logo
عندما أراد المفكر الفرنسي بيار بورديو اللجوء إلى سلفه باسكال ليرتاح من شهرته

عندما أراد المفكر الفرنسي بيار بورديو اللجوء إلى سلفه باسكال ليرتاح من شهرته

Independent عربية٠٢-٠٥-٢٠٢٥

خلال سنواته الأخيرة وقبل أن يرحل في العام 2002 عن عمر يناهز 72، وهو في عز شهرته بوصفه واحداً من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين، عبر اهتمامه خاصة بما أسماه "بؤس العالم"، في واحد من كتبه الأكثر قسوة والكتاب الذي صنع له شهرته وأدى إلى تلك المعارك الكبيرة التي شغلت سنوات حياته الأكثر ضجيجاً، أراد بورديو وفي نوع مما اعتبره بشكل مضمر، استراحة المحارب، أن يهرب من الواقع المرير الذي كان يشغل منه البال والفكر ويؤرقه فالتجأ إلى سلف كبير له من الفلاسفة الفرنسيين النهضويين وهو باسكال، محاولاً أن يعثر عنده على شيء من راحة البال عبر تأمل فلسفي يكون نوعاً من برج عاجي يقيم فيه، ريثما يستعيد نشاطه وقوته ليستأنف تلك المعارك الميدانية التي كانت في خلفية "بؤس العالم" ثم كذلك في خلفية كتابه "التلفزيون"، الذي لم يقل استفزازية، ولكن صواباً أيضاً، عن "بؤس العالم". فهل تراه تمكن من الحصول على ما كان يتطلع إليه من هدوء وتعمق فلسفي كان يتوخاه؟ وبكلمات أخرى: هل أوصله ذلك الكتاب الذي كان بالنسبة إليه حصيلة لجوئه إلى باسكال وعنوانه "تأملات باسكالية" إلى غايته؟
باسكال: الملجأ المستحيل (غيتي)
الراحة المستحيلة
أبداً، كما سيخبرنا بورديو بنفسه. وذلك بالتحديد لأن "تأملات باسكالية" الذي كان من المطلوب منه أن ينقله من علم الاجتماع، وصخبه الحاد الذي استثاره، إلى الفلسفة وعالمها التأملي، قد انتهى به الأمر الى إعادته إلى علم الاجتماع من جديد. كيف؟ سيجيبنا هو بنفسه، إذ يؤكد منذ مطلع الكتاب أن باسكال قد كشف له أن لعلم الاجتماع "خصوصية ليس فيها شيء من التميز، خصوصية تكمن في أن مهمته إنما هي قول أمور العالم الاجتماعي الملموس، وقولها قدر المستطاع كما هي: وهذا كله عادي ولا مراء فيه". غير أن ثمة كما يؤكد بورديو هنا، "ما يجعل موقف علم الاجتماع ملتبساً رغم ذلك بل مستحيلاً أحياناً ويتجلى في كونه محاطاً على الدوام بأناس إما أنهم يجهلون (علمياً) جوهر العالم الاجتماعي ولا يمكنهم بالتالي أن يتحدثوا عنه، وأتحدث أنا هنا عن المبدعين الفنانين والكتاب والعلماء الذين سأكون آخر من يلومهم على ذلك، إن هم اهتموا بشؤونهم الخاصة، أو أن ذلك العالم يقلقهم فيتحدثون عنه حتى بإفراط إنما من دون أن يعرفوا عنه أشياء كثيرة (ومثل هؤلاء يوجدون حتى في داخل علم الاجتماع)، وأنه ليس من النادر في حقيقة الأمر أن واجب الكلام الذي يفرضه إغراء السعي للحصول على الشهرة السريعة الأنماط وموضات اللعبة الثقافية، ينمو حين يتواكب مع السجال لأجل السجال، واللامبالاة والترفع، فينحو إلى جعل الكلام عن العالم الاجتماعي منتشراً في كل مكان ولكن بطريقة يبدو معها وكأنه لا يتكلم عنه، أو لا يتكلم عنه إلا لكي ينساه بشكل أفضل، أو يدفع الآخرين إلى نسيانه. أي أنه بكلمة بسيطة: يلغي وجوده".

