
التمور العربية في بلاد "العم سام".. كيف اكتسبت هذه الشعبية في أميركا؟
تعد النخلة أقدم شجرة مثمرة زرعها الإنسان، وتحمل في طياتها إرثا ثقافيا واقتصاديا يمتد لآلاف السنين، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لكن القصة الأقل شهرة هي كيف انتقلت هذه الثمار إلى الولايات المتحدة، وباتت تزرع في واحات صحراوية مثل وادي كوتشيلا بولاية كاليفورنيا الذي يعرف اليوم بأنه عاصمة التمور الأميركية.
إنتاج واستهلاك
في الولايات المتحدة، تستحوذ ولاية كاليفورنيا على أغلب إنتاج التمور، التي تزرع في ولايات أخرى، مثل أريزونا وتكساس، ولكن على نطاق أصغر بكثير.
وبحسب بيانات مركز موارد التسويق الزراعي التابع لوزارة الزراعة الأميركية، أنتجت كاليفورنيا عام 2021 نحو 60 ألف طن من التمور، وهو رقم متواضع إذا ما قورن بالدولة صاحبة أكبر إنتاج في العالم، وهي مصر التي أنتجت في نفس العام 1.7 مليون طن، بحسب منظمة "فاو".
لكن المقارنة التي بدت غير عادلة، تبدو مفاجئة عند النظر إلى أرقام الصادرات، إذ صدرت مصر عام 2022 نحو 17 ألف طن، في حين صدرت الولايات المتحدة ما يقرب من 16 ألف طن في نفس العام.
وتنقلب المقارنة لصالح الولايات المتحدة بالنظر إلى عائدات التصدير، إذ تحقق الولايات المتحدة 82.34 مليون دولار مقابل 69.5 مليون دولار لمصر.
مغامرات المستكشفين
أواخر القرن الـ19، أطلقت وزارة الزراعة الأميركية برنامجا يعرف بـ"المستكشفين الزراعيين" وهو فريق من الخبراء الذين جابوا العالم بحثا عن محاصيل جديدة يمكن زراعتها.
وكانت الجزائر والعراق ومصر في مقدمة البلاد التي زارها المستكشفون للبحث عن شتلات النخيل تصلح للزراعة في الأجواء الأميركية. وكان من بينهم عالم النبات ديفيد فيرتشايلد الذي قرر السفر إلى بغداد.
أما زميله والتر سوينغل، فقد زار الجزائر عام 1900 ودرس ظروف زراعة التمور هناك، فوجد أن المناخ الصحراوي في وادي كوتشيلا يشبه إلى حد كبير بيئة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، مع توفر مياه جوفية عميقة، مما جعله مناسبا لزراعة النخيل.
جلب النخيل
لم يكن من الممكن زراعة التمور من البذور، لأن ذلك لا يضمن الحصول على أصناف جيدة من الثمار، لذا قام سوينغل بجلب "فسائل" من النخيل، وهي براعم تقطع من الأشجار الأم وتزرع لتنتج نخيلا مطابقا وراثيا. وكانت هذه العملية شاقة للغاية، حيث بلغ وزن الفسيلة الواحدة نحو27 كيلوغراما، وكان يجب قطعها بعناية ونقلها لمسافات طويلة.
ومع ازدهار فروع نخيل التمر التي زرعها سوينغل في وادي كوتشيلا بدأ المزارعون يطالبون بمزيد منها. ودفع ذلك الأخوين المستكشفين بول وويلسون بوبينو -اللذين كانا يمتلكان مشتلا على بعد ساعات قليلة من وادي كوتشيلا- إلى القيام برحلة طويلة إلى العراق عام 1911، لشراء الآلاف من فسائل النخيل من البصرة وبغداد.
وخلال رحلتهما، أصيب بول بالتيفوئيد بينما عانى ويلسون من الملاريا، وحتى بعد تحميل شحنتهما الثمينة على متن سفينة تجارية، تعرضا لعواصف شديدة كادت تودي بحمولتهما. لكن في النهاية، وصلت 9 آلاف فسيلة نخيل إلى ميناء غالفستون في تكساس، ومن هناك نقلت بالقطارات إلى وادي كوتشيلا، حيث بدأت زراعة التمور الأميركية على نطاق تجاري لأول مرة، وفقا لموقع الإذاعة الوطنية العامة.
