
عشر ذي الحجة.. أيام مباركة لتطهير النفس
27
A+ A-
تمرّ على الأمة الإسلامية مواسم للطاعات، تحمل في طياتها فرصًا عظيمة لتزكية النفس والتقرب إلى الله، ومن أعظم هذه المواسم العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، التي أقسم الله بها في كتابه الكريم: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: 1-2]، دلالة على عظيم فضلها ورفعة منزلتها.
وفي كل عام، ومع اقتراب هذا الشهر العظيم، تتجه أنظار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى مكة المكرمة، حيث يؤدي الحجاج مناسكهم في مشهد إيماني مهيب. ولكن بعيدًا عن مشهد الحجيج، فإن العشر الأوائل من ذي الحجة لا تقل أهمية لغير الحاج، فهي أيام عظيمة أقسم الله بها، مما يدل على علوّ قدرها ورفعة مكانتها.
في هذه الأيام المباركة، تتهيأ القلوب لتوبة صادقة، وتنشط النفوس في ميادين الطاعة، ويجد المؤمن في كل يوم منها فرصة لتطهير روحه من أدران الغفلة والذنوب.
إنها ليست فقط فرصة لجمع الحسنات، بل هي أيضًا فرصة نادرة للتطهر من الذنوب والآثام التي أثقلت أرواحنا على مدار العام.
العشر الأوائل من ذي الحجة هي أفضل أيام الدنيا، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، "ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيام"، يعني: العشر [رواه البخاري].
تجتمع فيها أعظم العبادات: الصلاة، الصيام، الصدقة، الذكر، والحج.
وتطهير النفس لا يقتصر على ترك الذنوب الظاهرة فقط، بل يشمل مشروعًا إيمانيًا متكاملًا، يبدأ من أعماق القلب ويمتد إلى السلوك والمعاملة.
فأول ما ينبغي تطهيره هو القلب من الحسد، ذلك الداء القاتل الذي يُفسد الإيمان ويأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
ولعلاج الحسد، علينا بالإكثار من الاستغفار، والرضا بقضاء الله، والتأمل في نعمه علينا.
ثم يأتي الحقد، وهو نار خفية تحرق العلاقات وتؤجج الخلافات. لقد علّمني ديني أن العفو سبيل الشرف، وأن التسامح قوة لا ضعف، وقد قال الله تعالى:
{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}.
وإنني أحب أن أمد يدي لمن خاصمني، وأدعو كل من يحمل في قلبه غلًّا أن يسامح قبل فوات الأوان.
أما الظلم، فهو من أعظم الكبائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة".
في هذه الأيام المباركة، تعلو الأصوات بالدعاء، وتُرفع الأكفّ إلى السماء من قلوب مكسورة، وأرواح أنهكها الظلم، تتوجه إلى الله وحده، القادر العادل، في العشر الأوائل من ذي الحجة، تشكو قلة الحيلة وضعف النفس، وتناجيه:
"يا رب، أنت حسبي، وأنت نصيري، خذ لي حقي ممن ظلمني".
فيا من تظلم، ويا من تجحد المعروف، ويا من تتقوّى على الناس بسلطانك أو مالك أو منصبك أو لسانك، أما تخاف من دعوة مظلوم تصادف ساعة استجابة؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" [رواه البخاري ومسلم].
كيف تستطيع أن تنام مرتاحًا، وقد جُرح فلان بسببك؟ كيف تهنأ وأنت تعلم أنك أسأت لفلان، وأخذت حقه، أو بهتّه، أو ظلمته في عرضه أو رزقه أو مكانته؟
أين الخوف من الله؟ وأين حساب الآخرة؟ وأين احترام حرمة هذه الأيام المباركة؟
تذكّر أن الأيام دُوَل، والقلوب بين يدي الله، وأن ما تزرعه اليوم من ظلم، قد تحصده غدًا في صحتك، أو رزقك، أو أحبّتك، أو في نفسك.
تذكّر أن من ظلمته قد يكون أقرب إلى الله منك، وأكثر صدقًا، وأن دعوته قد تقلب موازين حياتك.
فإن كنت ظلمت أحدًا، أو آذيته، أو استغبت، أو بهتّ، فهذه الأيام المباركة فرصتك: ارجع إلى الله بتوبة صادقة.
ردّ الحقوق إلى أصحابها، اعتذر بصدق، واطلب السماح.
وتذكّر أن ما عند الله لا يُنال بالظلم، بل بالعدل والإحسان.
من المؤسف أن يظن البعض أن فضل هذه الأيام مقصور على الحجاج فقط. كلا، فغير الحاج أمامه أبواب واسعة من الخير: الصيام، خاصة يوم عرفة، والتكبير والتهليل، والصدقة، وصلة الأرحام، وتلاوة القرآن، بل وحتى الكلمة الطيبة والبشاشة في وجه الناس.
هذه الأيام، يكثر فيها الذاكرون، والمتصدقون، والمستغفرون، ولكن هناك من هو في ركن بعيد، لا يملك لا مالًا ولا لسانًا، ولا نصيرًا... يملك فقط دمعة صادقة، ودعوة تنطلق من قلب منكسر، يرفع يديه في ليل عرفة، أو فجر يوم مبارك، ويقول: "اللهم إنهم آلموني، وظلموني، فأنصفني يا أعدل العادلين".