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدور الحقيقي لعالم الاجتماع
وفي مقابل هذه الصورة لما هو مزيف وسائد مع ذلك في حلقات علم الاجتماع، يحدد بورديو في "تأملات باسكالية" الدور الذي يفهمه هو لعلم الاجتماع، مؤكداً أن عالم الاجتماع الحقيقي "بعد أن ينجز بكل بساطة ما يتعين عليه إنجازه، يكون عليه أن يفك الدائرة المترابطة لأي إنكار جماعي: عبر اشتغاله على المسكوت عنه، عبر محاولته معرفة، أو التعريف، بما لا يريد عالم المعرفة أن يعرفه ولا سيما حول ذاته، مجازفاً بأن يبدو وكأنه يبيع الهواء. ولكن لمن؟ لمن إن لم يكن لأولئك أنفسهم الذين إذ يعقل هذا يفك نفسه عنهم ولا يمكنه أن ينتظر منهم أدنى اعتراف باكتشافاته، باعترافاته وبما يكشف الستر عنه...؟".
وهنا يضيف بورديو قائلاً في ما يبدو أنه في صدد فتح معركة جديدة من معاركه الكثيرة: "إنني أعرف تماماً حقيقة ما يتعرض له المرء، حين يخوض معركة تتعلق بمحاربة المسكوت عنه في كل ما يتعلق بالواقع الاجتماعي، والسكوت عن هذا يكون عادة ممتلكاً قوة كبرى في عالم الفكر البحت. كما أنني أعلم أنه سوف يكون علي أن أجابه الاستياء الورع الذي يبديه إزائي كل أولئك الذين يرفضون مبدئياً أي جهد يهدف لإضفاء موضوعية ما، على الأمور: إما باسم اكتمالية الموضوع وانغرازه في الزمن، ذلك الانغراز الذي يجعله عرضة للتبدل الدائم وللتفرد، وهم في مثل هذه الحالة يعرفون كنه كل محاولة تهدف لتحويله إلى موضوع للعلم، مع ما يترتب على هذا من إساءة في التعامل معه كمعطى علوي (ونتذكر هنا كيف أن كيركغارد الذي كان دائماً أكثر وضوحاً في هذا المضمار من متابعيه تحدث في يومياته عن التجديف)، وإما لأن أولئك إذ يبدون مقتنعين باستثنائيتهم لا يرون في علم الاجتماع المتعامل مع ما هو واقعي اجتماعي، سوى "تنديد" يستلهم الحقد على الموضوع الذي يطبق عليه نظرياته: فلسفة كان أو فناً أو أدباً".
عملية تحويل معقدة
بالنسبة إلى بيار بورديو واستناداً منه إلى تأملاته الباسكالية، يبدو من المغري بل من المفيد حتى، التصرف كما لو أن مجرد التذكير بأوضاع البشر الاجتماعية إنما هو تعبير عن رغبة ما في تحويل الخاص إلى عام والمفرد إلى جمع بل حتى إلى طبقة، كما لو أن ملاحظة كون العالم الاجتماعي يفرض قيوداً، تحدد على الفكر الأكثر صفاء أي فكر العلماء والفنانين والكتاب، أن يكون آتياً من طرف يريد للأمور أن تنضج بسرعة، كما لو أن النزعة الحتمية التي يتهم علم الاجتماع باتباعها، كانت، كما حال الليبرالية أو الاشتراكية أو غيرهما من التفضيلات، الجمالية أو السياسية، قضية إيمان أو حتى مسألة يتوجب أن تقابل بموقف محدد للدفاع عنها أو لمناوأتها. كما لو أن الالتزام العلمي هو، في حالة علم الاجتماع، موقف متخذ مستوحى من مشاعر النفور المحسوسة ضد "مجمل المسائل الثقافية الصالحة "كما ضد الفردانية والحرية، وضد الهرطقة والتخريب والاختلاف والانشقاق، والانفتاح والتنوع، وهكذا إلى آخر هذه الثنائيات".
ويختم بورديو هذه التأملات معترفاً بأنه غالباً ما حدث له "أمام ضروب التجديد الفريسية التي تتصدى لتنديداتي الخاصة، أن ندمت على كوني لم أحذُ حذو مالارميه الذي إذ رفض أن يكون حراكه أمام الجمهور، مشتغلاً على التفكير الهرطوقي للنتاج التخييلي والإيمان الجماعي بمبدأ اللعب، عبر استنكافه عن إعلان هذا العدم الرئيسي إلا عبر وتيرة الرفض والإنكار المتواصلين. بيد أني أجد دائماً أن ليس في وسعي أن أحفظ أي سر لنفسي أو ألا أكشفه إلا بشكله الملغز كما كان مالارميه يفعل...".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

