logo
الحرب اللبنانية صنعت بمآسيها مدرسة الرواية الجديدة

الحرب اللبنانية صنعت بمآسيها مدرسة الرواية الجديدة

Independent عربية٢٤-١٠-٢٠٢٤

تستدعي العلاقة بين الحرب والإبداع أبعاداً معقدة ومتعددة الجوانب، تطاول عمق التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فالحرب بكل بشاعتها وفظائعها وتحولاتها غالباً ما تثير مشاعر قوية وتدفع الكُتاب إلى الحفر عميقاً داخل النفس الإنسانية، بحثاً عن أجوبة للأسئلة الوجودية والفلسفية التي فرضها واقع في غاية التشظي والاضطراب، مما أدى إلى كتابة أعمال أدبية تُعبر عن اللحظة الراهنة، بحيث تبدو كتابة الروايات أو الشهادات خلال فترة الحرب أو بعدها قادرة على تقديم صورة واقعية حية عن الأحداث، في حين أن الكتابة بعد انتهاء الحرب تسمح بمزيد من التأمل والتحليل.
حينذاك يمكن الكاتب أن يستفيد من الفهم الأعمق للأحداث وتداعياتها على المدى الطويل، وهذه الأعمال قد تكون أكثر تأملاً وتحليلاً في بناء الشخصيات والأحداث ورصد العواقب النفسية والاجتماعية إلى جانب انعكاس الأثر الفكري الثقافي للحروب بطريقة أكثر شمولية.
رواية الياس خوري (دار الآداب)
تعد الحرب من الثيمات المركزية في الرواية اللبنانية لأنها شكلت الواقع الذي عاشه اللبنانيون لأعوام طويلة، وما برحوا. ولأن الكاتب ابن مجتمعه ويعبر عن أحواله فقد حضرت ويلات الحروب وأهوالها في معظم النتاج الأدبي للروائيين اللبنانيين، فكان للحرب حضور مؤثر لم يحجب الفردانية التي تميز بها كل كاتب أو كاتبة، بحيث يأخذ السرد مع كل رواية منعطفاً جديداً ومختلفاً يكشف عن جانب مجهول لا نعرفه.
النيران والأمل
انصهرت الروايات بنار الحرب وعكست في مرآة صافية صوراً حية للمعاناة والأمل والصراع من أجل المعنى والبقاء، في ظل ظروف قاهرة تدفع إلى الموت الواقعي عبر رصاصة شاردة، أو الموت قهراً على فراق الأحبة.
وقد شهد لبنان فترات طويلة من النزاعات بما في ذلك الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 حتى عام 1990، وهذه الحروب خلفت تأثيرات عميقة ومستمرة على المجتمع والسياسة والاقتصاد، والرواية بصفتها فناً يعكس الواقع ويكشف عن طبقاته التحتية، وجدت في الحرب مادة مأسوية تتدفق للتعبير عن الهموم الإنسانية والأزمات الوجودية، لكل من خاض غمار الحروب واكتوى بنيرانها، لذا وجد الروائيون اللبنانيون في الرواية ملاذاً لهم لمعالجة مشاعر الدمار والخسارة والانتماء والخيانة والحب، والبقاء في ظل تهديد الموت.
رواية حسن داود (دار الآداب)
والروايات التي تناولت الحرب أو تأثيراتها غالباً ما تسعى إلى استكشاف تساؤلات حول الهوية والبقاء والهجرة والجيل المقبل وحياته في ظل ظروف متغيرة، إضافة إلى أن الكتابة عن الحرب من الممكن أن تكون وسيلة للعلاج النفسي بالنسبة إلى الكتّاب والقراء في آن، عبر القيام بعملية بوح سردية للكشف عن الصدمات والذكريات والمناورة من أجل النجاة، فالروايات بلا شك تساعد في الحفاظ على ذاكرة الأحداث للأجيال المقبلة وتعمل كسجل للتاريخ الشخصي والجماعي.
صدى الواقع
شهدت الرواية اللبنانية تطوراً ملاحظاً بفضل التركيز على ثيمة الحرب مما أدى إلى تعميق البعد الأدبي في الثقافة اللبنانية، وهذا الاتجاه لم يكن مجرد صدى للواقع المعيش بل أسهم بصورة فعالة في إثراء الأدب اللبناني من خلال الكشف عن بعد إنساني فيه تقاطع مع كل حروب الأرض، فالخسارة في وجوهها المتعددة هي القانون الوحيد الذي يحكم الحياة في أوقات الحروب،
لذا قدمت الروايات التي تناولت مواضيع الحرب بتعقيداتها وآلامها طرحاً غنياً بالتجارب الإنسانية العميقة، وهذا يمكن أن نجده في كثير من الأعمال الروائية مثل "رحلة غاندي الصغير" لإلياس خوري، و"الظل والصدى" ليوسف حبشي الأشقر، و"حكاية زهرة" لحنان الشيخ، و"جسر الحجر" لليلى عسيران، و"حارث المياه" لهدى بركات، و"الإقلاع عكس الزمن" لإميلي نصرالله، وروايات علوية صبح وحسن داود ونجوى بركات وإيمان حميدان وجوج شامي. في عام 1983 أصدر رشيد الضعيف رواية "المستبد" التي تصف الحرب من وجهة نظر أستاذ جامعي يجبره القصف على اللجوء هو وطلابه إلى غرفة الناطور، والزمن الذي اختاره الكاتب لروايته هو في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وينعطف السرد ليشير إلى بدايات الحرب عام 1975 وإلى الواقع العصي على التغيير، يقول الراوي "كان هذا التوقيت مفروضاً عليّ لأسباب خارجة عن إرادة الجميع، فقد كان البلد في حال حرب وكانت الكلية منذ أول الحرب مضطرة إلى اختزال فترة التعليم إلى ما بعد الظهر".