من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى "الصحراء الأميركية"
أوائل القرن الـ20، كان لدى الأميركيين افتتان خاص بالشرق الأوسط، متأثرين بالقصص الشعبية مثل "ألف ليلة وليلة" وقصص علاء الدين وحكايات ملكة سبأ وكليوباترا. واستغل مزارعو التمور في كاليفورنيا هذا الشغف لتسويق هذه الفاكهة الجديدة والترويج للمنطقة. وبدأ مزارعو التمور في وادي كوتشيلا إطلاق أسماء عربية على مناطق إنتاج التمور مثل "مكة" و"العربية" و"الواحة" بل وارتدى بعض المرشدين السياحيين ملابس عربية لاستقبال الزوار واصطحابهم على ظهور الجمال.
وعام 1922، أدى اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون إلى إثارة اهتمام الناس وخيالهم بشكل أكبر. فإلى جانب المومياوات والكنوز الثمينة التي عثر عليها في المقبرة، لفتت قطعة واحدة انتباه الناس في وادي كوتشيلا، وهي التمور المحفوظة التي درسوا كيفية صنعها.
واستحدث المزارعون مهرجان "التمور الدولي" الذي كان يقام كل عام منذ الأربعينيات، حيث كان السكان يرتدون ملابس مستوحاة من الشرق الأوسط، وتعرض التمور بأنواعها المختلفة.
ورغم أنه لم يبق الكثير من آثار السياحة الزراعية ذات الطابع العربي في وادي كوتشيلا، لكن التمور لا تزال موجودة. فهي -حسب "سيفل إيتس" Civil Eats، الموقع المختص بالغذاء والزراعة والمناخ- تدر أكثر من 30 مليون دولار سنويا على وادي كوتشيلا، وأكثر من 90% من التمور المحصودة بالولايات المتحدة تزرع في "الوادي".
أشهر أنواع التمور
اليوم، يُزرع أكثر من 90% من إنتاج التمور في الولايات المتحدة داخل وادي كوتشيلا بولاية كاليفورنيا، ويُعد هذا الوادي موطنًا لأشهر أنواع التمور المزروعة في البلاد، بحسب ما ورد في مكتبة الكونغرس.
من بين هذه الأنواع:
المجدول: يتميز بلونه البني الداكن ومذاقه الحلو، ويُعد من أكثر أنواع التمور شهرة واستهلاكًا في أميركا. ويُذكر أن جميع أشجار المجدول في الولايات المتحدة تعود في أصلها إلى واحة واحدة في المغرب.
وعلى الرغم من أن هذا الصنف أصبح من الركائز الزراعية في أميركا، إلا أنه كاد يختفي في موطنه الأصلي بسبب الأمراض التي اجتاحت مزارع النخيل في المغرب والجزائر. وفي خطوة لإحياء هذا الإرث الزراعي، يعمل بعض المزارعين الأميركيين على إعادة إرسال فسائل المجدول إلى شمال أفريقيا.
دقلة النور: تتميز بقوامها الجاف نسبيًا ونكهتها الغنية، وتُعد من الأصناف الشهيرة في الجزائر وتونس.
