بشير البكر… مسافرا بين قصائد وأمكنة
غادر بيته بحثا عن بلاد، بحثا عن ضوء يمحو العتمة التي عاش فيها، وطاف في الأرجاء، بين مدن ومطارات، بين حياة مرئية وأخرى في الخفاء، طال التّرحال ولم يستقرّ به مقام. ركب حافلات وقطارات وطائرات، عاش بين منفى وآخر، بين رحيل وترحال، قابل أشخاصا من المشاهير، وجالس كبار الكتّاب، مثلما قابل آخرين مرّوا عليه من دون أن يتركوا ذكرى، ولم يكن في حاجة إلى كاميرا من أجل توثيق ألبوم ذكريات، بل كان يحفظ الوجوه والأسماء في الذاكرة. طاف بين البقاع، بين قارات ثلاث، وأدرك في الختام أن خروجه من البيت إنّما الغاية منه البحث عن قصيدة، عن الشعر. أدرك أن الأدب هو البلاد التي يرجوها، وقد طال انتظاره من أجل الوصول إليها. فالأدب بلاد لا ترسمها حدود، بل ترسمها المخيلة، وهي أوسع البلدان في أرض الله الشاسعة. ذلك ما يحكيه بشير البكر في «بلاد لا تشبه الأحلام» (نوفل، 2025).في هذا الكتاب حيث السرد يصير قصيدة، وحيث القصيدة هي سيرة صاحبها، والرحلة هي الوجه الآخر من حياة الإنسان. في هذه السيرة يروي المؤلف أشياء عاشها وأخرى تمنّى أن يعيشها، ويكتب بلغة عذبة عن مشقّة أن تصير كاتبا من سوريا، حيث لا يعرف إلى أي أرض يعود ولا بأي تاريخ يفاخر. ولكن بشير البكر في جولاته، لم يتخلّ عن ذكرى الأمكنة في الحسكة، يتذكّر ما حصل له في حلب أو ما جاورها، يتذكّر سوريا أخرى تختلف عن سوريا في الزّمن الحاضر. فقد غادر بلاده في الواقع، وظلّ يعود إليها في المنام. غادر المكان من غير أن يكفّ عن اشتياق دفين إليه. لم يقطع الحبل السرّي الذي يوصله إلى أمكنة الصّبا، لكن الأمكنة تعددت في وقت لاحق، وصار يعيش خارج المكان، يؤسس بلدا له في جنّة الشعر. وكأنه يخبر القارئ أن الشاعر مثل الكاتب عليه أن يتحمّل لعنة، أن يرضى بقدر مثل أقدار الإغريق، الذين كانوا يبتكرون آلهة من أجل الانتقام منها، وكذلك الحال في أكثر من بلاد عربية، نلد شعراء كي نتبرّأ منهم، كي نحيلهم إلى سنوات من الجمر والتّيهان. نعرضهم إلى النّفي ثم نحمّلهم وزر اختيار المنافي.وفي هذا الكتاب لا يتوقّع القارئ أن يصادف سيرة عادية، كتبت بطريقة خطية، بل هي سيرة متشظية، لا يحكمها معيار الزمن أو ترتب الأحداث والوقائع، بل يحكمها تدفّق الذكريات، فالمؤلف لم يحصر نفسه في خطة كتابة، لم يتّكل على برنامج معدّ سلفا، ولم يخضع إلى بروتكول في تسويد الورق، بل خاض بحثه عن «بلاد لا تشبه الأحلام» متحرّرا من الأرشيف، متكلا على صلابة الذاكرة، فمن الأحداث ما يظهر ثم يخبو، قبل أن يعود في وقت لاحق، ومن الأسماء من يظهر ويختفي، في كتابة تربط بين الخرائط والجغرافيات، بين بلاد عربية وأخرى أوروبية، في سيرة تحكي عن هشاشة الإنسان في عالم لم يرأف بالكتّاب، وهي سيرة تكسر أفق توقّع القارئ، وتجعله مستعدا للاحتمالات عندما ينتقل من فصل لآخر. ولكن الشيء الأكيد الذي لا يتخلى عنه بشير البكر في هذه السيرة، هو إصراره على كتابة تعنى بالشعر، وتجعل منه عمادا في مغامرته السردية. في هذه السيرة الرّوائية قد يمتزج الواقع بالمتخيل، لكن اللغة التي كتبت بها واحدة لا تتغيّر.