رواية رشيد الضعيف (دار رياض الريس)
تطول القائمة كثيراً بيد أن رواية الحرب لم تقتصر على تسجيل الأحداث أو رصد الموت والدمار وحسب، بل تجاوزت ذلك إلى التنقيب في أعماق الروح الإنسانية والتأثيرات المترتبة على الهوية الشخصية والمجتمعية جراء الحروب والصراعات، وهذا التنقيب أسهم في تشكيل وعي جديد يُبرز القدرة على الاستمرار والصمود في وجه الصعوبات والخسائر، فقد ترك كل روائي بصمته الخاصة في الكتابة عن الحرب، إذ لا يمكن أن نجد تشابهاً بين رواية وأخرى، سواء من جانب المضمون أو الأسلوب السردي.
ولم تحصر الرواية اللبنانية نفسها في تصوير مأساة محدودة بل تحولت إلى وسيلة للتعبير عن الأمل وإمكانات التغيير الإنساني، ففي رواية "الفارس القتيل يترجل" للكاتب إلياس ديري استباح المسلحون مقهى الانتظار بينما البطل عواد يواجه واقعاً قاسياً في الخارج، الدمار والعنف، وفي الداخل تنهار علاقته مع حبيبته لايا، يقول "لا أقدر أن أمارس فعل الحب معك والوطن يحترق، كيف نقتل الحرب من دون أن نتحول إلى كئيبة على الجدران، وليس بين الباقين في المدينة من يعرف متى تنتهي؟ ومتى يعود الذين غادروا؟".
تجاوز تأثير الحرب في الأدب اللبناني حدود الزمان والمكان، ولم يقتصر فقط على الكتّاب الذين عاشوا الحروب مباشرة، فبالنسبة إلى جيل الكتّاب اللبنانيين الشباب الذين لم يختبروا الحرب مباشرة، فقد ظلت آثار الحرب حاضرة ومؤثرة في أعمالهم، وهذا ما نجده مثلاً في رواية "اعترافات" لربيع جابر، و"أستديو بيروت" لهالة كوثراني، و"حرب شوارع" لشارل شهوان.
رواية علوية صبح (دار الآداب)
وبالنسبة إلى الكتّاب الذين لم يعيشوا الحرب في سن النضج فإن تأثيرها يبقى جزءاً لا يتجزأ من الوعي الأدبي والثقافي، وهذا التأثير حدث لأسباب عدة لعل أبرزها يكمن في الذاكرة الجماعية للحرب للمجتمع اللبناني بكل تبعاتها، إذ بدت الروايات التي كتبها الروائيون الشباب في جيل ما بعد الحرب عاكسة للقصص والأحداث التي تناقلتها الأجيال، سواء من خلال العائلة أو المجتمع، وهذه القصص تغلغلت داخل نسيج هويتهم الثقافية والأدبية، وظهرت أيضاً ثيمات أخرى تجاورت مع الحرب مثل قضايا النزوح والفقد، كما عند ربيع جابر في "طيور الهوليدي إن"، والهجرة والحنين إلى الوطن كما في رواية "صلاة من أجل العائلة" لرينيه حايك، ولنقرأ هذا المقطع الدال منها، "أول مرة التقيته كانت خلال الاجتياح الإسرائيلي، ينزل مع أسرته عند أقاربهم، جيراننا، الناس يتدفقون من الناحية الغربية ويجلسون حتى على سطوح السيارات وفي صناديقها، وجوه فزعة تكثر على مدى النهار، انفجارات تصدع قلوبنا، ليل بيروت كأنه نهار تشق سماءه القنابل المضيئة ونيران القذائف، تسقي أمي الهاربين ليموناضة أو تمد لهم قناني ماء".
كان للهزة العنيفة التي أحدثها الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما تلاه من حروب أهلية أن تركت بصمة واضحة على بنية الرواية اللبنانية، فأصبحت أداة قوية للتعبير والتساؤل عن اليقين وتوثيق الأحداث وكشف تجارب الضحايا والمهمشين وقصصهم، ومن خلال الإبداع السردي استطاع الكتاب اللبنانيون أن يقدموا تأملاً شاملاً ومتعدد الأوجه لتأثيرات الحروب، مما ساعد في توثيق الأحداث التاريخية والحياة اليومية عبر تناول حكايات الأفراد العاديين الذين تأثروا بصورة مباشرة بالحروب، وكأن هذه الروايات قد منحت صوتاً لمن تُركوا في الظل ضمن السرديات التاريخية الرسمية.
بيد أن الرواية لم تكن وسيلة سردية لرواية الحكايات فقط بل مرآة عكست التحولات في بنية المجتمع، فقدمت تحليلاً اجتماعياً للتحولات الإيجابية والسلبية على حد سواء، بخاصة تلك التي نتجت من الحروب الطائفية والنزاعات المتعددة التي مر بها لبنان، وأثرت بصورة عميقة في تفكك النسيج الاجتماعي فيه.