جوليان أسانج في مهرجان كان تزامنا مع عرض فيلم وثائقي عنه
جوليان أسانج في مهرجان كان تزامنا مع عرض فيلم وثائقي عنه

Independent عربية

timeمنذ 2 ساعات

  • Independent عربية

جوليان أسانج في مهرجان كان تزامنا مع عرض فيلم وثائقي عنه

كان مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج الذي "تعافى" من سنوات سجنه الطويلة بحسب زوجته ستيلا أسانج، موجوداً في مهرجان كان السينمائي أمس الأربعاء لمواكبة فيلم وثائقي عنه يتضمن لقطات لم يسبق أن عُرضت. ولم يشأ الناشط الأسترالي الذي انتهت مشاكله القضائية في يونيو (حزيران) 2024 بعدما مكث في السجن في بريطانيا خمس سنوات وحضر للترويج لفيلم "ذي سيكس بيليون دولار مان" The six billion dollar man للمخرج الأميركي يوجين جاريكي، الإدلاء بأية تصريحات مباشرة، وأوضحت زوجته لوكالة الصحافة الفرنسية أنه سيفعل "عندما يشعر بأنه جاهز". إلاّ أنه ظهر في جلسة تصوير الثلاثاء وهو يرتدي قميصا أبيض يحمل أسماء أطفال فلسطينيين قُتلوا في غزة في الحرب التي تشنها إسرائيل على القطاع ردا على هجوم حركة "حماس" عليها في السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ويرغب مخرج الأفلام الوثائقية يوجين جاريكي في أن يعطي فيلمه صورة جديدة عن أسانج (53 سنة) يُبرز فيها "صفاته البطولية"، ويدحض الأفكار المسبقة عن الرجل الذي جعلته أثار الجدل بأساليبه وشخصيته. وأُطلِق سراح أسانج في يونيو الفائت من سجن بريطاني يخضع لحراسة شديدة بعدما عقد اتفاقا مع الحكومة الأميركية التي كانت تسعى إلى محاكمته بتهمة نشر معلومات دبلوماسية وعسكرية سرية للغاية. وأمضى الناشط خمس سنوات وراء القضبان في إنجلترا، كان خلالها يرفض تسليمه إلى الولايات المتحدة، بعدما بقي سبع سنوات في السفارة الإكوادورية في لندن، حيث طلب اللجوء السياسي. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وقالت زوجته المحامية الإسبانية السويدية ستيلا أسانج التي تولت الدفاع عنه في المحكمة "نعيش (راهنا) وسط مكان طبيعي خلاّب (في أستراليا). جوليان يحب قضاء الوقت في الهواء الطلق، لقد تعافى جسديا ونفسيا". أما جاريكي فلاحظ أن أسانج "عرّض نفسه للخطر من أجل مبدأ إعلام الرأي العام بما تفعله الشركات والحكومات في مختلف أنحاء العالم سرا". ورأى المخرج البالغ 55 سنة أن أي شخص على استعداد للتضحية بسنوات من حياته من أجل المبادئ يجب اعتباره شخصا يتمتع بـ "صفات بطولية". ويتضمن فيلمه لقطات حميمة وفرتها ستيلا أسانج التي انضمت إلى ويكيليكس كمستشارة قانونية. وأنجبت المحامية طفلين من زوجها أثناء وجوده في السفارة الإكوادورية في لندن. وينفي جاريكي في فيلمه أي صلة بين ويكيليكس والاستخبارات الروسية في ما يتعلق بتسريب رسائل البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي مباشرة قبل انتخابات 2016 الرئاسية الأميركية التي أسفرت عن هزيمة هيلاري كلينتون أمام دونالد ترمب.

