
تخلُّع وقيامة وشفاء
«لنفسي، المخلَّعة جدًّا بأنواع الخطايا والأعمال القبيحة، أنهض يا ربُّ بعنايتك الإلهيَّة، كما أقمت المخلَّع قديمًا. حتَّى إذا تخلَّصتُ ناجيًا أصرخ: أيُّها المسيح، المجد لعزَّتك». هذا ما نصلِّيه في أحد المخلَّع (يوحنَّا 5: 1-15) الَّذي هو الأحد الرابع في زمن البندكستاريون[1].
لكلِّ حدث إنجيليٍّ بُعدٌ محلِّيٌّ وتاريخيٌّ وزمنيٌّ وجغرافيٌّ، وآخر مستمرٌّ ليعني كلَّ واحد منَّا في كلِّ الأزمان والأمكنة. هذا يعني أنَّنا جميعًا مخلَّعون بخطايانا وضعفاتنا وبحاجة إلى أن يشفينا الربُّ ويقيمنا من سقطاتنا.
الربُّ يأتي ليلتقي بكلِّ واحد منَّا، لا يتركنا، ولكنَّه يسألنا أوَّلًا إذا كنَّا فعلًا نريد الشفاء، وأجمل شفاء هو التوبة.
رحمة الربِّ لا متناهية، وشفاء المخلَّع جرى في «بيت حسدا» Bethesda. هي كلمة ذات أصل آرامي أو عبري، وتتكون من جزأين:
"بيت Bet": وتعني "منزل" أو "مكان"، و"حسدا" (ḥesda) ويُعتقد أن معناها هو "رحمة" أو "نعمة" أو "إحسان".
المخلَّع كان مرميًّا هناك عند باب الضان الَّذي هو باب سور الخراف الَّذي كانت توضع فيه الخراف وتغسل في البركة جانب الباب، لتُقَدَّم في الهيكل تكفيرًا عن الخطايا. فأتى الربُّ وألغى كلَّ الطقوس الحيوانيَّة وقدَّم نفسه ذبيحة حيَّة أبديَّة عن البشريَّة جمعاء. لهذا قال يسوع لليهود إنَّه أعظم من الهيكل الحجريِّ ويريد رحمة لا ذبيحة (متَّى 12: 7)، مسترجعًا الآية نفسها الَّتي أعطاها في العهد القديم لهوشع النبيِّ: «إنِّي أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفةَ الله أكثر من محرقات» (هوشع 6: 6).
ما أجمل هذه الكلمة «معرفة الله»، فما يريده الربُّ هو أن «نعرفه ذاته» وليس أن نعرف عنه، وشتَّان بين الاثنتين. فالأولى تجعلنا حقًّا أبناءه بالنعمة، أمَّا الثانية فقد تؤدِّي بنا إلى الغدر به كما تكمل الآية: « كآدم تعدَّوا العهد. هناك غدَروا بي» (هوشع 6: 7). وقد نماثلهم بالغدر كلَّ يوم إذا اكتفينا بمعرفة عقليَّة عن الله من دون أن نعيشها ونحياها، فنستخدمها وسيلة للانتفاخ والتكبّر، وهذا تحديدًا ما حذَّر منه الآباء القدِّيسون، نذكر منهم قول القدِّيس مكسيموس المعترف: «اللاهوت يصبح شيطانيًّا إن لم يُعَشْ».
لقد برهن يسوع للمخلَّع أنَّه الطبيب الشافي، وبكلمة منه نُشفى إذا رجونا ذلك بصدق. وسؤاله له «أتريد أن تبرأ؟» ما هو إلَّا شفاء روحيٌّ قبل أن يكون جسديًّا. فالاغتسال الخارجيُّ بالماء يبقى خارجيًّا ما لم نغتسل بدموع التوبة ونولد من جديد بمياه معموديَّة الروح القدس كما قال يسوع لنيقوديمس: «الحقَّ الحقَّ أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يوحنَّا 3: 5).
قد نصل أحيانا إلى حالة يأس كما وصل إليها المخلَّع إذ اعتراه المرض ثمانيَ وثلاثين سنة. ولكنَّ الشفاء حصل بلحظة «قُم. احمِلْ سريرك وامشِ»، ولنا يقول: «قُم. احمِلْ ولادتك الجديدة وامشِ».
لا ننسَ أنَّنا في زمن البنكستاريون نسير نحو العنصرة، فهذا الأحد والأحدان اللذان سيليانه، أي أحد السامريَّة وأحد الأعمى الَّذي اغتسل في بركة سلوام، يوجد فيهما ماء إشارة إلى المعموديَّة الجديدة.