يتذكّر بشير البكر طفولته، في صحراء وبادية، عندما كان يرافق والده في خرجات برية، أو عندما كان يطارد الذّئاب، لكن الذئاب تحوّلت إلى بشر، ويكتب: «وحين حزمت حقيبتي عن عدّة كتب ودفاتر وقميص وبنطلون، كانت الذئاب ببدلات مرقّطة تنتشر في كلّ مكان. بقيت تلازمني حتى عبرت الحدود». وبعدما كان يطادر الذئاب صارت الذئاب نفسها تطادره، بعدما تحوّلت إلى بشر، تطارده في مناماته. لم يشعر بأمان في البلاد التي ولد وكبر فيها، ووجد صيغة للأمان في الأسفار. ساوره قلق من الاستقرار وعثر على طمأنينة في اللااستقرار. فقد غادر طفولته، وكفّ عن مطاردة الغزلان والأرانب والثعالب، وصار مشغولا بمطاردة الأمكنة.من بيروت إلى نيقوسيا، ومن باريس إلى لندن، ثم عودة أخرى إلى حواضر عربية، تلاه رجوع إلى ديار أوروبية. هكذا هي الحال التي عاش فيها المؤلف، لا يمكث في مكان إلا ليغادره، لا يمكث في مدينة من أجل تجوال، بل من أجل أن يجعل منها منجم ذكريات. هذه الذكريات تراكمت وأحالته إلى تدوين سيرته في كتاب. مبتدأ هذه السيرة هي سوريا، التي غادرها وهو يرى «خيط الدّم الذي يسيل فوق الخريطة». فقد تنبّأ بالمصير، الذي سوف تصل إليه بلاده، ومع أن سوريا قد شرعت في الخروج من محنتها، فإن الضريبة كانت فادحة، لأن أمثال بشير البكر بالمئات، من شعراء وكتّاب سكنوا المنافي. يبحثون مثله عن بلاد لهم لا تشبه الأحلام، من غير أن يفلحوا في مفارقة بلاد الطفولة. يتحايلون على الحنين بالمضي في الكتابة، وفي توسيع نطاق الحلم. هذه الطفولة التي عاشها المؤلف مثل غيره، طفولة معجونة بوجوه من العائلة ووجه آخرين رافقوه في شغف القراءة، أو في محبة المغامرة، كما إن هذه الطفولة المعجونة بالحكايات والخرافات سوف تسقي مخيلة الكاتب وتجعله يحلم بأفاق أبعد من الحسكة وحلب وبيروت.«بلاد لا تشبه الأحلام» هي مغامرة في الأمكنة وفي السرد، هي سفر في القصائد وفي المنافي، هي سيرة تجتاز الحدود الجغرافية، مثلما تجتاز اللغة، كتبها المؤلف «بشغف الباحث عن أثر نادر» وهو يرفع رأسه إلى سماء عالية كالأحلام، يعبرها السنونو في كلّ الفصول. فهو كتاب يقترح سيرة بديلة، لا يتقمّص فيها دور الضحية ولا يبكي على أطلال، بل يجعل من الاغتراب تجربة إنسانية، لا يهتم بوصف الأمكنة بقدر الاهتمام بوصف حالات نفسية، تاركا وراءه سرابا مديدا. وتحوّل التشرد إلى كلمات، والكلمات إلى كتاب، نقرأ فيه محنة كتاب سوري في الأزمنة الراهنة، وصعوبة العثور على بلاد تشبه البلاد التي تنمو فيها الأحلام.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

الدستور
منذ 5 ساعات
- الدستور
التاريخ الفلسطيني ينتصر
خلود الواكدأن تُنافس «زمن الخيول البيضاء» على جائزة «نوبل الأمريكية» نيوستاد، يعني أن التاريخ الفلسطينيّ انتصر. والحق الفلسطينيّ حقيقة.لفتت جائزة نيوستاد الدولية للأدب، في بيانها الذي أُعلنَ عنه أخيراً، وتضمّن أسماء الأدباء العالميّين التسعة الواصلين إلى قائمتها النهائية، إلى رواية «زمن الخيول البيضاء» للروائي والشاعر الفلسطيني الأردني إبراهيم نصر الله (1954)، بوصفها العمل الذي يُمثّل المرشّح العربي الوحيد لنيل الجائزة، والتي سيُعلَن عنها في 21 أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل.الجدير بالذكر أنّه إلى جانب الروائي الاردنيّ إبراهيم نصر الله تضمّ القائمة النهائية لـ»جائزة نيوستاد» لعام 2026 كُلّاً من: الروائي والشاعر الأوكراني يوري أندروخوفيتش (1960)، والروائية والأكاديمية الأميركية إليف باتومان (1977)، والشاعرة الأميركية مي-مي بيرسنبروغ (1947)، والروائي والأكاديمي الأميركي روبرت أولين باتلر (1945)، والشاعرة الأميركية من أصل سوداني صافية الحلو (1990)، والروائي الفرنسي ماتياس إينار (1972)، والكاتبة والشاعرة اليابانية يوكو تاودا (1960)، والروائية والأكاديمية الأميركية جيسمين وارد (1977).صدرت رواية (زمن الخيول البيضاء) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وتقع في 511 صفحة من القطع الصغير مقسمة الى ثلاثة كتب الاول بعنوان (الريح) والثاني (التراب) والكتاب الثالث (البشر) تتناول جميعها القضية الفلسطينية من اواخر القرن التاسع عشر وحتى النكبة عام 1948.رواية ملحمية كبيرة يذهب فيها الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله إلى منطقة لم يسبق أن ذهبت إليها الروايات التي تناولت القضية الفلسطينية بهذه الشمولية وهذا الاتساع، مقدماً بذلك رواية مضادة للرواية الصهيونية عن أرض بلا شعب لشعب بلا أرض! تبدأ أحداث الرواية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولاً لعام النكبة، محاورة المفاصل الكبرى لهذه الفترة الزمنية الصاخبة بالأحداث بالغة التعدد، والصراع المرّ بين الفلاحين الفلسطينيين من جهة وزعامات الريف والمدينة والأتراك والإنجليز والمهاجرين اليهود والقيادات العربية من جهة أخرى. إنها حكاية شعب حقيقي من لحم ودم كان يحيا فوق أرض حقيقية له فيها تراث وتفاصيل أكثر من أن تحصى وأكثر من أن يغيّبها النسيان، ووجود ممتلئ صخباً وتوتراً وفرحاً ومآسي وأحزاناً رواية ملحمية كبيرة تقول لقد كان الفلسطينيون دائما هنا، ولدوا هنا وعاشوا هنا وماتوا ويعيشون. وكما يحدث دائماً في أعمال إبراهيم نصر الله تلتقي في هذه الرواية، التي تسمع وترى، الملحمة والحكاية الشعبية والشهادة الشفوية والأغنية واللغة السينمائية، وفي خضم ذلك تتقدم الحياة الشعبية الفلسطينية اليومية في القرى والمدن لتحتل المشهد الإنساني الرحب والحافل بحكايات البطولة والحب، الحياة والموت، والخيانة والصفاء والرحمة والقسوة، في حين تضيء ميثولوجيا الخيل أعمق زوايا أرواح الشخصيات والقيم الكبرى لمجتمع بالغ الحيوية في طقوسه وحكاياته وأغانيه. وإذا ما كان لكل رواية كبيرة قانونها فإن لهذه الرواية وطنها التي تنمو وتكبر فيه ومن أجله.هاجر والدا نصر الله - الذي لم يكن قد ولد بعد فهو من مواليد عام 1956 في مخيم الوحدات بالأردن – من قرية البريج قضاء القدس والتي دمرت فيما بعد مثل مئات التجمعات السكانية الفلسطينية التي دمرت بعد حرب عام 1948 بعد ان رحل او اجبر على الرحيل ساكنوها ليصحبوا لاجئين اما في وطنهم او في البلاد العربية.لعل والدا ابراهيم نصرالله ـ رحمهما الله ـ كانا يظنا أنهما هاجرا، ولم يعلما أنهما حملا الوطن معهما، وانجابا إبراهيم نصرالله ليكون فلسطين أخرى في أرض أخرى، وفي كل رواية من رواياته كان جزءاً من فلسطين يُروى، كل جزء كان طفلا يكبر ويكبر حتى يصبح بحجم الوطن الأم، يحمل أحلامها وصورتها البهية الأصيلة. ورايتها وحقها وشمسها....