"عميل سري" و"صراط"... سينما "كان" المشعة بقلق الوجود
"عميل سري" و"صراط"... سينما "كان" المشعة بقلق الوجود

Independent عربية

timeمنذ 11 ساعات

  • Independent عربية

"عميل سري" و"صراط"... سينما "كان" المشعة بقلق الوجود

وسط تنوع الأصوات والأساليب التي طغت على أفلام مسابقة مهرجان "كان" السينمائي، بين الـ 13 والـ 24 من مايو (أيار) الجاري، برز فيلمان مهمان بأسلوبيهما المتناقضين ولكن المتكاملين في جوهرهما، "عميل سري" للبرازيلي كليبير مندونسا فيلو، و"صراط" للفرنسي أوليفييه لاشيه، وكلاهما يقدم رحلة سينمائية تتجاوز حدود الحكاية نحو اختبار وجودي، فالأول يغوص في متاهات الخوف السياسي والذاكرة الجمعية، فيما يسبح الثاني في فضاءات الصحراء بحثاً عن الذات والآخر، ومن خلال رؤيتين للحياة يحدث لقاء عند سؤال مركزي وهو كيف يمكن للسينما أن تكون أداة مواجهة، سواء مع الداخل الروحي أو مع الماضي القمعي؟ وقد نال الفيلمان أعلى درجات تقييمات النقاد. "عميل سري" في "عميل سري" يعود المخرج البرازيلي كليبير مندونسا فيلو لمدينته الأصلية ريسيف، لا ليقدم مجرد حكاية عن فرد أو فترة تاريخية، بل ليحفر في طبقات الزمن البرازيلي جرحاً ظل مفتوحاً، وبين ماض ديكتاتوري ثقيل وحاضر يبحث عن معنى في أرشيفه، يصوغ فيلو عملاً معقداً ومتشظي البنية ينساب ما بين الأجناس السينمائية بسلاسة نادرة، جامعاً بين السرد الشخصي والحس السياسي في مزيج لا يمكن اختزاله أو تصنيفه بسهولة. تدور أحداث الفيلم عام 1977 في خضم الكرنفال السنوي الصاخب، إذ يعود مارسيلو (فاغنر مورا)، وهو رجل أربعيني أرمل، لريسيف محاولاً بناء حياة جديدة، لكن العودة لا تعني بداية جديدة بقدر ما هي استدعاء لماض لم يحسم، فكل شيء في المدينة يوحي بأن هناك طبقة غير مرئية من القلق والتوجس، وهذا الجو الخانق الذي يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية يكشف عن آلة قمع تتجاوز الجسد لتخترق النفس. غير أن مندونسا لا يرضى بسرد خطي تقليدي، فالفيلم يتحرك على مستويات متداخلة، فمن جهة نتابع مارسيلو في حاضره المحاصر بالماضي، ومن جهة أخرى نشهد على جيل جديد من الطلاب يعود إلى أرشيف تلك المرحلة باحثاً عن حكايات المنسيين وأصوات جرى إسكاتها، وفي هذا التوازي يتبدى أن النظام القمعي لا يموت ببساطة بل يعيد إنتاج نفسه عبر النسيان وعبر محو الذاكرة الجماعية، ومن هنا تأتي أهمية "عميل سري" كفعل مضاد للنسيان، وكاستعادة فنية لمقاومة صامتة تتطلب شجاعة الذاكرة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) جمالياً يتفنن المخرج في خلق عالم مزدوج، صاخب وملون من الخارج وخانق ومظلم من الداخل، ومما يثير الإعجاب أيضاً جرأة المزج بين الأساليب والنبرات عبر الانتقال بحرية بين الكوميديا السوداء والفانتازيا والتجسس والدراما العائلية، فمشاهد الساق التي أصبحت حدثاً إعلامياً بعدما التهم فك مفترس الرجل وترك ساقه يتصرف من تلقاء ذاته قد يبدو عبثياً، لكنه يتماشى مع مناخ الفيلم ويعكس جنون