وما شفاء يسوع في يوم السبت إلَّا تأكيد على أنَّه واضع السبت وكلِّ الشرائع والنواميس، ولكن مع تجسُّده دخلنا اليوم الجديد، اليوم الأوَّل، اليوم الملكوتيَّ الَّذي هو يوم الربِّ، يوم الأحد، اليوم الثامن، وهو تذوُّق مسبق للملكوت الإلهيِّ.
الشعب العبريُّ تاه في الصحراء مدَّة زمن مرض المخلع نفسها، وذلك قبل أن يدخل أورشليم الأرضيَّة تحضيرًا لأورشليم السماويَّة، ولكنَّه خسر الأخيرة لأنَّه أراد مسيحًا على قياسه وبمفهومه، ولم يفهم أنَّ الله مملكته ليست من هذا العالم، ولا يتكلَّم على حياة ترابيَّة فانية بل على حياة سماويَّة أبديَّة. وقد جاء المسيح ليقول له بأنَّه «هو» أورشليم السماويَّة، فإمَّا أن نشفى وإمَّا أن نبقى قابعين في مرضنا.
هناك من يريد أن يستخدم الربَّ لنزوات مرضيَّة، فيرفض أن يبرأ لأنَّ مرضه يعطيه امتيازات وهي في الواقع كاذبة وفانية. لهذا، فليس من طريقين نختار إحداهما، بل هو طريق واحد واتِّجاه واحد، وهو المسيح كما قال: «أنا هو الطريق والحقُّ والحياة» (يوحنَّا 14: 6)، أمَّا عكس ذلك فهو طريق جهنَّم. إمَّا أن نكون معه وله، وإمَّا أن نكون ضدَّه.
أهمِّيَّة شفاء مخلَّع بركة بيت حسدا تظهر بقوَّة في النصوص الليتورجيَّة الَّتي تحاكينا لتشفينا. كذلك نجد الشفاء في الفنِّ الكنسيِّ منذ القرون الأولى. ففي غرفة المعموديَّة في Dura-Europos، في سوريا، نجد جداريَّة تعود إلى العام 232–235م تظهر الحدث (صورة 1). وجودها هناك لكون المعموديَّة هي ولادة جديدة طاهرة، كذلك هي التوبة كما قال الربُّ للمخلَّع: «ها أنتَ قد برئتَ، فلا تُخطئْ أيضًا، لئلَّا يكون لك أَشَرُّ» (يوحنَّا 5: 14).
أيضًا يوجد ناووس (صورة 2) في متحف الفاتيكان من القرن الرابع-الخامس الميلاديِّ معروف بناووس بيت حسدا The Bethesda Sarcophagus، منقوش الشفاء في وسطه ضمن نقوش أخرى.
كذلك نشاهد في Codex Egberti (980-993م) في ألمانيا تصويرًا (صورة 3) لشفاء المخلَّع من ضمن تصاوير يضمُّها المجلَّد.
طبعًا هناك تصاوير أخرى عن شفاء مخلَّع بيت حسدا، ولكن يبقى التصوير الأجمل والأسمى أيقونة شفائنا نحن، هذا إذا صرخنا فعلًا للربِّ: «اشفنا».
إلى الربِّ نطلب.
[1]. زمن البندكستارين هو الفترة الممتدَّة من أحد الفصح إلى أحد جميع القدِّيسين، ويضمُّ الصعود الإلهيَّ والعنصرة. وكلمة البندكستريون يونانيَّة وتعني الخمسين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ليبانون 24
منذ 4 ساعات
- ليبانون 24
المطران إبراهيم إبراهيم: أسعد نكد رجل بحجم دولة وعد ووفى
في الذكرى الثامنة عشر لبناء كابيلا القديسة ريتا في مقام سيدة زحلة والبقاع، احتشد الآلاف لاستقبال ذخائر القديسة ريتا التي جلبها المهندس اسعد نكد من كاسيا في إيطاليا في قداس احتفالي ترأسه المطران ابراهيم ابراهيم بمشاركة الأساقفة جوزف معوض ، أنطونيوس الصوري ، بولس سفر والمتروبوليت نيفن سيقلي ورؤساء الأديرة ولفيف من الكهنة بحضور حشد من الفاعليات الزحلية و البقاعية. وبعد قراءة الرسالة من قبل الإعلامي الشيخ فارس الجميل وتلاوة الانجيل من قبل المطران جوزف معوض ، ألقى المطران إبراهيم إبراهيم عظة نوه فيها بجهود المهندس اسعد نكد على مختلف الصعد من اجل إنماء و خدمة منطقته وصدق وعوده التي تجلت نوراً مستداماً حتى أضحى رجلاً بحجم دولة لما حقق منطقته ما عجزت عنه الدولة طيلة عشرات السنين الماضية في لبنان. وتابع إبراهيم: "في هذا العيد، لا يسعنا إلّا أن نوجّه تحيّة ملؤها المحبّة والرجاء والوفاء إلى المهندس