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما تناولت كثير من الروايات تفكك العلاقات بين الطوائف، وأظهرت كيف تحولت الثقة المتبادلة بين اللبنانيين إلى شكوك وانقسامات مما أدى إلى تراجع في القيم المشتركة، وصعود الانتماءات الطائفية والسياسية المتطرفة، ونجد هذا في رواية "التائهون" لأمين معلوف، ولنقرأ منها ما يعبر عن هذا، "لم يكن عندي ولو للحظة واحدة ذرة شك في أن سلوك صديقي القديم أثناء أعوام الحرب يمثل خيانة للقيم المشتركة التي كنا نؤمن بها، وأرجو ألا يسعى إلى إنكار ذلك، ولكن ألم يخن بسبب ولائه؟ فبدافع التعلق بالوطن رفض الرحيل في بداية الأحداث، ولأنه قرر البقاء اضطر إلى القيام ببعض التسويات، والقبول على مرّ الأحداث ببعض التنازلات التي ستقوده إلى ارتكاب المحظور".
وكشفت الروايات أيضاً عن تأثيرات الهجرة على الروابط الأسرية والاجتماعية، سواء من خلال قصص الأفراد الذين تركوا وطنهم بحثاً عن حياة أفضل، أو أولئك الذين بقوا وحاولوا إعادة بناء حياتهم في ظروف صعبة، كما سلطت الضوء على التغيرات الديموغرافية الكبيرة وتأثيرها في الهوية الوطنية، فمثلاً في رواية "بناية ماتيلد" لحسن داوود يركز الكاتب على حركة الزمن ودلالاته في ما قبل الحرب وما بعدها، من خلال الأحداث التي تقع في بناية ماتيلد التي تشهد أرضها ونوافذها وجدرانها على فظاعات الحرب، وزوال الذكريات وتقطع السُبل بين الأبطال للعثور على إجابات عن تساؤلاتهم الحقيقية.
طبقات جديدة
أظهرت بعض الروايات اللبنانية دور المرأة خلال الحروب وبعدها، مع غياب الرجال بسبب القتال أو الهجرة، أو عطبهم الجسدي بسبب الإعاقة، فاضطرت النساء إلى تولي مسؤوليات أكبر داخل الأسر، وقد عكس الفن الروائي هذه التحولات سواء من خلال قصص النساء اللواتي تركن الوطن كما في رواية "مسك الغزال" لحنان الشيخ، أو اللائي تحولن إلى قوى اقتصادية واجتماعية تواجه التحديات في ظل الظروف القاسية، كما في روايتي "مريم الحكايا"و "دنيا" لعلوية صبح، وكذلك عالجت الرواية اللبنانية مسألة الهوية الوطنية، إذ أصبح الولاء للطائفة أو الحزب أقوى من الولاء للوطن، وعكست بعض الروايات هذه الإشكالات في محاولة لفهم ما يعنيه أن يكون الفرد لبنانياً في ظل الصراعات والانقسامات، وأبرزت الفوارق الاقتصادية التي تفاقمت بفعل الحروب والأزمات، مع تركيز بعض الروايات على صعود طبقات جديدة نتيجة الفساد والحروب، في حين أن الطبقات الفقيرة تضررت بصورة كبيرة، وهذه الأعمال تكشف عن حقيقة مفهوم العدالة الاجتماعية الغائب في لبنان، وهذه القضايا عالجتها علوية صبح في روايتها "افرح يا قلبي"، كاشفة عن انقسام الإخوة وصراعاتهم داخل الأسرة الواحدة، واختيار بطلها غسان الهجرة إلى أميركا لأن قناعاته في شأن الوطن تختلف تماماً عن رؤية إخوته وقناعاتهم.
لقد تأثرت القيم الاجتماعية اللبنانية بصورة واضحة، وهذا ما عكسته الرواية، فالحروب والأزمات دفعت كثيرين إلى إعادة التفكير في مفاهيم مثل التضامن التعاون والإيثار، إذ أصبحت الفردية والأنانية أكثر وضوحاً في بعض السياقات، وفي المقابل نجد تأكيداً على ضرورة وجود مقاومة جماعية ضد الظلم والفساد والتفرقة.
وعلى رغم كل التأثيرات السلبية للحروب فإن الروايات اللبنانية أظهرت أيضاً الجانب الإيجابي من هذه التحولات، والمتمثل في قدرة المجتمع اللبناني على النهوض والإبداع على رغم كل الظروف القاسية، كما عمدت إلى الكشف عن الوجه الإنساني النبيل القادر على مواجهة بشاعة الحروب ودمويتها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

