logo
البحث عن لقمة العيش في غزة ينتهي بموت محقق

البحث عن لقمة العيش في غزة ينتهي بموت محقق

الجزيرةمنذ 8 ساعات

غزة- وقف الفتى الغزي يوسف السمري (15 عاما) أمام بائع الخبز في أحد شوارع الحرب، كل ما يطلبه رغيف واحد يسكت به صراخ جوعٍ نخر أحشاءه وسرق النوم من عينيه، سأل عن سعر الرغيف، فأجابه البائع: 8 شواكل (الدولار يساوي 3.6 شواكل)، وهو مبلغٌ لا يملكه، فجال بنظره باحثًا عن بصيص رحمة، لعلّ تكية ما توزّع وجبة تُطفئ نار المعدة، لكنه وجد طوابير من الناس يلهثون خلف طعام بارد تعافه نفسه.
كان الجوع والغضب يأكلانه شيئًا فشيئًا، فرفع رأسه نحو والده الذي كان برفقته، وقال بعينين تتوهّجان كجمرتين "سأذهب إلى غرفتنا التي كنا نازحين إليها في المدرسة، حيث تركنا طعامنا، أمامي خياران: إما أن أعود لكم بالطحين فنأكل، أو لا أعود وأموت، وأنا متقبل للخيارين".
عبثا حاول الأب منعه وتوسّل إليه ألا يذهب وحده، لكن يوسف فضل المخاطرة بروحه فقط، وقال لأبيه "يموت واحد أم نموت نحن الاثنان؟ ادعُ لي سأعود سريعًا".
في طريقه، مرّ بجثث متناثرة لأناس سبقوه في المهمة ذاتها، دفعهم الجوع إلى المجازفة، فكان الثمن أرواحهم، لكنه لم يتراجع، وصل أخيرًا إلى مدرسة سعد بن معاذ في حي التفاح ، حيث كانت أسرته قد نزحت تحت وابل من النيران ولم تستطع أن تحمل معها شيئًا، وحين وصوله، فتح يوسف حقيبته المدرسية وحشاها بأكياس المعكرونة التي باتت طعامًا بديلًا للدقيق، ثم حمل كيس الطحين الثقيل على كتفه، والفرحة تملأ قلبه.
إعلان
يقول للجزيرة نت "قَسما، إنني زغردت حين حملته (كيس الطحين) وتنهدت تنهيدة المحارب اللي ظفر بالغنيمة". في طريق عودته لم تتوقف نداءات الناس عليه "هل هذا الطحين للبيع؟" وهو يردد إجابته "لا، سأفاجئ به أمي، نريد أن نأكل"، لكن نشوته بانتصاره لم تكتمل، حيث أطلقت طائرة كواد كابتر قنبلة عليه، "شعرت أنني أهوي في بئر أو حفرة" لم يكن يعلم أن القنبلة قد نسفت ساقيه، وأسقطته أرضًا، تمتم بالشهادتين مرارًا، وغاب عن الوعي.
عاد بلا قدمين
على السرير في مستشفى المعمداني حين استفاق يوسف، فتح عينيه ليجد يد أبيه تمسك بيده، فبدأ يردد "الحمد لله، الحمد لله"، بينما كانت عينا والده تغصّ بالحسرة والرعب، لا سيما حين علم أن ولده سيخضع لعدة عمليات لبتر ساقيه، واستئصال جزء من الطحال، كما خسر 70% من إحدى خصيتيه، وهو واقعٌ مرّ لن يستفيق يوسف على تفاصيله إلا بعد أيام.
صار يوسف يسأل عن ساقيه، كان من حوله يخفون عنه الحقيقة، فعدم قدرته على الانحناء كانت تحول دون تحسس قدميه، لكنه استغل قوته في ليلة ما مستغلا نوم من حوله، فمدّ يديه يتحسس ساقيه فلم يجد شيئًا، يقول للجزيرة نت بصوت متهدج "وجدتني أمسك فراغا، قلت حينها بيعوض الله، راحوا رجليا".
سألته مراسلة الجزيرة نت: ما أول شيء خطر ببالك بعد ما تأكدت من فقدانهما؟، فأجاب: الكرة، كنت أحب لعب الكرة كثيرا، غير أني راجعت نفسي هل الجوع أقسى؟ أم الحال التي وصلت إليها الآن؟
عقب مقابلة الجزيرة نت، كان يوسف يتحضر لمغادرة المستشفى المعمداني، سيعود لأمه خالي الوفاض بقدمين مبتورتين وأعضاء مستأصلة كانت خسارة محاولته لجلب ما يسد الرمق، بينما جاءت الكلفة على هذا النحو، حين كلف الحاج عادل حلس روحي ولديه خالد وكريم.
وداع جلب الطحين
بينما كان الأب وأبناؤه يتحضرون للذهاب إلى منزلهم لجلب ما تبقى من طحين ومؤونة، كانت الأم تقف على عتبة الخوف، قلبها مقبوض يُحدّثها بأن هذا المشهد هو الأخير، همّت بالخروج معهم، لكنها لم تُمنح تلك الفرصة، "خليكي، إحنا بنرجع بسرعة"، هكذا قالوا لها، لكنهم لم يعودوا.
في منطقة التركمان، وسط بيوت الشجاعية المهجورة، بدأ الشابان بجمع بعض المواد الغذائية المتبقية، بينما كان الأب يبحث عن لحظة دفء صغيرة في منزلهم الذي اختنق بالشوق والرماد، فأحبّ أن يحتسي كأسا من الشاي ريثما ينتهيان.