الحبيب أسعد نكد ، الذي اجتاز ظروفًا صحيّة صعبة، وخرج منها بفضل الله وشفاعة القديسة ريتا، أكثر قوةً وإيمانًا، وأكثر تصميمًا على خدمة مدينته وكنيسته. انه رجل واحد، لكنه بحجم وطن لأنه استطاع ان يفعل ما لم يفعله الوطن". وأكمل: "نصلّي اليوم من أجل صحّته، من أجل حياته العائلية، من أجل المشاريع التي يعمل عليها، كي تبقى دومًا في خدمة الخير العام، وتكون وجهًا من وجوه "الهندسة الروحية" التي تبني الناس، لا فقط النور والطاقة. نحيّي أيضًا عائلته الكريمة، التي تشاركه هذا الإيمان، وهذه الرسالة، ونصلّي من أجل أن تظلّ عائلته شهادةً حيّة على أن الله لا يترك من يتّكل عليه". وأردف: "أمام هذا الجمع المبارك، أوجّه تحية شكر ومحبة لأصحاب السيادة، اخوتي اساقفة مدينة زحلة ، سيدنا جوزيف وسيدنا أنطونيوس الصوري وسيدنا بولس سفر، وعلى رأسنا جميعاً، المتقدم بيننا، المتروبوليت نيفن صيقلي المحبوب، أساقفة المدينة المشاركين معي اليوم في هذه الذبيحة الإلهية. وجودكم بيننا هو شهادة على وحدة الكنيسة، وعلى أن ريتا ومريم توحدان القلوب قبل أن توحّدا الجدران. إنكم بركتنا ورعاتنا، وسهرنا معاً على زحلة في أيام الرخاء والضيق، واليوم نرفع معكم ذبيحة الشكر". واستكمل: "أيّها الأحبّة، من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء ، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة، ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. هذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان". وختم إبراهيم: "أيّها الأحبّة،من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة. ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. وهذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان".


بيروت نيوز
منذ 4 ساعات
- بيروت نيوز
أسعد نكد رجل بحجم دولة وعد ووفى
في الذكرى الثامنة عشر لبناء كابيلا القديسة ريتا في مقام سيدة زحلة والبقاع، احتشد الآلاف لاستقبال ذخائر القديسة ريتا التي جلبها المهندس اسعد نكد من كاسيا في إيطاليا في قداس احتفالي ترأسه المطران ابراهيم ابراهيم بمشاركة الأساقفة جوزف معوض، أنطونيوس الصوري، بولس سفر والمتروبوليت نيفن سيقلي ورؤساء الأديرة ولفيف من الكهنة بحضور حشد من الفاعليات الزحلية و البقاعية. وبعد قراءة الرسالة من قبل الإعلامي الشيخ فارس الجميل وتلاوة الانجيل من قبل المطران جوزف معوض، ألقى المطران إبراهيم إبراهيم عظة نوه فيها بجهود المهندس اسعد نكد على مختلف الصعد من اجل إنماء و خدمة منطقته وصدق وعوده التي تجلت نوراً مستداماً حتى أضحى رجلاً بحجم دولة لما حقق منطقته ما عجزت عنه الدولة طيلة عشرات السنين الماضية في لبنان. وتابع إبراهيم: 'في هذا العيد، لا يسعنا إلّا أن نوجّه تحيّة ملؤها المحبّة والرجاء والوفاء إلى المهندس الحبيب أسعد نكد، الذي اجتاز ظروفًا صحيّة صعبة، وخرج منها بفضل الله وشفاعة القديسة ريتا، أكثر قوةً وإيمانًا، وأكثر تصميمًا على خدمة مدينته وكنيسته. انه رجل واحد، لكنه بحجم وطن لأنه استطاع ان يفعل ما لم يفعله الوطن'. وأكمل: 'نصلّي اليوم من أجل صحّته، من أجل حياته العائلية، من أجل المشاريع التي يعمل عليها، كي تبقى دومًا في خدمة الخير العام، وتكون وجهًا من وجوه 'الهندسة الروحية' التي تبني الناس، لا فقط النور والطاقة. نحيّي أيضًا عائلته الكريمة، التي تشاركه هذا الإيمان، وهذه الرسالة، ونصلّي من أجل أن تظلّ عائلته شهادةً حيّة على أن الله لا يترك من يتّكل عليه'. وأردف: 