روايات الشمال
روايات الشمال

الشرق الأوسط

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

روايات الشمال

اشتهرت بعض القرى في شمال لبنان بتاريخ طويل من العنف والثأر والموت. وأبرز هذه القرى زغرتا، وبشري، ومزيارة. جميعها تعادت وتعافت وتصالحت، وأعطت أعمالاً روائية جميلة كان موضوعها الرئيسي قصص القتل والانتقام، وارتداء ثوب الحداد الأسود، عاماً بعد آخر. كتّاب هذه القرى جمعت بين أعمالهم رنة المأساة ودقة الواقعية. وكان القاسم الآخر الغربة إلى باريس، والعيش في حياتها الأدبية؛ حيث تماهت لغة الحزن مع لغة العبث. ومن بين هذه المجموعة البارزة الروائية هدى بركات، التي مُنحت أخيراً جائزة، على عملها المؤثر: «هند أو أجمل امرأة في العالم» (دار الآداب). تتبارى الكاتبة مع نفسها، كالعادة، في البحث عن هشاشة الضعف البشري ومرارته. ويبدو أبطالها غالباً وكأنهم شركاء لها، أو شريكة لهم، وليسوا مجرد أشخاص يعبرون من فصل إلى فصل، لغرض روائي أو فني مجرد. يُخيّل إليّ أن هدى عندما تجلس إلى روايتها، تضع أمامها أنها سوف تفوز بجائزة ما. فإن كل هذا الجهد لا يجوز إلاّ أن يُقابل بمكافأة القارئ العادي. واضح أنها تكتب من أجل الآخر، ومن أجل تسجيل النقاط الإبداعية. ليست مسؤولية عادية أن تكون مواطناً شمالياً من بشري، بلدة جبران خليل جبران. والمسؤولية الأخرى أنك من عرب باريس التي هي امتداد للشغف الأدبي بالفرنسية، الذي يبدأ عادة على المقاعد المدرسية، هنا أو هناك. حاصدة جوائز، هدى بركات. من «البوكر» إلى جائزة الشيخ زايد على «هند أو أجمل امرأة في العالم». على أن أعمالها لم تقتصر على الرواية، بل تجاوزتها إلى شتى الحقول في النقد والبحث. جميع أدباء الشمال، إذا صح التعبير، تركوا عملاً روائياً واحداً على الأقل عن المآسي الذاتية التي ضربت أرضهم. من أشهرها «مطر حزيران» للراحل جبور الدويهي، وهي سيناريو كامل عما يُعرف بالمجزرة التي وقعت في إحدى كنائس مزيارة عام 1957. بالمناسبة، اشتهر أهل الشمال بالكتابات الدرامية، بينما عُرف عن أهل الجنوب (قبل الحرب) السخرية. الآن، وحدت المآسي جميع الجهات.

