
العريفة بكُبره يندهن سيره
عاد (المَدرِّج) من الحجاز إلى قريته، بروحٍ نجرتها الغُربة، وملامح هدّها عناء الترحال؛ عامان مضيا منذ غادرها، لقي فيها من الأهوال والقسوة ما لقي؛ لكنه ما حُرم المرزق، واقتنع بأن مقولة جدّه (اللي يخرج من داره يقلّ مقداره) خاطئة، ولكن أكثر ما ضاعف حزنه أن مسقط رأسه لم تبتهج بعودته كالعادة مع المغتربين القادمين؛ فلا أحدّ بشّر بقدوم الغائب، ولا رحّب بعودة اللافي، مشى من الربوة التي تقف عليها الشاحنات، وشنطته الحديد فوق رأسه؛ والبقشة المحشور بها كثير من الهدايا في يده؛ وصعد درجة بيتهم المتهالكة، وكأنها فمّ شايب تنود أسنانه؛ وكادت زوجته تحاحي، حطت عنه الشنطة، وأدخلتها العُليّة، ووضعت البقشة على مدماك المواعين.
ما أمداه يتواسى، حتى تبدّل لون وجهها، ولم تنجح في مداراة وجعها، ولا التحكم في دموعها، فانفرطت تشهق وتروي له ما جا وما جرى؛ ولم يقطع سالفتها إلا بكاء الرضيع، فأندرت الميزب، وأخرجته ومدّت به لأبيه؛ وقالت: ولدته بعد سفرك بستة شهور، وسميناه (كاسب). فنسي وهو يتمقّل فيه كل تعبه وشقا غربته؛ وانفرجت أسارير وجهه؛ فسمّى عليه؛ وحسّ الرضيع بالأمان وغفا، فقام وأعاده وهو يمشي على طرف أصابع قدميه إلى ميزبه، وعلّق الميزب في حبل متدلّي من كُلّاب الزافر.
قعدت قبالته، وحطت المخاضه فوق ركبتها، وبدأت ترجها بيدها اليمنى، وباليسرى تهز ميزب رضيعها؛ ولفتت انتباهه لمعة دماغه من الشقّ؛ فقال: ما شاء الله حلّقتيه. فقالت: البارحة. فأضاف: بسمة الرضا بادية عليه. فقالت: درى أنك جاي. فتناول الميزب بكلتا يديه؛ وطبع قُبلة طويلة على جبينه؛ وهي تردد: لا هنت عساك تسلم.
أحزنه أن اللي ما يحللون ولا يحرمون استغلوا غيابه؛ وموت عمّه؛ فقلعوا الحُدّان؛ واعتدوا على الشفيان، وقطعوا الخيطان؛ واحتشّوا الخُليان؛ فنشدها: هوّه ما كتبتي لي جواب تعلميني بوفاة عمّي وتعدّي الفجرة على حقّنا؟ فحلفت باللي ما ينحلف إلا به إنها راحت للفقيه؛ وكتب لها الخطّ؛ وسلّمته (المشتّر) سواق اللوري، وكلما عاد من سفر يقول: رجالك يسلم عليك؛ وترى نفسه طابت من الديرة.
تيقّن (المدرّج) أنّ عيال الثلوث والربوع تآمروا عليه؛ ونشدها عن المسراح والمراح، فأخبرته أن الفقيه يزرع ويقلع، ويكيل لها من كل زرعة ما يقسم ربي، وقالت: بقرتنا طرح ربي فيها البركة، وأنا أتشقّى مع الجماعة ونهضت، فأزاحت الجمر عن الصلاة، ومسحتها من الرماد، وطرحت عجينتها البايتة، وغطّت عليها بالمكبّ، ورددت عليها الجمر من الأطراف، وقرّبت منه براد الشاهي؛ فرشف جغمة؛ وخرجت منه (آااح) وعلّق: عبلتيه سُكّر يا العريبه؛ والله لو كان نغترفه من جُريبه. فردّت ضاحكة: الحلا يدفع البلا.
