حديثا للشاعر كريم عبد السلام ديوان "بالادات.. أيها القارئ السعيد.. ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب"، عن دار نشر يسطرون، متضمنًا عشرين قصيدة فى 146 صفحة من القطع الكبير. ويسعى الشاعر كريم عبد السلام الذى يعتبر أحد أهم الأسماء فى قصيدة النثر المصرية والعربية، إلى تقديم نموذج جديد فى قصيدة النثر من خلال اعتماد شكل القصيدة الملحمية القصيرة أو القصيدة الحكائية الغنائية المعروفة فى الشعر الغربى باسم "بالاد"، وهو فى ذلك يتجه إلى تعميق تيمة الدرامية فى القصيدة والذهاب إلى مناطق الأساطير الرمزية فى التراث وتحميلها بسياقات معاصرة لإنتاج المعنى. كما يسعى الشاعر كريم عبد السلام فى ديوانه الجديد إلى البحث عن إيقاعات جديدة لقصيدة النثر التى تخلت تماما عن العروض الخليلى فى قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية، ويعتمد فى ذلك على مجموعة من التيمات فى وسائط إبداعية أخرى مثل المشهد والتشكيل والصورة الكلية والتكرار الذى يؤدى إلى التناغم، وكذلك المزج بين مجموعة من الإيقاعات المتجاورة والمشاهد المختلفة فيما يشبة تقنية الكولاج فى الفن التشكيلى وتتابع المشاهد فى السينما. يذكر أن ديوان "البالادات- أيها القارئ السعيد .. ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب" للشاعر كريم عبد السلام ، الصادر منذ أيام هو الديوان التاسع عشر فى مسيرة حافلة تواصلت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، حيث أصدر الشاعر أول دواوينه "الأب وقصائد المطر" عام 1993، وبعده توالت أعماله الشعرية.. " بين رجفة وأخرى" 1996، "باتجاه ليلنا الأصلى" 1997، "فتاة وصبى فى المدافن"1999 ، "مريم المرحة" 2002، "نائم فى الجوراسيك بارك" 2004، " قصائد حب إلى ذئبة" 2008، "كتاب الخبز" 2010، "قنابل مسيلة للدموع" 2011 ،"أكان لازما يا سوزى أن تعتلى صهوة أبى الهول" 2014،"مراثى الملاكة من حلب"2015 ، "وكان رأسي طافياً على النيل " 2017، " الوفاة السابعة لصانع الأحلام" 2019 ، " ألف ليل وليل "2020 ،" شاى مع الموت" 2021، "محاولة لإنقاذ جيفارا"2022 ، "أنا جائع يا رب" 2023،"أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة" 2024.


اليوم السابع
منذ 20 ساعات
- اليوم السابع
ديوان جديد لـ كريم عبد السلام.. "أيها القارئ.. ماذا فعلت الحملان بالذئاب"
صدر حديثا للشاعر كريم عبد السلام ديوان "بالادات.. أيها القارئ السعيد.. ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب"، عن دار نشر يسطرون، متضمنًا عشرين قصيدة فى 146 صفحة من القطع الكبير. ويسعى الشاعر كريم عبد السلام الذى يعتبر أحد أهم الأسماء فى قصيدة النثر المصرية والعربية، إلى تقديم نموذج جديد فى قصيدة النثر من خلال اعتماد شكل القصيدة الملحمية القصيرة أو القصيدة الحكائية الغنائية المعروفة فى الشعر الغربى باسم "بالاد"، وهو فى ذلك يتجه إلى تعميق تيمة الدرامية فى القصيدة والذهاب إلى مناطق الأساطير الرمزية فى التراث وتحميلها بسياقات معاصرة لإنتاج المعنى. كما يسعى الشاعر كريم عبد السلام فى ديوانه الجديد إلى البحث عن إيقاعات جديدة لقصيدة النثر التى تخلت تماما عن العروض الخليلى فى قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية، ويعتمد فى ذلك على مجموعة من التيمات فى وسائط إبداعية أخرى مثل المشهد والتشكيل والصورة الكلية والتكرار الذى يؤدى إلى التناغم، وكذلك المزج بين مجموعة من الإيقاعات المتجاورة والمشاهد المختلفة فيما يشبة تقنية الكولاج فى الفن التشكيلى وتتابع المشاهد فى السينما. يذكر أن ديوان "البالادات- أيها القارئ السعيد .. ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب" للشاعر كريم عبد السلام ، الصادر منذ أيام هو الديوان التاسع عشر فى مسيرة حافلة تواصلت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، حيث أصدر الشاعر أول دواوينه "الأب وقصائد المطر" عام 1993، وبعده توالت أعماله الشعرية.. " بين رجفة وأخرى" 1996، "باتجاه ليلنا الأصلى" 1997، "فتاة وصبى فى المدافن"1999 ، "مريم المرحة" 2002، "نائم فى الجوراسيك بارك" 2004، " قصائد حب إلى ذئبة" 2008، "كتاب الخبز" 2010، "قنابل مسيلة للدموع" 2011 ،"أكان لازما يا سوزى أن تعتلى صهوة أبى الهول" 2014،"مراثى الملاكة من حلب"2015 ، "وكان رأسي طافياً على النيل " 2017، " الوفاة السابعة لصانع الأحلام" 2019 ، " ألف ليل وليل "2020 ،" شاى مع الموت" 2021، "محاولة لإنقاذ جيفارا"2022 ، "أنا جائع يا رب" 2023،"أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة" 2024. ديوان كريم عبد السلام