إنني أحب هذه الأيام لأنها تعيد إليَّ صفاء القلب ونقاء النية، وتمنحني فرصة لأكون إنسانًا أفضل، وأؤمن بأن من يغتنمها، سيكون بإذن الله من الفائزين في الدنيا والآخرة.
في هذه الأيام، نحن أحوج ما نكون لقلوب نقية، وضمائر حية، وتوبة نصوح.
اتقوا الله في عباده، وراقبوا خالقكم، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه ندم، ولا يُقبل فيه اعتذار.
فالمظلوم قد سلّم أمره لله، والدعاء سهام الليل لا تخطئ، وإن تأخر وقتها.
اللهم طهر قلوبنا من الحسد والغل والحقد والظلم، واغفر لنا تقصيرنا، واجعلنا ممن يُنصف لا يظلم، ويعفو لا يؤذي، ويخشاك في كل حال.
اللهم وفقنا في هذه الأيام المباركة لعملٍ ترضى به عنا، وبلغناها ونحن في أحسن حال، واجعلنا من عتقائك من النار.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى الالكترونية
منذ 10 دقائق
- صدى الالكترونية
خطبة عرفة من مسجد نمرة.. فيديو
ألقى خطيب يوم عرفة الشيخ الدكتور صالح بن حميد، اليوم الخميس، خطبة عرفة في مسجد نمرة بمشعر عرفات. وقال خطيب يوم عرفة: من الإيمان صلة الأرحام وبر الوالدين وقول الصدق وطيب اللفظ والوفاء بالعقود والعهود وحسن الأخلاق. وأضاف: اتقوا الله بفعل أوامره وترك مناهيه فإن الله يحب المتقين وجعل العاقبة للتقوى، التقوى تمسك بدين الله وعمل بشرعه خوفا من عقابه ورجاء حسن ثوابه، دين الله الذي أكمله في مثل هذا اليوم. وتابع: من الإيمان الصبر عند البلاء، والشكر عند النعماء، والتوبة والندم بعد المعصية والجفاء، بالإيمان تحصل النجاة والفوز بخيري الدنيا والآخرة، فالإيمان يتضمن به ربا وخالقا ومدبرا للكون ومتصفا بالصفات العلى والأسماء الحسنى.


صدى الالكترونية
منذ 10 دقائق
- صدى الالكترونية
استعداد المصلين في مسجد نمرة لخطبة عرفة وأداء صلاتي الظهر والعصر.. فيديو
أظهرت لقطات من داخل مسجد نمرة، استعداد المصلين لخطبة عرفة وأداء صلاتي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا. وتوافد حجاج بيت الله الحرام منذ وقت مبكر إلى مسجد نمرة في مشعر عرفات اليوم للاستماع إلى خطبة عرفة، وأداء صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً؛ اقتداءً بسنة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، حيث يخطب ويؤم المصلين الدكتور صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام. وتقوم الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين بالترجمة الفورية والمباشرة لخطبة يوم عرفة، بأكثر من 34 لغة عالمية؛ لتصل إلى أكبر عددٍ ممكن من المسلمين حول العالم، وذلك انطلاقًا من مبدأ 'البلاغ المبين'، وإيصال رسالة الإسلام السمحة إلى مختلف شعوب العالم بلغاتهم، وتعزيز التواصل مع المسلمين وغير المسلمين، بما يعكس مكانة المملكة في خدمة الحرمين الشريفين والحجاج.