البرحي: أصله من جنوب العراق، ويمكن تناوله قبل نضجه الكامل عندما يكون لونه أصفر، ويصبح أكثر حلاوة بعد النضج. ويُعد هذا النوع أقل انتشارًا في أميركا مقارنةً بالمجدول ودقلة النور.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٠١-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
ضعف التمويل وعدم الإيفاء بالالتزامات يعرقلان حماية المحيطات
أفاد تقرير أصدره مركز الموارد العالمي إلى أن عدم الإيفاء بالتعهدات الدولية بمليارات الدولارات -خلال العقد الماضي لحماية المحيطات- يعرقل العمل، ولا يزال التنوع البيولوجي البحري على المحك. ويشير التقرير -الصادر في 29 أبريل/نيسان 2025 خلال مؤتمر "محيطنا" المنعقد في بوسان بكوريا الجنوبية- إلى أنه تم التعهد بأكثر من 2600 التزام بين عامي 2014 و2024 لحماية الحياة البحرية ومكافحة تلوث المحيطات. ولم يُنجز منها سوى 43%. ولا يزال نحو 38% منها قيد التنفيذ، بينما لم يبدأ 18% منها بعد. وحسب مؤلفي التقرير، لا تتناسب وتيرة العمل مع إلحاح التهديدات التي تواجهها المحيطات من النفايات البلاستيكية والصيد غير المشروع إلى تبييض المرجان وفقدان الموائل. وتغطي المحيطات أكثر من 70% من سطح الأرض، وهي معرضة لضغط شديد بسبب الصيد الجائر والتلوث وارتفاع درجة حرارة المياه. ويحتاج إنقاذ محيطات العالم إلى تمويلٍ ضخم، يقدر بنحو 175 مليار دولار سنويا بحلول عام 2030، وفقا للخبراء. وتُعد هذه الفترة حاسمة لتحقيق الهدف الثالث المحدد في إطار كونمينغ-مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي التابع لاتفاقية التنوع البيولوجي. كما تُصادق الدول ببطء على معاهدة أعالي البحار التي تهدف إلى حماية التنوع البيولوجي خارج نطاق الولاية الوطنية، وسيتطلب تنفيذها أيضا تمويلا. ويُظهر التقرير أنه رغم تزايد التعهدات، لا تزال حماية التنوع البيولوجي البحري مهمشة. فقد تلقت المناطق البحرية المحمية الضرورية لإنقاذ الأنواع 6.7 مليارات دولار فقط، مقارنةً بـ86.6 مليارا لمشاريع مناخ المحيطات. وبدون حماية قوية، قد تفقد المحيطات أنظمة بيئية مهمة مثل الشعاب المرجانية ومروج الأعشاب البحرية وأشجار المانغروف. وغالبا ما تُهمَل الدول الصغيرة والمناطق الضعيفة بشكل خاص. فقد التزمت الدول الجزرية الصغيرة النامية، وأقل الدول نموا، بنسبة 13% و7% فقط من الالتزامات، على التوالي. ولا يمثل السكان الأصليون والمجتمعات المحلية إلا 5% فقط من التعهدات، وحتى في الحالات التي وُعِد فيها بتمويل، لم يُنفق بالضرورة، إذ لا يزال حوالي 25 مليار دولار من التمويل المُتعهَد به غير مُنفق. وتستحوذ المناطق الغنية مثل أوروبا وأميركا الشمالية على معظم الالتزامات والإجراءات المنجزة، في حين تتخلف مناطق مثل المحيط الهندي والمناطق القطبية عن الركب. ومع ذلك، يُشير التقرير إلى بعض النجاحات. فقد أُنجز أكثر من ألف التزام، مما أتاح 23.8 مليار دولار للأعمال البحرية. وقد حققت مشاريع الحفاظ على السواحل، ومصائد الأسماك المستدامة، وقوانين مكافحة التلوث، نتائج ملموسة في بعض المجالات. ولكن التعهدات الطوعية وحدها لا تكفي، إذ يدعو التقرير إلى قوانين أقوى، ورصد أفضل للتقدم، وإشراك أكبر للشعوب الأصلية والنساء في حوكمة المحيطات. وقد أطلقت منظمة "تحالف الطموح العالي من أجل الطبيعة والبشر" خلال المؤتمر مبادرة جديدة ستعالج هذه المسألة إلى حدٍّ ما. وأعلنت المنظمة عن "مبادرة النشر السريع". وهذه المبادرة تقدم منحا صغيرة وسريعة تتراوح قيمتها بين 25 ألفا و50 ألف دولار. ويهدف إلى مساعدة الدول النامية على اتخاذ خطوات فورية لتحقيق هدف 30×30، والذي يعني إلزام دول العالم بحماية وتخصيص نسبة 30% من أراضي وبحار الكوكب لتكون مناطق طبيعية بحلول عام 2030. إعلان وستدعم الآلية الجديدة إجراءات مثل التدريب على حوكمة التنوع البيولوجي والسكان الأصليين، ورسم خرائط للمناطق للحماية المستقبلية، وصياغة سياسات الحفاظ على البيئة وعقد ورش العمل. وسيتم تمويل 10 دول في الجولة الأولى، مع خطط للتوسع إلى 30 دولة على مدى 5 سنوات. كما سيتم توجيه المنح عبر منظمات غير ربحية محلية تعمل مع الحكومات الوطنية. وستتولى مجموعة استشارية متخصصة توجيه قرارات التمويل، مع التركيز على التوازن البيئي والجغرافي. وتشكل مبادرة النشر السريع جزءا من إستراتيجية أوسع نطاقًا لتسريع العمل في مجال التنوع البيولوجي، إلى جانب منصة التوفيق التابعة لتحالف الطموح العالمي "إتش إيه سي" (HAC) والتي تربط البلدان بالتمويل الطويل الأجل. ويشير التقرير إلى أن 8.4% فقط من المحيطات و17.6% من الأراضي والمياه الداخلية هي المناطق المحمية حاليا، وهو ما يتطلب جهدا أكبر والتزامات دولية أكثر لحماية المحيطات والتنوع البيولوجي فيها.