اكتسب (المدرّج) من سفرته حنكة، وبُعد نظر، وقرر يبدأ بالمذّن؛ فأخرج من البُقشة شماغ كورشيه؛ وكيلة قهوة؛ وما راح من الوادي إلا والكسوة قدامه؛ ولكنّه مراوغ؛ ما أعطاه العلم الناجح؛ فقرصه في فخذه؛ وحندر فيه؛ فطاح المسواك من ايده؛ وقال: يا (ديكان) لا تلجّغ الهروج، وابشر بعشرة ريال فرانسي، فقام يلمح للمرة حولهم وإلا ما هيب حولهم؛ ولاح الباب؛ ثم سرد عليه العلوم؛ وكل ما تنسّم قال: يا رفيقي رفاقتنا ضعاف نفس، والفقيه معه طمعه؛ وما معك إلا تُبلص الشاعر والتاجر عشان يشهدون معك، وتدهن سيرهم، فنفر فيه: أرشي الناس عشان يشهدون لي بأملاكي وورثي من عمي الفاني خبت ولا طبت؟ فقال: لا ترشي، ادهن سيرهم، ردّ عليه: خذلك ربي يا ديكان ما تمزى تطق في جماعتنا العفاف النظام. فضحك وردّ عليه: العريفة بكُبره يندهن سيره.
التقط الشماغ وكيلة القهوة، وقال: ما تستاهل إلا رمادة في وجهك يا الرخيص، وعاد للبيت؛ قلعت الحُرّة خبزتها؛ وصبّت لبنها؛ أكل لين صرّت إذنه؛ ثم فتح البقشة وأخرج قطعة قماش صوف كشميري، وضمها مع القهوة والشماغ، وأضاف عليها دحوة حوايج، وقيسه على بيت العريفة؛ ومن ساعة ما سمع صوته عرفه؛ فخرج يرحّب وقلّطه، وعينه على الهدايا، وأخذ علم واعطى علم، ولما سمع منه قول ديكان؛ العريفة بكُبره يندهن سيره، انقلب وجهه؛ وقال: يخسى ولد أم الشكوة المقلوبة، لكن كل شيء بحسابه، تقهوى، وكثّر بالخير، وهو قايم، مدّ بكيس صغير فيه عشرة جنيهات ذهبية وارد (جورج) وبغى يقوم العريفة يودّعه؛ فحلف ما يتحرك من مكانه.
بعد صلاة الجمعة؛ قام العريفة وقال: يا جماعة لا تروحون؛ اللي يسنن ينتظرنا في الظّلة؛ وأوّل من خرج الشاعر، الذي اختار زاوية في الظلّ، فولّع مكيّف رأسه، دون أن يحسب حساب أحد؛ وطوّل الفقيه في التسنّان؛ فقرب منه العريفة وقال: تمغّطْها وإلا ما تمغط، والله لترد الطاق مطبوق، والا لاخرج الأوّلة والتالية؛ فسلّم وضمّ رأس العريفة بكفيه؛ وهو يردد: قُلْ وطُلْ يا كبيرنا، والكبار على يدك تغدي صغار، وبدأ بطنه يقرقر؛ فقال: صُرّها لا تفضحنا ببيت ربّي.
أسند العريفة ظهره إلى حماطة المسيد، وقعد القرفصاء، فصمت الجميع، وكأن على رؤوسهم الطير، وشرع بديباجته المعهودة؛ فيكم من صلّى على محمّد؛ فصلّوا وسلّموا عليه؛ وأضاف: اذكروا الله. فردّوا بصوت واحد: لا إله إلا الله. وأخرج كيس الجنيهات؛ ومدّ به؛ قائلاً: ألزم (يا المدرِّج) وأقسم يمين ما يقبل منه إلا كساويه؛ وأن يرجع إليه كل حقه من البيت والوادي؛ ورفع الصوت وعينه على ديكان؛ وأضاف: اللي يقول ادهن سير العريفة مدهون سيره وسير أبوه وجده، ويأكل من الدمنة، وأنا ذمتي ما هي رخيصة، والحقّ يمضي على رقبتي قبل رقابكم، وشيمتي تسبق قيمتي؛ واللي ما يرفع قدره إلا الفلوس، بوس به ومية بوس.
