logo
العيشُ مع العمالقة

العيشُ مع العمالقة

الشرق الأوسط٠٥-٠٢-٢٠٢٥

كان إسحاق نيوتن بارعاً ودقيقاً عندما وظّف بطريقة استعارية مثيرة عبارة كتبها مفكّرٌ قبله بأربعة قرون. كتب نيوتن في إحدى رسائله: «إذا كنتُ رأيتُ أبعد مما يراه آخرون، فذلك لأنّني وقفتُ على أكتاف عمالقة». وقف كثيرون من سليلي العائلة النيوتنية على أكتاف نيوتن بالطبع، ورأوا أبعد مما رآه؛ لكنّ بينهم من لم يكتفِ بالوقوف على أكتاف العمالقة؛ بل كان هو ذاته عملاقاً فيزيائياً بثقافة موسوعية ومعرفة استثنائية. مثلُ هؤلاء عاشوا صحبة العمالقة، وثمّة شواهد تؤكّدُ هذه الصحبة. أظنُّ أنّ باكورة عام 2025 جاءت مبشّرة لي بقراءات مدهشة؛ إذ أتيح لي كتابان يمثلان سيرتين ملهمتين لاثنين من سليلي العائلة النيوتنية الذين يصنعون شواخص مهمّة في علم الحاضر وتقنياته المبهرة، ولا يتغافلون في خضمّ هذه المنجزات عن مساءلة المعضلات الفلسفية والفكرية المقترنة بكلّ انعطافة علمية رئيسية.
روجر بنروز
الكتاب الأوّل هو « الرجل اللامعقول: روجر بنروز وثمنُ العبقرية »
The Impossible Man: Roger Penrose and the Cost of Genius
الكتاب منشور أواخر عام 2024 عن دار نشر «Basic»، ومؤلّفه هو باتشن بارس Patchen Barss، المختص بالصحافة العلمية والأفكار الكبيرة التي غيّرت عالمنا. يكشف لنا عنوان السيرة هذه عن أنّ العبقرية لا تأتي بالمجان، وإنما لها ثمنٌ قد يكون قاسياً أحياناً.
ربما من المفيد هنا أنّ مبحثاً رئيسياً في علم الأعصاب صار يتناول البحث في ظاهرة العبقرية، وبات يعرفُ بـعلم أعصاب العبقرية «Neuroscience of Genius»، وهناك كثير من الكتب في هذا المبحث، ومنها كتاب مهمّ مترجم إلى العربية.
جاءت معرفتي باسم بنروز للمرة الأولى في حياتي عبر بوّابة ستيفن هوكنغ؛ إذ قادني ولعي بهوكنغ -بعد أن استحال أيقونة علمية وإنسانية، وعقب قراءتي لكتابه ذائع الصيت «موجز تأريخ الزمان» بداية تسعينيات القرن الماضي- إلى متابعة كلّ منشوراته العلمية، وحصل بالفعل أن قرأتُ كتاب «فيزياء العقل البشري والعالم من منظورين» الذي ألّفه هوكنغ بالاشتراك مع بنروز وفيلسوف العلم أبنر شيموني، والفيلسوفة نانسي كارترايت، فأعجبتُ بمنهجية بنروز في عرض الأفكار، وبخاصة أنه أبان عن نفسه كائناً معرفياً رفيع الطراز، يسعى لتحقيق نمط خاص من التشبيك (interdisciplinarity) المعرفي بين الجبهات العلمية المتقدّمة.
كتب بنروز لاحقاً كتاباً سمَّاه «عقل الإمبراطور الجديد» (The Emperor's New Mind) تناول فيه هذا التداخل المعرفي بين الفيزياء الحديثة وموضوعات الوعي والإرادة الحرّة، وميكانيكية عمل الدماغ على المستوى الكمومي الدقيق. هذا الكتاب مترجم إلى العربية، ويستلزم قراءة متطلّبة ومعرفة معقولة بالفيزياء الحديثة.
باتشن بارس
سنعرف عبر قراءة هذه السيرة، أنّ بنروز قدّم مساهمات أساسية في الفيزياء والرياضيات؛ فقد أعاد تفسير نظرية النسبية العامة، للبرهنة على أنّ الثقوب السوداء يمكن أن تنشأ من النجوم المحتضرة، وهذا هو الاكتشاف التقني الذي أهّله لنيل جائزة نوبل.