أحدهما يشعل النار، والآخر يُرتّب الأغراض، وقد كانت المسافة الفاصلة بينهما أقل من متر، قبل أن تخترق قنبلة من طائرة كواد كابتر صمت اللحظة، لتخترق شظاياها أجسادهم الثلاثة دفعة واحدة. استشهد الشابان على الفور، وأُصيب الأب بجروح بالغة.
تقول الأم للجزيرة نت "بين خروجهم وسماع صوت الانفجار نصف ساعة فقط، ركضت أنا وابنتي روان، كنا نحاول أن نكذب عيوننا التي ترى تصاعد الدخان من حول منزلنا، لكن الخبر سبقنا، جاءني رسول من بعيد، قال أبو محمد مصاب، عرفت وقتها أن ولداي قد استُشهدا، ووقعت من هول الصدمة".
أما شقيقتهم روان، فركضت بجنون إلى المنزل، رأتهم جثتين هامدتين بين الركام، دخلت في حالة هستيرية، كانت تحاول سحب جثمانيهما بيديها، تصرخ وتبكي وتستنجد طالبة المساعدة، حتى استجاب لها أحد أقاربهم وتمكنا من انتشالهما من بين الأنقاض.
لم تكن تلك العائلة الوحيدة التي ودّعت أبناءها على أمل اللقاء القريب، ولم يعودوا، فبينما كانت أمٌ تراقب خطوات زوجها وابنيها وهم يغادرون المنزل لجلب ما يسد الرمق، كانت عائلة أخرى تعيش الانتظار ذاته، وتخوض الألم نفسه بقلبٍ لا يقلّ وجعًا.
شهداء مجهولو الهوية
مرّ يومٌ كامل على غياب الأخوين معتصم ومعاذ رجب، عن خيمتهم المؤقتة التي لجؤوا إليها بعدما هربوا من منزلهم الكائن شرق حي التفاح، تحت وابل من القذائف الإسرائيلية، 24 ساعة من الانتظار القاتل، كانت خلالها هواتفهم ترنّ دون رد، لم يحتمل والدهم الحاج أدهم الجلوس، فقد مزّق القلق قلبه ودفعه لأن يخاطر بنفسه، ويذهب إلى المنزل علّه يجد أثرًا، أو يسمع خبرًا.
يقول للجزيرة نت بصوت مخنوق "كنت أنطق الشهادتين مع كل متر تخطوه قدماي، وحين اقتربت من الحي لم أجد منزلي، لم يكن هناك أحد لا وجوه، ولا أصوات"، حاول الحاج أدهم أن ينقّب بين الأنقاض، لعله يجد أثرا لهما، لكن دون جدوى، إلى أن تلقى اتصالا من ولده الثالث "لقيت معتصم ومعاذ في مستشفى المعمداني ضمن الشهداء مجهولي الهوية".
يقول الحاج أدهم للجزيرة نت "خرجوا دون أن يقولوا لي، لو علمت -والله- لم أكن لأسمح لهم بالخروج".
يحاول أن يتمالك نفسه، لكنه يعود بذاكرته للوراء، عندما أُصيب ابنه الأكبر للسبب نفسه، ويتابع "كانوا رايحين يجيبوا أكل، أكل من بيتنا اللي طلعنا منه بسرعة وما حملنا منه شيئا"، يكفكف عبراته مستهجنا الجرم الإسرائيلي بحق الأبرياء "شباب مدنيون، يرتدون زيا رياضيا، لا يحملون سلاحا ولا عتادا، كانت وجهتهم جلب الطعام، وخسروا أرواحهم من أجل ذلك".
ثمن لقمة العيش
عوائل غزية تدفع ثمن لقمة العيش من دماء أبنائها، فحسب الدفاع المدني الفلسطيني، وعلى لسان الناطق باسمه محمود بصل، في حديثه للجزيرة نت، كشف عن ارتقاء أكثر من 20 شهيدًا، خلال الأيام القليلة الماضية، وإصابة العشرات بينما كانوا يحاولون فقط الوصول إلى منازلهم لإحضار الطحين والطعام، من المناطق الشرقية لحي الشجاعية والتفاح، وشرق حي الزيتون.
يُكمل بصل "لقد نُقلت الجثث بوسائل بدائية، بعضها على عربات تجرها الحمير، وآخرون لا يزالون في الشوارع تنهشهم الكلاب الضالة، وبعض الشهداء سقطوا داخل منازلهم، قُصفوا لحظة دخولهم، قبل أن يتمكنوا حتى من فتح الخزائن".
فمنذ مارس/آذار الماضي، وإسرائيل تضيّق الخناق على غزة ، من خلال المعابر المغلقة، والغذاء الممنوع من العبور، عشرات الشاحنات التي دخلت إلى جنوب القطاع، وصفتها المؤسسات الدولية بأنها "نقطة في بحر الاحتياج لمليوني جائع ومحاصر"، أما شمال وادي غزة، فما زال خارج معادلة الرحمة، محرومًا من الغذاء، مما يعني أن قائمة الشهداء ما زالت قابلة للتمدد، أمام من لا يملكون رفاهية الخيار إما يموت أبناؤهم جوعًا، أو يموتون وهم يحاولون أن يؤمنوا لهم لقمة عيش تحفظ كرامتهم.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الاحتلال يقتل مديرة إدارة العمليات بالدفاع المدني وزوجته في غزة
الاحتلال يقتل مديرة إدارة العمليات بالدفاع المدني وزوجته في غزة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