الجزيرة
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
تفاصيل حرب الذكاء الاصطناعي بين أميركا والصين
يعيش العالم حربًا عالمية باردة في فضاء تكنولوجيا المعلومات، قطباها الولايات المتحدة الأميركية والصين، وسلاحها الرئيسي التفوق في الهيمنة على العالم عبر الذكاء الاصطناعي. ربما كان إحدى معاركها الكاشفة ما حدث قبل عدة أشهر عندما تمكنت الصين بتكلفة زهيدة لا تزيد عن 5.6 ملايين دولار أن تطلق تطبيق الذكاء الاصطناعي "ديب سيك"، ليضرب بقوة التطبيقات الأميركية التي كلفت المليارات مثل "شات جي بي تي". هذا الحدث زلزل العالم، بل بات زلزالًا تكنولوجيًا هزّ عمالقة تكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة، حيث إن الفرضية الأميركية تقوم على أن قوة حوسبة الذكاء الاصطناعي الأميركية لا منافس لها، وأن منع الوصول إلى الرقائق الرقمية المتقدمة ومقدمي الخدمات السحابية سيعطي أميركا القدرة على احتواء الصين والحد من قدراتها. الحقيقة هي أن الصين تتبع المنهج العكسي؛ فهي تبني قدرات متنامية للذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، بينما تتحرك الولايات المتحدة نحو أنظمة الذكاء الاصطناعي المغلقة التي يتمّ التحكم فيها بإحكامٍ شديد. لا يدرك الأميركيون سوى جزء واحد من معادلة الذكاء الاصطناعي؛ فالبيانات لها نفس القدر من الأهمية، إذ أجبرت الولايات المتحدة على تصنيف الدول إلى ثلاثة مستويات: موثوق بها وهي 18 دولة ليس من بينها بولندا، وإسرائيل، واليونان وهي من حلفائها. وموثوق بها بدرجة متوسطة. ودول غير موثوق بها كإيران. هذا التصنيف دفع العديد من الدول إلى الاعتماد على مزوّدي الخدمات السحابية الصينيين، وهي بهذا تخاطر بمنح الصين وصولًا لا مثيل له إلى بيانات هذه الدول، مما يتيح التدريب والتطور المستمر لقدرات الذكاء الاصطناعي الصيني. في هذا السياق من المهم إدراك أن قوانين الأمن القومي والإنترنت في الصين تمنح حكومة الصين إشرافًا واسعًا على شركات مثل "علي بابا كلاود" و"هواوي كلاود"، مما يعني أن البيانات المخزنة على خوادمها لعملائها متاحة لها، مما يمنح الصين ميزة كبيرة في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، فكلما زاد كمّ البيانات زادت قدراته، مما يؤدي إلى تكريس هيمنتها على الذكاء الاصطناعي في الأسواق الناشئة. إنّ ارتكاب الولايات المتحدة خطأ فادحًا كلفها الكثير بانشغالها في بناء دفاعات صلبة تجاه الصين في ملعب الذكاء الاصطناعي، ولكنها تفعل العكس حينما تلعب في هذا الملعب دور الهجوم. فواشنطن انشغلت ببناء جدران صلبة لتقييد وصول الصين إلى قوة الحوسبة (مصطلح يشير إلى الموارد الحسابية المستخدمة لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي)، في حين أن الصين تتحايل على هذه الحواجز وتطوّر مزايا غير متماثلة إستراتيجيًا مع مثيلتها الأميركية. أدركت الشركات الصينية أن الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى تتساوى الصين مع الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي عالي الأداء، فركزت على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي عالي الكفاءة وأقل كلفة. وسعت الصين إلى بناء مواقع مهيمنة في الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، وطوّرت البنية التحتية السحابية