المرحلة وانزلاق الواقع نحو الغرائبي، وفي هذا التهجين الأسلوبي تظهر قدرة فيلو على تجاوز القوالب الجاهزة، فهو لا يقدم درساً في التاريخ وإنما تجربة فكرية عن كيف تكتب الذاكرة وكيف تلغى. "صراط" وجودي أما الفرنسي من أصل إسباني، أوليفييه لاشيه، الذي يخوض غمار المسابقة للمرة الأولى، فيأتي فيلمه الجديد "صراط" كطرح جمالي وفكري مختلف أَسَر قلوب النقاد، فلاشيه الذي أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول "ميموزا" في المغرب يعود هذه المرة لصحرائه الممتدة حاملاً في جعبته رؤية فنية تنبض بتداخل الثقافات، ومدعومة بروحية تؤكد اهتمامه العميق بهذه الثيمات، ليكون الفيلم بمثابة شهادة حسية على هذا الانتماء الثقافي المتشعب. في "صراط" نتابع الأب (سرجي لوبيز) الإسباني الجنسية في رحلة يائسة للبحث عن ابنته التي اختفت منذ أشهر بلا أثر، سوى إشاعة تقول إنها قد تكون حاضرة في حفل مرتقب يقام في عمق الصحراء، يرافقه في هذه الرحلة الابن، في ما يصبح الحفل مركز الثقل في السرد ومكاناً صوفياً يحتشد فيه المهمشون من كل فج ليحتفلوا بالحياة والحرية والتحليق خارج قوالب الواقع. والعنوان "صراط" مستوحى من المفهوم الإسلامي الذي يشير إلى الجسر الرفيع الواصل بين الجحيم والجنة، وكأن الفيلم برمته عبور على هذا الحبل المشدود بين اليأس والرجاء والفناء والانبعاث، إلا أن لاشيه لا يقدمه من منظور ديني بل يعيد توظيفه في إطار سينمائي يحمل بعداً فلسفياً وتأملياً، إذ يدعونا لاشيه إلى رحلة فيها من الهلوسة والانجذاب ما يجعلنا نتفاعل شعورياً قبل أن نفهم منطقياً، ولعل الفهم في هذه الحال ليس الغاية بقدر ما هي التجربة والدخول الكلي في الفيلم، فهل ثمة حاجة إلى الفهم أصلاً إن كنا مدعوين إلى عبور وجودي مماثل يغير نظرتنا إلى الحياة؟ وعندما تقرر السلطات المحلية فض الحفل يرفض بعض المشاركين الانصياع ويواصلون الرحلة إلى منطقة صحراوية أخرى على مشارف الحدود الموريتانية، فيلحق بهم الأب على رغم طلبهم منه عدم تتبعهم، مدفوعاً بأمل خافت في العثور على ابنته، وعلى مدى ساعتين نتماهى مع هذا الأب المكسور ونغرق معه في بحر التيه والضياع، حيث تبدو الصحراء بلا نهاية والبحث لا يقود إلا إلى مزيد من التساؤلات. إنها رحلة وجودية قبل أن تكون بحثاً مادياً، فيها تذوب الأمكنة وتبرز الأحاسيس كبوصلة وحيدة، فالصحراء هنا ليست مجرد خلفية وإنما كيان سينمائي حي يشكل مشهداً مهيباً للصمود والقفز فوق العقبات، ومن الصعب ألا نستحضر بعض الأفلام التي تجري فصولها في الصحراء، إذ يتقاطع الفيلم معها في الفلسفة البصرية والتجريد، لكن لاشيه يحافظ على كاراكتيره الخاص فيعرف تماماً كيف يمنح فيلمه هوية فريدة عبر إيقاعه المتأمل ومزجه البديع بين الصوت والصورة. وفي النهاية سندرك أن الغاية ليست الحفل وإنما الطريق إليه، إذ إنه أشبه بسراب على نسق الحياة نفسها بكل ما تعترضه من أوهام وآمال وخيبات، لكن في المقابل لا شيء يعترض طريق لاشيه وهو يحملنا بخطى واثقة إلى عالم مواز.