رددت الظُّلة: بيّض الله وجهك. وتعالى صوت الإطراء، وقام الفقيه وبراطمه متلاصقة؛ وحلف ما يتغدون إلا عنده؛ فقال الشاعر: قِبلتْ، وأضاف: من يوم عاد المدرِّج ما عاد تعرف تتهرج، اسبقنا والله الله في الدسمة، فشاعت البسمات والغمزات والضحكات، وانطلق الفقيه قدامهم؛ نصّ المشلح فوق ذراعه والباقي يسحب.
قلّطهم على الميسور، وقال: بالحرام يا غداكم إنه عقال عشاكم، وبعد العصر؛ دقّ الزير وتوالمت الصفوف، ودرج المعراض، والفقيه مشغول ينصب الريحان والكادي في عقال المدرّج، ويحتلج قدامه بالجنبيّة، ونص العراضة يرددون (لابةٍ ما تعطي الحق يترب بابها)، والنص الباقي يردون (خرعة الطماع لا بد يتربى بها).
أخبار ذات صلة

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرياض
منذ 3 ساعات
- الرياض
استعدادًا للمواجهة التاريخية في سبتمبر..نجما الملاكمة كانيلو وكروفورد يصلان العاصمة الرياض
وصل إلى العاصمة السعودية الرياض مساء أمس (الخميس) بطل العالم المكسيكي ساول 'كانيلو' ألفاريز والنجم الأمريكي تيرينس كروفورد، وذلك استعدادًا للمشاركة في المؤتمر الصحفي الأول ضمن الجولة الإعلامية العالمية لـ'نزال القرن'، والذي يُقام مساء غدٍ (الجمعة) على مسرح بكر الشدي في منطقة بوليفارد سيتي، بتنظيم من موسم الرياض. حيث ستشهد الرياض تدشين الجولة بمؤتمر صحفي هو الأول ضمن سلسلة من الفعاليات الترويجية التي ستنقل أجواء المواجهة المنتظرة إلى جماهير الملاكمة حول العالم، حيث يلتقي البطل العالمي 'كانيلو' ألفاريز، صاحب سجلٍ حافل بـ62 انتصارًا (منها 39 بالضربة القاضية)، مع خصمه الأمريكي تيرينس كروفورد، الذي يخوض النزال بسجل مثالي بلغ 41 فوزًا دون أي خسارة، منها 31 بالضربة القاضية. ويُعد هذا المؤتمر أول محطة في الجولة الإعلامية التي ستنتقل من الرياض إلى نيويورك للمشاركة في فعالية Fanatics Fest يوم الأحد المقبل، على أن تختتم في مدينة لاس فيغاس يوم الجمعة القادمة، في إطار حملة ترويجية عالمية تسبق أحد أكبر النزالات في تاريخ الملاكمة الحديثة.


الرياض
منذ 4 ساعات
- الرياض
إلى وطن خارطته القلب
أنا تلك البدوية التي تعشق سكنى الصحراء كجِمالها.. وإن انتعلت الكعب العالي ستبقى قدماي معفرة برملها، وبوصلتي سرابها، أنا التي تجذرت في نجد جذورُ روحي وأينعت أغصانها.. أنا الشيح والصبار والورد الطائفي والسدر، أنا الطين ورائحة التراب بعد المطر الزائر النادر، في ذاكرتي الشعرية.. أنا التي هجرت قصورا منيفة والشفيف والحرير والقطط الأليفة واستبدلتها بوفيّ بينبح الطراق دوني ونار حاتم الطائيّ يستدل بها الغريب والضّال في الصحراء على جمرة دفء وقبس نور وبيت من الشَّعر تراوده الريح عن أسرارها ورحلتها المجنونة التي لا تهدأ. أنا الريح والشيح والصحراء وليلها الفضي الذي علّقت عليه نجوما هي دليلي إلى مفازتها فإذا ما اكفهرّ الليل احترقت النجوم ونثرت رمادها لتضيء قلبي ودربي. أنا سميّة ميسون بنت بحدل.. جواز سفري موسوم بالأخضر على رقعة القلب ، مكتوب بدمي، وهويتي رقعة من أرض نجد أحمل معي بعض رملها الذي يرطبه دمع