عمل بنروز (المولود عام 1931) عقوداً عدة أستاذاً متمرّساً (Emeritus) في معهد الرياضيات في جامعة أكسفورد، وعاش حياة متواضعة جعلته يبدو كمن يسعى لتثبيت قدميه في الحياة الأكاديمية كأي باحث مستجد، حتى بعد أن بلغ مرتبة الباحث المتمرّس المعروف على أوسع النطاقات العالمية. من الأمور المعروفة عن بنروز أنه ظلّ يشغلُ في جامعة أكسفورد مكتباً تشاركه مع ستة أساتذة آخرين، ولم يسعَ أبداً للانفراد بمكتب خاص به، وكان في نهاية كلّ يوم دراسي يندفع بسيارته المتواضعة نحو مدرسة ابنه الصغير، لكي يقلّه عائداً به إلى البيت.
حافظ بنروز طيلة حياته المهنية والفكرية على ذلك الشغف الروحي الذي دفعه للتفكّر والبحث في طائفة واسعة من الأسئلة الأساسية: كيف بدأ الكون؟ هل ثمة أبعادٌ أعلى من الأبعاد المعروفة تقليدياً للمكان والزمان؟
عاش بنروز وسط عائلة معروفة بشغف أفرادها بالمعرفة بشتى أشكالها: كان أخو بنروز الأكبر عالم فيزياء نظرية مرموقاً، وزميلاً في الجمعية الملكية البريطانية، أما أخوه الأصغر فقد حصل على بطولة الشطرنج لعموم بريطانيا عشر مرّات (رقم قياسي بالتأكيد)، أما أبوه؛ ففضلاً عن عمله في حقل الوراثة البشرية، كان فناناً محترفاً، مثلما كان إخوته الأربعة فنانين محترفين.
حاز بنروز جائزة نوبل عام 2020، وهو يبلغ اليوم الثالثة والتسعين. سيرته هذه هي نتاجُ سنوات قضاها المؤلف في محاورة بنروز، والاطلاع على أوراقه ومراسلاته وتفصيل حياته الشخصية. سنعرف مثلاً أنّ بنروز لم يكن زوجاً طيباً. تزوّج مرّتين وانتهت الزيجتان بالطلاق، وهو يعيش اليوم في شقته وحيداً يعاني مشاكل صحية في ارتفاع ضغط الدم وضعف البصر وأوجاع المفاصل. يخبِرُنا المؤلّف أنّ بنروز يصنع قهوة تكفيه أسبوعاً كاملاً، ويضعها في الثلاجة، ويكتفي بشربها باردة مع الحليب كلّ صباح، وكثيراً ما أوحت له تشكّلاتُ القشدة المتكثفة على سطح قدح الشاي بالحليب عن أسئلة بشأن مآلات الكون وأنماط نهايته المحتملة!
الكتاب الثاني هو «ستيفن واينبرغ: حياة في الفيزياء»
Steven Weinberg: A Life in Physics
وهذا الكتاب ليس سيرة؛ بل هو جزء أوّل من مذكّرات كتبها واينبرغ نفسه، ونشرتها جامعة كامبردج مع مطلع عام 2025. ويتشارك واينبرغ مع بنروز حصوله على نوبل الفيزياء عام 1979، بالمشاركة مع آخرين، لعمله في ميدان أساسي في الفيزياء، تتوّج بما يُعرَفُ بالموديل المعياري في فيزياء الجسيمات الأولية (The Standard Model of Particle Physics)؛ ذلك النموذج الذي لم يزل فاعلاً وميدان مباحث كثيرة.. تغطّي هذه المذكّرات الفترة من البدايات الأولى لحياة واينبرغ حتى نهاية القرن العشرين، وسيحتوي الجزء الثاني على مذكّرات واينبرغ في القرن الحادي والعشرين. من المثير أن ندقّق في التقديم المختصر لواينبرغ لهذه المذّكرات، أنّه كتب التقديم بتأريخ 2 يونيو (حزيران) 2021، ثم حصل أن توفّي بتأريخ 21 يوليو (تموز) 2021. أشارت ملاحظة لجهة النشر (جامعة كامبردج) إلى أنّ زوجة واينبرغ التي تعمل أستاذة للقانون في جامعة تكساس ستتكفّل بترتيب وإعداد مواد الجزء الثاني، كما نوّهت بأنّ هناك سيرة وافية لواينبرغ ستُنشرُ في وقت لاحق، بعد إكمالها من جانب مؤلفها غراهام فارميلو Graham Farmelo، الذي كتب سيراً عديدة لفيزيائيين كبار، أهمّهم بول ديراك Paul Dirac.اعتمد واينبرغ في مذكّراته أسلوب الفصول القصيرة التي تتناول موضوعة رئيسية واحدة، يمكن اختصارها في كلمة واحدة أو كلمتين. نقرأ مثلاً عناوين بعض الفصول: أشياء أولى، الانعطاف نحو العلم، كورنل، كوبنهاغن، برينستون، مانهاتن، بيركلي... هذا التكنيك في سرد المذكّرات جذّاب، ويدفع القارئ للتركيز والمضي في القراءة بفهم ودقّة ورغبة في الاستزادة، من غير الضياع في متاهة الزمن والوقائع الكثيرة المتداخلة.