يمرس
منذ 13 دقائق
- يمرس
نشر في يمنات يوم 05 - 06
أن تفتقد وطنك، فأنت تفتقد هويتك، وسكينتك، وامنك، وذاتك، وشعورك بالأنتماء للمكان، الذي ولدت فيه وترعرعت، وحلمت، وشطحت باحلامك فيه ومن أجله ..! أن تفتقد وطنك، فأنت تفتقد لمحيطك الأسري والاجتماعي، وللقيم والأخلاقيات والمبادئ، التي استوطنت وجدانك.. أن تفتقد وطنك فأنت تفتقد لدفء المكان، وتناغمه نفوس كل من فيه.. أن تفتقد وطنك، فأنت تفتقد لرائحة " أمك" لعطرها، لبخورها، " لسجادة الصلاة" التي كانت تقف عليها، تواجه " الله" وتبتهل إليه، أن يحفظك، ويوفقك، ويعلي شأنك، ويحقق لك أحلامك..! أن تفتقد وطنك.. فأنت تفتقد طفولتك وشبابك، تفتقد طريقا كنت تمر بها، ومكانا كنت تلهو به وتلعب مع أقرأنك.. أن تفتقد وطنك، فأنت تفتقد لعقود من الذكريات المتداخلة بفرحها واحزانها..! أن الوطن ليس مجرد "بطاقة" ولا "جواز سفر" دونت عليهما فترة صلاحياتهما..؟! فالوطن ليس " مصنعا" و " اناء، وأنتم، وهم، وهن، ونحن" جميعا لسنا " علب فول" محدودة الصلاحية..! أن الوطن الذي نفتقده، ليس هذا الذي نحن فيه، فما نحن فيه، ليس وطننا، بل "حلبة مصارعة" لي" فرسان الخيبة" الذين ينظرون للوطن بأنه " مجرد منجم " وإقطاعية خاصة بهم فيما _نحن _ بنظرهم " كومبارس " نؤدي أدوار في" مسرحية تراجيديا"حسب توصيات المخرج..؟! أن الوطن هو احلامنا، طفولتنا، ابنائنا، وابائنا، أجدادنا، وتاريخنا الذي نلقنه ابنائنا واحفادنا، وهم بدورهم، سيلقون أحداثه أبنائهم واحفادهم..! أن الوطن هو احلامنا، وهو ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا..! هو" وادي في القرية " وهو" حي في المدينة"، هو "حقل" تعفرت بترابه أقدامنا، ونحن نسير خلف "البتول" ننظف ترابه من الشوائب.. هو الطريق التي تعبنا وتخاصمنا من أجل شقها.. وهو المدرسة التي جاءت بعد طول غياب..! والوطن ليس " راية ملونة" ولا " نشيدا وطنيا"، والوطنية لا تقتصر على تحية العلم، ولا الوقوف إحتراما للنشيد الوطني.. أن الوطن هو الدم الذي يجري في عروقنا، والوطنية هي الشهيق والزفير والهواء الذي نستنشقه..! أن الوطن هو أبي، واباك، وأبائهم، وهو أبني، وابنك، وأبنهم، وهو حفيدي، وحفيدك، واحفادهم.. إنه" الوكر" الذي به نحتمي، و" الملاذ" الذي إليه ناوي.. وهو مسقط رؤسنا، وميدان طفولتنا، وحلم شبابنا، وكهف أسرنا، ومرتعا لشيخوختنا، وهو الحضن الذي سنواري فيه حين يحل أجلنا..! أن الوطن الذي نفتقده، ليس هذا الذي نعيشه، والوطن الذي حلمنا به، ودفعنا ثمن احلامنا دما، ودموعا، واهات، ليس هذا الذي نعيش فيه، مجبولين بالقلق، والخوف حد الرعب من الحاضر والمستقبل..! أن وطننا الذي نفتقده، لا نخاف ونحن في حضنه، ولا نقلق فيه، ولا تنتابنا الكوابيس على مستقبل أولادنا واحفادنا فيه..! أن الوطن الذي نفتقده، هو ذاك الحافل بالماضي العريق، الذي شيدت عليه حضارة اذهلت العالم.. هو ذاك الذي هندس أجدادنا جباله الشاهقة، وجعلوا فيها مدرجات تعجز عن الأتيان بمثلها " ريشة أمهر الفنانين التشكيليين" الذين ساهموا في "نهضة أوروبا" ، لكنهم لن يكونوا أكثر مهارة من أولئك الذين هندسوا مدرجات زراعية في وطني، وصمموا شبكات الري، وجعلوا من " معبد الشمس" آية من آيات الفن والجمال..! أن الوطن الذي نفتقده، هو اليمن السعيد، الواحد الموحد، تحرسه دولة النظام والقانون، والمواطنة المتساوية.. وطن يرعى الطاقات الإبداعية، لكل أبنائه، ويعيش فيه الجميع، بحرية وكرامة ومساواة، وطن خال من كل الشوائب، القبلية، والطائفية، والمذهبية، والمناطقية، والحزبية.. وطن تتجسد على ترابه كل معاني وقيم الحكمة، وترفرف في قمم جباله بيارق السعادة، وتخيم عليه سكينة وطمأنينة، وعدالة تستوطن النفوس قبل القوانين والدساتير..! أن وطننا فرحة وابتهاج، وأمل، وحب، وتعايش مشترك، وبناء وتعمير.. أن النكد والخوف والقلق، ليست أقدار كتبت علينا، بل هي صناعة من اعتادوا العيش على حساب الوطن والشعب، وليس من أجلهما، وهؤلاء ظواهر طبيعية عابرة مثلهم، مثل " الفيضانات، والزلزال، والسيول الجارفة" سوف يتجاوز وطننا وشعبنا محنتهم..! أن الوطن الذي نفتقده، وسنظل نحلم به، وسوف نوصي أولادنا، واحفادنا بأن يواصلوا مسيرتهم وتوريث الحلم لأبنائهم، واحفادهم، هو وطن الحب، والسلام، والتعايش فيه الجميع سواسية، تضللهم سحب المودة والاخلاص والوفاء والأخوة، وحتى يتحقق الحلم ويعود الوطن إلى عشاقه، من آدمنوا رائحة ترابه، ولم يدمنوا روائح "خزائنه" ولا "رائحة البارود" والدم ..؟! وسوف نبقي نورث احلامنا، وتتوارثها الأجيال بعدنا حتى يتحقق حلمنا ذات يوم.. وسوف يتحقق حتما.. من حائط الكاتب على الفيسبوك