نجوى بركات تروي تراجيديا الشيخوخة في مرآة الذات المعطوبة
نجوى بركات تروي تراجيديا الشيخوخة في مرآة الذات المعطوبة

Independent عربية

time٢٣-٠٤-٢٠٢٥

  • Independent عربية

نجوى بركات تروي تراجيديا الشيخوخة في مرآة الذات المعطوبة

في مستهل الفصل الأول من رواية نجوى بركات الجديدة "غيبة مي" (دار الآداب 2025) يسقط على "البطلة" صوت يناديها باسمها، مي، بينما كانت في سريرها بين نوم ويقظة. ترتجف بعد أن يتكرر النداء وتنهض، وفي ظنها أن الصوت يرجع لشخص ولج البيت، فتتصل خائفة بناطور البناية يوسف، فيأتي ويدخل مستخدماً مفتاحه، فيجوب الغرف ويُطمئن السيدة مي، ابنة الرابعة والثمانين، بأن ما من أحد سواهما في الشقة. ظلت مي بعدما استجمعت قواها، تشعر أن ثمة امرأة في صالونها تجلس على الكنبة "ناظرة إليّ وكأنني أنا الكائن الدخيل الغريب الذي لا يفهم سبب وجوده هنا". الرواية الجديدة (دار الآداب) في مثل هذه اللحظات الهاذية تعرب السيدة مي عن حال انفصام غير مرضي في المعنى السيكولوجي، بل يمكن تسميته حال انقسام، بين نفسها ونفسها، أو بحسب عبارة الشاعر رامبو بين "الأنا والآخر" الكامنين فيها، بين مي الماضي ومي الحاضر، مي العجوز ومي الشابة، مي العجوز التي تعيش وحيدة أو شبه وحيدة في شقتها في الطابق التاسع والتي تسميها "الجزيرة المرتفعة"، ومنها ترى العالم الحاضرة فيه والغائبة عنه في آن واحد، وهذا العالم هو بيروت، بمرفأها الذي دمره الانفجار وسطوحها التي استحالت مدينة بائسة بأشكالها النافلة، ومي الشابة التي كانت ممثلة مسرح. عزلة الشيخوخة طيف مي، بل أطيافها الطالعة من ماضييها، القريب والبعيد، أو ذواتها الأخرى، لن تفارقها، تعيش معها في عزلة الشيخوخة هذه، وتخيفها أحياناً، خصوصاً عندما تنبثق الكوابيس. لكنها تبدو بحاجة ماسة إليها، وتحديداً إلى طيف مي الذي لا عمر له هنا، بل له أعمارها السابقة، منذ الطفولة حتى المراهقة والنضج والدخول إلى كلية الفنون والتمثيل والمساكنة البائسة والزواج الذي انتهى إلى بؤس أيضاً. عمدت الروائية نجوى بركات إلى جعل الرواية تدور على لسان البطلة في نوع متفرد من المونولوغ الداخلي الذي يتحول في أحيان إلى ديالوغ متقطع، بين مي الحقيقية ومي الطيف التي تتوجه إليها وفي ظنها أنها تسمع وترد عليها، كأن تناديها مثلاً "مي"، ثم تتحدث معها وكأنها امرأة أخرى. هذا الديالوغ الداخلي المتوهم يتكرر في صفحات عدة من الراوية، انطلاقاً من كونه مونولوغاً داخلياً مقنّعاً يصب في صميم ما يسمى "تيار الوعي الداخلي" الذي تجلى في رواية "أوليس" لجيمس جويس و"السيدة دالوي" لفيرجينيا وولف وسواهما. نجوى بركات توقع إحدى رواياتها (دار الآداب) تسمي مي المرأة التي ترى طيفها "المخلوقة الغريبة" التي لا تدري "من أين نبتت ولا ماذا تريد؟"، لكنها تقرر الرد على نداءاتها التي تتكرر، وفي مثل هذا القرار تختلط مي الحقيقية ومي المتخيلة حتى تصبحا امرأة واحدة تعيش حاضرها وماضيها، بل حتى لتغدو الواحدة قرين الثانية. وتعترف مي الحقيقية أن في زاوية من عقلها تسكن طفلة ساذجة تخلط آثار كوابيسها الليلية بنهاراتها. ولعل أثر الممثلة المسرحية التي كانتها مي في شبابها لا يزال فاعلاً في وجدانها، وهو ما تكشفه نجوى بركات في الفصل او "الشريط" الثاني. ففي شيخوختها تتصرف مي كأنها ممثلة مندمجة في الدور، فتحدث نفسها وتجيبها "كمن يؤدي دوري شخصيتين في آن واحد". وفي مثل هذا اللعب الهاذي، وليس الهذياني المرضي تماماً، تخاطب مي نفسها "أهكذا نسيتني يا مي؟"، أو "كم جميل أن تدخلي في جلد آخر يا مي". وفي أوج العلاقة بينهما تسألها مي: "هل غفوت يا مي؟ منذ ساعات وأنا أحكي...". كائنات الماضي تعي مي أن من تتوهم مشاهدتهم في الصالون هم "من كائنات الماضي التي لا يُومن لها" أو "زوار افتراضيون"، فهي على رغم هلوساتها التي تزداد لاحقاً تخشى من الخرف الذي أصاب جدتها أُمّ أبيها، فصارت "أخرى" بعدما محت ماضيها كله. وتقول: "أتراني بدأت أسمع أصواتاً وأرى أطيافاً مثل مرضى..."، وهي لا تسمي المرض هنا، لكنها تعرفه وهو الخرف. وبعد انتقالها من الأدوية المنبهة، عقب المرض الذي أصابها في ما بعد زواجها، و جعلها تقبع في غيبة دامت سبعة أعوام، إلى المهدئات الطبيعية مثل البابونج واليانسون والقصعين، باتت تدرك أن أضغاث ذكريات قديمة تنبثق من رأسها وتحتل حياتها الضئيلة المحصورة بين بيتها أوشقتها التي تسميها "الجزيرة المرتفعة" في الطابق التاسع، وبين الشرفة التي تشرع أمامها فسحة من الحرية، ومنها تطل على العالم، الحاضرة فيه والغائبة عنه في آن واحد. وهذا العالم هو بيروت بمرفأها الذي دمره الانفجار وسطوحها التي استحالت مدينة بائسة بأشكالها النافلة. شخصية فيدرا في مسرحية فرنسية (صفحة فيسبوك) تدرك مي ما يدور حولها على رغم توهماتها وهذيانها الخفيف المتقطع، الذي يتحول مرضياً لاحقاً، وترى في الصباح العمال الآسيويين القاصدين المدينة الصناعية التي "تهرس عظامهم"، وتسأل ما الذي أتى بهؤلاء إلى هذه البلاد. بل هي على وعي تام بحال الأمن المتفلت وتصر على أنّ لا بد من "أقفال تحمي أقفالاً وبوابات تحمي أبواباً". وتعلم بما يجري من سرقات وأفعال قتل، و"لو من أجل سلسال ذهبي". وذات مرة، عقب انفجار مرفأ بيروت، تخرج برفقة الناطور يوسف، السوري اللاجئ إلى