كتب واينبرغ -مثلما فعل بنروز- كتباً عدّة أهّلته ليكون أحد الأحفاد الخُلّص للعائلة النيوتنية؛ لكنّ عبقريته تتمايز نوعياً عن عبقرية بنروز. يبدو بنروز شخصية أفلاطونية معاصرة، منكفئاً في عالمه المصمم بصرامة داخل نطاق عقله التوّاق للترحّل بين الأبعاد الهندسية المتعدّدة؛ في حين أنّ واينبرغ قضى حياته أكثر انشغالاً بموضوعات العلم والسياسة العلمية، وتاريخ العلم والأفكار الفلسفية المتّصلة به.
يبدو بنروز شخصية أفلاطونية معاصرة، منكفئاً في عالمه المصمم بصرامة داخل نطاق عقله... في حين أنّ واينبرغ قضى حياته أكثر انشغالاً بموضوعات العلم والسياسة العلمية
عرف معظمنا واينبرغ قبل معرفتهم ببنروز بسنوات عدة، تمتدُّ إلى أواخر سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، عبر كتابه المترجم إلى العربية، حول البحث عن نظرية نهائية (Final Theory) في الفيزياء، ثمّ صار اسماً شائعاً في الأخبار، عبر تعضيده ومشاركته في مبادرة الدفاع الفضائي التي أعلنها الرئيس ريغان في بداية ثمانينيات القرن الماضي، ثمّ دافع بضراوة عن مشروع المصادم الهادروني الفائق الذي يتفوّق على مصادم سيرن قرب جنيف، وكان من المفترض إنشاؤه في تكساس؛ لكنّ الكونغرس الأميركي أجهض المشروع بسبب تكلفته الهائلة. بدا واينبرغ وهو يدافع عن فكرة المشروع أمام لجنة الكونغرس للعلوم والتقنية مثل «زيوس» كبير آلهة الإغريق، وتصلح أطروحته إعلاناً للأهمية الاستراتيجية للعلم والتقنية في تشكيل السياسات المعاصرة.
يتشارك مَن اعتاد صحبة العمالقة خصيصتين اثنتين: التواضع، والنزاهة. أذكر في كتاب واينبرغ المنشور عام 2015 بعنوان «فهمُ العالم To Explain the world» الذي تناول فيه تاريخ العلم الحديث، أنّه أفرد فصلاً كاملاً (الفصل التاسع) للحديث عن منجزات العرب في حقل الفيزياء، وضمّن الكتاب ملحقاً بديعاً يحوي رسومات وتصاميم لآلات ابتدعها علماء عرب مرموقون.
نقول في مأثوراتنا العرفانية: «كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة». أظنّ الأمر مماثلاً مع العبقرية الحقيقية: كلّما اتّسعت مضامير العبقرية ناء بها صاحبها. ليست العبقرية في النهاية سلسلة من حفلات الشاي والتكريم وجوائز نوبل؛ بل إن لها أثقالها ومفاعيلها التي قد لا يعرفها سوى من ينوء بحملها (لا يعرف الشوق إلا مَنْ يكابده). أعتقد أنّ الوظيفة الأولى لمِثْلِ السِّيَر والمذكّرات السابقة ونظائرها، أنها تفيد في إطلاعنا على بعض التفاصيل المخبوءة وغير السعيدة في حياة عباقرة من طراز بنروز وواينبرغ، وتصحيح وجهات نظرنا المسبّقة عنها، والتي غالباً ما تكون من نسج خيالنا ومُجانِبَةً للحقيقة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