عندما قال إبراهيم نصرالله عبارته العظيمة «أنا لا أقاتل كي انتصر، بل كي لا يضيع حقي» كان تأكيداً من انه يكتب التاريخ الفلسطينيّ كي لا يضيع حق الفلسطينيين، والآن أمام العالم بأسره تكون زمن الخيول البيضاء تاريخاً نقياً صادقاً، تجد نفسها راية انتصار فوق كل اعتبار. رغم الإبادة الجماعية، واستباحة الإنسانية بأبشع صورها من قبل الاحتلال الغاشم، وصمت العالم أمام الإبادة وتجويع الشعب الفلسطيني، أمام كل هذا الخراب والموت، ترتفع راية انتصار في زمن فقدنا الامل فيه، وولادة الحق في أرض تجرعتْ الموت والجوع والخذلان كل يوم.هذا الانتصار اعاد النبض الى الجسد، أعاد إشعال شمعة في قلب كون من عتمة، هنيئاً للشعب الفلسطيني الصبور، وللشعوب العربية.اقتباسات من رواية زمن الخيول البيضاء:«أنا أخاف شيئا واحدا ان ننكسر الى الابد لان الذي ينكسر الى الابد لا يمكن ان ينهض ثانية قل لهم احرصوا على ألا تهزموا الى الابد.»«إذا خسروا (هم) فإنهم سيعودون إلى البلاد التي أتوا منها، أما إذا خسرنا نحن، فسنخسر كل شيء.»«...، ولكن ساقيه لم تكونا له ذلك الفجر، كانتا للغياب الذي هبّ واختطف جسده كله، وتركه خيالا لا غير، ريشة تعبث بها الريح أو قشة يلهو بها السيل.»«منذ زمن طويل وانا احلم بهذا الحلم الجميل ان اكون بينكم كي تكون حكايتنا لنا وحلمنا لنا وغدنا لنا لكن من المفارقة هنا ان من يريد اقتلاعنا من الغد يعمل بالطريقة نفسها كي يقتلعنا من الماضي... ان حكايتنا التي لا نكتبها تصبح ملكا لأعدائنا... هذا اللقاء أغنية تحرس قلبي من برد المنافي وضياع الجهات هذا المساء عودة الخيول البيضاء الى الخيول البيضاء.» «بإمكاني الليلة أن أنام مطمئنا فكلماتي هنا واحلامي التي حلمتها هنا وانا الذي اصبحت فعلا هنا لن يستطيع أحد أن يعيدني لأي مكان... شكرا لوطن يسترد ابناءه حيثما كانوا ويحررهم من كل ما لا يشبه البحر والتراب فيهم.»


جهينة نيوز
منذ 8 ساعات
- جهينة نيوز
محمد ابراهيم .. الف مبروك الخطوبة
تاريخ النشر : 2025-06-14 - 04:17 pm محمد ابراهيم .. الف مبروك الخطوبة نبارك للأخ الغالي محمد إبراهيم بمناسبة خطوبته الميمونة، ونسأل الله أن يتمم لكم على خير، ويجعلها بداية حياة مليانة حب وسعادة واستقرار فرحتكم فرحتنا، وعقبال الفرحة الكبيرة إن شاء الله تابعو جهينة نيوز على


جفرا نيوز
منذ 8 ساعات
- جفرا نيوز
عشيرة الحسامي العبادي و أبو ليلى نسايب (صور)
جفرا نيوز - تصوير جمال فخيده توجهت جاهة كريمة من عشيرة الحسامي (العبادي) إلى ال ابو ليلى لطلب يد كريمة السيد رجل الأعمال ناصر ابو ليلى ابنهم الشاب نجل الباشا امجد الحسامي الشاب الخلوق (زيد). حيث تراس الجاهة الكريمة بالطلب عن عشيرة الحسامي الشيخ فهد الحسامي العبادي واجاب الطلب بالموافقة والقبول الشيخ خالد نواف العيطان بحضور لفيف من أصحاب المعالي والسعاده والعطوفة وشيوخ و وجهاء من العشائر الأردنية بجمع غفير من الأقارب و الأصدقاء. أسرة جفرا نيوز و إذاعة ميلودي ممثلة برئيس مجلس إدارتها الاستاذ نضال الفراعنه يتقدموا بأسمى ايات التهنئة و التبريكات إلى العائلتين سائلين المولى عز وجل أن ان يجعل الأفراح درب العروسين انشاء الله وعائلاتهم الكريمة الف مبارك.