والنظم الإيكولوجية للبيانات العالمية. مكّنت هذه الإستراتيجية الصين من توفير وصول أرخص وغير مقيد إلى خدمات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يمكّنها من الأسواق الناشئة بطرق سيكون من الصعب التخلص منها. هذه ليست مسابقة في الذكاء الاصطناعي، إنّها معركة من أجل السيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية اليوم وفي المستقبل. إنّ قصور أوروبا والولايات المتحدة في قراءة الصين قادم من أن المدرسة الفكرية الغربية تعتقد أن الصين الشيوعية لا يمكنها الابتكار بفاعلية والتفوق على الغرب، في الوقت الذي طوّر فيه الحزب الشيوعي الصيني قدراته على استيعاب التنوع والاختلاف داخل الصين، وصارت الصين على نحو متزايد رائدة في كافة مجالات التكنولوجيا وأكثر استقلالية، لتصبح ندًا ومنافسًا في مجالات الروبوتات والذكاء الاصطناعي، والسيارات الكهربائية، وبطاريات الليثيوم… إلخ. تعتمد الصين إستراتيجية التنمية طويلة الأمد، يساعدها على هذا سوقُها الضخم الذي يستطيع استيعاب أي منتج، وبالتالي يضمن له الاستمرارية والتطور، ومن ثم التصدير بسعر تنافسي، فضلًا عن أن الصين لا تضع قيودًا على منتجاتها. إن طموح الصين يهدف إلى كسر الولايات المتحدة وإنزالها عن عرش الاقتصاد الدولي، وفي ظل غياب غربي تهيمن تدريجيًا على العالم، كما هو الحال في أفريقيا. إن الفرق بين الولايات المتحدة والصين هو الفرق بين السلحفاة والأرنب؛ فالولايات المتحدة تمتلك تقنيات متطورة وابتكارات فريدة لكنها تنقلها للتطبيق في منتجات الأسواق ببطء كالسلحفاة، في حين أن الصين تقفز سريعًا كالأرنب للسوق عبر تطبيقات متعددة. هذا ما يعطي الصين موقفًا يسمح لها بوضع المعايير الفنية لتكنولوجيا المستقبل، وتشكّل حوكمتها لهذا الفضاء، خاصة في ظل وجود سوق ضخم في الجنوب ودول "البريكس" المتعطشة للتكنولوجيا. هذا ما يجعل المنافسة الجيوسياسية طويلة الأمد بين الصين والولايات المتحدة محل تساؤلات؟ من المتوقع أن تهيمن الصين على 30% من إجمالي الناتج الصناعي العالمي، مع إدراك الصين أن الروبوتات والذكاء الاصطناعي سيعوضانها عن ارتفاع تكلفة اليد العاملة، وهو ما أدركته مع تراجع الكثافة السكانية لصالح الهند التي تعد كبرى دول العالم من حيث تعداد السكان ورخص اليد العاملة. إنّ خطة ترامب "ستار غيت" والتي تقدر تكلفتها بـ500 مليار دولار تشكل محاولة لمواجهة الصعود الصيني، لكن افتقار الولايات المتحدة للقدرات التصنيعية يشكل عقبة كبرى، خاصة أن الصين تطوّر قدراتها التصنيعية مثل مجالات المفاعلات النووية والطاقة المتجددة، في الوقت الذي ركز فيه ترامب على الوقود الأحفوري، علمًا بأن الطاقة النووية والطاقة المتجددة يتزايد اعتمادهما على الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية. من هذا يمكننا أن ندرك وجود مساحات كبيرة تعزز سياسات الصين في استغلال وتنمية قدراتها. إن ما كان يميز الغرب هو الشراكات البحثية الممتدة عبر دوله، والتي نتج عنها فوائد متبادلة، لكن في ظل شعار ترامب "أميركا أولًا" سيصبح على حلفائه الأوروبيين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكندا البحث عن مسار مستقل لضمان استمرار قدراتهم التنافسية والقدرة على التكيف مع المنافسات الشرسة على الصعيد الدولي. إنها حرب باردة على الفضاء الرقمي.