الشوق والحنين وأتعطر برائحته بعد المطر وما أجملها تستيقظ حواسي بعدها وأزهو كالجاكرندا شجرة الربيع. الشمال قصيدتي.. وبين أجا وسلمى دروب عشق وذكريات تنبض في عروقي. في شرق البلاد بحر وحبر وجسر محبة.. نخيل الأحساء والقطيف أول مناطق الخليج المأهولة بالسكان ، وأرامكو الإشعاع الثقافي وقصة الذهب الأسود، ثم الحجاز وصوت المآذن وخطا القادمين من كل مكان ومدينة الرسول طيبة الطيبة يا لمهابتها وشوق زوارها إلى مثوى النبي عليه السلام وصحابته، بقعة كرمها الله بسيرته وطيبة اهلها. وعسير وما أدراك ما هي.. تعانق الغيم وتصافح رقة أهلها وكرمهم ، ثم نجران وفرسان لؤلؤتي الجنوب جبال وسواحل وبحر لازوردي ثم عاصمة القلب وقلب نجد.. الرياض (بأبعادها.. بانسكاب الصحاري على قدميها وما تنقش الريح في وجنتيها.. وطعم الغبار على شفتيها) وكل شبر على هذه الأرض هو قصيدة ولحن حياة وذكرى وذاكرة نقشت وشمها على جسدي وروحي وشكلت خارطة وطن عذب احملها أينما ذهبت وأتغنى به. كبرت مع أحلامه ثم أنا شاهدة عليها حين صارت واقعا، عشت أمنيات النساء، وكنت أخت الرجال الذين عملت برفقتهم أو التقيت بهم في مشوار الحياة و أنا جزء من منظومة الإعلام التي شعرت انني فيها كما المنطاد الذي يعلو في السماء فأرى واقع الحياة وأعيشها. الرحلة عذبة وزادها عذوبة عملي في الاعلام الثقافي الذي فتح لي آفاقا أرحب ومنحني جناحين بمساحة الكون الذي طفت فيه أحمل رسالة هذه الديار ووصايا ولاة أمرها الذين عرفت فيهم الحكمة والثقافة وعشق التاريخ والخوف على مصالح الأمة. الوطن أم.. وعائلة وهنا وطن كريم للتوّ زف تباشير الفرح بنجاح موسم حجّ هذا العام. المنظر مهيب على شاشات التلفاز في كل العالم ، جموع غفيرة من حجاج بيت الله الحرام بيسر وسهولة وأجواء روحانية أدّوا مناسك الحج، من لحظة وصولهم المطار الجوي والميناء البحري وكل الإمكانات مسخرة لراحتهم ونجاح فريضة حجهم، باقات الفل والورد والقهوة السعودية والتمر وابتسامات وجهود المتطوعين من الشعب السعودي وأولئك العاملين في القطاعات المختلفة الذين سخروا قدراتهم مع كل الامكانات التي وفرتها الدولة محبة وزهوا بشرف خدمة ضيوف بيت الله.. فلهذه الأرض الطيبة المحبة والعرفان والانتماء. ميسون أبوبكر


الرياض
منذ 4 ساعات
- الرياض
مشاعر الحج
نجاح استثنائي لموسم حج هذا العام، من خلال توفير جميع الخدمات و الإمكانات وتسخيرها لضيوف الرحمن حتى يتمكنوا من أداء فريضة الحج بكل يسر وطمأنينة؛ كل هذا ولله الحمد بفضل الله جل جلاله ثمّ بفضل رعاية وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين ومتابعة واهتمام سمو ولي العهد - حفظهما الله -.. بهذه المشاعر عبر الفنان القدير سعيد العلاوي في هذا العمل المستلهم من قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) الآية.. حيث عمد الفنان العلاوي على إبراز دلالات الحج وهي الخيام البيضاء ومنارات وفي الجانب الآخر رمزية للمدينة المنورة واستخدام اللون الأبيض بشكل كبير في الفضاء حيث المشهد الذي دلت عليه النصوص القرآنية (وليشهدوا منافع لهم).