باحثون يطوّرون أسراب روبوتات تتصرف كمواد حية
باحثون يطوّرون أسراب روبوتات تتصرف كمواد حية

الوئام

time٠١-٠٥-٢٠٢٥

  • الوئام

باحثون يطوّرون أسراب روبوتات تتصرف كمواد حية

نجح باحثون من جامعتي كاليفورنيا سانتا باربرا وTU Dresden في تطوير أسراب من الروبوتات الصغيرة التي يمكن أن تتصرف كمادة صلبة أو لينة، مستوحاةً من سلوك الخلايا الجنينية، في تجربة تعدّ سابقة في مجال المواد النشطة والروبوتات الجماعية. الروبوتات، التي يبلغ قطر كلّ منها نحو 70 ملم، صُنعت بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد من حمض polylactic، وتحتوي على مغناطيس في قاعدتها، بالإضافة إلى تروس صفراء وحلقة تروس مركزية. وبفضل هذه البنية، تستطيع الروبوتات الالتصاق ذاتيًا والتحرك بانسيابية داخل شبكات سداسية شبيهة بتركيب خلايا النحل. ووفقًا لماثيو ديفلين، الباحث الرئيسي ومرشح الدكتوراه في UCSB، فإن هذه الروبوتات تُحاكي الخلايا الجنينية التي تتفاعل ميكانيكيًا لتشكيل بنى معقدة. وقد أظهرت الدراسة، المنشورة في مجلة Science في 20 فبراير، أن التروس الداخلية تُنتج أنماط قوى شبيهة بتلك التي تخلقها الخلايا الحية، ما يسمح للروبوتات بتغيير شكلها وتوزيعها الهيكلي بمرونة. وتمكّنت هذه الأسراب من تشكيل هياكل قادرة على دعم قوة تصل إلى 700 نيوتن (ما يعادل 500 ضعف وزن الروبوت نفسه)، كما يمكنها 'الشفاء الذاتي' عند حدوث أي خلل في بنيتها. ومن أبرز أهداف الدراسة تطوير مادة يمكنها التبدّل بين الصلابة والليونة حسب الحاجة، بل وتعيد تشكيل نفسها تلقائيًا. وقد ساعدت أبحاث سابقة للبروفيسور أوتغر كامباس – المتخصص في فيزياء الأنسجة الحية – في إلهام هذه التجربة، لا سيما بعد اكتشاف مختبره قدرة الأجنة على 'نحت' بنيتها من خلال تحوّلات بين حالات المادة. وتُعد هذه التقنية إنجازًا في 'المادة الحية الاصطناعية'، إذ أثبت الفريق إمكانية تغيير سلوك المادة من صلب إلى سائل – والأهم من ذلك، التحكم في قوة الروابط بين الوحدات، مما أتاح للباحثين الوقوف فعليًا فوق البنية الروبوتية دون أن تنهار. ويأمل الفريق الآن في توسيع نطاق التجربة ودراسة التحولات الفيزيائية في المواد النشطة، بما يفتح الباب أمام استخدامات مستقبلية في مجالات مثل الروبوتات القابلة لإعادة التشكيل، والمواد الذكية، وربما الطب الحيوي.