الجزيرة
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
اشتعلت حرب الذكاء الاصطناعي بين الصين وأميركا: من يكسب المعركة؟
يعيش العالم حربًا عالمية باردة في فضاء تكنولوجيا المعلومات، قطباها الولايات المتحدة الأميركية والصين، وسلاحها الرئيسي التفوق في الهيمنة على العالم عبر الذكاء الاصطناعي. ربما كان إحدى معاركها الكاشفة ما حدث قبل عدة أشهر عندما تمكنت الصين بتكلفة زهيدة لا تزيد عن 5.6 ملايين دولار أن تطلق تطبيق الذكاء الاصطناعي "ديب سيك"، ليضرب بقوة التطبيقات الأميركية التي كلفت المليارات مثل "شات جي بي تي". هذا الحدث زلزل العالم، بل بات زلزالًا تكنولوجيًا هزّ عمالقة تكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة، حيث إن الفرضية الأميركية تقوم على أن قوة حوسبة الذكاء الاصطناعي الأميركية لا منافس لها، وأن منع الوصول إلى الرقائق الرقمية المتقدمة ومقدمي الخدمات السحابية سيعطي أميركا القدرة على احتواء الصين والحد من قدراتها. الحقيقة هي أن الصين تتبع المنهج العكسي؛ فهي تبني قدرات متنامية للذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، بينما تتحرك الولايات المتحدة نحو أنظمة الذكاء الاصطناعي المغلقة التي يتمّ التحكم فيها بإحكامٍ شديد. لا يدرك الأميركيون سوى جزء واحد من معادلة الذكاء الاصطناعي؛ فالبيانات لها نفس القدر من الأهمية، إذ أجبرت الولايات المتحدة على تصنيف الدول إلى ثلاثة مستويات: موثوق بها وهي 18 دولة ليس من بينها بولندا، وإسرائيل، واليونان وهي من حلفائها. وموثوق بها بدرجة متوسطة. ودول غير موثوق بها كإيران. هذا التصنيف دفع العديد من الدول إلى الاعتماد على مزوّدي الخدمات السحابية الصينيين، وهي بهذا تخاطر بمنح الصين وصولًا لا مثيل له إلى بيانات هذه الدول، مما يتيح التدريب والتطور المستمر لقدرات الذكاء الاصطناعي الصيني. في هذا السياق من المهم إدراك أن قوانين الأمن القومي والإنترنت في الصين تمنح حكومة الصين إشرافًا واسعًا على شركات مثل "علي بابا كلاود" و"هواوي كلاود"، مما يعني أن البيانات المخزنة على خوادمها لعملائها متاحة لها، مما يمنح الصين ميزة كبيرة في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، فكلما زاد كمّ البيانات زادت قدراته، مما يؤدي إلى تكريس هيمنتها على الذكاء الاصطناعي في الأسواق الناشئة. إنّ ارتكاب الولايات المتحدة خطأ فادحًا كلفها الكثير بانشغالها في بناء دفاعات صلبة تجاه الصين في ملعب الذكاء الاصطناعي، ولكنها تفعل العكس حينما تلعب في هذا الملعب دور الهجوم. فواشنطن انشغلت ببناء جدران صلبة لتقييد وصول الصين إلى قوة الحوسبة (مصطلح يشير إلى الموارد الحسابية المستخدمة لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي)، في حين أن الصين تتحايل على هذه الحواجز وتطوّر مزايا غير متماثلة إستراتيجيًا مع مثيلتها الأميركية. أدركت الشركات الصينية أن الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى تتساوى الصين مع الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي عالي الأداء، فركزت على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي عالي الكفاءة وأقل كلفة. وسعت الصين إلى بناء مواقع مهيمنة في الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، وطوّرت البنية التحتية السحابية والنظم الإيكولوجية للبيانات العالمية. مكّنت هذه الإستراتيجية الصين من توفير وصول أرخص وغير مقيد إلى خدمات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يمكّنها من الأسواق الناشئة بطرق سيكون من الصعب التخلص منها. هذه ليست مسابقة في الذكاء الاصطناعي، إنّها معركة من أجل السيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية اليوم وفي المستقبل. إنّ قصور أوروبا والولايات المتحدة في قراءة الصين قادم من أن المدرسة الفكرية الغربية تعتقد أن الصين الشيوعية لا يمكنها الابتكار بفاعلية والتفوق على الغرب، في الوقت الذي طوّر فيه الحزب الشيوعي الصيني قدراته على استيعاب التنوع والاختلاف داخل الصين، وصارت الصين على نحو متزايد رائدة في كافة مجالات التكنولوجيا وأكثر استقلالية، لتصبح ندًا ومنافسًا في مجالات الروبوتات والذكاء الاصطناعي، والسيارات الكهربائية، وبطاريات الليثيوم… إلخ. تعتمد الصين إستراتيجية التنمية طويلة الأمد، يساعدها على هذا سوقُها الضخم الذي يستطيع استيعاب أي منتج، وبالتالي يضمن له الاستمرارية والتطور، ومن ثم التصدير بسعر تنافسي، فضلًا عن أن الصين لا تضع قيودًا على منتجاتها. إن طموح الصين يهدف إلى كسر الولايات المتحدة وإنزالها عن عرش الاقتصاد الدولي، وفي ظل غياب غربي تهيمن تدريجيًا على العالم، كما هو الحال في أفريقيا. إن الفرق بين الولايات المتحدة والصين هو الفرق بين السلحفاة والأرنب؛ فالولايات المتحدة تمتلك تقنيات متطورة وابتكارات فريدة لكنها تنقلها للتطبيق في منتجات الأسواق ببطء كالسلحفاة، في حين أن الصين تقفز سريعًا كالأرنب للسوق عبر تطبيقات متعددة. هذا ما يعطي الصين موقفًا يسمح لها بوضع المعايير الفنية لتكنولوجيا المستقبل، وتشكّل حوكمتها لهذا الفضاء، خاصة في ظل وجود سوق ضخم في الجنوب ودول "البريكس" المتعطشة للتكنولوجيا. هذا ما يجعل المنافسة الجيوسياسية طويلة الأمد بين الصين والولايات المتحدة محل تساؤلات؟ من المتوقع أن تهيمن الصين على 30% من إجمالي الناتج الصناعي العالمي، مع إدراك الصين أن الروبوتات والذكاء الاصطناعي سيعوضانها عن ارتفاع تكلفة اليد العاملة، وهو ما أدركته مع تراجع الكثافة السكانية لصالح الهند التي تعد كبرى دول العالم من حيث تعداد السكان ورخص اليد العاملة. إنّ خطة ترامب "ستار غيت" والتي تقدر تكلفتها بـ500 مليار دولار تشكل محاولة لمواجهة الصعود الصيني، لكن افتقار الولايات المتحدة للقدرات التصنيعية يشكل عقبة كبرى، خاصة أن الصين تطوّر قدراتها التصنيعية مثل مجالات المفاعلات النووية والطاقة المتجددة، في الوقت الذي ركز فيه ترامب على الوقود الأحفوري، علمًا بأن الطاقة النووية والطاقة المتجددة يتزايد اعتمادهما على الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية. من هذا يمكننا أن ندرك وجود مساحات كبيرة تعزز سياسات الصين في استغلال وتنمية قدراتها. إن ما كان يميز الغرب هو الشراكات البحثية الممتدة عبر دوله، والتي نتج عنها فوائد متبادلة، لكن في ظل شعار ترامب "أميركا أولًا" سيصبح على حلفائه الأوروبيين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكندا البحث عن مسار مستقل لضمان استمرار قدراتهم التنافسية والقدرة على التكيف مع المنافسات الشرسة على الصعيد الدولي. إنها حرب باردة على الفضاء الرقمي.