لبنان، إلى منطقة الجميزة لتتفقد آثار انفجار المرفأ فتتأثر، وتصيبها وعكة عابرة لا تلبث أن تنهض منها. تدخل نجوى بركات عالم الشيخوخة من باب شخصيتها مي لتروي المآسي الصغيرة التي تواجهها المرأة في هذا العمر الملتبس، خصوصاً عندما تعيش في شبه عزلة وشبه اضطراب. لكن حضور ناطور البناية يخفف حدة العزلة، فهو يطل عليها ويلبي مطالبها القليلة، عطفاً على الخادمة السيريلانكية شاميلي التي تقصدها كل نهار سبت، وتصفها بـ "الدخيلة الوحيدة"، فتنظف البيت وتعتني بأمورها العادية وتحممها، على رغم أنها لا تحب الاستحمام كما تعبر. فالتعري يكشف خراب أعضائها ويفضح عجزها عن استخدام أطرافها، وبلهجة تهكمية "سينيكية" رهيبة تقول: "الأوساخ تتكاثر مع الشيخوخة وتنتشر في الأنف والشرايين وتحت الأظافر وما بين الأصابع، في زوايا العينين وداخل الأذنين وما خلفهما"، وتتحدث عن "القشرة القميئة التي تغطي الجلد". تكشف مي أعطاب الجسد الذي شاخ، والذي كان له ماض جميل عندما كانت شابة وممثلة، ولا توفر نفسها من السخرية غير الخالية من الشماتة الذاتية، فتتحدث عن بطنها "المدلوق"، عدوها "اللدود" الذي يحجب عنها رؤية ما يوجد أسفله. وكان يحلو لها أحياناً أن تدخل بيت الخلاء فلا تشعل ضوءاً وتغلق الباب لتنعم "بظلمة تامة" وتفرغ ما في أحشائها ورأسها معاً، كما تقول. وتضيف "أغمض عيني ثم أفتحهما، الأمر سيان، لا أرى شيئاً، لا أسمع شيئاً، أنا في مركبة فضائية بحجمي، سابحة في نقاء السواد، في صفاء العدم"، وهذه لقطة متفردة بقسوتها الحقيقية والجارحة والساخرة التي تبلغ عمق الجسد العجوز، ولا توفر أيضاً أذنيها من سخريتها كأن تقول "أذناي كبيرتان كأذني حمار". وتقول في مقطع آخر: "جل أمنيتي أن أحيا كفجلة أو كلب". أما يداها فتتهكم منهما بأسى ولوعة، فهما سبقتاها إلى الشيخوخة كما تقول، "حين جعلتا تتقلصان وتبرزان جلداً جافاً وخطوطاً نافرة زرقاء"، وتضيف: "كأنهما كانتا تكبران وحيدتين". وتعترف أن يديها شاختا بعدما أفلتتهما يدا أمها قبل الأوان، فراح والدها يفركهما بصابون الزيت والمراهم عله يشفيهما من "بقع اليتم الزرقاء". وهنا تفتح مي صفحة اليمة من ماضيها، صفحة غياب الأم الذي ترك فيها ربما أثراً، بصفتها أما لاحقة، غريبة الأطوار. القطة الغريبة غير أن قطة غريبة تقتحم عزلتها عنوة فتفتح لها الباب بعد موائها أمامه، تدخلها البيت رغماً عنها، ثم تحاول أن تتخلص منها وتعجز. لم تحب مي هذه القطة ولم تعمد إلى منحها اسماً فهي ليست قطتها، لكنها تمضي معها وقتاً لا يخلو من اللعب والتواطؤ.، وعندما مرضت بعد فترة، تشفق عليها وتأخذها مع يوسف، إلى بيطري، فيفاجأ أنّ لا اسم لها وأنها لقيطة، ويكتشف أنها مصابة بالسرطان. وفي اللحظات التي كانت تنطفئ القطة خلالها، كانت مي تجلسها في حضنها وتلاطفها متذكرة أمها التي ماتت بالسرطان. لا تغيب حال الأمومة عن مي في شيخوختها بتاتاً، فأمها التي توفيت شابة تحضر بطيفها، وابناها التوأمان المقيمان في أميركا يحضران أيضاً، مذكرين إياها بأمومتها التي أضحت بعيدة. تعترف مي أنها لم تشبع من أمها لأنها توفيت قبل الأوان، وقد عاشت أيامها الأخيرة تتخبط في مرض السرطان، وتعترف أيضاً أنها لم تشبع من حنان أمها حتى قبل مرضها، فهي كانت يتيمة ولم يعلمها أحد أصول الحب الأمومي والعناق، ولعلها تدينها وتحاكمها مثلما تدين وتحاكم نفسها، لأن أمومتها منقوصة أيضاً ومرجأة. تقول: "كنت أماً معطوبة امتنعت أمومتها منها". لكن أباها كان حاضراً بشدة، في أيام الطفولة والفتوة، وهي تستعيد ملامحه بسهولة على عكس ملامح أمها، ولعلها لا تذكر منها سوى طيف امرأة تستند إلى ذراع أبيها وتخرج معه. أما صورة الأم المعلقة في البرواز فلم تكن ترى فيها أماً تعرفها، إذ تمكن الأب من الحلول محل الأم الميتة وقام بتربية الابنة والسهر عليها، يطبخ لها ويحممها و يدرّسها ويصطحبها في نزهات ويغني ويرقص معها. وقد رفض أن تقوم أمه وشقيقاته الثلاث بتربيتها، مثلما رفض أن يتزوج ثانية. وتذكر مي حركة يديه اللطيفتين عندما كان يحممها ويدلق الماء عليها. ولا تنسى مي العجوز كذلك، جدتها لأبيها وعماتها الثلاث اللواتي عاشت معهن وكأنهن عائلتها، وقد مات والدها قبلهن مع أنه الأصغر، فأمسين موئلها الدافئ. هنا تمضي نجوى بركات في رسم ملامح العمات وطبائعهن ومسالكهن كما لو كن شخصيات في مسرحية أو فيلم. فوداد الصغرى هي الأقرب إلى قلبها، ونبيهة الكبرى أرملة أجهضت الجنين الوحيد وعادت إلى بيت أهلها وهي التي تتولى الإنفاق على العائلة، وزكية الوسطى التي تمتهن التطريز وحبك الكروشيه وحوك الصوف، لا تزال تعيش "تحت نصيبها"، وقد جهزت حقيبة العرس منتظرة مجيء العريس. الأمومة الناقصة أما مي، بوصفها أماً، فتدرك أن أمومتها كانت ناقصة، فلم يتسن لها جراء الغيبة التي وقعت فيها سبعة أعوام، أن تربي توأميها وتعتني بهما، و"كأن امرأة أخرى هي من حملت بهما وأنجبتهما". فالسبعة أعوام هذه ضاعت منها من دون أن تدري كيف، وكأنها كانت سكيناً اقتطعتها من عمرها. ولما استفاقت من غيبوبتها السريرية ورجعت إلى الحياة "في حدها الأدنى"، وجدت أن التوأمين خرجا إليها من دونها. وعندما عادت إلى لحياة وجدت أيضاً أن زوجها الطبيب مصاب بالسرطان وأنه مقبل على الموت، وكان هو من أنقذها من حياتها البائسة عاطفياً أيام