بالفيديو.. أستاذ فيزياء: نظرية "جاذبية نيوتن" كلها غير صحيحة سواء من ناحية المفهوم أو الصياغة الرياضية
بالفيديو.. أستاذ فيزياء: نظرية "جاذبية نيوتن" كلها غير صحيحة سواء من ناحية المفهوم أو الصياغة الرياضية

المرصد

time٢٢-٠٣-٢٠٢٥

  • المرصد

بالفيديو.. أستاذ فيزياء: نظرية "جاذبية نيوتن" كلها غير صحيحة سواء من ناحية المفهوم أو الصياغة الرياضية

بالفيديو.. أستاذ فيزياء: نظرية "جاذبية نيوتن" كلها غير صحيحة سواء من ناحية المفهوم أو الصياغة الرياضية صحيفة المرصد:قال أستاذ الفيزياء الكونية، الدكتور محمد باسل الطائي، إن نظرية "جاذبية نيوتن" كلها غير صحيحة سواء من ناحية المفهوم أو من ناحية الصياغة الرياضية. الجسيمات والكتل وأشار خلال لقاء مع برنامج الليوان المذاع على قناة روتانا خليجية: قانون أينشتاين للجاذبية الذي يختلف عند نيوتن أن الجاذبية هي قدرة ذاتية في الجسيمات والكتل، لافتا: تبين أن الجاذبية هي صفة موجودة بالكتلة ليست صحيحة؛ هذا من ناحية المفهوم. الأرض والقمر وأكمل:السرعة اللانهائية لانتقال التفاعل الجاذبي بين جسيمين "الأرض والقمر" أيضا غير صحيحة أينشتاين أثبت ذلك بأن الحد الأعلى لسرعة الضوء جاذبيته إذا انطفت الشمس أو رفعت الشمس تظل تدور لفترة 8 دقائق حول مركز كانت الشمس فيه. سرعة الضوء وزاد:نفرض اختفت الشمس لأن سرعة التفاعل الجاذبي بين الجسيمات ليست لانهائية كما قال نيوتن إنما محدودة بسرعة الضوء. تحدب الزمكان وتابع، قائلا: "الصياغة الرياضية" أينشتاين جاء بمفهوم تحدب الزمكان بعد أن دمج المكان مع الزمان وجعلهما مثل التركيبة.

العفيفي فيصل: إيمان العجائز حصن المسلم من الشكوك
العفيفي فيصل: إيمان العجائز حصن المسلم من الشكوك