'أمام هذا الجمع المبارك، أوجّه تحية شكر ومحبة لأصحاب السيادة، اخوتي اساقفة مدينة زحلة، سيدنا جوزيف وسيدنا أنطونيوس الصوري وسيدنا بولس سفر، وعلى رأسنا جميعاً، المتقدم بيننا، المتروبوليت نيفن صيقلي المحبوب، أساقفة المدينة المشاركين معي اليوم في هذه الذبيحة الإلهية. وجودكم بيننا هو شهادة على وحدة الكنيسة، وعلى أن ريتا ومريم توحدان القلوب قبل أن توحّدا الجدران. إنكم بركتنا ورعاتنا، وسهرنا معاً على زحلة في أيام الرخاء والضيق، واليوم نرفع معكم ذبيحة الشكر'. واستكمل: 'أيّها الأحبّة، من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة، ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. هذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان'. وختم إبراهيم: 'أيّها الأحبّة،من زحلة التي أحبّت ريتا، واحتضنت العذراء، ننطلق اليوم من جديد. نخرج من هذه الذبيحة حاملين سلام الله، مملوئين من رجاء القديسة ريتا، متسلحين بإيمان العذراء مريم. لنكن نحن أيضًا شهودًا على الغفران، على التضحية، على المحبة، على الوحدة. ولنتذكّر دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالعداوة، بل بالمصالحة، ولا تُحفظ بالانقسام، بل باللقاء. وهذا ما ترمز إليه كابيلا القديسة ريتا، الواقفة بجانب أمّنا العذراء مريم، حمايةً لزحلة، وبركةً للبقاع، وأملاً للبنان'.


الشرق الجزائرية
منذ 18 ساعات
- الشرق الجزائرية
حديث الجمعة _ رحلة العمر: الحج
المهندس بسام برغوت الحَجّ في الإسلام فريضةٌ عظيمةٌ ذاتُ مكانةٍ روحانيةٍ وتشريعيةٍ فريدة، تجمع بين مقاصد العبادة الخالصة لله تعالى وتجسِّدُ وحدةَ الأمّة وتذكّرُها بجذورها الإبراهيمية. نتناول في هذا المقال الحَجّ من زواياه المتعددة: معناه الشرعي، تاريخه، أركانه، حكمه وآدابه، مقاصده الكبرى، الأبعاد الروحية والاجتماعية والاقتصادية، إضافةً إلى لمحةٍ عن جهود المملكة العربية السعودية في خدمة الحجاج، وأبرز التحديات المعاصرة المتعلّقة بهذا الركن الركين. أولاً: تعريف الحَجّ ومكانته: الحَجّ في اللغة يعني القصدُ إلى شيءٍ مُعظَّم. أمّا في الاصطلاح الشرعي فهو: قصدُ بيت الله الحرام لأداء مناسك مخصوصةٍ في زمنٍ مخصوصٍ بشروطٍ مخصوصة. والحجُّ ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة؛ فقد قال النبي ﷺ: «بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضان، وحجِّ البيت من استطاع إليه سبيلًا». فجاء بعد التوحيد والصلاة والزكاة والصوم دلالةً على علوِّ شأنه، لكنه مُقيَّدٌ بالاستطاعة رحمةً بالأمة. ثانيًا: جذور الحَجّ التاريخية: يعود أصلُ الحَجّ إلى عهد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام عندما أمره الله تعالى أن يرفع القواعد من البيت مع ابنه إسماعيل، ثمّ أُمِر بأن يُؤذِّن في الناس بالحج ليأتوا «رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فجٍّ عميق» (سورة الحج). ومنذ ذلك الحين والبيت العتيق قِبلةُ الموحّدين؛ يطوفون به ويقصدونه تلبيةً لأمر الله. ومع مرور القرون وقعت انحرافاتٌ في الشعائر إلى أن جاء الإسلام فطهّر البيت وأعاد للحج نقاءه التوحيدي. ثالثًا: أركان الحَجّ وواجباته وسُننه: قسم الفقهاء أعمال الحج إلى أركانٍ لا يصح بدونها، وواجباتٍ يجبر تركُها بدمٍ، وسُننٍ يُستحبّ فعلُها. الأركان أربعة: الإحرام: نِيّة الدخول في النسك، مع تجريد القلب من الدنيا وتعظيم شعائر الله. الوقوف بعرفة: الركن الأعظم؛ كما في الحديث الشريف: «الحج عرفة» ، يبدأ من زوال شمس يوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر يوم النحر. الطواف بالبيت (طواف الإفاضة): بعد النزول من منى يوم العيد، وهو طوافُ الركن. السعي بين الصفا والمروة: استحضارٌ لسعي هاجر أم إسماعيل وتوكّلها على الله. الواجبات تشمل الإحرام من الميقات المعيَّن، المبيت بمزدلفة ومنى، رمي الجمرات، الحلق أو التقصير، وطواف الوداع. أمّا السنن فكثيرة: التلبية، طواف القدوم، الإكثار من الذكر والدعاء، والخشوع. رابعًا: شروط وجوب الحَجّ: لا يجب الحجّ إلا إذا توفّرت خمسة شروط: الإسلام، البلوغ، العقل، الحرية، والاستطاعة (صحةٌ بدنية، وسيلةُ سفرٍ آمنة، ومالٌ زائدٌ عن الحاجات الأساسية). ويُعدّ أداءُ الحجّ مرةً واحدةً فرضَ عين، وما زاد عنها فهو تطوّع. خامسًا: مقاصد الحَجّ الكُبرى: تحقيق التوحيد الخالص: لَبّيْك اللهم لَبّيْك، يردّدها الحاجّ فيعلن الانقياد والعبودية لله وحده. إحياء ذكرى الأنبياء: من إبراهيم وإسماعيل إلى محمدٍ ﷺ ، وتأكيد وحدة مصدر الرسالات. تعميق الأخوّة الإسلامية: يلتقي الحجاج بمختلف الألوان والألسنة، بلباس موحد يرمز الى لباس الكفن لإعلان المساواة والتجرد من التفاخر. تهذيب النفس: بالانضباط وكظم الغيظ، «فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج». التذكير بيوم الحشر: مشهد عرفة يُشبه وقوفَ الناس للحساب، فيبعث على التوبة والرجاء. سادسًا: الأبعاد الروحية: الحجّ رحلةُ العمر؛ يترك الحاجّ أهله ومتاعه، ويتجرد من ثيابه، ممّا يُشعره بفناء الدنيا وحاجة القلب إلى الله. الطواف يورث ذكرًا دائمًا، والسعي يُذكّره ببذل الأسباب مع التوكل، والوقوف بعرفة يُفيض دموع التوبة. ثمّ إذا رمى الجمرات فكأنّه يرمي الشيطان، وإذا ذبح الهدي استحضر معنى البذل، وإذا حلق شعره تجددت ولادته الروحية. سابعًا: الأبعاد الاجتماعية والسياسية: الوحدة والمساواة: الحج مؤتمَرٌ عالميّ سنوي، يذوب فيه الانتماء العِرقي والطبقي. تبادل العلم والخبرة: كان الحج منصةً لطلبة العلم والتجار والسلاطين لتدارس الأحوال وتنسيق الجهود. نقل الرسائل الإصلاحية: التاريخ زاخِر بخطبٍ ألقيت في موسم الحج رسّخت قيمَ العدل. ثامنًا: إدارةُ الحجّ وجهود المملكة: تتحمّل المملكة العربية السعودية مسؤوليةَ تنظيم الحج؛ فأنشأت وزارة الحج والعمرة، وطوّرت مبادرة «طريق مكة» و«نسك» للتأشيرات الإلكترونية، وشيدت توسعات الحرم، وجسور الجمرات ذات الطبقات، والقطار السريع، وأنظمة التبريد في الخيام، وكلّها لتيسير أداء المناسك مع الحفاظ على سلامة الملايين، مع إتاحة الكراسي المتحركة لحجّ ذوي الاحتياجات الخاصة في الطواف والسعي، مع خدمات الترجمة للصم والبكم، وخطوط أرضية بارزة للمكفوفين. أجاز العلماء للمرأة الحجّ مع محرمٍ أو في رفقةٍ آمنةٍ معتبرة. ولها أحكامٌ خاصةٌ في الطواف والسعي حال الحيض، تُؤجِّل الطواف وتبقى على إحرامها حتى تطهر، رعايةً لحرمتها. ختاماً، يبقى الحَجّ أسمى مدرسةٍ تربويةٍ يتخرّج فيها المسلم متطهّر القلب، موحِّد اللسان، محقّقًا لمعنى الطاعة، ومع التحولات العالمية لا يزال نداء إبراهيم يتردّد، فتهفو القلوب إلى البيت العتيق. إن اغتنام هذه الشعيرة في إصلاح الذات والمجتمع هو الغاية المنشودة؛ فإذا عاد الحاجُّ وقد غُفِر له عاد كيومَ ولدته أمّه، يحمل مسؤولية نشر السَّكينة والتقوى حيثما حلّ. نسأل الله أن يرزقنا وإيّاكم حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا، وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.