الشباب، وتزوجا وأنجبا. وعندما مات ووضع في التابوت أصرت على تقبيل قدميه. ولمّا عزم التوأمان على السفر إلى اميركا بعد شفائها ورحيل زوجها، وافقت بلا تردد، وفي يقينها أن ساعة الفراق حلت، مثلما حلاّ هما في حياتها بالإيجار كما تعبّر، وقد "انتهت مدة العقد بيننا وآن أوان انتقالهما". أما حياة مي الشابة والممثلة التي تستعيدها مي العجوز في ما يشبه التواطؤ بين الشخصيتين اللتين هما هي، فتبدأ باسترجاع لحظة دخولها إلى معهد الفنون في بيروت خلال الستينيات، وأدائها في مباراة الدخول إلى المعهد، دور سيدة في جنازة، تدخل الصالون لتقديم التعازي إلى أهل الميت. وليس مستغرباً، بحسب طبائع مي، أن تبدأ حياتها كممثلة في جنازة تسم حياتها لاحقاً. وبعدما التحقت بالمعهد تتعرف إلى حبيبها الأول، كاتب يساري درس المسرح في روسيا، هو في الثلاثين وهي في العشرين. وحينذاك كانت فتاة ضجرة ومتحررة وشبه بورجوازية وشبه وجودية، على غرار بطلة سيمون دو بوفوار في "مذكرات فتاة"، كأن تقول: "كنت مستلقية في غرفتي، حدقتاي معلقتان في السقف، أتحسس دبيب حشرات الضجر فوق جلدي". وكانت أدت للتو في المعهد دور العاشقة المتوترة في المسرحية المونودرامية "الصوت البشري" للكاتب جان كوكتو، حاملة سماعة التلفون تتكلم مع عشيقها وتصمت. أعجب الكاتب بها في هذا الدور ودخل حياتها عبر ادعاء كتابة نص مسرحي تمثله هي ويخرجه هو. تقع في حبه، وتوافق وتتولى هي بنفسها تأليف النص الذي اقترحه، مرتجلة الكلام أو المونولوغ. أما الفكرة التي ارتآها، فهي عن امرأة فقدت جزءاً من حياتها، وهذا الجزء المفقود موجود في هوة أمامها، ولعلها إشارة حدسية ذكية إلى الغيبة التي وقعت فيها مي لاحقاً. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) تنجح المسرحية ويتصرف الكاتب اليساري وكأنه السيد البارع وإليه يعود سبب النجاح، لكنه الحب الذي تورطت به "كحمارة" كما تقول ساخرة، وتعترف: "كنت كلبه المطيع وهو صاحبي المطلق السيادة علي". وتقول أيضاً: "أتقدم سعيدة وأنا أحرك ذنبي مثل كلب طائع، لاهثة متدلية اللسان". هل عاشت مي معه حالاً من المازوشية، من التعذيب الذاتي، ساحقة نفسها وكأنها تكفر عن ذنب ما؟ ومرة تتوجه إليه بسخريتها أيضا قائلة: "أحبك، أحبك، ألم تفهم بعد يا بغل"، وهو سيغدو بغلاً في حبها واستغلالها لاحقاً بعدما سقط قناعه وبرز منه وجه الرجل الذكوري والمتسلط والمتقلب المزاج، والمقامر الذي عندما يخسر يعرضها لـ "الإيجار" أمام رفاق اللعب، وكان أخذ به السكر مأخذاً، وقد استولى سابقاً على مالها ثم ساعة يدها للرهن على طاولة القمار. كانت منجذبة إليه جسداً، تزداد عطاء أمامه ونكراناً لذاتها. لكنه ما لبث أن راح يدمن حياة السهر ومعاشرة النساء، ويهجرها بضع ليال. ولكن يستيقظ فيها على حين غرة، قرار المواجهة، فراحت تسهر، ألى أن تقرر مرة العودة إلى بيت أهلها، مغادرة الشاليه الذي كان استأجره على شاطئ عمشيت ليكون بيتهما الموقت. كان والدها في البيت يعيش أيام احتضاره، ثم يموت، فتدرك أنها لن تشفى من الألم الذي سببته له في هجرها العائلة. انتقام فيدرا أما الرد على خيبة الأب فكانت في عودتها إلى المسرح بقوة، مؤدية شخصية "فيدرا" في نص الكاتب الفرنسي راسين الذي اقتبسه عن الأصل الإغريقي الذي وضعه يوريبدس، وحققت المسرحية نجاحاً كبيراً في بيروت "الستينيات". ولم يكن اختيارها شخصية فيدرا إلا حافزاً على التخلص من الحب الخائب والانتقام لنفسها: "ساعدتني فيدرا، أخرجت بصوتها وكلامها ما اهترأ في داخلي، أبرأتني من غضبي الدفين على نفسي وعليه". لكن العاشق يعود خلال تقديمها المسرحية وتعود العلاقة وترجع إلى حضنه رغماً عنها، ويستعيدان حياتهما السابقة، وفي نيتها إنجاب طفل منه. وبعد نجاح مسرحية "فيدرا" تقرر أن تؤدي دور الرسامة فريدا كاهلو التي وقعت ضحية زوجها القاسي دييغو ريفييرا، وتحديداً في الوقت الذي كانت تُنقل فيه إلى المستشفى لبتر ساقها. ليس اختيار هذه المسرحية مجرد مصادفة، فالممثلة مي تقع حبلى، لكن الكاتب القاسي والرافض للأبوة يقوم بضربها بعنف فتسقط الجنين. غير أن فيدرا اليقظة فيها تهب وتنتقم، فتعمد مي إلى حرق الكاتب داخل الشاليه، مضرمة النار في الأثاث من حوله، لكنه ينجو ولا يتقدم بدعوى ضدها. أما قدرها فأن تساق إلى مستشفى المرضى النفسيين بعدما أُنزلت بها تهمة الجنون، وهناك تتعرف إلى الطبيب الذي سيصبح زوجها ووالد التوأمين. وخكذا دواليك، بحسب البنية السردية المميزة التي اختارتها نجوى بركات، راسمة مسار مي، بين شيخوخة وفتوة وشباب، في حال من التداخل والتواصل والتقطع. هذه الوقائع هي بمثابة الحوافز التي يفترضها السرد في حبكة تناميه، عبر ذاكرة العجوز مي، شبه المثقوبة، التي أوكلت إليها نجوى بركات مهمة الراوية التي تستعيد ماضيها وحياتها أيضاً، واضعة إياهما على طاولة تشبه طاولة التشريح الروائي الاستعادي. ففعل السرد الحاضر هو نفسه فعل السرد الماضي في ذكريات مي التي ستنتهي مريضة "بسيكو سوماتيكية"، والتي تحملها في الختام سيارة الإسعاف، إلى قدرها المجهول. اما ميزة السرد هنا فتتجلى ايضا في لغة بركات، التي تنساب انسيابا، محفوفة بالتوهج الشعري حيناً، وقسوة اللهجة الواقعية حيناً آخر، التي لا تخلو من السخرية الوجودية والطابع السينيكي والهجائي في وقت واحد.