الدستور
منذ 2 أيام
- الدستور
كريم عبدالسلام يكشف عن قصائد تستلهم الملاحم الشعرية وتسعى لصناعة الأسطورة
تحت عنوان "بالادات.. أيها القارئ السعيد.. ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب"، صدر أمس، عن دار يسطرون للنشر، أحدث المجموعات الشعرية، للشاعر، كريم عبد السلام. قصائد تستلهم الملاحم الشعرية وتسعى لصناعة الأسطورة وحول المجموعة الشعرية الأحدث له، "بالادات..أيها القارئ السعيد..ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب"، قال الشاعر كريم عبد السلام في تصريح خاص لـ"الدستور": أتوجه في الديوان الجديد إلى المضى بالقصيدة الدرامية التى ظهرت فى معظم أعمالي الشعرية، إلى أفاقها القصوى من خلال صناعة الملحمة القصيرة، أو القصيدة الحكائية بالكامل أو الأسطورة المعاصرة، والتي يقترن فيها الواقع بالخيال، المعنى بالرمز، وتتجلى فيها القيم الإنسانية التي أصبحت مهددة بالطمس والانحسار بفعل مناخ الاستهلاك والتسليع وطغيان السوشيال ميديا. ولفت "عبد السلام" إلى: يمكن القول إن ديوان "البالادات، والذي يحتوى على عشرين قصيدة في فورم البالاد / الحكاية الملحمية الشعرية، يعتمد على إحياء قيمة المعنى وإثارة الأسئلة الوجودية التي جاهد الإنسان طوال ألفي عام للبحث عن إجابات متوالية لها، بحسب تطوره واتساع مداركه واكتمال قدرته التخييلية، لا ينشغل في ذلك بالمد الاستهلاكي الذي يجرف القيم الإنسانية الأساسية ولا يعبأ بالأوهام الرائجة حول تراجع الشعر أو عدم جدواه بالنسبة لقطاعات من المجتمع، ولا يهتم بطغيان الركاكة والاستسهال والتفاهة المنسوبة إلى الشعر أيا كان شكله، فما زال الشاعر المعاصر مثل سلفه الذي دون كتاب الموتى والأسفار المقدسة والرسائل على الجدران والأغاني الجنائزية يبحث عن معنى الكون ومصيره ومبرر الوجود على الأرض. غلاف الديوان يقول كريم عبد السلام: "كيف يستطيع الشاعر إذن أن يضع أغانى السيرينات كما سمعها فى روحه على الورق؟ كيف يمكن الإمساك بهمهمات الحب حتى آخر نأمة؟ كيف يمكن تثبيت نظرة انطفاء الحياة فى عينى العجوز؟ كيف يمكن التوفيق بين استغراق الشاعر فى غابة القصيدة بصورها وكائناتها وأصواتها ولوحاتها المتكاملة، وبين إعادة تمثلها فى كلمات على صفحة بيضاء؟ كيف يمكن الإمساك بعالم بوليفونى غنى بتشابكه وأبعاده ونقله كاملًا على الورقة البيضاء في عالم ذى بعد واحد؟ أي خسارة فادحة يتحملها الشاعر بين عيش القصيدة وتسجيلها؟ وإلى أى مدى يقبل بخسارته ويتعايش معها، معذبًا بما يدركه في روحه وحواسه ويعرف أنه موجود بكليته وتمامه في وسيط آخر غير الورقة وشاشة الكمبيوتر؟". لمحة عن منتج كريم عبد السلام الإبداعي تجدر الإشارة إلي أن ديوان "البالادات- أيها القارئ السعيد.. ماذا فعلت الحملانُ بالذئاب" للشاعر كريم عبد السلام، هو الديوان التاسع عشر في مسيرة حافلة تواصلت على مدى أكثر من ثلاثة عقود، حيث أصدر الشاعر أول دواوينه "الأب وقصائد المطر" عام 1993، وبعده توالت أعماله الشعرية، " بين رجفة وأخرى" 1996، "باتجاه ليلنا الأصلى" 1997، "فتاة وصبى فى المدافن"1999، "مريم المرحة" 2002، "نائم فى الجوراسيك بارك" 2004، "قصائد حب إلى ذئبة" 2008، "كتاب الخبز" 2010، "قنابل مسيلة للدموع" 2011، "أكان لازما يا سوزى أن تعتلى صهوة أبى الهول" 2014، "مراثى الملاكة من حلب" 2015، "وكان رأسي طافيًا على النيل" 2017، " الوفاة السابعة لصانع الأحلام" 2019، " ألف ليل وليل "2020،" شاى مع الموت" 2021، "محاولة لإنقاذ جيفارا"2022، "أنا جائع يا رب" 2023، "أكتب فلسطين متجاهلا ما بعد الحداثة" 2024.