عكاظ

time١٦-٠٣-٢٠٢٥

  • عكاظ

العفيفي فيصل: إيمان العجائز حصن المسلم من الشكوك

يرى المفكر الجزائري العفيفي فيصل، أن المقصود بالأديان، بناء الإنسان بناء متكاملاً ومتناسقاً، وسويّ التفكير في نفسه وفي العالم الذي يعيش فيه، وعلى إثر كل ما سبق تتحدد سلوكياته وأفعاله وقراراته، التي هي جزء من الحياة الإنسانية. ولفت إلى أنّ أغلبيّة الناس عبر التاريخ، وبِغض النظر عن اسم أديانهم ونوع معتقداتهم، يغلب على إيمانهم ظاهرة التسليم المقلّد والبسيط، إلاّ أنّه في عصرنا الحالي ونظراً لما تثيره الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من جدل فكري جريء وبلا حدود من جهة، وما يشهده العالم من تطّور علمي مادي وتقني رهيب وغير مسبوق من جهة أخرى، لم يعد الإنسان المؤمن ذلك العامي المرتاح فكريّاً ونفسيّاً لما ورثه من معتقدات وأساطير، بل صار يقارنها ويحاكمها بمصادر أخرى من خارج الصندوق، سواء بإرادته باعتباره باحثاً ومتسائلاً، أو من دونها نتيجة سرعة وكثافة تدفق المعلومات عبر النت في محيطه المنظور والمسموع، ولذا يحتار البعض، بين تمحيصه للموروث الديني، وتشبثه بإيمان العجائز، أو انتقاله إلى الراديكالية باعتبارها حصن دوغمائية منيعاً ضد كل ما يزعزع أركان الإيمان وما تنتجه من طمأنينة نفسيّة لصاحبها. وأوضح أنه لا بأس بأن نحاول فهم ترك المؤمن لذلك الإيمان البسيط المليء بالطمأنينة الروحيّة، والقفز إلى إيمان متشبّع بالقلق والشكوك والنقد للأديان بتاريخها وطقوسها وقصصها، أو التحوّل إلى الالتزام الحازم بالدين ونصوصه الحرفيّة على المنهج الرجعي. وذهب إلى أنّ المجتمعات الغربية تجاوزت إشكالية الدين/‏العلم، منذ انفجار الثورة الصناعية في القرن السابع عشر نتيجة أعمال علميّة، وفلسفيّة وسياسيّة وأدبيّة بعضها سابقة على الثورة وأخرى لاحقة، مثل كتاب «كوبرنيكوس» الذي قضى على فكرة وجود الأرض كمحور تدور من حولها الأجرام، وبالتالي سقوط أسطورة (البشر مركز الكون)، وكتاب «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية» الذي أطلق رصاصة الرحمة على (مركزية الأرض) الذي ألفه «نيوتن» رغم غضب الكنيسة، وأعمال «فرويد» التي كشفت زيف الكثير من الأفكار والمعتقدات، وكتاب «رأس المال» لكارل ماركس.. إلاّ أنّ مجتمعات العالم المتخلّف لا تزال تعيش جدليّة الدين والعلم. ويرى أن خطاب رجال الدين في عالمنا الإسلامي، يقوم على نظرية الهروب إلى الأمام، زاعمين عدم وجود نزاع بين الدين والعلم، وأنّ ما يتّم تصويره كخلاف بينهما ما هو في الحقيقة سوى خلاف لفظي، أو سوء فهم وتفسير، أو شبهات ومؤامرات يثيرها أعداء الدين الأشرار، وفي أحسن الأحوال يقولون لا علاقة بينهما أصلاً، فكل طرف له مجاله ولا يتدخل في مجال الطرف الآخر، مشيراً إلى أنّ الأديان تحتوي على معتقدات وتصّورات وقصص حول الكون والإنسان وأصلهما ونشأتهما وطبيعتهما ومصيرهما في الحياة وعقب الموت، إلاّ أنّ جوهر الإشكال ليس في الاختلاف الكبير بين هذه المعتقدات المقدسّة والمقررات والاكتشافات العلميّة، بل في الخلاف المنهجي بينهما من حيث الوصول إلى المعارف واليقينيات، فإن كان المنهج العلمي يقوم على الملاحظة والتجريب والاستدلال وعلى أساسها يحدد مدى صحة النتائج التي يصل إليها، فإن منهج الأديان للوصول إلى المعارف يقوم على الرجوع إلى نصوص تعتبر إلهيّة عند المؤمنين بها، وعلى كتابات من اجتهدوا في فهم وشرح وتفسير هذه النصوص، وهذا المنهج الأخير يستند أساساً على الثقة المطلقة بالنص باعتبار مصدره السماويّ، وعلى الثقة العمياء بالقدماء الذين اجتهدوا في تفسيره وتأويله واستنباط الأحكام منه، إذ يعتبرون علماء وحكماء ولا يمكن تجاوز