50 عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية.. كيف نوثق حرباً لم تنته؟
50 عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية.. كيف نوثق حرباً لم تنته؟

الشرق السعودية

time١٤-٠٤-٢٠٢٥

  • الشرق السعودية

50 عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية.. كيف نوثق حرباً لم تنته؟

يحفظ اللبنانيون تاريخ 13 نيسان 1975، على أنه تاريخ بدء الحرب اللبنانية، وينسبون لما اتفقوا على تسميته حادثة "بوسطة عين الرمانة"، كشرارة الحرب الأولى، كما ينسبون موعد الخروج من الحرب، إلى إعلان اتفاق الطائف مطلع عام 1990. لكن الحرب التي لم تبدأ فعلاً في لبنان عام 1975، لم تنته كذلك فعلاً عام 1990. وعليه، وبمناسبة مرور نصف قرن على ذلك "الوهم"، يحاول مركز أمم للتوثيق والأبحاث، عرض سرديات فنية مختلفة عن الحرب التي بدأت ولم تنتهِ، في مركزه "الهنغار"من خلال معرض بعنوان "خمسون عاماً.. حادثة واحدة حروب كثيرة" أو "50 years of Déjà vu". أغراض الحرب يضم المعرض أعمالاً لأربعة فنانين موزّعة في صالتين، في الصالة الكبيرة عرض لعمل تجهيز متعدد الوسائط بعنوان: "أغراض حرب" للميا جريج، عبارة عن سلسلة شهادات عن الحرب اللبنانية، لمواطنين ومقيمين في لبنان، غالبيتهم من المدنيين الذين عاشوا الحرب صغاراً أو كباراً. اختار كلّ منهم غرضاً ما ليروي قصّته أو ذكرياته مع الحرب انطلاقاً منه. العمل تضمن أغراضاً وشهادات لكثيرين، من بينهم الفنانة إيتيل عدنان، حسن داوود، يوسف بزي، شذى شرف الدين، سمير فرنجية، أكرم زعتري، صالح بركات، رشا سلطي، أسما أندراوس، فوزية شحرور، جلال توفيق وآخرين. بدأ تصوير هذا العمل عام 1999، ويتم عرضه للمرّة الأولى في لبنان. تقول لميا جريج: "بدأت مقابلاتي مع الأصدقاء، ثم مع معارف وأصدقاء الأصدقاء، كان همي الاستماع إلى شهادات مدنيين لا محاربين، ولدوا قبل أو خلال الحرب، وعاشوا في مناطق متنوّعة، وأن أجمع سرديات مختلفة من وجهات نظر عدّة، في محاولة لفهم كيف يمكن سرد التاريخ من قِبل الناس، وخصوصاً بعد صدور قانون العفو العام الذي غيّب المحاسبة، هذا العمل هو استعارة للغة التوثيق لاستخدامها في مجال الفن". ألفرد طرزي يدمج حرب لبنان بالاجتياح الإسرائيلي يشهد المعرض عملاً للفنان المعروف ألفرد طرزي بعنوان "العشّاق: الجسد والأرض"، هو عبارة عن "صندوق عجائب" يعرض تاريخ بيروت من خلال كولاج متواصل بطول 12 متراً، يمتدّ من عام 1960 ولغاية الاجتياح الإسرائلي لبيروت عام 1982، يتتبّع فيه الفنان "ولادة وانهيار ظاهرتين شكّلتا هذه المدينة: التحرر الجنسي والثورة الفلسطينية"، من خلال متابعة حية لملكة جمال الكون لعام 1971 جورجينا رزق وحسن سلامة، رئيس جهاز الأمن في منظمة التحرير الفلسطينية، زوج جورجينا. ويُعرض في الصالة الصغيرة فيلم "الخروج من البوسطة" لطلال خوري (7 دقائق و 35 ثانية) عن الحافلة التي احترقت، وفي الفيلم محاكاة فنية لهذا الاحتراق كأنه استمرار لا يتوقف للحريق الأصلي، شيء يشبه كابوس احتراق لا يتوقف فلا يخرج أحداً من البوسطة أبداً. وعلى جدران الصالة أيضاً معرض بعنوان "بوسطة...وأشباهها" يضم لوحات للفنان حسام البقيلي، تجسّد البوسطة أيضاً "أيقونة في المخيلة التاريخية اللبنانية". في المعرض كذلك أثر من آثار الحرب اللبنانية، عبارة عن جزء من عامود إنارة فيه ثقوب، كان منصوباً على أحد "خطوط التماس"، تحديداً على منتصف ما كان يعرف بـ "محور مارمخايل – غاليري سمعان". وفي كلمات مؤسس "أمم" الراحل لقمان سليم عن الحرب التي تقتل وتبدع، كتب عن هذا الأثر/ العامود: "لا يصحّ لربما، أن توصف الثقوب التي تحمل هذا الجماد آثارها بـ "الجراح"، أو بـ "الندوب"، ولكن هذا التعذّر اللغوي، لا يقلل في شيء من مكانة هذا "الجماد" الذي يوثّق، في عداد ما يوثّقه، رصيد هذه المئوية من الفظاعات، التي لا نَني، حفظاً لما نظنه ماء وجه، نحاول مواراتها، والذي فيه بيان لما يعنيه أن تتكسّر النصال على النصال.." في الصالة الكبيرة نسخُ للصفحات الأولى من الصحف اللبنانية معلّقة على الجدران، اختارها منسّق المعرض والقيّم عليه أيمن نحلة من أرشيف "أمم"، غطّت هذه الافتتاحيات أحداث مرتبطة بالحرب، بدءاً من 14 نيسان 1975، أي اليوم التالي لشرارة الحرب الأولى. في المعرض أيضاً نسخ من صور مقاتلين وأماكن اقتتال، من أرشيف "أمم"، ونصّ لأيمن نحلة بعنوان: "تأطير بيروت: المقاتل المتصنّع والمدينة الموسومة"، يحكي فيه عن أداء المقاتل في الحرب، ووعيه لوجود المصوّر، "فلا يبدو كضحية للتاريخ بل كمن يصنعه"، ويحكي عن النباتات التي غزت الشارع ولم تكن عشوائية بل "شكل من أشكال بيئة الحرب". يختم نحلة النص بأنه "لعلّ ما يفسّر لماذا يعود 13 نيسان عاماً بعد عام، ليس لأنه البداية الحقيقية، بل لأنه صنع ليكون كذلك، فالذاكرة مثل الحرب، فعل بناء". حارة حريك معلومٌ أن "الهنغار" يقع في منطقة حارة حريك في قلب "الضاحية الجنوبية" لبيروت، التي تعرّضت لغارات عنيفة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان (2024)، أما آخر غارة فكانت أثناء التحضير للمعرض، ما جعل القيّمين على الهنغار أمام تحدٍّ بشأن متابعة التحضير للمعرض. يقول أيمن نحلة: كان القرار أن نمضي قدماً بالتحضير، مع الاستعداد لأن يتم إلغاء المعرض عند أي تحذير، وفي محاولة لتقليل المخاطر استبدلنا الأعداد الأصلية من افتتاحيات الصحف أو الصور المرمّمة، بنسخ عالية الجودة للحدّ من الخسائر في حال حصول أي عدوان أثناء إقامة المعرض". هذا الخوف أو الترقب بحد ذاته أو حتى الاستعداد لاحتمال وقوع ما من شأنه خسارة الأرشيف، يجعل طرح مسألة عدم انتهاء الحرب أمراً شرعياً. فأن تقضي حرب ما على أرشيف حرب، يفترض أنها انتهت، هو إثبات – غير مرحب به – على فرضية أن الحرب لم تنته. في هذا السياق، تقول الناشطة والمسؤولة عن دار الجديد للنشر رشا الأمير، "إن هذه البلاد لا تحتاج إلى وزراء إعلام وثقافة، نحن بمسيس الحاجة إلى مؤسسات عملاقة تُعنى بالذاكرة، لتنقيتها ولبلوغ العدالة الانتقالية، الواقفة بالمرصاد للعفو العام ولعفا الله عن ما مضى" . عشرون عاماً من التوثيق بالتوازي مع المعرض، تحتفل "أمم" بإتمام 20 عاماً من التوثيق والأبحاث، وتعيد للمناسبة إطلاق موقع "ديوان الذاكرة اللبنانية" الإلكتروني، بنسخته المحدّثة والمطوّرة، لتصبح أكثر سهولة لتصفّح ما تعرّف عنه "أمم"، أنه "دليل اللبنانيين واللبنانيات إلى السلم والحرب"، ويضم آلاف الوثائق والشهادات. ربما تنتهي الحرب اللبنانية فعلاً، عندما يصبح موعد خروج اللبنانيين منها هو الذكرى التي تقام لها احتفالات، تختتم معارض تذكّر بشرارتها. فالسؤال كما كتب أيمن نحلة "لم يعد: متى بدأت الحرب، بل لماذا لا يزال صمت نهايتها مستمر". أما المعرض في هنغار "أمم" فسيستمر لتاريخ لم يحدّده القائمون عليه بعد، وربما لحين أن يحدث ما يستدعي إغلاقه، وطيلة هذه الفترة لن يكون فقط معرضاً، بل مساحة مفتوحة للنقاش.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store