كريستال بالاس يطلق العنان للأحلام مع اقتراب مغامرته الأوروبية
كريستال بالاس يطلق العنان للأحلام مع اقتراب مغامرته الأوروبية

Independent عربية

timeمنذ 12 ساعات

  • Independent عربية

كريستال بالاس يطلق العنان للأحلام مع اقتراب مغامرته الأوروبية

اهتز ملعب "ويمبلي"، وكان ذلك رائعاً، والآن يستعد كريستال بالاس لخوض جولة أوروبية. تفاصيل مباراة الأمس في الدوري الإنجليزي الممتاز ضد ولفرهامبتون لم تكن ذات أهمية تذكر بالنسبة إلى جماهير الفريق في ملعب "سيلهرست بارك"، فبالنسبة إليهم كان الوقت وقت احتفال وعودة الأبطال الذين صنعوا مجد كأس الاتحاد الإنجليزي، وهو احتفال سيستمر طويلاً حتى الموسم المقبل عندما ينطلق بالاس نحو القارة الأوروبية للمرة الأولى في تاريخه. وبعد تحقيق ما اعتقد كثيرون أنه أبعد من المنال قد يضطر مشجعو "النسور" إلى تغيير نظرتهم النفسية، فلديهم الآن سبب للحلم الكبير. كريس بايفيلد، الذي هو من جماهير ملعب "سيلهرست بارك" منذ أن كان في السادسة من عمره قال لـ "اندبندنت" قبل المباراة "هذا ليس من المفترض أن يحدث مع بالاس، نحن لسنا معتادين على المجد والمفترض أن نعيش خيبات الأمل المريرة، وهذا هو جزء من هويتنا، أشعر بشعور مذهل ولا أعرف حقاً كيف أتعامل مع هذا الإحساس، الشعور بالروعة، إنها ليست مشاعر اعتدت عليها". وسيتطلعون إلى فرق مثل وست هام كنموذج يثبت أن الأندية ذات الموارد المحدودة يمكنها أن تنجح أوروبياً، وربما يستمدون بعض التشجيع من نهائي الدوري الأوروبي الليلة في بيلباو، والذي سيقام بين فريقين إنجليزيين يعتبران، من الناحية الموضوعية، أقل مستوى من هذا الفريق الحالي لكريستال بالاس. لكن الكيفية التي سيبني بها رجال أوليفر غلاسنر على انتصار السبت التاريخي ليست من أولويات الجماهير في الوقت الراهن، فالنادي قضى 164 عاماً من تاريخه من دون تحقيق أي لقب كبير، وقد استحق عن جدارة أن ينعم بمجد هذا الإنجاز. ومع بدء تجمع المشجعين حول ملعب "سيلهرست بارك" كان الشعور بالفرح الممزوج بعدم التصديق ملموساً على الفور، وجماهير المباراة، سواء كانوا أصدقاء أو غرباء، كانوا يتعانقون بصفتهم أبطال كأس الاتحاد الإنجليزي، وكانت عبارة "لا أزال لا أصدق" تتردد كثيراً بين مشجعي النسور، وعبارة أخرى كانت تتكرر أيضاً "ما زال صوتي مبحوحاً". داخل منطقة الجماهير المزدحمة، كان المشجعون يحتسون الجعة تحت شمس الربيع المتأخرة، وعلى الأرجح كان هذا امتداداً لمحاولة التخلص من آثار السكر لبعضهم، وكانت أغنية "واكا واكا" لشاكيرا تصدح عبر مكبرات الصوت، وهي الأغنية التي تبناها بالاس في ضوء بطولتهم في "ويمبلي". وكانت عبارات تتردد مثل "المركز الـ 12 مجدداً؟ ومن يهتم بحق الجحيم؟ لقد فزنا بكأس الاتحاد الإنجليزي"، ولم تكن تلك المرة الأخيرة التي يسمع فيها نشيد كأس العالم 2010 في تلك الأمسية. لم يكن هناك أي تركيز على التحدي القادم أمام ولفرهامبتون، فجميع من ارتدوا الأحمر والأزرق كانوا، وبكل حق، في حال من التأمل والتفكر وهم يحاولون استيعاب أن الحلم الذي بدا مستحيلاً قد أصبح واقعاً، وقال بايفيلد "كنت ما أزال أشعر بالقلق من أن كيفين دي بروين سيعادل النتيجة بعد 20 دقيقة من نهاية المباراة، وكان لدي شعور أن كل شيء سينقلب بشكل مأسوي. لكن مع زوال آثار السكر ومع مرور كل يوم بدأت أدرك أن الأمر حقيقي وأنه يحدث فعلاً، وهذا أمر عبثي". أما ميك لينز (50 سنة) فقال ببساطة "إنه أمر لا يصدق وحسب"، أما بالنسبة إلى آخرين فإن إنهاء نحس "ويمبلي" كان أمراً لا يمكن تصوره، خارج نطاق الخيال لدرجة أنه أصبح مصدر قلق، وقال أحد المشجعين مازحاً "لطالما تمنيت أن يفوز كريستال بالاس بكأس الاتحاد الإنجليزي قبل أن أموت، والآن أنا أتوقع أن يأتي قابض الأرواح ليأخذ روحي، لذا مشاعري متضاربة حيال ذلك". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) حرص المشجعون على الدخول إلى المدرجات باكراً ليمنحوا لاعبيهم الاستقبال البطولي الذي يستحقونه، وكان أول من خرج من النفق هم البدلاء ومن بينهم جان فيليب ماتيتا الذي حصل على دخول فردي بأسلوب مصارعة المحترفين "دبليو دبليو إي" على أنغام أغنيته المميزة من فرقة "فينغابويس" التي باتت مرتبطة باسمه. وعلى رغم أن المهاجم الفرنسي الفوضوي لم يكن ضمن التشكيلة الأساس لكن أيقونة النادي الحقيقية كانت هناك، وهو جويل وارد، السيد كريستال بالاس، الذي قاد فريقه من الأبطال في آخر ظهور له على أرض ملعبه وسط تصفيق صاخب من الجماهير، أما لحظة التكريم العاطفية لمسيرته التي امتدت 13 عاماً فكانت قادمة لاحقاً في تلك الأمسية. تبع ذلك أداء صاخب لأغنية "غلاد أول أوفر"، ثم حان وقت المباراة، وحافظ ملعب "سيلهرست بارك" على صوته منذ صافرة البداية وحتى النهاية، وكان واضحاً أن لا نتيجة ممكن أن تفسد هذه الاحتفالات، وحاول ولفرهامبتون لعب دور مفسد الحفلة، أولاً عبر إيمانويل أغبادو في الدقيقة الـ 24، ثم يورغن ستراند لارسن في الدقيقة الـ 62، لكن في كلتا المناسبتين غمرت أصوات جماهير "الهولمزديل" المدرج، والتي انطلقت في ترديد "واكا واكا" كالعادة، وهتافاتهم غطت على فرحة مشجعي الضيوف في لحظة. لكن هدفا إيدي نكيتياه السريعين في الشوط الأول خلال خمس دقائق فقط، ألهبا حماسة جماهير أصحاب الأرض أكثر، على رغم أن فرحتهم لم تكن متوقفة على تألق المهاجم الإنجليزي، أما هدفا بن تشيلويل والهداف الوحيد في النهائي إبيريشي إيزي، فكانا بمثابة الكريمة على الكعكة، إذ تمكن رجال غلاسنر من تحطيم رقمهم القياسي في عدد النقاط في الدوري الإنجليزي الممتاز بعد مرور ثلاثة أيام فقط على كتابة صفحة أخرى من التاريخ. ومع ذلك لم تخل هذه المناسبة المفعمة بالنشوة من لحظة مؤثرة، فقد انتهى الظهور رقم 364 لجويل ورد بقميص كريستال بالاس في الدقيقة الـ 71، وسرعان ما انهمرت الدموع من الجماهير ومن اللاعب ومن ستيف باريش أيضاً، فعاد إلى أرضية الملعب بعد صافرة النهاية حاملاً كأس الاتحاد الإنجليزي الثمين في لحظة تكريم لمسيرته الأسطورية التي خلدها ملعب "سيلهرست بارك". وبينما كانت مدرجات ولفرهامبتون قد خلت من جماهيرها لم يغادر أي مشجع من أنصار بالاس مقعده، بينما صدحت أرجاء الملعب بهتاف "ليس هناك إلا جويل ورد واحد"، وقال ورد "ما كنت لأكتب قصة أفضل أو نهاية أجمل من هذه". اختتمت ليلة مفعمة بالفرح في منطقة SE25 بوداع عاطفي، حيث يملك كريستال بالاس للمرة الأولى في تاريخه لقباً كبيراً وسينهي موسم (2024 - 2025) بإحساس متجدد بالطموح. وقال غلاسنر بعد المباراة مؤكداً "هذه هي نتيجة ما نتحدث عنه، أن نحافظ دائماً على مستوى عال من المعايير وألا نرضى أبداً، وأن نخطو الخطوة التالية، وهذا ما يحاول هذا الفريق تحقيقه". وقد يكون الاحتفاظ بهذا الفريق المليء بالجواهر في الموسم المقبل مهمة صعبة، إذ تثار التكهنات حول مغادرة لاعبين مثل إيزي ومارك غيهي وإسماعيلا سار، وبناء عليه فإن هدف المدرب غلاسنر في الصيف متفائل لكنه بسيط، إذ قال "أتمنى أن أحتفظ بهذا الفريق، وربما أضيف لاعباً أو اثنين، لكن ربما تكون هذه أمنية موجهة إلى سانتا كلوز". ومع اقتراب خوض منافسات أوروبية يأمل غلاسنر أن يتجنب فريقه التفكك، أما الجماهير فسترفع دعاءها حتى لا يغرى مدربهم البارع بالرحيل، لأنه إذا حافظ هذا الفريق الأفضل في تاريخ النادي من حيث الأرقام على هيئته الحالية، فقد يكون العصر الذهبي على الأبواب في "كرويدون".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store