الاحتلال يقتل مديرة إدارة العمليات بالدفاع المدني وزوجته في غزة

أعلن جهاز الدفاع المدني الفلسطيني في قطاع غزة، اليوم الأحد، عن استشهاد مدير إدارة العمليات في الجهاز، العقيد أشرف أبو نار، وزوجته جراء قصف إسرائيلي مباشر استهدف منزلهما في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة. وقالت المديرية العامة للدفاع المدني في بيان رسمي: "تنعى المديرية العامة للدفاع المدني استشهاد العقيد أشرف أبو نار، مدير إدارة العمليات لديها، في استهداف إسرائيلي مباشر داخل منزله في مخيم النصيرات، واستشهاد زوجته أيضا". وأضاف البيان أن العقيد أبو نار شغل خلال السنوات الماضية عدة مناصب قيادية في الجهاز، منها إدارة محافظات غزة والوسطى وخان يونس، قبل أن يتولى مسؤولية إدارة العمليات، مشيدة بانضباطه والتزامه في أداء مهامه الإنسانية والمهنية. ويأتي هذا القصف في إطار هجمات جوية إسرائيلية متواصلة استهدفت مناطق متفرقة من قطاع غزة منذ فجر الأحد، وأسفرت عن استشهاد ما لا يقل عن 19 فلسطينيا. ويواصل جيش الاحتلال استهداف المؤسسات الإغاثية والطبية وطواقمها العاملة في قطاع غزة، في محاولة لتقويض جهود تلك المؤسسات في التخفيف من آثار الحرب الإسرائيلية على أهالي القطاع. وتشن إسرائيل حرب إبادة جماعية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بدعم أميركي، مما أسفر حتى الآن عن استشهاد وإصابة أكثر من 176 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب أكثر من 11 ألف مفقود، ومئات آلاف النازحين.