كتبهم ومدوناتهم في فهم الدين. ولهذا تتجه باستمرار أنظار المؤمنين، خصوصاً ذوي الفكر الرجعي ومن خلفهم العوام إلى الماضي، بتسليم يصل إلى حد القناعة أنّ كل المعارف والحقائق تم كشفها في نقطة محددة في التاريخ (زمن نزول الوحي وما بعده بقليل)، ومن هنا نفهم تصادمهم ونزاعهم الدائم مع النظريات والاكتشافات العلميّة الحديثة إما برفضها وتكذيبها، أو الزعم أنها ليست بجديدة، بل موجودة من قبل في كتبهم الدينيّة، وبالتالي وجود استمرارية لا متناهية في تأويل النصوص وتأويل التأويل تحت شعار الإعجاز العلمي أو استنباط المعارف الكامنة. ويؤكد أنّ الغرب لم يخرج من عالم الظلمات إلى عالم العلم والأنوار، إلاّ بنزاع شديد بين الكنيسة والمؤسسات العلميّة، فما إن تظهر نظرية علميّة حديثة حول موضوع ما، إلاّ وتقابلها مفاهيم دينيّة تقليديّة حول الموضوع نفسه (من نقاط التشابه بين الدين والعالم اشتراكهما في مهمة تفسير العالم وأحداثه وتحديد الأسباب)، وعقب صراع ربما يصل لسنوات، تنتصر النظرة العلميّة ويضطر رجال الدين إلى التراجع والانسحاب بتأويل نصوصهم، وخلال ثلاثة قرون إثر سلسلة طويلة من التراجعات والحسم في قضايا مهمّة لصالح العلم، أدركت الكنيسة خطأ الوقوف في وجه العلم، والمؤسف أنّ عالمنا الإسلامي، وبالتحديد خلال الزمن العباسي، كان له السبق وعاش الجدل الديني العلمي وتمكّن من تعديل الكفة بين أهل العقل وعلى رأسهم المعتزلة والفلاسفة وأهل النقل وعلى رأسهم الحنابلة والأشاعرة، ولهذا قال فلاسفة الإسلام بقدم العالم وقالت المعتزلة بشيئية المعدوم، وحتى ابن تيمية قال بالقدم النوعي للعالم وكلهم اضطروا إلى استخدام مصطلحات وتعقيدات كلاميّة تجنّباً لغضب رجال الدين، فالشاهد أنّ التجاذب بين المؤمن المتشبّع بالثقافة العلميّة والفلسفيّة والمؤمن المتشبّع بالثقافة الدينيّة النصيّة الحرفيّة موجود في تاريخنا، وتجدّد مرة أخرى مع الشيخ الأزهري محمد عبده ومدرسته التنويريّة، إلا أنّ العقل في هذه المدرسة ظل أسطورياً رغم تحرره نسبياً. الأديانتحتويعلى معتقدات وقصص حول الكون والإنسان وأصلهما وتساءل عن موقف المثقف الذي يحترم العلم ولكنه نشأ شأن أفراد المجتمع وسط تربية وتعاليم وأفكار دينيّة بعضها تخالف صريح العلوم الحديثة؟ويجيب، بأنّه سيعاني من التوتر الفكري والاضطراب النفسي، ومدى التأثير على حالته النفسيّة، فهناك من يضغط على نفسه لإخفاء هذه المشكلة فتغوص في أعماق المشاعر مع المكبوتات، ومن حيث لا يدري أي بصورة متستّرة فهي التي تؤثر في تفكيره وفي سلوكه، وهناك طرف آخر نتيجة ما يقع له من قلق بسبب هذه الإشكالية، فإنه يهرول بسرعة إلى التمسّك بالمذهب المتشدّد في الدين، فتصير كل سلوكياته وأفكاره عبارة عن تعصّب، وذلك بالغلوّ في الشكليّات وممارسة الطقوس، وإشهار العنف والعداء لكل من ينتقد مذهبه أو التراث أو القدماء ولكل من يحمل أفكاراً تقدميّة، بل وحتى علميّة، وهناك من يصاب بانسلاخ هوياتي رهيب تحت شعار الانفتاح على العلم والعلمانية، والراجح أن هؤلاء ضد الدين كجوهر إلاّ أنّهم لا يقدرون على الإفصاح فيستغلون تلك الشكوك والانتقادات الموجّهة للموروث الديني، في حين تبقى الطبقة الكبرى،الذين لا فرق عندهم بين إيمان هؤلاء المثقفين وإيمان العامة وإيمان العجائز، والراجح أنّ هذا هو سبب الشلل الفكري الذي نعاني منه، لأن تفاقم ظاهرة اللامبالاة والانفصام تؤدي إلى تعطيل آلية التفكير وإلى توسيع الفجوة بين العلم الحقيقي والعلم والمزيف، ومنه لن يكون عندنا المثقف المنتج بفعاليّة، بل مثقف المقاهي. الغلوّ في الشكليّات وممارسة الطقوس أخبار ذات صلة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store