تحقيق إسرائيلي في إصابة جندي خلال عراك مع رفيقه بغزة
تحقيق إسرائيلي في إصابة جندي خلال عراك مع رفيقه بغزة

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

تحقيق إسرائيلي في إصابة جندي خلال عراك مع رفيقه بغزة

أفادت القناة 14 الإسرائيلية بأن الشرطة العسكرية قررت فتح تحقيق إثر إصابة جندي بجروح خطيرة خلال عراك مع أحد رفاقه. وأوضحت القناة الإسرائيلية أن الجندي أصيب بجروح خطيرة خلال العراك الذي اندلع أثناء وجود الجنديين داخل قطاع غزة. وأضافت القناة أن الحادثة وقعت في الكتيبة 931 بلواء ناحال أمس السبت، وشهدت اعتداء جندي على زميله بمؤخرة بندقية وتسبب له بإصابة خطيرة. وأشارت إلى أن الشرطة العسكرية فتحت تحقيقا في القضية، وسيتم تقديم نتائجه إلى مكتب المدعي العسكري. وأكدت القناة أن أقارب الجندي الذي اعتدى على زميله حذروا من حالته النفسية الصعبة. كما طالب أقارب الجندي المعتدي على زميله، بتمكينه من رعاية عاجلة من مختصين، لكن قيادة الكتيبة ردّت بأن الجندي سيُنقل من القطاع بعد انتهاء المهمة وسيعرض على مسؤول الصحة النفسية العسكرية لاحقا.

السرايا تبث مشاهد لكمين استهدف آليات جيش الاحتلال بمدينة غزة
السرايا تبث مشاهد لكمين استهدف آليات جيش الاحتلال بمدينة غزة

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

السرايا تبث مشاهد لكمين استهدف آليات جيش الاحتلال بمدينة غزة

بثت سرايا القدس -الجناح العسكري ل حركة الجهاد الإسلامي – مشاهد قالت إنها من عملية مركبة قام بها مقاتلوها واستهدفت آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي المتوغلة بحي الشجاعية شرق مدينة غزة. وقالت سرايا القدس إن مقاتليها نفذوا كمينا هندسيا تم خلاله تشريك وتفجير قنبلة من مخلفات جيش الاحتلال الإسرائلي وعبوة ناسفة من نوع ثاقب في آليات جيش الاحتلال المتوغلة بحي الشجاعية. وتضمنت المشاهد عملية التحضير لتشريك وتفجير القنبلة من قبل مقاتلين من السرايا، بالإضافة إلى رصد وصول آليات الاحتلال الإسرائيلي لمحيط الكمين، ولحظة انفجار القنبلة والعبوة في آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي. وأظهرت المشاهد دخانا كثيفا يتصاعد في السماء لحظة انفجار القنبلة والعبوة من طرف مقاتلي سرايا القدس. وفي إطار عمليات المقاومة، كشفت كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- عن تنفيذ عملية مزدوجة استهدفت قوة من جيش الاحتلال الإسرائيلي كانت تتحصن داخل منزل في بلدة القرارة شرق مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة. وأوضحت الكتائب في بيانها أن العملية نفذت صباح يوم الثلاثاء الموافق 20 مايو/أيار الجاري، مشيرة إلى أنها "تأتي في إطار الرد على جرائم الاحتلال واستمرارا لمسيرة المقاومة". وكانت سرايا القدس أعلنت قبل أيام أن مقاتليها استدرجوا قوة هندسية إسرائيلية إلى كمين مركب داخل مبنى مفخخ بعبوات شديدة الانفجار شرقي خان يونس وتفجيره في القوة المتوغلة. وتأتي عمليات المقاومة في الوقت الذي ينفذ فيه جيش الاحتلال الإسرائيلي خطة عملية " عربات جدعون" بهدف تحقيق حسم عسكري وسياسي في قطاع غزة ، بدأ تنفيذها عبر استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store